رواية شهادة قيد الفصل الثاني 2 بقلم دودو محمد
رواية شهادة قيد الجزء الثاني
رواية شهادة قيد البارت الثاني
رواية شهادة قيد الحلقة الثانية
في المساء، كان مهران يقف أمام السيارة، ينتظر خروج ذات. كان قلبه مليئًا بالتوتر والقلق، فما يعرفه جيدًا هو أن تلك اللحظة ستكون محورية. وقد بدأ يتخيل كيف ستظهر أمامه، ما بين جريئة تعكس ثقتها اللامحدودة وأخرى تعكس استهتارًا قد يغضبه. كانت إطلالتها دائمًا ما تثير تساؤلاتٍ عميقة في داخله، وكلما انتظارها طال، تراكمت مشاعر متناقضة في صدره. وبعد ثوانٍ، رآها تتقدم نحوه، متألقة كأنها نجمة في سماء مظلمة، وشعاع من الثقة يحيط بها. أتسعت عينيه بدهشة، ولكن سرعان ما أستعاد توازنه حين سمع صرخاتها الغاضبة:
“خير هتفضل مبحلق فيا كتير كده؟”.
بعد لحظات، صعدت ذات إلى المقعد الخلفي، بينما زفر مهران بضيق وحاول الحفاظ على هدوئه قائلاً:
“أدينى الصبر ياربي على البنى أدمة دي”.
انطلقت السيارة بأمر لسائق، لكن ذات كانت أكثر من مستعدة لاستغلال هذه اللحظة لتعبّر عن شغفها وحماقتها. لم تفوت فرصة التهكم عليه، قائلة:
“والباشا بقي ناوي يدخل معايا جوه يشرب كاسين ولا هيستني بره ويخاف من بابى ومامي؟”.
كانت كلماتها مليئة بالسخرية، كأنها تود أن تختبر حدود قدرته على الصبر. حاول مهران الالتزام بالهدوء، لكنه لم يستطع تجاهل عدم إدراكها لخطورة الموقف.
“أكيد هدخل معاكى بس من غير ما اشرب القرف ده”
رد عليها بحدّة، بينما كانت ضحكاتها تتردد في أذنه كصدى يسبب له الاستفزاز، كأنها تستمتع بإثارة جنونه.
“كئيب وعدو الفرحة”.
قالتها بصوت واضح جعلته ينفجر. استمع لكلماتها وهي تصفه بهذه الصفات، وحرك رأسه بنفاذ صبر وتحدث مع السائق بغضب:
“دوس بنزين يا ابنى خلينا نخلص”.
مع تصرفات ذات المتهورة، أصبح كل شيء أكثر توترًا. بدأ مهران يفقد أعصابه حين رأى كيف كانت تمضغ العلكة بطريقة مقززة، كأنها لا تدرك خطورة اللحظة التي تمر بها.
“ارمي الزفتة اللى فى بؤقك دى”
صرخ بها، مما جعل ذات تنتفض من ارتفاع صوته، كأنها لم تتعود على أي شكل من أشكال السلطة. ثم خرجت من نافذة السيارة وبدأت تبصق ما في فمها وكأنها تطلق سراح روحها،
“اتزفت ورميتها اهو، وبعدين اياك تزعقلي كده تاني”
كان كلامها مليئًا بالثقة المفرطة ولكنها لم تدرك العواقب الممكنة.
لم يرد عليها وأبقى نظره معلقًا على الطريق. وصلوا إلى الملهى الليلي، اعتاد وجوده في ذلك المكان المظلم حيث تتلاشى الأصوات تحت تأثير الموسيقى. نظر مهران إليها بتقزز وعبوس، ليستطيع رؤية ملامح اللامبالاة تعبر عن نفسها دون أي تردد.
“هندخل جوه هتفضلي تحت نظرى لا تروحي كده ولا كده فاهمه”
أمرها بشدة، وهو يحاول أن يكون الصخرة التي لا تتأثر بأمواج التصرفات المتهورة. وبعد لحظات من التحدي، ردت ذات بتفاخر:
“على فكرة المفروض أنا اللى أديك أوامر مش انت”.
ذلك الاستفزاز أشعل فتيل الغضب في داخله، وانتهى بها المطاف تركض إلى الداخل كأنها تفلت من قيود الخوف.
حرك مهران رأسه يمينًا ويسارًا على هذه البلوة، محاولاً استيعاب ما حدث، ثم تبعها سريعًا إلى الداخل. كان المكان مليء بالأضواء الصاخبة والأصوات المتداخلة، فيما كان يشعر بشيء من السيطرة يضيع بين يديه. نظر حوله بعدم رضا واستمر في متابعتها بضيق وهي تتمايل مع الموسيقي وتحتسي الخمر بشراهة، يراقب كيف تنجذب الأنظار إليها كأنها مغناطيس. ضغط على أسنانه بضيق وهو يرى أعين الجميع تتجه إليها، وكانت تصرخ بسعادة منطلقة مثل الفراشة، لكن قلبه كان يمتلئ بالشعور بالفوضى.
اقتربت منه وهي تمسك بيدها كأس الخمر وتحدثت بابتسامة بلهاء:
“خد اشرب يا باشا! مش هتندم كاس واحد بس هيخليك طاير فوق السحاب”.
رده كان كالجمر المتوهج، حيث أبعد مهران يدها الممسكة بالكأس عنه وتحدث بضيق: “قولتلك مبشربش ابعدي الزفت ده عنى ريحته تقرف”.
لكنها لم تتوقف، إذ تعالت ضحكاتها، ونفثت دخان السيجار في الهواء، وتكلمت بتهكم:
“انت الخسران! فيه حد يلاقى الانبساط ده ويرفضه؟ مش وش نعمة”.
وأستمرت في تصرفاتها المتهورة، كما لو كانت تلعب بالنار، رافضة تمامًا أي وجود لقواعد.
أغلق مهران عينيه وتحدث بنفاذ صبر:
“ابعدي عنى وروحي شوفى كنتى بتعملي ايه”.
اقتربت منه أكثر حتى التصقت به وتكلمت بسكر:
“يا عم فكها شويه. مش انت شغال عندي؟ أنا بأمرك بقى تفك وتيجى ترقص معايا”.
كان لديه مساحة غير مرئية تفصله عنها، لكن ضغوط اللحظة جعلته يدفعها بقوة ليبعدها عنه، وحذرها:
“حسك عينك تقربي منى تانى فاهمه”. لكن ضحكاتها الرقيعة تعالت مرة أخرى، مما زاده غضبًا، وتركته وعادت مرة أخرى إلى ساحة الرقص، حيث بدأت تتراقص بطريقة مقززة، كأنها تحاول إيجاد الحرية في كل الحماقات.
كان يتابعها بضيق، وتنبه لوجود مجموعة من الشباب تقترب من ذات. تحرك بحذر حتى لا يلفت انتباه المتواجدين حوله، كان قلبه يعبر عن قلقه، فقد شعر بشيء غير مريح. اقترب الشاب من ذات، أحاط خصرها بذراعيه، وتحدث بتوعد:
“مش قولتلك هدفعك التمن يا قطة؟ ورينى بقى هتنقذى نفسك مني ازاى”.
نظر إلى رجاله وأعطاهم الأمر حتى يفسحوا الطريق له ويمنعوا أحدًا من الاقتراب. مال بجسده، حينها حملها تحت صرخاتها المستنجدة، ولكن، فجأه، تفاجأ بوقوف مهران أمامه، نظر له بعدم اهتمام قائلاً:
“ابعد يا بابا من قصادى بدل ما أخلي رجالتي يطحنوك”.
ارتسمت ابتسامة على ثغره، ولكنها كانت ابتسامة حذرة، وتحدث بنبرة واثقة:
“طيب نزلها احسنلك”.
نظر إلى رجاله وأمرهم:
“عرفوا حيلتها مقامه، علشان الحليوه فرحان بنفسه”.
بكل قوة وشجاعة، بدأ يتصدى لتلك الشباب مفتولي العضلات وهو نظره معلق على ذات حتى لا تتأذى من أحد. وبعد ثوانٍ معدودة، كانت الشباب ملقى على الأرض، واهتزت الأجواء المحيطة بهم.
نظر إليهم الشاب بقلق وتوتر، وانزل ذات إلى الأرض مرة أخرى، واقترب من مهران وحاول لكمه، ولكن يد مهران كانت الأسرع حين أمسكه من عنقه وتحدث بتحذير:
“أول وآخر مره تقرب من ذات ولا تمس شعره منها، لو عقلك وزك وعملت كده هدفنك مكانك، فاهم؟ أنا المرادي اكتفيت بتحذيرك.”
بنظرة عميقة من الحزم، كان واضحًا له أنه لن يتردد في حماية هذه الفتاة.
“المره الجايه متلومش غير نفسك. لم أراضيشك وغور من هنا، يلا بسرعه”.
انتفض الجميع من صوت مهران الغاضب، واحتفل بموقفه القوي. وبعد ثوانٍ معدودة، كان هذا الشاب ورجاله يتركون المكان، وعادت الموسيقى الصاخبة مرة أخرى مثل صدى لأحداث الأمس. نظر مهران إلى ذات بغضب شديد، وأخذها من ذراعها وأرغمها على التحرك معه إلى الخارج، كأنه يصر على وضع حد لهذا الجنون. ثم فتح باب السيارة ودفعها إلى الداخل، وأمر السائق أن يأتي مع السيارة الأخرى التابعة لهم.
ثم صعد السيارة أمام المقود وتحرك بها بسرعة جنونية، كأنه يعبر عن انفعالاته القاسية. كانت ذات لا تشعر بشيء، فقد استحوذ عليها السكر وباتت غائبة الوعي، أغلقت عينيها مستسلمة لنوم هادئ. نظر بجواره، وجد ذات غافية في النوم، سرح بها ملامحها الطفولية شعور بالشفقه تجاهها، فبرغم أسلوب حياتها غير المتوازن، إلا أنه يرى شيئًا ما داخلها يدفعها للقيام بتلك الأفعال؛ فهي عالقة بين أحلامها ومواجهاتها.
بعد وقت، وصل مهران بالسيارة أمام المنزل الخاص بعم ذات، حملها بين ذراعيه وتوجه بها إلى الداخل، وكأن كل خطوة كانت تعكس خيبة أمله. كان “يزيد” ينتظرهم عندما رآهم من شرفة غرفته، اقترب منه بضيق وأخذ ذات، ثم تحدث بتحذير: “حسك عينك تلمس خطيبتي تاني فاهم؟”. كانت تلك الكلمات مشحونة بالقلق والخوف من الفوضى المحتملة في حياته. نظر له باستحقار وتحدث بتهكم:
“حضرتك مش واخد بالك من الحالة اللى انسه ذات فيها؟ واحدة نايمة من كتر الشرب ومش حاسّة بحاجة، هوصلها ازاى البيت؟”.
أجابه يزيد بنفاذ صبر:
“لما تكون فى الحالة دى، سيبها في العربية، واتصل بيا أنا أجي أخدها”.
ضغط على أسنانه بغضب وابتسم له بضيق: “تمام، عن أذنك”.
خرج سريعًا من أمامه قبل أن يلكمه بوجه يكسر أنفه المتعالية. صعد سيارته وتحرك بها مسرعًا تاركًا المكان.
صعد يزيد إلى غرفة ذات، أغلق الباب بقدمه وذهب باتجاه السرير. وضعها عليه ونظر إلى جسدها العاري، وأحمل شياطين العقل في صدره. ابتدأ يتململ، بإحساس من التوتر، وابتلع ريقه بصعوبة. حرك يده ببطء ولمسها بشهوة، لكنه انتفض بالمكان عندما فتح الباب وسماع صوت والدته تقول له بغضب:
“بتعمل ايه يا منيل على عينك؟ بتتحرش بمقصوفة الرقبة وهى مش حاسه بنفسها؟”.
ابتلع ريقه بصعوبة وتحدث بتلعثم:
“ششش وطي صوتك يا ماما احسن ما بابا يسمعك، وبعدين اعمل ايه؟ انتى سمعتي بودنك كلامها النهارده وهى بتقولي مافيش جواز، وكل ثروتها هتروح من تحت أيدينا، لازم اعمل حاجه تكسرها علشان ترجع في كلامها ونتجوز زي ما كنا متفقين”.
نظرت إلى ذات بكراهية شديدة وقالت:
“أنا لو عليا عايزة اكسر رقبتها واخلص منها، وكل ثروتها تبقى بتاعتنا بس. أبوك القلب الحنين بيخاف عليها ورافض حد يقرب منها، مع أني عارفة ومتأكدة أنها لو في يوم صممت تاخد حقها ونصيبها في الشركات هتشوف الوش الحقيقي ليه. امشي يلا خلينا نطلع من هنا احسن ما أبوك يجي ويلاقينا عندها”.
نظر نظرة أخيرة إلى جسد ذات الممشوق، وتلك النظرة كانت محملة بالوعود، سال لعابه وتوعد لها بأنه ستكون في أحضانه قريبًا، ثم تحرك مع والدته إلى خارج الغرفة وأغلقوا الباب خلفهم.
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
فى صباح اليوم التالي، استيقظت ذات من نومها وهي تشعر بثقل شديد برأسها، وكأن الغمامة التي كانت تحجب عنها الرؤية قد عادت لتثقل نهارها. اعتدلت على فراشها، وأخذت تنظر حولها بلا تمييز، تتأمل في جدران الغرفة التي تكتظ بالأشياء التي تحتفظ بها من ذكرياتها، تلك الذكريات التي كانت تحاول جاهدة الهروب منها. كانت تضم علبة السجائر، وأخذت واحدة منها وأشعلتها، قبلة من النار التي ملأت رئتيها بالدخان، حيث شعرت وكأنها تخنق أفكارها الثقيلة. نفثت دخانها بالهواء بشكل بطيء وكأنها تحاول طرد الأفكار الكئيبة، ولكنها سرعان ما تذكرت ما حدث بالأمس. أغلقت عينيها بحزن، مانعة عبراتها من الهطول. فهى تأبى البكاء حتى لو كانت بمفردها، كنوع من التحدي لنفسها. أخذت نفسًا عميقًا وآخرجته ببطء شديد لتسكن أعصابها المشتتة، ثم استقامت بجسدها واتجهت إلى خزانة ملابسها.
عند خزانة ملابسها، أخرجت صندوقًا صغيرًا مدفونًا تحت قطع الملابس، كما لو أنه يحمل أسرارها المخبأة. وعادت مرة أخرى إلى فراشها، جلست عليه وفتحت الصندوق بحذر، كمن يفك أغلاق سرٍ قديم. بدأت تخرج الأشياء المتواجدة فيه واحدة تلو الأخرى، ووجدت نفسها تمسك بصورة لها مع أبيها ووالدتها. نظرت بها بحزن عميق، فكانت الصورة تجسيدًا للذكريات التي تكونت حول جلساتهم العائلية الدافئة، وأتى إلى ذهنها صوت والدتها الحنون، بما فيه من نصائح وتحذيرات. وتكلمت بصوت مختنق، تكاد لا تُسمع ولكن كان فيها مذاق الحنين واللهفة:
“وحشتوني أوى أنا… من غيركم وحيدة. الكل عايز ينهش لحمي، حتى اللي مني. بس متقلقوش عليا، بنتكم قوية ومافيش حاجة هتقدر تكسرها”.
كأنها تعيد تأكيد نفسها أمام ذاتها، كأن الحروف تخرج من فمها كتعويذة تحميها من كل الأذى.
تذكرت ما حصل مع حراسها الجدد، الذين أحضروا بحجة أنهم يخافون عليها، ولكن في واقع الأمر كانت تلك الحراسة مجرد طريقة أخرى لتحجيم حريتها.
“سمعتوا آخر الأخبار؟ جايبين خيال مأته يحرسني بحجة أنهم خايفين عليا. وهما جايبنه عشان يعرفوا يسيطروا عليا وأبقى تحت عينيهم أربعة وعشرين ساعة. عايزين يضمنوا فلوسي تحت أيديهم. مفكريني عبيطة ومش فاهمة حاجة. يصبروا عليا بس، مبقاش أنا ذات الزويدي. لو ما دفعتهمش التمن غالي. هما واللي جايبينه ليا ده، هلاعبهم على الشناكل”.
أنهت كلامها، ونهضت مرة أخرى، وضعت الصندوق داخل الخزانة، وعادت بعد ذلك للمرحاض. وقفت أمام المرآة، تتأمل مظهرها الجريء والمثير كعادتها، عازمة على عدم السماح لأي شيء بأن يثني عزيمتها. تحركت إلى خارج غرفتها، وهبطت إلى الأسفل، حيث وجدت الأسرة ملتفة حول طاولة الطعام، ابتسمت لهم وقالت بمرح:
“يا صباح المفجوعين! طيب، خلوا شوية لقرمط”.
نظرت زوجة عمها إليها بأشمئزاز قالت بتهكم:
“نستني مين بقى، ما الهانم مش فايقة لينا! جايه الصبح بين دراع الراجل وهو شايلك وإنت سكرانة طينة”.
ابتسمت لها باستفزاز، ثم أجابت بتهكم:
“اوبس! يا خسارة! محستش بيه وهو شايلني، يا ترى كان شكله إيه وأنا في حضنه؟”.
كان جو الصباح مشحونًا بالفكاهة والتهكم، لكن سرعان ما انقلب المشهد عندما سمعت صوت عمها الغاضب يتردد في أرجاء المنزل بصوت جهوري:
“ذاااااات احترمي نفسك بقى واتكلمي كويس، أحسن أحلف عليكي مافيش خروج من البيت نهائي”.
تعالت ضحكات ذات، وتكلمت بعدم اهتمام: “هدي أعضاءك يا سولي، بدل ما يجيلك شوجر ولا حاجة. أنت كبير في السن والانفعال مش كويس عليك”.
أخذ سليم، عمها، نفسًا عميقًا وضغط على أسنانه بنفاد صبر، متحدثًا بتحذير:
“لآخر مرة هقولك يا ذات، احترمي نفسك وبلاش أسلوبك المستفز ده، علشان قسما بالله أنا ماسك أعصابي عليكي بالعافيه. مش عايز أقسي عليكي بعد العمر ده كله”.
استقامت بجسدها وتحدثت بصوت مختنق: “أنا ماشيه، يا ترى خيال المأته جه النهارده ولا طفش بعد ليلة امبارح؟”.
أنهت كلامها وخرجت مسرعة، لتجد مهران ينتظرها كالمعتاد أمام السيارة. زفرت بضيق واقتربت منه، وحركت يدها على صدره، وقالت بتهكم:
“شكلك نفسك طويل، بس مش عليا. وراك لحد ما أطفشك يا روحي”.
رد مهران بنبرة جادة، بعد أن أمر السائق بفتح الباب لها:
“اركبي، اخلصي. فاضل ربع ساعة على ميعاد الشركة”.
ضغطت على أسنانها بغضب من هدوء أعصابه، وتحدثت بضيق:
“بارد وغلس ودمك ثقيل”.
أنهت كلامها وصعدت السيارة بغضب. نظر إلى أثرها بعدم اهتمام، وصعد السيارة، وأعطى إشارة إلى السائق حتى يتحرك بهم.
نهضت من مقعدها، مالَت بجسدها بين السائق ومهران، وأخذت جهاز التحكم الخاص بمشغل الموسيقى، وعادت مرة أخرى إلى مقعدها.
أغلق مهران عينيه بنفاد صبر، وتحدث بغضب:
“لما تكوني عايزة حاجة من هنا قوليلي، وأنا أدهالك، فاهمة؟”.
لم تعيره أي اهتمام، وضغطت على زر التشغيل، وبدأت الموسيقى بصوت صاخب، وظلت تغني معهم بصوت مرتفع وتصرخ بطريقة هستيرية.
ضغط على أسنانه بغضب، وتحدث بصوت هامس:
“الصبر من عندك، يا رب. بني آدمه مش طبيعية”.
ثم نظر إلى السائق، وبغضب متزايد داخل قلبه، هدر به قائلاً بصوت جهوري:
“دوس بنزين يا ابني، خلينا نخلص”.
وبالفعل، أسرع السائق بالسيارة، ووصل إلى الشركة في وقت قياسي. ترجلت ذات دون الالتفات إلى مهران ودلفت إلى الداخل. تحرك مهران خلفها، وهو يحاول تهدئة حاله حتى لا يفعل شيئًا متهورًا معها.
«««««««««««»»»»»»»»»»
مر عدة أيام وبقي الوضع كما هو: في الصباح يحرس مهران ذات إلى الشركة، وبالمساء يذهب معها لحمايتها في الملاهي الليلية. كانت ذات تحتفظ بتمردها المستمر، بينما كان غضب مهران يتفاقم ببطء داخل نفسه، كبركان يغلي تحت السطح، من أفعال هذه البلوة التي لم يعد يحتملها. كان يعلم أن ما تفعله يؤذيها، لكنها كانت غارقة في عالم من السعادة الزائفة التي وجدتها في مشروبات الكحول، وموسيقى الصخب التي لا تتوقف.
بالمساء، بدأت رحلة ذات الليليه، وقد بدا الوضع مشحونًا بالتوتر. مهران لم يكن فقط حارسها، بل كان أيضًا عاقلها الذي يحاول إنقاذها من خياراتها السيئة. أمسكت كأس الخمر وارتشفته دفعة واحدة، ولكن لم تكن كالمعتاد؛ فقد بدت كأنها تبحث عن الهروب، وعينيها اللامعتين كانتا تتلألأان في الظلام، تتابعان الجميع بنظرة زائغة، كأنها تبحث عن شيئاً مفقوداً أو عن شخصٍ ما يخرجها من تلك المتاهة.
لاحظ مهران تغيرها، وتحركاتها التي باتت غير طبيعية، فاقترَب منها وجلس بجوارها، محاولاً استعادة بعض من العقلانية قبل أن تغرق تمامًا في شغفها. لم يستطع أن يتحمل مشهدها الضعيف، فتحدث بتساءل مفعم بالقلق:
“أنسه ذات، أنتي كويسه؟”.
كانت نبراته تُظهر قلقًا صادقًا، لكن قابلته ذات بنظرة ضيق وسخط منها.
نظرت له بضيق، مستهزئة، وأخذت سيجار وأشعلتها لتنفث دخانها في الهواء كمن تطرد الشكوك. ثم أخذت كأس الخمر مرة أخرى وارتشفته دفعة واحدة، ثم أخرجت كلماتها بصوت مختنق، كالسجينة تبحث عن حرية:
“وانت مالك بتسأل ليه؟”.
بدا أن حديثهما تحول إلى لعبة شد وجذب، حيث كان مهران يُظهر عنايته، بينما كانت ذات تتلاعب بكلماته كما لو كانت ترفض أن تُظهر ضعفها.
تحدث مهران بعدم اهتمام ظاهري، قائلاً: “عادي، لاقيتك قاعده وهاديه مش زى العادة. قولت تكوني مريضه ولا حاجه، اخدك اروحك وده من اختصاص شغلي اخد بالي منك”.
فكر مهران في كلماته البسيطة لكنه كان عميقًا في تفكيره. كان هو الشخص الذي يُجبره وظيفته على الحذر.
ابتسمت بتهكم، وقد شعرت بقدرتها على إثارة مشاعر مهران:
“يعني سؤال مصلحه! تسأل على صحتي علشان ترجعني البيت كويسه وتكسب بونط عند الباشا بتاعك اللي مشغلك، عموماً متقلقش، أنا كويسه ياكش بس عندي البريود هداني شوية”.
اتسعت عينه بصدمه، فابتلع ريقه بتوتر من جرأة حوارها ولهجتها الغريبة. نهض سريعًا وتكلم بتلعثم:
“تمام، مدام مافيش حاجه مهمه، هرجع اقف مكاني”.
تراجع كما لو كان قد طُعن بسهام من كلماتها الجريئة، التي لم يتوقع أن تأتي منه.
أمسكت يده بجرأة، وتحدثت بابتسامة، لتُظهر له أنها ليست الشخص الضعيف الذي يبدو عليه:
“خليك قاعد معايا، متخافش مش هغتصبك عندي عذر.”
كان هذا التصريح بمثابة تحدٍ غير مباشر لمهران، الذي أُصيب بالاشمئزاز وتراجع عن قربها، وعاد إلى مكانه.
تعالت ضحكاتها وكأنها تستهزئ بجميع المخاوف التي كان يشعر بها، بينما بدأت تحتسي الخمر واحدًا تلو الآخر، حتى تمكن منها السُكر. وقفت مكانها وهي تتأرجح، محاولًةً أن تستعيد توازنها، لكن الأمر أصبح مستحيلًا. اقتربت من مهران وكأنها تخبئ سرًا خفيًا، وارتمت في أحضانه بكل قوة، تمامًا كما تفعل امرأة تبحث عن الحماية وسط عاصفة.
كادت أن تقع، لكن كانت يد مهران الأسرع؛ فحملها بين ذراعيه كالمعتاد وخرج بها، وضعها داخل السيارة ثم أمر السائق بأن يأتي مع السيارة الأخرى التابعة لهم. صعد هو السيارة وتحرك بها إلى المنزل، وكانت رحلتهم قصيرة ولكن مليئة بالتوتر والقلق.
خلال دقائق معدودة، وقفت السيارة أمام الفيلا الخاصة بعائلة سيلم الزويدي، حيث بدا ذلك المكان كأنه يحمل معه أعباءً ثقيلة من الذكريات. ترجل من السيارة، وتحرك باتجاه الباب الآخر، مائلًا بجسده حتى يحملها ويأخذها إلى الداخل. لكن قبل أن يتحرك بها، سمع همساتها التي شكلت عائقًا أكبر أمامه:
“مدخلنيش جوه أرجوك بيلمس جسمي بطريقة مقرفه، خدني عندك”.
نظر لها باستغراب، فرأى أنها نائمة، ظن أنها تهلوس بسبب كثرة شرب الخمر، لكن قبل أن يستطيع الانتقال بها، تجمعت كلماتها في أذنه، كالسهم الذي يُخترق القلب. تمسكت به بقوة رغم فقدان وعيها، وحاولت أن تُعبّر عن مخاوفها:
“ارجوك مدخلنيش جوه، بينهش لحمي، خدني أي مكان تاني”.
كُسر قلب مهران في تلك اللحظة، حيث لم يفهم من هو هذا الشخص الذي كانت تخشاه. استمر بالتساؤل:
“هو مين ده اللي بتقولي عليه؟”.
كان القلق يتزايد داخله، وحين أخبرته: “يزيد ابن عمي، بيخدني منك كل يوم وبعد كده بيحرك ايده على جسمي بطرق مقرفه، وانا ببقى مش قادره امنعه ولا اتكلم من أساسه. ارجوك، خدني معاك ومتسبنيش معاه لوحدي”.
شعر مهران بشيء من الأسى وهو يستمع إلى قصتها، حتى أن قلبه بدأ ينبض بعنف. عاد مرة أخرى إلى السيارة بقلق، حيث وضعها على المقعد وصعد بها، بينما كان الغضب يتصاعد داخله كالنار تحت القشرة المتجمدة. ومن منظار الاندفاع الغضبي، قال يزيد بغضب، موجهًا كلامه لنفسه:
“اه يا سُكريه، يا بنت الكلب، بقى بتمشي معاه تاني،مبقاش انا لو مكنتش اعرفك مقامك يا ذات”.
أنهي كلامه، وعاد إلى الداخل، يتزايد الغضب داخله كلما تذكر ما رآه منذ قليل وهي داخل أحضان ما يدعي مهران. كان يدرك أن هذه مجرد بداية لمشكلات أكبر قد تأتي لاحقًا، لكنه شعر بأنه لا بد له من حمايتها، ولو بالقوة.
««««««««««««»»»»»»»»»»»»»
أسفل العقار المتواجد به شقة مهران، وقف بسيارته وهو يشعر بالارتباك وعدم اليقين. كانت أفكاره تتصارع في رأسه، فهو لا يعرف كيف سمع كلام ذات واحضرها إلى منزله. تذكر القلق الذي شعر به عندما رأى نظراتها تجاهه أول مرة، وكيف أن تلك النظرات قد انقلبت إلى مشاعر معقدة ومربكة. ظل ينظر إليها وهي نائمة، وجسمها يرتجف برفق، وبدأ يشعر بوقع تلك الورطة التي وضع نفسه فيها. لقد كان لا بد له من اتخاذ قرار، ولكنه كان محاصراً بين مشاعره بالأشفاق والضغوط الخارجية.
ابتلع غصته وترجل من سيارته، ثم تحرك بالاتجاه الآخر. لم يكن لديه خيار، لم يستطع أن يتركها في حالة من الضياع. حمل ذات بين ذراعيه برفق وصعد بها إلى الأعلى، وهو يحاول دفع جميع الأفكار السلبية بعيداً عن ذهنه. فتح باب الشقة ودلف إلى الداخل بحذر، وأغلق الباب بقدمه كأنه يريد أن يحجب جميع الأصوات والقلق وراء ذلك الباب. اتجه إلى إحدى الغرف، فلم يكن لديه متسع من الوقت للتفكير، وضعها على التخت بحذر ودس الغطاء عليها جيدا ليحميها من برودة الجو، وكأنه يرغب في إعطائها بعض الأمان وسط الفوضى التي تحيط بها.
خرج سريعا وأغلق الباب خلفه. اتجه إلى غرفته وهو يشعر بوزن العالم على كاهله، دلف إلى الداخل وألقى بجسده على فراشه الدافئ، لكن ذلك الدفء لم يستطع أن يخفف من شعور اللوم الذي يعصف به. وضع يده أسفل رأسه، وحاول التركيز على السقف، ولكنه لم يستطع أن يبعد عن ذهنه صورة ذات، التي الآن تحت سقف نفس الشقة، وكان قد وضع نفسه في موقف لاقى الكثير من الانتقادات.
تنهد بضيق وكأن كل همومه خرجت مع تلك الزفرة، لكنه تفاجأ بفتح باب غرفته ودخول ذات عليه بجسد متأرجح. تقدمت منه سريعا، وعينيها تتلألأ بوهج غريب، كأنها قد استيقظت للتو من كابوس عابر. انحنت قربه ببطء وتمدت بجواره على التخت بشيء من الضياع، ملامحها تختلط بين الهزل والجد وعدم الفهم. كان يشعر بأنه أسير في فخ تم نصبه له بمحض إرادته، بينما كانت ذات تنظر إليه بعيون تتساءل عن شيء لم يعرفه هو….
«««««««««««««»»»»»»»»»»»
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شهادة قيد)