رواية شبح حياتي الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم نورهان محسن
رواية شبح حياتي الجزء الرابع والعشرون
رواية شبح حياتي البارت الرابع والعشرون
رواية شبح حياتي الحلقة الرابعة والعشرون
أن الحب الذي نتحدث عنه بين شخصين ، إنما هو أشبه بطاقة كامنة موجودة من ذي قبل و يتم تأجيل المشاعر إلى حين وصول اللحظة المادية التي تجمع الروحين بلقاء حاسم فيتم تلاقي الأرواح وتناغم الفكر.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ارتسمت معالم الارتياح على وجهها قبل ان تقول بإبتسامة واهنة : الحمدلله انا هرجع لبدر في المستشفي سيبنا لوحده كتير
بمجرد انتهاء كلامها همت بالتحرك ، ولكن صوت جاسر منعها عندما هتف من ورائها ليجعلها تستدير إليه برقبتها : استني لسه في حاجة كمان حصلت من شوية..
التفتت إليه بقلب ينبض بالجزع عندما أنتبهت أن بدر ليس بجانبها ، لتقول بتعجب : خير في ايه!!
تابع جاسر إخبارها بصوت ثابت : صاحب محل حلويات قدام عمارة بدر قدم تسجيلات كاميرات محله للنيابة متصور فيها بواب العمارة وهو بيفك فرامل عربية بدر اللي كانت مركونة قدام مدخل البيت
جحظت عينيها لتهتف بتفاجئ : عم حمزة!!
رد طارق بالنفي ، واضعًا يديه خلف ظهره منتصبًا فى وقوفه فارجًا بين قدميه قليلاً : لا اسمه كرم ابن حمزة
اتسعت عينا حياة ، تهمس فى صدمة ، وقلبها إزدادت نبضاته بخوف ، موزعة نظراتها بينهما : معقولة هو اللي عمل كدا!! طيب مسكوه؟
زفر جاسر وسحب شعره متوسط الطول إلى الخلف ، وأجاب على سؤالها : لا ابوه قال انه مختفي بقالو كام يوم
ساد الصمت بضع ثوان ، لتتمتم حياة بعد أن ابتلعت الغصة التي تشكلت في حلقها بصعوبة : يعني في نفس التوقيت اللي عرفنا فيه مكان بدر!!
أدارت حياة رأسها لطارق وحاجبيها مطويان ، حين استطرد بتأكيد : بالظبط واضح انه لما عرف خاف و هرب بس هيروح فين هنجيبو
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد أكثر من ساعة
صف جاسر السيارة أمام بوابة المستشفى ، لتضع حياة يدها على مقبض الباب تنوى النزول ، لكنها توقفت حين وصل صوته إليها ، قائلا بتأنيب أخوى محبب عندما لاحظ التعب باديًا عليها : كان المفروض تستني في شقة بدر لحد الصبح عشان ترتاحي
قطبت حاجبيها وهزت رأسها بإنكار ، قبل أن تقول بابتسامة : لا انا تمام اذا نعست هنام في اوضة المرافق
ابتسم جاسر لها ، ثم حرك عينيه إلى ساعة يده وقال بنبرة عادية : ماشي هعدي علي شذي اطمن عليها و ارجع اشوفكو بعد شوية
أومأت إليه بالموافقة ، ونزلت من السيارة ، قائلة بهدوء : ماشي .. سلام
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
دخلت حياة المستشفى مباشرة متجهة نحو المصعد ، لكنها غيرت رأيها وذهبت إلى الكافيتريا لتحضر لها كوب قهوة لمساعدتها على التركيز قليلا ، ثم عادت إلى المصعد وهي تنوي الذهاب إلى غرفة بدر.
رفعت حياة كوب القهوة على شفتيها ، وارتشفت قليلاً منه بالتزامن مع ظهور بدر فجأة هامسًا بجانب أذنها : حياة
غصت حياة وهي تبتلع ما في حلقها ، وخفق قلبها حينما استمتعت اسمها بلهجته العميقة ، لتصيح في تذمر من بين سعالها ، رفعت عينيها في حرج بعد مسح فمها بظهر كفها : مش تكح خضتني
تشكلت ابتسامة جانبية على فمه ، وهو يسألها باستفزاز محركًا حاجبيه بشكل هزلي : وهي اول مرة يعني؟
انزعجت ملامحها حيث نظرت إليه بنظرة ازدراء ، ثم سألته مستفسرة : رخم .. كنت فين من ساعة ما كنا في النيابة ماشوفتكش جنبي؟
بدأت ابتسامة خافتة تظهر ببطء على وجهه ، بينما نظراته ثابتة عليها ، مغمغمًا بنفس النغمة العميقة : كنت موجود حواليكي بس ماردتش اكلمك وسطهم
قوست حياة ثغرها بابتسامة صغيرة على كلماته ، بعد أن أسبلت جفنيها نحو الكوب ، تمسكه بكلتا يديها بخجل حتى أضاف قائلا بنبرة ذات مغزى : علي فكرة انا سمعت كلامك مع معاذ عني
ابتلعت حياة ريقها بصعوبة ، وهى تشعر بجفاف حلقها ، لتنبس بصوتها الناعم بعد أن نظرت إليه : سمعت ايه؟
أجاب بدر بإيجاز على سؤالها : كل اللي قولتيه..
اشتعلت وجنتاها خجلاً ، بمجرد أن أدركت أن مشاعرها أصبحت الآن كتابًا مفتوحًا له ، لكن قلبها كان له رأي آخر ، حيث حلق بسعادة في سماء هذا البدر ، يترقص فرحًا وحبًا ، بينما استأنف بدر حديثه بعد ثوانً بأعين متلألأة بترقب : بس عايز اعرف لما قولتي كدا كان عشان تخلي معاذ يبعد عنك؟
حملقت به بعسليتها اللامعة بحب جارف وهزت رأسها نفيًا ، وقالت باندفاع : لا انا كنت قاصدة كلامي
برقت عيناه بنظرة مفعمة بالأمل من جوابها الذي زعزع حصونه عشقًا ، وهمس لها بصوته العميق : يعني بجد بتحبيني يا حياة
نظرت حياة إلى أسفل بخجل تارة ، ثم رفعت أهدابها تحدق بتردد فى عينيه تارة أخرى.
لا تنكر إحراجها الشديد وخوفها من عدم تقبله مشاعرها ، لكنها لم تعد قادرة على إخفائها فى قلبها ، لتهمس بصوتها الرقيق الذي يتغلغل في روحه مثل أشعة الشمس دافئة مثل شعرها ، و عينيها تخترق نوافذه المظلمة ، تتألق في سماء قلبه بألوان قوس قزح : صدقني معرفش ازاي اتعلقت بيك في حياتي بالشكل دا .. مش عارفة اوصفلك الرعب اللي حاسة بيه وخوفي عليك من كل حاجة .. ولا اعرف امتي و ازاي لاقيت نفسي بحبك و عايزة افضل جنبك!!
طافت عيناه على ملامحها بعشق ، متناغم مع نغمة السحر في صوته العذب ، بينما ارتسمت ابتسامة على شفتيه ، تحكي قصة عاشق أخفى حبه طويلاً : و انا دلوقتي خلاص مش عايز اعيش غير عشانك ومش خايف خلاص اللي كنت خايف منه انك ماتكونيش بتحبني زي ما انا بح…ب…
لم يستطع بدر أن يكمل اعترافه بحبه لها حيث أنزل بصره نحو طيف جسده ، وشعر بإحساس غريب بالألم يسيطر عليه.
رفعت حياة حاجبيها مندهشة ، وتلاشت ابتسامتها السعيدة بعد سماع كلماته الجميلة تدريجيًا ، و دب الذعر براثينه في قلبها مما تراه أمامها ، لتناديه بتردد : بدر .. مالك!!
حدق بدر في عينيها المتسعة بهلع ، حالما أن رأت الضوء المنبعث منه والذي جعل طيفه شفافًا للغاية حيث يختفي ببطء ، بينما كافح بدر لإخراج صوته بشكل متقطع ضعيفًا كأنها تسمعه من بعيد على الرغم من صغر المسافة التى تفصلهما عن بعض : حياة .. في حاجة غلط .. احساس قوي بيسحبني بعيد .. غصب عني..
تجمدت قدماها في مكانها ، ولم ينكسر صمت المكان إلا بقرع قلبها بصوت عال ، عقلها يحاول ترجمة ما حدث الآن لكن الصدمة جعلتها تحرك رأسها في إنكار لما توصلت إليه ، لتمرر عينيها في جميع اتجاهات المصعد ، لكنه بالفعل تلاشى نهائيًا وكأنه لم يكن موجودًا.
انسكب من يدها كوب القهوة من فرط فزعها ، في نفس الوقت وصل المصعد إلى الطابق المراد لتترجل حياة منه ، وهى تركض برعب في أروقة المستشفى مثل المجنونة ، تريد الوصول إلى غرفته في أسرع وقت ممكن.
اقتربت حياة من الغرفة بأنفاس متلاحقة ، تزامنًا مع خروج أميرة من الغرفة بوجه مرتعد بشحوب ، لتنصدم بشدة من رؤيتها.
فوجئت حياة حينما وجدتها أمامها بتلك الهيئة المريبة ، ليسقط قلبها أرضًا من خوفها الشديد ، وهى تجزم داخليًا أنها قتلته ، لكن أميرة لم تعطها فرصة لإكمال استنتاجها المصدوم أو حتى القدرة لأن تفعل شيئًا ، حيث تقدمت إليها على الفور دافعة اياها بقوة فى صدرها ، مما جعل وزن حياة يختل ، وتقع مرتطمة بقوة بالارض الصلبة بقسوة حتى تتمكن من الهروب منها.
قطبت حياة جبينها وهي تقضم شفتيها بألم في عظام ظهرها ، لكنها حين انتبهت على أميرة تفر هاربة في الرواق ، صرخت بقوة في بعض العمال الذين تجمعوا على صوتها بتعجب : الحقو الست دي .. عملت حاجة في المريض اللي جوه .. امسكوها بسرعة..
هرعوا جميعًا بإندفاع في الاتجاه الذي أشرت إليه.
نهضت من الأرض ببعض الألم ، وهرعت نحو غرفة بدر الذي كان مستلقيًا على السرير في صمت تام ، ثم لاحظت بفزع أن الأجهزة التي يتنفس من خلالها قد أزيلت عنه.
استدارت بسرعة نحو الباب وهي تصرخ طلباً للمساعدة : يا ناس .. حد يلحقني لو سمحتوا .. بدر بيموت
جاءت إحدى الممرضات تلبيةً لنداءها ، وقد صدمت من هيئة حياة الفوضوية ، لتربت على كتفيها وهي تسأل بقلق ، وتحرك عينيها بينها وبين السرير خلفها : ايه اللي بيحصل .. اهدي عشان اعرف افهم منك!!
أشارت لها حياة على عجل ، وهي تدير رأسها للخلف وتصرخ متوسلة ، وتلهث لالتقاط أنفاسها : الاجهزة مفصولة عنه نادي للدكتور بسرعة
بمجرد أن هرعت الممرضة إلى الخارج لتلبية طلبها ، عادت إلى الفراش ، وإنهمرت الدموع من مقل عينيها في تلك اللحظة ، وهي تنظر إلى ملامحه الشاحبة ، لتستسلم تمامًا لرعدة قاسية ، سرت على طول جسدها جعلت المطر يتساقط بغزارة من غيوم عسليتها الداكنة.
اقتربت منه كثيرًا ، وهي تحاوط وجهه بيديها وإنحنت بجذعها العلوي نحوه ، ودموعها الكثيفة تتساقط على لحيته مبللة اياها وتذرف دموع الحب على جسده ، وهي تهذى فى انهيار بكلمات متقطعة من بين شهقاتها تفيض بالرجاء ، وهى تشعر أن روحها غادرت جسدها عندما اختفى مثل السراب من أمامها : بدر .. بدر .. ماتسيبنيش دلوقتي .. انت مش هتسيبني وتمشي بعد ما بقيت كل حاجة في حياتي .. فتح عينك أو اظهرلي تاني .. لو سمحت ماتسيبنيش .. انا ماسيبتكش لما كنت محتاجلي .. اصحي ماتموتش انا محتجالك وبحبك اوي ومش عايزة غيرك قوم عشان خطري
: ايه اللي بيحصل هنا!! ابعديها عنه بسرعة يا ليلي
كانت غافلة تماما عن من حولها ولم تسمع صوت الطبيب الذي صرخ على عجل ، إلا عندما انتزعتها يدا الممرضات من على جسد بدر.
خرجت الكلمات من حلقها بصعوبة بالغة ، وقالت بصوت متحشرج ونحيب وهي تتراجع في خطوات بطيئة بينما تجرها الممرضة للخلف : دكتور الحقه .. الحقيرة اميرة شالت اجهزة التنفس عنه .. ارجوك ماتسيبهوش يموت اعمل اي حاجة
استدعى الطبيب إحدى الممرضات بملامحه الجادة التي أثارت القلق فى قلب حياة قائلا على الفور : يارا كلمي الامن و شوفيلي مين دخل هنا و عمل كدا؟ وخرجو الانسة برا..
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
بعد فترة وجيزة من الزمن
ظل جاسر يتجول في الممر ذهابًا وإيابًا بتوتر وقلق ، بينما في الجهة المقابلة وقف معاذ متكئًا على الحائط خلفه ، في انتظار خروج الطبيب ليخبرهم بحالة بدر.
تدحرجت عيناه تجاه ذات الشعر البرتقالى الجالسة ، تحدق بهدوء في الفراغ ، وتتحرك شفتيها من وقت لآخر في حركة سريعة كما لو كانتا ترتجفان والدموع تتساقط منها بشكل لا إرادي.
تشابكت حواجبه بغضب عندما تذكر ما حدث قبل بضع دقائق.
Flash Back
فور وصوله إلى بداية الرواق ، رآها تبكي بصوت عالٍ في يدي الممرضات ، ركض إليها بقلق دون تفكير ، ليركع أمامها ، ويطوق وجهها بيديه ، متسائلاً في فزع عما حدث لها.
لم يتلقى منها سوى مزيد من النحيب الذي جعل قلبه ينفطر عليها حتى وصل إلى أذنيه كلمات الممرضة قائلة بتوضيح ، مسببًا ارتسام الصدمة والألم على محياه : سمعناها بتصرخ واجهزة التنفس مفكوكة عن المريض .. بس الحمدلله الامن مسكو الست اللي عملت كدا علي السلم قبل ما تلحق تهرب ومن ساعتها الدكتور معه جواه
Back
أغمض عينيه بقوة عندما غزت الأسئلة عقله ، ألهذه الدرجة وصل معها الأمر إلى البكاء على شخص آخر غير والدها ، لم يسبق له أن رآها بهذا الشحوب ، وعيناها ذابلة وهيئتها مبعثرة إلا وقت وفاته فقط.
أطلق زفيرًا بحرارة بعد أن فتح عينيه ، معترفاً بأن لديها مشاعر عميقة لهذا البدر لن يكون قادراً على جعلها تنساها بسهولة كما حاول إقناع نفسه سابقاً.
استفاق معاذ من بؤرة أفكاره القاتمة حالما سمع صوت باب الغرفة ينفتح ، مطلاً منه الطبيب بمظهره الجاد.
رفعت حياة عينيها المشوشة بالدموع إليه ، ومرت بضع ثوان قبل أن تنهض بسرعة لتركض نحوه بنظرات قلقة ، وهى تقف بجانب جاسر الذى سأله بترقب : بدر عايش يا دكتور .. طمنا من فضلك؟
ابتسم الطبيب ثم قال بنبرة هادئة ومتوازنة وهو ينقل عينيه بينهم : الحمدلله اطمنو هو كويس دلوقتي حالته مستقرة مافيش داعي للقلق
ازدردت لعابها وهى تمسح وجنتيها الوردية من الدموع وقالت بشفتيها المرتجفة : ممكن ادخل اشوفه لو سمحت يا دكتور؟
رمقها الطبيب بنظرة شفقة على حالها ، لكنه أجاب بجدية : حاليا الزيارة ممنوعة للصبح و دا احسن عشانه
اغرورقت عينيها بالدموع عينيها مرة أخرى ، وتمتمت برجاء حتى تستعطفه : دقيقتين بس من فضلك والله
أومأ بالموافقة وواصل الحديث نفس اللهجة الجادة : ماشي .، بس مش اكتر من كدا
فتح معاذ فمه محاولاً استنشاق أكبر قدر ممكن من الهواء لعل تهدأ النار في قلبه ، و فور دخولها الغرفة نظر إلى جاسر وقال ببرود ظاهرى وهو يشعل سيجارة ويستنشقها بقوة ، ثم ينفث الدخان ببرود : هنزل اجيب قهوة و ارجع .. اجيبلك معايا؟
هز جاسر رأسه رافضًا وقال بهدوء مهذب ، وهو يجلس على أحد الكراسي : تسلم يا معاذ باشا
حرك معاذ جانب فمه بابتسامة جانبية صغيرة ، ثم نظر إلى الرجل الواقف أمام باب غرفة بدر وهو يأمره بجمود : تفضل هنا قدام الاوضة ماتتحركش للصبح
أومأ الجندي برأسه مطيعًا مؤديا التحية العسكرية ، وهو يهتف باحترام : تمام سيادتك
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
داخل غرفة بدر
مشيت ببطء صوب السرير ، وهى تقبض بأسنانها على شفتها السفلية ، مانعةً ارتجافها الواضح ، ثم زفرت براحة ، محدقة في ملامحه الوسيمة رغم سكونه ، غير مصدقة للآن أنه لا يزال على قيد الحياة بعد كل ما حدث.
أخذتُ تردد كلمات الشكر والتسبيح لله ، ثم نظرت حولها بتمعن ، ربما سيظهر فجأة كالمعتاد ، لكنه سرعان ما زفرت بإحباط منذ أن اختفى شبحه ، ولم يظهر له أي أثر ، وهذا هو سبب أصابتها بنوبة هلع حيث اعتقدت أنه رحل إلى الأبد.
صعدت السرير لا إراديًا بحذر شديد ، لتجلس بجانبه على جانبها الأيمن ، تتأمل ملامحه المرتخية والوسيمة للغاية ، على الرغم من شحوبها الطفيف ، شعرت بنبضات قلبه تضخ تحت يدها ، التي وضعتها على صدره لتتنهد بإرتياح.
ظلت تنظر إليه بنوع من التردد قبل أن ترفع يدها اليسرى ببطء إلى أعلى لتستريح على جبهته العريضة ، وثمة ابتسامة خافتة على شفتيها ، تحتوي على مزيج من الحب والحزن والشوق وهي تناجى الله عز وجل أن ينقذه.
أغمضت عينيها ومررت أصابعها على وجهه المتناسق كأنه منحوت بيد فنان ، وصولاً إلى أنفه البارز بشموخ ، ثم خده تتلامس مكان غمازته الذي وقعت في غرامها ، حينما يبتسم لها ابتسامته الساحرة ، لتنحدر أصابعها على عظام فكه لتستقر على ذقنه ، وتضع راحة يدها على الخد الآخر ، وهى تطبع في عقلها صورة لمعالمه التي تسكن خبايا الروح احتلالاً ، وتجعل قلبها ينبض بالحياة.
تسارع قرع قلبها مثل الطبل لدرجة أنها شعرت به في حلقها ، وهي تتذكر حديثه الأخير معها ، والذي لم يستطع إكماله ، متسائلة بشوق و عذاب لماذا المسار نحو ما تريده بطيئًا للغاية ومتعثرًا.
فتحت عينيها عندما سمعت صوت طرق عدة مرات متتالية ، فسارعت تنهض من بجانبه ، تزامنًا مع فتح الباب لتدخل الممرضة حتى تذكرها بما قاله الطبيب منذ قليل.
أومأت برأسها فى انصياع ، وألقيت نظرة أخيرة عليه ، ثم خرجت معها بهدوء.
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
فى رواق المستشفي
بمجرد أن أغلقت الباب خلفها ، استدارت نحو جاسر فرأته جالسًا يضع رأسه في يديه ، ومخفضً بصره بشرود ، لتحمحم بخفة لجذب انتباهه إليها.
مرت وهلة قبل أن يرفع رأسه ناظراً إليها بعيون ضيقة ، ويسألها بقلق بعد أن وقف منتصبًا واقترب منها : عاملة ايه دلوقتي؟
أجابت حياة بنبرة خافتة ، وهي ترمق الجندي بنظرة خاطفة : الحمدلله بقيت احسن .. وصلتو لحاجة؟
أنهت كلامها بنبرة تساءل ، ليجيب عليها زافرًا بغضب : طارق رئيس المباحث كلمني وقالي ان اميرة وامها اتحجزو علي ذمة القضية و هيتعرضو علي النيابة الصبح وللاسف كريم هرب قبل الشرطة ما توصلوه
خفق قلبها خوفًا انجلى على محياها بسبب ما حدث منذ قليل ، بينما تقول سريعًا : يعني ممكن يحاول يأذي بدر تاني!!
ابتعد بؤبؤ عينيه عنها في تفكير ، شابكًا ذراعيه أمام خصره ، وتابع حديثه بثقة واتزان : مش هيستفيد حاجة من محاولته .. عشان الاوراق دلوقتي في ايد الشرطة واتحولت لقضية يعني اي حاجة هيعملها هيزود بيها قايمة جرايمه .. دا لو ماتمسكش وقتها
هزّت رأسها بسرعة ، مقنعةً نفسها بصحة حديثه ، ليكمل بنبرة هادئة ، محاولاً بث طمأنينة فى نفسها المتوترة : ماتقلقيش المستشفي متأمنة كويس برجالة الشرطة
لاحت ابتسامة على وجهها ، إنمحت فورًا ، وهى تنطق بسؤال : وكرم لسه ماوصلوش لمكانه؟
رفع يده ومسح بها على وجهه قائلا بتعب : لسه
تألقت عيناها ببريق ذعر من أفكارها القاتمة ، مما جعل طاقتها تنخفض شيئًا فشيئًا ، بينما لاحظ جاسر شحوب وجهها قائلاً بقلق : حياة .. يلا خليني اوصلك البيت ماينفعش تفضلي هنا
هزت رأسها رافضة ، ليستطرد الكلام بحزم : ماتعمليش كدا وشك اصفر جدا والصدمة اللي اخدتيها من شوية مش قليلة
عبست ملامح وجهها الرقيقة باستياء ، ونبست مستنكرة بإعتراض : لا انا…
بتر جاسر باقي جملتها ليقول بابتسامة تشوبها الصبر يحاول ردع عنادها بألطف الطرق : اسمعيني روحي البيت و الصبح ارجعي حتي عشان تغيري هدومك وتستريحي شوية .. كدا كدا مش هتعرفي تشوفيه لحد الصبح يعني القعدة هنا مالهاش داعي
قوست حياة شفتيها ، وتحدق فيه بعدم رضا ، لترد بتذمر : ماينفعش نسيبو تاني لوحده…
ابتلعت حياة بقية اعتراضها الواهى من شدة إجهادها ، حالما وصل صوته ذو بحة المميزة إلى أذنيها من خلفها : انا هوصلك يا حياة
التفتت نحو معاذ مغمغمة باستسلام ، وإطمئن قلبها قليلا من بقاء جاسر في المستشفى : طيب
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
في سيارة معاذ
حدق بها خلسة ، ليراها عاقدة يديها إلى صدرها في سكون ، وبدا أنها غارقة في أفكارها لبعيد ، حتى استفاقت على صوته حينما حاول جذب أطراف الحديث معها بنبرة لينة ، بينما بصره مرتكزًا للأمام : شكلك لسه مضايقة مني عشان الكلام اللي قولنا اخر مرة .. الضغط اللي كنت فيه خلاني اتصرف كدا بس انا ماكنش قصدي اتعصب عليكي
تكلمت حياة بحدة ، وهى ترمقه بنظرات جانبية فورًا أدرك معناها : عادي يا معاذ دا طبعك و مش هيتغير في يوم وليلة .. انت علي طول متسرع و لسانك سابق تفكيرك
زاد من قوة قبضته على عجلة القيادة ، حانقًا على نفسه ، كيف يمكنه أن يلومها ، لقد كانت تلك المشكلة دائمًا ، من الصعب عليه كبح جماح غضبه السريع ، لكنه حاول ضبط نفسه بتحكم لاذع للرد في أهدأ نبرة يمتلكها : عندك حق يا حياة .. يمكن سبب عصبيتي معاكي عشان كان لسه جوايا امل اننا هنتصالح ونرجع لبعض .. وماكنتش متقبل ان في حد تاني في قلبك
ارتخت ملامحها الحادة ، وهي تلتمس الندم في عبارته ، ثم تنهدت قائلة بنبرة رقيقة : مش نصيبنا نكون مع بعض يا معاذ .. لو كملنا كنا هنفشل عشان ماكناش هنقدر نتفاهم مع بعض ولا كنا هنريح بعض
ابتسم معاذ ابتسامة جانبية مليئة بالمرارة ، وأومأ برأسه ، وتابع حديثه بضيق : جايز .. وانا مقدر صراحتك معايا .. واكيد مش هفرض نفسي عليكي .. لا كرامتي ولا رجولتي تسمحلي اجبرك عليا او اخليكي تحبني غصب عنك
هزت رأسها بصمت حينما ألقي نظرة خاطفة عليها مزدردًا ريقه ، و يجز على أسنانه بقوة ، محاولًا التحكم في انفعالاته ، مضيفًا نفس الطبقة الصوت الهادئ : عشان محدش بيحب حد غصب عنه يا حياة .. بس احنا قرايب قبل كل حاجة و هفضل موجود اذا احتاجتي اي حاجة
تشكلت ابتسامة طفيفة على شفتيها ، ورقص وميض ارتياح في عينيها معتقدة أنه تفهمها أخيرًا.
حدقت به بينما عيناه مصوبتان نحو الطريق ، ثم ردت عليه بابتسامة : بغض النظر عن اسلوبك معايا .. بس شكرا يا معاذ علي اللي عملته
أخذت نفسا عميقا ، واستطردت كلامها : و زي ما قولت احنا قرايب و مينفعش يكون بينا الا الاحترام و المودة
اجاب بهدوء متناغم مع بروده الزائف محاولاً اخفاء جمرة تلهب صدره : اكيد يا حياة
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
داخل زنزانة الحجز في قسم الشرطة
: مش قادرة اصدق للي حصل .. انا اتجرجر زي المتهمين وسط جيراني وصحابي!!
أنهت أسماء كلماتها بصوت عالٍ لا شعوريًا من صدمتها المفرطة ، بينما تجولت عينا أميرة حول المكان المظلم إلى حد ما في رهبة وهي ملتصقة بها ، وقالت في تحذير هامس : وطي صوتك يا ماما انتي مش شايفة الاشكال الغريبة اللي مبحلقة فينا من وقت ما دخلنا هنا
هتفت أسماء بنبرة هادئة نوعا ما ، ولا تزال علامات الغضب ظاهرة على وجهها : كله من غبائك .. ازاي تسمعي كلام الحيوان كريم وتروحي برجلك المستشفي عشان تعملي عملتك السودة دي ويتقبض عليكي!!؟
اطرقت أميرة رأسها ، لتتجنب النظرات اللاذعة التي ترسلها لها والدتها بعنف لتهمس بتبرير : كنتي عايزاني اعمل ايه وماعملتوش؟ كريم هددني بتسجيلات بينا بكلم فيها عن محاولتي الفاشلة لقتل بدر وعن الحادثة
تجمعت الدموع في مقل عينيها ، وظل صدرها يرتفع وينخفض من خوفها الشديد وألمها القابع فى قلبها ، ثم أضافت بانفعال خفيف : مالقتش حل قدامي غير اني اسمع كلامه .. فضل يقولي ان زيارتي لبدر امر طبيعي عشان انا مراته محدش هيشك فيا ووصلني للمستشفي طلعت نفذت اللي طلبو مني .. ولما خرجت من الاوضة لقيتها في وشي صرخت ولمت عليا عمال المستشفي مالحقتش اهرب منهم
تنهدت أسماء في سخط بالغ ، وردّت بسخرية لاذعة : برافو عليكي و دلوقتي مبسوطة بعملتك .. الزفت كريم هرب المحامي اللي كلمته بيقول ان كاميرات المستشفي سجلت انه كان واقف بعربيته قدامها لما حس بقلق جوه خلع ومحدش عارف اختفي في انهي مصيبة تاخده
: انتي يا حلوة منك ليها بقالكو ساعة بتتودودو في ودان بعض ايه العبارة بالظبط؟
هتفت فيها امرأة تبدو في الأربعينيات من عمرها ترتدي ثوب أسود طويل ، وتحمل سيجارة بين أصابعها السمراء ، لتنظر إليها أميرة بعيون جاحظة مليئة بالدموع والخوف ، لكنها كافحت لجعل صوتها غير مبال : و انتي مالك انتي .. بليز ابعدي شوية عشان ريحتك قلبت معدتي
رفعت المرأة حاجبًا واحدًا عندما لاحظت تعبيرًا عن الاشمئزاز على ملامحها الجميلة ، وألمعت عيناها بوميض ماكر عندما لوحت أميرة أمام وجهها ، لتكشف عن شيء لامع على معصمها بدا باهظ الثمن وهذا ما خطر ببالها بطمع.
ابتسمت بخبث ، ثم هتفت بسخرية : الله الله باين علي الحلوة انها مدلعة .. هنا الكلام دا مايكولش يا ماما منك ليها..
وأضافت ، بعد أن أخرجت موسًا حادًا من فمها في غمضة عين ، واشتهرت بتوجيهه إلى وجوههم التي انكمشت بخوف وبذعر بالغ : اطلعي باللي معاكي يا مزة انتي و البسبوسة اللي جنبك دي .. احسن ما بالمطوة دي اسلم بيها علي خد كل وحدة فيكو
★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••••★•••
يمشي وحيدًا بخطوات بطيئة وحذرة ، في طريق مظلم ، مرتديًا معطفًا أسود طويلًا ، يحاول تحديد وجهته والتعرف على المكان ، لكن بين الحين و الأخر يدخل ويخرج في أزقة متشابهة مغطاة بالظلام ، ومليئة بالمستنقعات الصغيرة التى تنزلق مرارًا وتكرارًا قدميه فيها رغمًا إرادته.
طاف في الشوارع لفترة طويلة ، والآمل يتسرب من قلبه رويدًا رويدًا حتى جذب انتباهه ضوء ساطع خلفه ، فاستدار ، مقوسًا حاجبيه بتعجب ، وهو يقترب منها حيث تقف على بعد مسافة صغيرة منه.
بمجرد أن وصل إليها ، زينت ابتسامة حنونة ملامحها ، هدأت من روعه ، ليبادلها البسمة ، وقلبه ينبض لها مطمئنًا ، وهو يقف أمامها متأملاً ابتسامتها الجميلة.
حدق الاثنان في بعضهما البعض بصمت ، حتى تحولت ابتسامة بدر إلى دهشة كبيرة ، عندما وجد جسدها يتحول إلى وميض مشع ، سرعان ما ارتفع وحلّق أمام عينيه الواسعتين مبتعدًا عنه.
تحرك للأمام بخطوات سريعة أشبه بالركض ، وهو يمد ذراعيه للأعلى ، محاولًا الإمساك بها ، لكن توارى طيفها حرفياً ، بالتزامن مع ظهور ضوء قوي للغاية ، فأغلق عينيه وتقهقهر للخلف ، واضعًا ذراعه على وجهه من أجل حجب هذا الضوء المفاجئ.
★★★
فى ذات الوقت
في مكان يسود فيه الصمت ، بينما جسد البدر مسطحًا بسكون ، لكن داخليًا يشعر أنه خفيف جدًا ويطير بين السحب البيضاء ، بينما تتطاير خصلاته الناعمة بفعل الريح المنعشة من حوله ليغلق عينيه بغبطة ، بينما عقله في مرحلة اللاوعي.
حاول فتح عينيه مرة أخرى ، لكنها لم تستجب له ، حتى أن جسده لم يستطع تحريكه قيد أنملة ، وكأنه مصاب بالشلل التام ، بينما كانت مقلتا ترتجفان من تحت جفنيه المغلقتين ، ويتحركان يمينًا ويسارًا.
بعد عدة محاولات ، انقشع الستار المهدب أخيرًا عن بنيته القاتمة ، محدقًا في رؤية غير واضحة في السقف الأبيض ، ثم رمش عدة مرات متتالية قبل أن تتجعد ملامحه من الألم عندما داهمه صداع شديد ، فأغمض عينيه مجدداً وسقط في سبات عميق.
: بدر
شهقت حياة بصوت عالٍ بلا وعي ، وهى تستيقظ بإنتفاضة فجأة ، وتسند جسدها على ظهر السرير الوثير ، بينما صدرها يعلو ويهبط بسرعة أثر تنفسها بشكل غير منتظم ، وعيناها تتحركان فى عشوائية بعقل مشوش لا يستطيع ترجمة أي شيء.
تدحرج بصرها نحو الشيء الذي كانت تقبض بيديها عليه لم يكن سوى قميص بدر ، لتسترخى ملامحها بوعي ، وهى تستجمع الأحداث الأخيرة ، حيث بعد أن وصلها معاذ ، صعدت إلى منزل بدر وهي تشعر بصداع يفتك برأسها ، قارعًا الطبول داخل جمجمتها بعنف ، لتأخذ حمامًا مريحًا لأعصابها المتشنجة ، ثم دخلت غرفة نومه وهى تسحب أحد قمصانه من الخزانة.
استنشقت رائحته الرائعة وعانقته بحب كبير وشوق مع وسادته التي افتقدت رائحتها العطرة طوال فترة إبتعادها عن المنزل ، ثم لا تعلم كيف انجرفت فى تيار النوم العميق لأول مرة منذ عدة أيام.
إرتسمت على وجهها ابتسامة واسعة ، وهى تسترجع فى ذهنها تفاصيل الحلم الجميل الذي حلمت به ، وتمنت من كل قلبها أن يتحقق.
نظرت إلى ساعة الحائط لتتعجب من أن الوقت ما زال مبكرًا ، وهى مستلقية على جانبها الأيمن ، وابتسامة حالمة لم تترك فمها قط ، وسرعان ما غفت مرة أخرى.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية شبح حياتي)