رواية سديم الفصل الثاني 2 بقلم آيلا
رواية سديم الجزء الثاني
رواية سديم البارت الثاني
رواية سديم الحلقة الثانية
_أبلة منيرة….يعني ايه ماما؟
صوت السكون خيم على الصف فجأة، توجهت أعين جميع الطلاب نحوه قبل أن تثقب صوت ضحكاتهم المزعجة أذناه.
لقد تحول سؤاله في تلك اللحظة إلى واحدة من أكثر النكات المضحكة في العالم، و الذي صادف أن مُلقيها هو الشخص الوحيد الذي عجز عن إيجاد النقطة المضحكة بها لذا اكتفى بالتطلع إلى الحضور ببلاهة منتظراً إصدار الترجمة!
” دا مش عارف يعني ايه ماما!”
“هو انت بتنادي لمامتك باسمها و لا ايه؟”
“في حد ميعرفش يعني ايه ماما!!
الكثير من أسألة الإستنكار المستهزئة التي استطاع التقاطها من بين ضحكاتهم ، لم يهتم حقاً فكل ما كان يجول في باله حينها خلال ذالك المشهد العبثي هو ” أكل هؤلاء الطلاب يعرفون ما هي ‘ماما’ عداي أنا؟”
توجهت أنظاره إلى المعلمة ليجدها تطالعه بدورها بنظرات غريبة و كطفل لا يزال في السادسة من عمره لم يستطع فهم ماهيتها أو سببها.
تحركت لتقف في منتصف الصف و بدأت بالهمس للطلاب و كأنه مجرد درجٍ أصَّم لن يستطيع سماعها هو أيضاً بدوره:
_ششش، يا أولاد…سديم يتيم.
لحظات أخرى من السكون الذي لطالما حلم أن يحظى بها تأتي أخيراً و لكن في الوقت الخاطئ، حواجب مرفوعة لأعلى و أفواه مفتوحة على وسعها في إشارة واضحة أن أحداً لم يفهم شيئاً بما فيهم الصغير!
يتيم! أين سمع تلك الكلمة من قبل؟
آه لقد تذكر أخيراً، إنه ذات الاسم مع زيادة بضعة أحرف…(دار الأيتام)، كيف علمت المعلمة باسم منزله؟
_أبلة منيرة….يعني ايه يتيم؟
تطوع أحد الطلاب أخيراً ليسأل عن ما أثار حيرة الجميع.
نظر الجميع إلى أبلة منيرة في انتظار إزاحة ذالك الغموض الذي غلف المكان فجأة ليجدوها متجمدة في مكانها كمن أدرك للتو مدى الحماقة التي قام بارتكابها.
ابتسمت بارتباك و تحدثت بصوت مهتز حاولت جعله ثابتاً:
_ك..كتبتوا الواجب اللي قلتلكم عليه ولا لأ؟
كادت ميار الصغيرة أن تكرر السؤال مرة أخرى لولا أن جاء صوت المعلمة صارماً هذه المرة:
_طلعوا كراساتكم حالاً و اللي معملش الواجب هيتعاقب.
بدى واضحاً أنها تتهرب من الإجابة عن سؤالهم عن قصد و قد نجحت بالفعل فسرعان ما تناسى الطلاب تساؤلاتهم و بدأوا بإخراج كراساتهم بتوتر، على الرغم من أن الأستاذة منيرة كانت من ألطف الأساتذة بالروضة إلا أنها كانت تتحول إلى ساحرة شريرة و مخيفة حقاً عندما تغضب.
انتهى اليوم الدراسي سريعاً ليحمل حقيبته و يتوجه ناحية المشرفة التي كانت بانتظاره هو و باقي أخوته من الميتم لترجعهم إلى الدار، تجنب نظرات الطلاب من صفه التي أخذت تلاحق خطواته الخائفة و المستعجلة، هؤلاء الأطفال…إنهم يشبهون كل شئ في العالم عدا الأطفال بالمعنى الحرفيّ!
________________
_ديو، مزعل الواد حازم منك ليه ها؟
صدح صوتها من العدم بجانب أذنه فجأة ليشهق و يتراجع بخوف بينما يقبض على قلبه بكفيه يمنعه من القفز و مغادرة تجويف قفصه الصدري في أي لحظة.
_ندى! كام مرة قُلتلك تبطلي تعملي الحركة دي؟ فاكرة نفسك عفريت و لا ايه؟
هزت كتفها بعدم مبالاة و دعت نفسها للجلوس بجانبه على النجيلة الإصطناعية التي تفترش أرض حديقة الميتم المتوسطة نسبياً.
_ أنا عملت دوشة و أنا جاية بس انت اللي كنت سرحان.
_أنا مكنتش سرحان، أنا كنت بعمل الواجب و بسببك غلطت، بصي…دا منظر حرف عين؟ لازم أمسحها و أعملها تاني.
_لأ كنت سرحان و ماسك القلم و مبتكتبش حاجة يا كداب أنا شُفتك.
قلب عيناه لأعلى بملل و تحدث :
_طيب طيب ابعدي خليني أخلص.
_مالك مضايق ليه؟ من ساعة ما رجعت من الحضانة و انت غريب.
_غريب ازاي يعني؟
افترشت الأرض و وضعت رأسها على قدميه ثم تنهدت متحدثة:
_يعني…مخلصتش أكلك، و مرضتش تلعب مع حازم و هو زعلان منك دلوقتي، سرحان كتير….
نظرت إليه من الأسفل فأدار وجهه بعيداً حتى لا تتمكن من التقاط ارتباكه.
_قُلتلك م..مفيش حاجة.
لم يتمكن من رؤية التعبير الذي كسى وجهها في تلك اللحظة لكنه خمن أنها أصبحت غاضبة منه و على عكس توقعه نهضت لتبعثر شعره الأسود الفحمي بمرح بينما تتكلم:
_ ديو، أنا أختك الكبيرة تقدر تقولي أي حاجة.
أعاد عيناه ناحيتها بتردد ، ماذا لو سخرت منه هي كذالك؟ لكن نظراتها الحادة و الثابتة جعلت لسانه يتحرك ناطقاً بما أشغل باله رغماً عنه:
_أنا..أنا كنت عايز أعرف يعني ايه ماما.
قال و أخفض بصره ناحية الأرض في انتظار أن تضحك أو تسخر منه ربما و عندما طال الصمت رفعت وجهي ناحيتها مجددا ليجد حاجبيها معقودين معاً بغضب، اقتربت بوجهها منه فتراجع للخلف بقلق ، تحدثت فجأة:
_و عايز منها اي ها؟
نفى برأسه بسرعة.
_أنا مش عايز منها حاجة أنا معرفش اي دي أصلاً صدقيني.
زفرت أنفاسها بضيق و ابتعدت عنه، ثم استقامت لتتحدث دون أن تنظر إليه:
_ أحسن برضو مش لازم تعرف، الأم حاجة وحشة يا ديو…لازم تحمد ربنا إنك معندكش ماما.
أنهت حديثها لتغادر دون أن تلتفت ناحيته.
_____________
_ الكل على النوم يلا..اللي هشوفه بيتحرك بعيد عن سريره و لا صاحي يبقى يا ويله و سواد ليله النهاردا، فاهمين؟
تردد صوت المديرة صفاء كترنيمة كئيبة في أرجاء المنزل ليتوجه الأطفال إلى غرفهم بصمت ، خمس و عشرون طفلاً موزعين على أربع غرف على حسب أعمارهم، الغرفة الأولى للأطفال ما بين السنة إلى أربع سنوات كونهم يحتاجون رعاية خاصة و قد كانوا ثلاث أطفال، الثانية و هي غرفة سديم برفقة حازم و ندى و ثلاث أطفال آخرين يتراوح أعمارهم ما بين الخمس إلى عشر سنوات، آخر غرفتين كانت إحداهما للفتيات و الأخرى للفتيان حيث كان يتم فصل الجنسين عن بعضهما ما أن يتموا عامهم العاشر و بالإضافة إلى غرفة مخصصة للمشرفات التي تبيت معنا ليلاً و الحمام في نهاية الرواق يكون هذا هو الطابق العلوي بالمنزل، أما الطابق السفلي فكان يتواجد به المطبخ، غرفة مخصصة لتناول الطعام،و غرفة الدراسة، مكتب المديرة و ردهة واسعة يتواجد بها بعض الألعاب التي يُمنع الصغار من استخدامها إلا في حالة تواجد زوار، و أخيراً حديقة متوسطة الحجم نسبياً من المفترض أنها مخصصة لممارسة الرياضة لكن المديرة كانت ترى أنه من الأفضل توفير المال لذا لم يتم إحضار أي مدرب لهم.
صعد سلالم السرير الطبقي ببطئ حيث كان يتواجد فراشه في الدور العلوي ليرمي بنفسه على المرتبة المهترئة و سرعان ما سمع صوت تأوه يأتي من أسفله ليبتعد و يرفع الغطاء سريعاً و لم تكن سواها…
_ندى! بتعملي ايه على سريري؟
مسدت ذراعها بألم مصطنع قبل أن تجيب بهمس مماثل:
_كنت عايزة أعتذرلك عشان صرخت فيك بصوت عالي.
ابتسم و ربَّت على كتفها بلطف:
_عادي، أنا مزعلتش منك.
طالعته بأعين الجراء و همست مجدداً:
_بجد يا ديو؟ إنت مش زعلان مني بجد؟
أومأ:
_ أيوا بجد.
مدت يدها لتسحب شيئاً ما من تحت الوسادة تبين أنه كتاب.
كان يناظرها بينما تخرج علامات الاستفهام من رأسه لتضحك بهدوء متحدثة:
_ بما إنك سامحتني و مزعلتش مني هحكيلك قصة ايه رأيك؟
طالعها بقلق و التفت يميناً و يساراً قبل أن يهمس لها:
_ بس يا ندى…لو المشرفة عبير جات و ما لقيتكيش في مكانك هتتعاقبي و هتتحرمي من الأكل.
استلقت على السرير و وضعت رأسها على وسادته لتتحدث بعدم مبالاة:
_ متقلقش هم بيقولوا كدا ع يخوفونا لكن مش بيعدوا على الأوض و لا حاجة ، هتلاقيهم دلوقتي كلهم في سابع نومة.
استلقى إلى جوارها ليسألها بقلق:
_ و انتِ ازاي عرفتي؟
أخذت تتصفح الكتاب بينما تجيب بفخر:
_ عشان أنا ببقى سهرانة كل يوم طول الليل و هم مش بيعدوا.
طالعها بحاجب مرفوع لبضع ثوانٍ قبل أن يهمس بشئ من الغضب:
_ عشان كدا بتصحي بالعافية كل يوم و بتأخرينا كلنا عن المدرسة؟!!
قهقهت بتوتر و سألت متجاهلة حديثه:
_أحكيلك قصة الساحرة الشريرة ولا ليلي و الذئب؟
الساحرة الشريرة؟ لا، لا يريد أي شئ شرير ، أجابها بسرعة:
_ ليلي و الذئب…
_ماشي، كان يا مكان في قديم الزمان بنت صغيرة اسمها ليلى مكانتش بتسمع كلام مام….باباها، مكانتش بتسمع كلام باباها…
_ندى، اي هو باباها؟
قاطعها فجأة لتجفل بتفاجئ:
_ديو..انت متعرفش يعني ايه ماما و لا بابا؟
حرك رأسه يميناً و يساراً بالنفي.
_ يا لهوي، انت كنت محبوس جوا علبة و لا ايه؟
كان لا يزال يطالعها باستغراب دون إجابة، تنهدت بيأس لتستطرد:
_ بابا دا راجل، بياخد باله مننا و بيصرف علينا و بيحكي قصص قبل النوم زي ما بعمل معاك كدا فهمت؟
_طب و ماما؟
ترددت قليلاً قبل أن تجيب:
_ و ماما برضو…بس ماما بنت، و هي اللي بتجيبك من بطنها.
شهق بفزع و تحدث بانفعال:
_ازاي دا؟ هي وحش؟ مش الأطفال بيجوا أصلاً من مصنع الأطفال و بتاخدهم العصافير أبو بُق كبير دي و بعد كدا بيوز….
قُطعت كلماته بفعل يدها التي وضعت على فمه فجأة لتغلقه.
_ششش وطي صوتك، و منين جبت الكلام دا كمان؟
أزاح يدها ليعود للهمس مرة أخرى:
_ أنا شفته في الكارتون.
_ديو، دا كارتون مش حقيقي، الأطفال بيتولدوا من بطن أمهاتهم زي الفرخة لما بتبيض كدا فاهم؟
فتح فمه على وسعه:
_ماما زي الفرخة؟
صمتت لوهلة لتنظر إليه بأعين متوسعة عاجزة عن الحديث قبل أن تجيب بنفاذ صبر:
_ أيوا ماما زي الفرخة بس بني آدم، ماشي؟ و لو سألت حاجة تاني هنزل لسريري تحت و مش هكملك الحكاية.
ذمَّ شفتيه بعبوس قبل أن يسألها مجدداً:
_بس انتِ ليه قلتي إن ماما حاجة وحشة؟
_كدا، علشان هي حاجة وحشة، ممكن أكمل بقى ؟
أومأ باستسلام لأنه رغب بمعرفة باقي القصة.
تحمحمت قبل أن تكمل:
_ وصلنا لفين..؟ آه ليلي مكانتش بتسمع كلام باباها، و في يوم من الأيام باباها اداها سلة فيها كيكة و قالها تديها لجدتها…
_ندى، يعني اي جدتها؟
ضربت رأسها و تأوهت في يأس.
_صبرني يا ربي.
_________________
_ ندى..
همهمت له كإجابة ليكمل:
_ ليه احنا معندناش ماما و بابا و جده و تيتا؟
_ عشان احنا محظوظين.
استقام بنصف جسده العلوي ليتمكن من رؤيتها قبل أن يستفهم مجدداً:
_محظوظين ليه؟
أزاحت يدها من على وجهها لتنظر إليه بينما لا تزال مستلقية على الفراش بجواره قبل أن تتحدث بملل:
_انت لكاك و بتسأل كتير و أنا عايزة أنام.
قالت و تقلبت لتعطيه ظهرها.
_ بس أنا عايز أعرف.
جفلت و فتحت عينيها بسرعة عندما سمعت صوته بالقرب منها لترى رأسه يتدلى من فوق حدود كتفها بوضع مقلوب مضحك.
أزاحته و جلست مواجهة له لتفرك عينيها و تتثائب متحدثة:
_احنا محظوظين عشان عندنا بعض و عندنا باقي أخواتنا من الميتم مش محتاجين ماما و غيره.
صمت و نظر إلى الأسفل بتفكير لتنظر إليه بدورها بقلق خشية أن اجابتها لم تنل رضاه و ما هي إلا لحظات قبل ان تجفل بتفاجئ ما إن ألقى بنفسه عليها ليحتضنها بقوة متحدثاً:
_ معاكِ حق، انتِ أحسن من ماما و كل الناس و أنا بحبك.
_ و أنا كمان….ب..بحبك، يلا بقى نام لاحسن تأخرنا انت المرة دي.
تحدثت بينما تزيحه عنها بلطف ليومأ و يقبل وجنتها بسرعة و من ثم وضع رأسه على الوسادة لينام بينما تعتلي وجهه أكبر ابتسامة راضية.
_________________
_ سديم ! مين عمل فيك كدا؟
_انتِ….انتِ يا ماما!
يتبع…..
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية سديم)