روايات

رواية رد شرف الفصل الثاني 2 بقلم وسام الأشقر

رواية رد شرف الفصل الثاني 2 بقلم وسام الأشقر

رواية رد شرف البارت الثاني

رواية رد شرف الجزء الثاني

رد شرف
رد شرف

رواية رد شرف الحلقة الثانية

***
من خلف طاولة التصميمات شمر عن أكمام قميصه بعد أن أسرع مساعده بإحضار قميص بديل من خزانته الخاصة بشركته بدلا من ذلك الملطخ بالدماء لن ينس نظرة الجميع له أثناء وِلوجه لصرحِه مصدومون من هيئته الهمجية، ومنذ متى يهمه الأمر؟
وقف بعين ثاقبة يفتش في منحنيات تلك العارضة لتصميمه الأخير المكون من قماش حريري ناعم الملمس أخضر بلون الياقوت النفيس يزين حوافه لآلئ كريمية اللون، مستشعرا شيئا خاطئا في التصميم رغم أنه طبق الأصل لما صَمّم، زفر ملقيا ساعة يده المعدنية فوق الطاولة يدلك معصمه بضيقٍ واضح استشعرته العارضة ومساعده ليرتبكا فتململت بوقفتها تنظر لمن يجاورها بتساؤلٍ، فصرفها بيده مساعده لتفر من المكان تبدّل ثيابها، سكن حتى ضمن خلو المكان، ليقترب “أنس” منه سائلا:
-شكلك مش راضي عن النتيجه.
أجابه “طاهر”، بضيقٍ من العمل غير المنضبط:
-أبدا! مش راضي أبدا، في حاجه دايما غلط في التصميم دا.
تعجب “أنس” من قوله، قائلا:
-بس أنا شايف إن التصميم طالع تحفه بشكل مش معقول.
-دا زفت بشكل مش معقول، أنا هعيد رسمه تاني.
أعاد عليه “أنس” مصححا:
-تقصد تالت!
تذكر أمرا هاما، فسأله بريبة متشككا في متابعته للعمل:
-إنتَ بتراقب أوزانهم كويس، أعتقد “صوفيا” وزنها نازل شويتين ودا إللي مخلي شكل الفستان مش تمام عليها.
حك عنقه كيف يقنعه بأن هؤلاء الأجانب حريصون على ما يدخل جوفهم؟، كم من المرات حاول إقناعه بتبديلهم بعربيات يظهرن جمال أزيائه أكثر، فأخبره بتردد:
-أنا قولتلك قبل كدا، حاول تجربي العربي، العربي
(يُوكَل).
جلس على مقعده متجاهلا محاولة إقناعه بالأمر، يفتش بجهاز حاسوبه الخاص عن شيئا ما، يخبره دون الالتفات إليه بقراره:
-بقيت سُوقي أوي، قولتلك عَرَب لا، مش بيجي من وراهم إلا وجع الدماغ، إنتَ ناسي البنتين إللي جبتهملي واحدة واخدها واجهة لأعمالها المنافية، والتانية اتهمتني بالتحرش بيها لولا الكاميرات، لكن الأجانب عارفين بيعملوا إيه كويس، وأديك جربت مره وكانت النتيجة قضية آداب لوحده منهم بوظت سمعتنا لشهور.
أكمل متهكما من ذلك الألم المصاحب لتلك الذكريات:
-أنا واحد مش ناقص قواضي، كدا كدا سمعتي مِسمّعه من زمان.
صمت للحظة يتابع عمله، ثم طلب منه برتابة ينفض تلك الطعنة:
-روّح إنتَ، شكلي هسهر شويه في الورشه هِنا، ومَشّي الموظفين.
حرك رأسه طواعية بصمت، وكاد أن يتحرك إلا أن هاتف المكتب الخاص صدح برنينه المميز، فأشار له “طاهر” للجواب نيابة عنه، أسرع “أنس” في تلقي المكالمة، ليردد بتعجب:
-مستشفى “***”! أيوا موجود.
رفع “طاهر” وجهه لــ “أنس” منتظر ما سيلقيه عليه من أخبار، فوضع يده فوق السماعة يكتم وصول الصوت، يخبره بهمسٍ:
-بيقولوا المريضة إللي جبتها انهارده المفروض تخرج وحساب المستشفى ما كملش، هي مين دي؟، مريضة إيه؟
بهدوء عاد يكمل عمله على جهازه مهملا حديثه للحظات، ثم أخبره ببرود يشيح بيده بالهواء مهملا الأمر:
-خليهم يمشّوها، وأنا هبعت المبلغ على حساب المستشفى الخاص.
أغلق المكالمة بتشكك فيه فمن تكون تلك؟ وهل ورط نفسه في أمر لا يعلمه؟، ضيّق “أنس” عينيه يحاول استنتاج الأمر، هل يعقل أن يكون قد انخرط في علاقة غرامية محرمة وتَصدُق تلك الإشاعات التي تحوم حوله منذ سنوات؟، حرك رأسه ينفض تلك الأفكار السوداء يعترف لنفسه أنها كلها افتراءات تحوم به دون دليل، عادت ملامحه كما كانت عندما شاهده يرفع رأسه بصدمة تجحظ عينيه بشكلٍ مرعب كأنه تذكر أمرا هاما، وجده يقفز من كرسيه يبحث عن سترته ومفتاح سيارته بربكة، يخبره بهرولة في أمره:
-أنا لازم أمشي حالا!، اتصل بالمستشفى ماتخليهومش يمشّوها، مايخلوهاش تمشي.
سأله وهو يشاهده يختفي من الغرفة راكضا:
-طيب هي اسمها إيه طيب، ولا هي مين دي؟
اختفى راكضا من أمامه تاركا إياه يضرب كفا فوق كفٍ متعجبا من أمره المتحوّل، فكيف الآن سيصل لرقم المشفى، والأدهى كيف سيبلغهم باسمها ليمنعوها من الخروج؟
***
جاب شوارع الطرقات في تلك الليلة الباردة يبحث بوجوه المارة عنها مفتشا يخفق في محاولاته، فعندما تذكّر أمر حديثها الأخير أنها لا تملك مأوى للمبيت وربما لا مالٍ أيضا انتفض من مكانه لسبب تحير فيه عقله، يلوم نفسه كما هو دوما فلولا إفزاعه لها ما كانت ارتطمت بالطاولة وانجرحت رأسها، هكذا أنت دوما تنصب نفسك جلاد لروحك، تُحمّل نفسك أخطاء غيرك ليأكلك الندم ويمتصّك لآخر رمق بحياتك.
ضرب عجلة القيادة بغضبٍ داخلي، كيف رحلت بتلك السرعة من المشفى؟، وإلى أين؟ كلها أسئلة تفتك برأسه، رفع هاتفه يجري مكالمته لــ “مجدي” ليأتيه صوت رسالة مسجلة تخبره بأنه خارج نطاق الشبكة، زفر يضرب بقبضته مقوده مرة أخرى، ينهر نفسه بصوتٍ مسموع:
-غبي! مكنتش لازم تورط نفسك تاني يا “طاهر”.
أهداه عقله أن يفتش بمحيط المطعم فربما يصح ظنه، فالحكمة تقول المجرم يحوم حول مكان جريمته ليتأكد أنه لم يكشف بعد، وهي ستعود للمكان التي لا تعرف غيره بتلك المدينة، رف بعينيه عندما صدق حدسه ولمحها من بعيد تجلس فوق أحد الأرصفة بجوار باب المطعم الذي لم يُغلق أبوابه بعد تحاول الاحتماء من لسعة البرد القارصة ويغطي جزءا من رأسها لازقه بيضاء تخفي جرحها، صف سيارته بعشوائية، وهبط منها يسمعها تتحدث بهاتفها بوجهٍ غاضب محتقن:
-مش هينفع أكمل بوضعي دا! أنا هرجع.
وضعت يدها فوق جرح رأسها متألمة، مستشعرة معنادة قدرها لها، التقطت عيناها حذاءً جلدي لامع ثبت أمامها، عبست بحاجبيها مع رفع عيناها ببطءٍ حتى تلاقت عيناها بعينيه المخيفتين، فتلجلجت في حديثها تنهي مكالمتها سريعا، واحتمت بكيس علاجها البلاستيكي منه بأحضانها وقد أمسى هو كابوسها المطارد، تسأله بوقاحة يملأه غيظها:
-عايز إيه تاني؟
أخفى كفيه بسرواله يسألها بجمود وجهه:
-إيه إللي مقعدِك كدا؟
من الغباء أن تسأل وأنت تعلم الجواب مسبقا؟، ولكنه لم يجد سوى ذلك السؤال ليخفي اهتمامه الغريب بتلك المخلوقة العجيبة، أجابته بتواقح رغم رعبها البائن منه:
-وإنتَ مالك؟ إيه! عايزهم يدوني مهدئ تاني؟!، روح لحال سَبِيلَك وسيبني في حالي، كفايه إللي حصلي بسببك.
عقد حاجبيه ساخرا، محركا رأسه بفقدان صبر لردها الوقح، وأهمل جوابها جانبا وأسرع يجري مكالمة سريعة لأحدهم، دقيقة وقد وجده أمامه متخبطا في أمره يفرك يديه، أشار “طاهر” برأسه جهتها يسأله بجمود سؤالٍ متهم:
-إيه إللي مِقعّد البنت كدا يا “مجدي”؟
حك “مجدي” كفيه يبرر له سبب إصرافه لها:
-“طاهر” بيه إنت عارف الأنظمه عندنا، وكمان دي من أول نص ساعه حصل من وراها كارثه، أعذرني أنا مشيتها خلاص.
أخرج سيجارته من علبته الخاصة بهدوء بعد أن نقر بمقدمتها فوق العلبة يقلب حديثه برأسه، وبتمهلٍ أشعلها يسحب أول نفسٍ منها، مال برأسه للخلف ينفث دخانه مخلفا حول غيمة بيضاء، ثم أشار له بأصابعه الثلاثة يرمقه بتهديد واضح، يخبره بتمهل:
-تلت دقايق يا “مجدي”، تكون أتصرفت وجبتلي حل للمشكلة.
تلجلج برعبٍ من سطوة ذلك الرجل، يرجوه:
-يا “طاهر” بيه دا مطعم مش فندق، تشتغل إزاي براسها دي، وأنيمها فـــ..!
هدد “طاهر” بهدوء رافعا سبابته والوسطى معا:
-فاضل دقيقتين، ومش حابب أفكرك إني أشتريك وأشتري صاحب المطعم دا، وإن زباينكم بتيجي على حسّي أنا، ولا أفكرك إن أَجْر المكان بتاعي بنص دَخل المطعم كله، دا غير حبايبي بتوع الضرايب لو شمّوا خبر بقى.
ابتلع “مجدي” ريقه برعبٍ أن يكون سببا في إغلاق أبواب ذلك المكان الذي يفتح براتبه بيته وابنته علو وشك الزواج، فأقترح سريعا:
-مكتبي! هسيبها تنام في مكتبي، مؤقتا بس لحد ما تشوف مكان، إيه رأيك؟
زم شفتيه بتفكير متجاهلا انفراج شفتيها وهي تمرر وجهها من مكان جلوسها بينهما كأن الأمر الدائر لا يخصها، أشار له “طاهر” بسبّابته حتى يسبقه لمكتبه،
-قُدامي.
فر الأخير من أمامه داخل المطعم، الفت ينظر لتلك المصدومة في مكانها من سطوته على الجميع وأمره النافذ، يأمرها بنزقٍ من تعجبه لثباتها مكانها:
-ورايا!
تركها خلفه ذاهلة من سلطته وشراسة طباعه، تفكر هل من الصواب المضي بطريقها خلفه؟ أم تعود لمكانها رافعة راية الاستسلام وهزيمتها؟
***
أخيرا أحتضنه فراشه بعد تلك الليلة الطويلة التي كان يظن عدم اسدال ستائرها من طول أحداثها، ظل يرمق سقف غرفته بثباتٍ كمومياء اكتمل تحنيطها مجهزة لحفل دفن مكتمل، ممتن لشعور الرضا الذي يصاحبه اليوم؛ لمساعدته لتلك الفتاة الضائعة بعينيها السوداوين شديدة الاتساع صاحبة النظرات الوجلة المندهشة دوما، أغمض عينيه رافضا تناول جرعته المقررة له كأسلوب متبع، ربما لا يحتاجها بليته تلك وينعم بحلم مريح بعديا عن كابوسه الملاحق له دوما.
جلس فوق الرمال الباردة، يراقب حركة المياه الرتيبة من بين تلك الظلمة البعيدة، مخلفا خلفه ضوضاء احتفال أقرانه من دُفعة فرقته يِروّحون عن أحوالهم بالصراخ والرقص بانتشاءٍ، كان كل ما يشغله شيئا واحدا يسيطر على جوارحه ويمتلك قلبه دون رحمة، أمر بعيد المنال يحكم قلبه، وصله صوتها اللاهث ينطلق حماسا بنغمه الذي يتلاعب بقلبه بحرية، قائلة بلومها المحبب:
-إيه يا “طاهر” مش هتيجي ترقص معايا بقى؟
التفت برأسه ينظر لزيتونتيها بهيام حاول إخفائه يربت بعينيه فوق خصلات شعرها الشقراء المصفف بشكلٍ مجعدة يضفي له كثافة حول رأسها، سحب عينيه متهربا من حملقته بها، يقول:
-إنتِ عارفه إن مش بحب الرقص يا “نرمين” بحب الهدوء.
قبل أن تجيبه بكلماتها وتقريعها الدائم لبؤسه، بادر يرجوها:
بقولك إيه؟ خليكِي معايا هنا نتفرج على البحر سوا في الهدوء.
حركت رأسها بيأسٍ تجذبه من ذراعه بحماسٍ فهي تعتبره صديقها المقرب لها تصر أن تدخله دائرتها العنفوانية المتحررة، فرغم نشاطها ومرحها إلا أن تجاربها في تكوين الصداقات مع مثيلاتها تبوء بالفشل لغيرتهن منها بسبب جذبها دوما لأعين الشباب، تدللت عليه بقولها:
-شويه يا “طاهر” مش هيجرالك حاجه لو رقصنا وفكينا شويه، يلا بقى متبقاش قفل ومعقد، أنا مصدقت ماما وافقت إن أطلع الرحلة دي.
يعلم أنه رفض هو أيضا منذ البداية السفر مع أفراد دفعته لتلك المدينة الساحلية البعيدة، حارب كثيرا لمنعها وإثنائها عنها، ولكن محاولته باءت بالفشل لإصرارها عليها، ليرضخ بدوره عن قراره ظنا منه أنه بذلك يحميها، اعتذر بضيقٍ من تصرفها الأرعن بين زملائهم:
-لا دماغي بتوجعني، وياريت تقعدي معايا عايز أتكلم معاكي في حاجة مهمة.
اخترق حديثهما ذلك البغيض المعروف بسمعته السيئة بين الشباب والذي دائم التودد لها في الفترة الأخيرة، يسألها:
-هاي “نرمين”، إيه إللي مقعدك هنا الكل مستنينا هناك.
ابتسمت بدورها لــ “أمجد”، ثم ضربة “طاهر” بخفة تلكزه لائمة:
-براحتك خليك كِشَرِي دايما ومقفل، أنا رايحة.
قبض على مرفقها يعيدها لمكانها بلهفة، خوفا من قربها الجديد من الأخير يخيفه بل يقتله:
-ماتروحيش، أنا عايز أتكلم معاك في موضوع مهم بقولِك.
نظرت لــ “أمجد” الذي بدى له تململه من تصرفها الطفولي والذي أشار إليه كثيرا بشكلٍ مبطن في بعض اللقاءات العابرة مفصحا عن ضعفها في اتخاذ قراراتها إلا بمشورة صديقها المقرب، (طاهر حامي الديار)، تحررت من يده من بين ضحكاتها المصطنعة في محاولة إثبات عكس ذلك لـت “أمجد”، تشير ل “طاهر” بيدها ملوحة قائلة:
-بعدين يا “طاهر”، بعدين نتكلم!
صرخ وهو يشاهدها تبتعد وتتفلت ن بين يديه تختفي من مجال رؤيته يسحبها ذلك البغيض، صرخ بعلو صوته لعلها تتوقف وتركض معه:
-“نرميــــن”! نرمــــــــــــــــــــــين”!
أفرج عن عيناه مفزوعا ينظر لسقف غرفته بثباتٍ يحاول تنظيم أنفاسه ككل ليلة ينام فيها ليصبح على كابوسٍ جديد مختلف يخصها هي فقط، مال برأسه يمنة وببطء مد يده فوق الكيمود المجاور يلتقط زجاجة العقار الذي أهمل تناوله قبل نومه، يدفع حبة منها لفمه يبتلعها دون قطرة ماءٍ، يغمض عينيه بأسفٍ لتنساب دمعة ضعفٍ حارقة من جفنيه لم يحاول إخفائها، يردد بخفوت:
-إمتى هنتقابل تاني، يارتني منعتِك.
***
مرّ أسبوعان على استلامها لعملها بذلك المطعم كما تمنت وخططت منذ البداية، وقد بدأت في تبادل التعارف مع الزميلات وعلى الكثير من الأنظمة بالمكان، وقفت تدوّن أمر ما في دفترها، ممتنة لزميلة عملها “فاطمة” في قبولها لمشاركتها شقتها المؤجرة الخاصة بأهلها لحين عودتهم من قريتهم البعيدة لحضور حفل زفاف أحد الأقرباء، وخاصة بعد انتهاء تلك الليلة العصيبة التي مرت عليها بالطرقات قبل أن يتدخل ذلك الغريب ليأمر مديرها بتوفير غرفته الإدارية لمبيتها مؤقتا، تنهدت تنظر أمامها بشرود متذكرة أمر حالها وهي ترتجف خوفا أمامهما منكمشة على نفسها، ولم لا وهي تقف بين رجلين من الغرباء داخل غرفة لا يعلم عنها غيرهما؟، لتجده بدوره ينزع مفتاح الغرفة من الداخل يسلمه لها، وهو يسأل مديرها “مجدي” بتلميحٍ فهمه الأخير جيدا:
-أوضتك دي ليها كام مفتاح؟
أجابه سريعا “مجدي”، يؤكد له بصدقٍ:
-واحد بس إللي في إيد حضرتك يا باشا.
حرك رأسه بتفهمٍ وولّى اهتمامه بها يخبرها مشددا بأمره الصارم عليها، كأنه يوصيها أن تحافظ على نفسها جيدا:
-بعد ما المطعم يقفل كل ليلة، هتاخدي علاجك وهتنامي هِنا وتقفلي على نفسِك من جوّا، فاهمه؟ من جوا!
صمتت بذهولٍ من تصرفه وتحكمه في أمور الآخرين، هل ينصب نفسه حاكما على الجميع؟ إلا أنها انتفضت رعبا من صوته الحاد الذي اخترق أذنيها، عندما سألها مرة أخرى بحدة واضحة:
-فاااهمه؟!
عادت من تلك الذكرى تحمد الله أنه منذ ليلتها تلك لم تشاهده بالمكان وقد سمعت صدفة أنه خارج البلدة بإحدى المدن الساحلية الأخرى لحضور إحدى المؤتمرات، داعب سمعها اسمه فاسترقت السمع لزميلاتها يتحدثون عنه بنشوة غريبة وكأنهن قرأن أفكارها عنه، تسأل “صافي” بحيرة وهي تضع صنيتها الدائرية فوق الحاجز:
-إنتوا مش ملاحظين إن “طاهر” بيه بقالوا فتره مجاش مكانه.
أجابتها “فاطمة” برتابة، تشيح بيدها:
-والله بيني وبينك أحسن إنه مبقاش يجي، دخلته علينا تقبض الروح والقلب.
تدخلت ثالثتهم “سوسن” بخبثٍ بعد أن تلفتت حولها بقلقٍ:
-تلاقيه لايف على واحده جديده وعايش يومين معاها في الساحل، إوعو تكونوا فاكرين الشويتين إللي بيعملهم دول حقيقته دا أنا سمعت عنه بلاااوي، دا زير مابيشبعش.
استرقت “نور” السمع بقلبٍ مقبض، لتتدخل بسؤالها المفاجئ متلهفة لسماع قصته وما يقال عنه:
-سِمعتي إيه؟
سخرت منها “صافي”، تسألها بتهكم واضح:
-أخيرا أبو الهول نطق، حمد لله على السلامه يا أستاذة “نور”.
أشارت لهم تلك الثرثارة “سوسن” بالهدوء تسكتها، حتى لا يسمعها أحدهم ويكون ذلك سببا في تصريفهن من العمل:
-أنا سمعت إن اللهمّ أحفظنا إنه كان له قضيه قديمه أوي مشهوره زمان، الكل كان بيتكلم عنها وعملت ضجة إعلامية كبيرة يجي من عشر أو 15 سنه كدا، واتحكم عليه فيها بالسجن.
شحب وجهها وبات كالأموات و ودوار مفاجئ أصابها وغشى عقلها، لتسأل “فاطمة” متدخلة بفضولها:
-قضيه؟ معقول! قضية إيه دي؟ دا ولا باين عليه.
همست لهن ليجذبهن فضولهن، وتلك التائهة كادت أن تفقد وعيها مما ستلقيه عليهن عن ذلك الرجل الأنيق:
-بيقولو وهو في الجامعه قتل واحده زميلته بعد ما عملوا مع بعض علاقه في الحرام وحِملت منه.
شهقت “فاطمة” بصدمة من تلك المعلومة فدوما ذلك الرجل تحوم حوله الشائعات المشينة لسمعته ولكنها كانت ترجع الأمر لشهرته، فكلما زادت الشهرة حامت الشائعات:
-وماتت؟
أقرت “سوسن” مستخفة بسؤالها:
-بقولك قتلها، بس معرفوش يثبتوها عليه وقتها ومحاميه كان شاطرأوي أثبت إن البنت كانت مقضياها مع كل واحد شويه في الكلية وسمعتها كانت زفت، بعدها هو ساب البلد كام سنه ورِجع تاني زي ما أنتوا شايفين بعد ما عمل له اسم برا، بقى حوت الأزياء في البلد والبلاد المجاوره، والناس نسيت عَمْلِتُه هو والمَفْضوحه إللي قتلها.
نهرتهن “نور” بضيقٍ من أحاديثهن المشينة التي تمس أعراض الناس وخاصة الأموات:
-كفايه! حرام إللي بيتقال دا، دي واحده ميته إزاي تتكلمو كدا؟
ضحكت “صافي” على قولها ساخرة من انفعالها وسذاجتها، واندفعت تلك الثرثارة تحرك فمها يمنة ويسرة على تعليقها الطفولي من وجهة نظرهن، ربتت “فاطمة” على كتفها تجذبها بعيدا عنهن لمعرفتها أنها ليست على شاكلتهن، قائلة:
-مالكيش دعوه بيهم هما مش هيبطلوا مهما عملتي، إحنا جايين نشتغل وبس، خلينا في حالنا.
حركت رأسها بأسفٍ مستشعرة بألم من حديثهما عن تلك الفتاة المقتولة، تغمغم:
-إحنا جايين نشتغل.
استمرت في عملها بإتقانٍ حتى تملك منها التعب جيئة وروحة، فسألت “نور” إحدهن توقفها:
-هو البريك فاضل عليه قد إيه؟ أنا تعبت، وراسي الجرح بدأ ينقح.
أجابتها بعجالة خمس دقايق ونسلم ونبدل (الشِيفت)، ركضت “سوسن” تهمس لهن بصدمة تشير خلفها:
-دا وصل، وصل!
***
على نفس جلسته مواليا ظهره للخارج، ووجهه لجدار الزجاجي يراقب حركة المارة من مكانه، غير مدركين كشفِه لكل خطوة يخطوهم في طرقهم المتفرقة.
مرت عشر دقائق منذ حضوره بالمكان، لقد تأخرت قهوته الذي طلبها خصيصا، فعندما استقبله “مجدي” بحفاوة كعادته أمره بشكلٍ لا يقبل المناقشة أنه لا يرغب في غيرها تقوم على خدمته اليوم، وتأخرها ذلك يدل على صِدق حدسه، إنها تحاول تجنبه كما لاحظ بطرف عينيه خلال ولوجه المكان، قد لمحها من بعيد يظهر عليها آثار البكاء والخوف والرهبة وربما الارتجاف عند لمحها له، فيبدو أنها تتجنبه عمدا وهذا يجعلها مختلفة عن غيرها ممن يحاولن التودد له للظفر بهدفهن، يتصيدن الفرص لنيل نظرة رضا منه ونفحة من كرمه وعطاياه، ولكن لم كل ذلك الخوف وهو لم يقدم لها سوى كل جميل؟
سريعا ظهرت أمامه صدق ظنّه فقد لمحها من خلف الجدار الزجاجي بالطريق تحاول الفرار بغضبٍ بائن على ملامحها مشيحة بذراعها رافضة ما تُؤمر به يظهر عليها الغضب الغريب، ليردعها “مجدي” مشيرا لها بإصبعه إشارة تهديد أن ترضخ لأمره، لقد كانت تائهة متخبطة لامست جبهتها بأنامل مرتجفة تستمع لمحاولات إقناعها المستميتة، انسحب “مجدي” للداخل تاركا إياها شاردة في أمرها تتلفت حولها، مال برأسه جانبا يدقق في تفاصيل جسدها، ليلاحظ توسط قامتها القريب للقصر وجمال قوامها بزي العمل الرسمي المكون من تنورة تلامس ركبتيها تلتصق بجوانب جسدها، يعلوها قميصها الأحمر مخفي أطرافه داخل تنورتها ويزين عنقها ربطة من الوشاح المزرقش بلون تنورتها، رفت عينه اليمنى وزادت بسمته الجانبية بثباتٍ عندما شاهدها تنظر للجدار الزجاجي المتمثل بوجهة المطعم الفاصل بينهما مجفلة برعبٍ، وقد أدركت توّها أن الزجاج يكشفها له من الداخل، رغم صعوبة رؤيته من الداخل أمام المارة، فرت من أمامه متعثرة في حذائها رغم تسطحه وعدم امتلاكها لكعبٍ مرتفع كالبقية إلا أن مجرد التفكير في مراقبته لها أرعبتها.
أغمض عينيه وهو يشغل نفسه بالخط بعشوائية فوق ورقه، متيقنا من وجودها خلفه، لقد وشت بها رائحة عطرها المميزة العالقة بها من اللحظة الأولى، فكلما داعبت أنفه أخذته لذكريات بعيدة لا يرجو عودتها أبدا، فلقد أوصد عليها بقبوٍ مجهول ونسى أمره.
ساد الهدوء وهو متأكد أنها خلفه تلتزم بالصمت احتراما ربما رعبا، فتح “طاهر” عينيه يسألها باهتمامٍ:
-أخبار جرحِك إيه؟
شهقت بصوتٍ لتتدارك نفسها بثباتٍ زائف، عندما دار بجسده يرمق قدح قهوته بنفس الهدوء للحظة، رفع عينيه الجامدتين يرمق محاولة احتمائها بحامل التقديم الدائري، فسحب القدح يقربه من شفتيه يرتشف رشفة، يكمل سؤاله:
-مكنتيش عايزه تخدميني ليه وتجبيلي قهوتي؟
أنكرت سريعا كاذبة:
-أأنــا! محصلش، أصل كان وقت البريك، بس أنا تحت أمر حضرتك في أي وقت.
ابتسم بسمة جانبية يُظهِر كذبها يخبرها أنه غير مقتنع، فأضاف بثقة:
-عِينك بتكشفك، فبلاش تكدبي.
تململت بوضوح من حصاره، فاستطرد يسألها وهو يريح ظهره لمقعده:
-مستريحه في الشغل مع “مجدي”؟
نكست رأسها تهرب منه وشعور الخوف من ذلك الرجل يتفاقم كلما اجتمعت به، فأجابته مقتضبة:
-الحمد لله.
بحركة سريعة دفن يده بجيب سترته يخرج مبلغا ماليا متضخما يمده لها منتظرا التقاطها له، يأمرها بعنجهية:
-خدي دول عشانك، ولو ضايقك “مجدي” في حاجه بلغيني.
ازدادت وتيرة أنفاسها من ذلك المبلغ الضخم الذي يفوق راتبها مرتين، بللت شفتيها تشد من عود جسدها برشاقة جذبت انتباهه وبهرته، تسأله مستنكرة:
-إيه دول؟!
-“تِبس”، إيه الزباين هنا مش بيدوكِي “تبس” كويس؟
زادت غضبا من سلوكه المتعجرف، تجيبه بحدة:
-بيدوني بس مش بيدوني قد راتبي وأكثر؟
ألقاهم فوق الطاولة عندما طالت مدة انتظاره لأخذهم من يده، يخبرها سبب ذلك بوضوح:
-اعتبريه تعويض عن اللي حصلك بسببي، وكمان عشان قطعت عليك فترة البريك وطلبتك تقدميلي القهوه بنفسك، الحقيقه كنت عايز أطمن عليكِي بنفسي مكنتش مصدق “مجدي” الصراحه.
تحرجت من لباقته الارستقراطية واحتارت هل هو ذلك الشخص المخيف المجرم القاتل؟، أم هو ذلك الرجل الجاد الذي لا يقبل الخداع والخطأ؟، لاحظ شرودها وغوصها في بحر أفكارها المتخبط أمواجه، فرغب في إعفائها من ذلك الحرج قائلا:
-إتفضلي دلوقت، تقدري تلحقي البريك بتاعك.
ارتبكت من لطفه معها على خلاف غيرها فتلك المعاملة التي يخصها بها تربكها، رغم ما سمعته منهن من تعجرف معاملته إلا أنه يظهر عكس ذلك، فلم تسعفها كلماتها فوجدت ساقيها تدفعها للهروب منه متحيرة من أمره إلا أن صوته خلفها أوقفها بجدية:
-استني!
التفت تشاهده يتحرر من كرسيه يقترب منها في خطوتين حتى بات لا يفصلهما إلا القليل ليصلها عطره النافذ لرئتيها بقوة، التقط المبلغ المالي يقدمه لها بنظرة لا تحمل العبث ينظر لشارة اسمها:
-نسيتي فلوسك يا.. “نور”، مش كدا؟
كان يجب عليه أن يتأكد من ظنونه، تلك الرائحة العالقة بها كيف يألفها بذلك الشكل المخيف؟، زادت بسمته لأمر تلك الأنثى المتعففة، عندما تلجلجت معتذرة:
-أسفه مش هقدر أخد المبلغ دا.
اختفت في لمح البصر من أمامه لتمحي صورتها الحية أمام عينيه تاركة أثرها العالق بذرات الهواء محتفظة بوجودها كما كانت.
***

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية رد شرف)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى