روايات

رواية غوثهم الفصل الثامن والسبعون 78 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثامن والسبعون 78 بقلم شمس محمد

رواية غوثهم الفصل الثامن والسبعون

رواية غوثهم البارت الثامن والسبعون

رواية غوثهم
رواية غوثهم

رواية غوثهم الحلقة الثامنة والسبعون

“رواية غَـــوثِـهِـمْ”
“الفصل الثامن والسبعون”
“يــا صـبـر أيـوب”
____________________
من بصري.. لبيك من قلبي…
لبيك من روحي.. لبيك من وجداني..
لبيك من سمعي.. لبيك من أدمعي..
يا منعما.. غافر الرجاء.. ومعطيا قبل الدعاء مواجد الإحسان.. أنا لا أُضام وفي رحابك عزتي..
أنا لا أخاف وفي حماك أماني..
يا عالم السر الخفي ومنجز الوعد
الوفي قضاء حكمك عادل.
_”مقتبس”
__________________________________
لاشك أنكِ تحملين الشيء ونقيضه يا عزيزتي…
ففي حين دعوتينني بالغريب وكنتِ أنتِ الوطن بذاتهِ،
وفي حين رافقكِ الضعف كنتِ لغيرك مصدر القوة وطوق نجاته، وحينما أتيتُ إليكِ كنتُ زاهدًا ولم أصبح لغيرك بشغوف، أمامك فقط يُغادرني الكلام وأفقد الحروف،
وفي حين أنا من وصفوه الناس بكثير الكلام،
أخشى التحدث أمامكِ وكأن الحديث عجز عن وصفكِ..
والكلام قليل في إنصافكِ، لكن دعيني أوجز في الحديث ببلاغة القول وأهتف؛
أن من بين كل العالم لا يُهمني إلا أنتِ..
فياليت كل العالم في عيني كان أنتِ..
<“هُم بنيرانٍ أفججوها لُقن”>
_سلام !! من غير واجب الضيافة؟.
التفت “سامي” لصاحب الصوت فوجد “أيـوب” يقترب منه وبحركة هادئة أدخله من جديد للداخل ثم أغلق الباب وهو يقول بنبرةٍ لم تظهر سوى الرُعب حينما هتف بتريثٍ هو الأخر:
_يا أخي دا واضح إن الست الوالدة كانت مشاغلها كتيرة أوي لدرجة إنها مفضيتش حتى يوم تربيك؟ بس وماله ربنا يجعلني سبب في ربايتك.
أنهى جملته ثم بدأ يُشمر ساعديه ليبدأ في أول دروس الأدب وحقًا فاض الكيل به ومن قدرة تحمله خاصةً حينما لمح تهديده المُبطن بزوجته التي يعلم جيدًا أنها ستغلق على نفسها برفقة خوفها مُجددًا فهيا بنا نرى أول حلقات الأدب مع يكن بداخله كل طرق الأدب، وقد لاحظ “سـامي” ذلك وابتسم بزاوية فمه مُستخفًا بـ “أيـوب” الذي سحبه بُغتةً ثم ألقاه على الأريكة ثم حاوط المقعد بكلا ذراعيه بالتزامن مع تقدمه للأمام ليقترب أكثر من هذا البغيض ثم هتف من بين أسنانه بغيظٍ:
_تحب أوريك ألم جلسة صغيرة من جُرعة الكيماوي؟.
سقط قلب “سامي” من محله وأختل توازن ثباته وتعلقت عيناه بعيني “أيـوب” الذي مال أكثر على أذنه يهتف بنبرةٍ خافتة أقرب للهمسِ:
_أنا أول مرة في حياتي ماشوفش رحمة جوايا تخليني أرحمك حتى تحت أيدي، أول مرة ماشوفش قدامي غير الضلمة، والضلمة دي نفسها الضلمة بتاعة المخزن اللي كنت خاطفني فيه، تحب أوريك نهايتي اللي السرطان معرفش يجيبها ودي مش شطارة مني، دا كرم من ربنا عليا، وأنا كريم مابخلش على حد أبدًا.
أنهى جملته ثم قبض على عنق “سامي” بشرٍ جليٍ في نظراتهٍ القاتمة التي وصلت لأوج غضبها وشرها وقد فقد بصره وبصيرته في آنٍ واحدٍ وهو يثأر للطفل الصغير بداخلهِ، لم يسمع سوىٰ نفسه وهو يبكي في صِغرهِ يتوسلهم بالرحمة حينما أشتد عليه الألم إثر جرعات الكيماوي وتضاد أنسجة جسده مع تلقي هذه الجُرعات بأثرٍ رجعي…
كاد “سـامي” أن يلفظ أنفاسه الأخيرة واحتقن وجهه حتى وصل لدرجةٍ قاتمة وجحظت عيناه للخارجِ، وسط صرخات “قـمر” وهي تحاول إبعاد زوجها عنه وتتوسله باكيةً حتى خارت قواها عن صدهِ وصرخت باكيةً:
_سيبه علشان خاطري أنا…
بالله عليك سيبه متضيعش نفسك عليه، سيبه…
أنهارت باكيةً بخوفٍ عليه وحاولت أن تبعده وكذلك “غَـالية” التي صرخت باسم زوج ابنتها وهي تحدثه بنبرةٍ باكية قلقة للغاية تحاول التحدث إليه كما تحدث صغيرها:
_يا ابني بالله عليك، اعتبرني أمك ومتوجعش قلبي عليك.
نبرتها وصوتها الذي أوضح قلقها جعله يترك عنق الأخر وهو يزفر بقوةٍ ويحاول المحاربة لأجل التقاط أنفاسه ولم يتخيل ولو للحظةٍ واحدة أنه شارف على قتل أحدهم !! كان سيصبح قاتلًا؟ حينها حرك رأسه نحو “قـمر” التي وقفت أمامه تبكي بخوفٍ منه حتى ضمها إليه يمسح على ظهرها ودفن رأسها في كتفه وهو يقول بنبرةٍ مُحشرجة وهو يتنفس بأنفاسٍ متقطعة:
_أنا آسف، حقك عليا متزعليش مني.
حينها كان “سامي” يحارب لأجل التقاط أنفاسه على المقعد وكأنه خرج لتوهِ من حالة غرقٍ ورفع كفه يدلك عنقه إثر قبضة “أيـوب” الذي أفتك به في لحظة وحشية قاتمة بينما الأخر ترك زوجته التي أرتجف جسدها بخوفٍ فوجدته يقترب منه وهو يسحبه من سترته وفتح الباب يُلقيه للخارج بالتزامن مع صراخه بنبرةٍ هادرة:
_أقسم بالله لو رجلك خطت هنا تاني لأكون مموتك بجد، وساعتها محدش هيقدر يقف قصادي، أمــشي في ستين داهية.
سقط “سـامي” على أثر الدفعة القوية التي تلقاها من كف “أيـوب” وقد أدرك أنه أصبح أمام وحشٍ قاتل لن يرحمه، ربما يكون هناك ما أكد له أن ذاك الطفل الضعيف الذي كان يصرخ ويتوسله أن يناوله الدواء من فرط الألم الذي كان يعصف بكل جسده الآن فقط أصبح هذا الصغير مثل البركان المدفون أسفل ركام الزمن وينتظر فقط مجرد هزة بسيطة لكي ينفجر، أما “أيـوب” فلاحظ جمود حركته أرضًا فكاد أن يقترب منه لكنه تراجع وأغلق الباب في وجههِ بعنفٍ قبل أن يقتله حقًا..
أقتربت منه “غـالية” تربت على كتفه وقد أجفل جسده أسفل لمستها له مما جعلها تقول بنبرةٍ هادئة بعض الشيء بالرغم من بحة صوتها بسبب توسلها له في حين أنه أخفض عينيه عنها بخزيٍ منها:
_أنا يا حبيبي متقلقش، أقعد هعملك حاجة تروق بيها نفسك.
أنهت حديثها ثم نظرت لابنتها وهي تقول بنفس الصوت:
_تعالي يا “قـمر” شوفي جوزك.
انتبهت لها الأخرى فحركت رأسها مومئةً بخضوعٍ وأقتربت منه بصمتٍ تحاول إخفاء عينيها عنه حتى رحلت أمها من مُحيطهما مما جعله يراقب وجهها بعينيه وهو يسألها باهتمامٍ بعدما استعاد هدوئه من جديد:
_مالك يا “قـمر” ؟.
ابتسمت بتهكمٍ وهي تسأله بصوتٍ منكسر حينما ترقرق الدمع في مُقلتيها تهديدًا بنزول دموعها من عينيها:
_أنتَ بتسأل مالي بجد؟ أنا تعبت خلاص وفاض بيا، حاسة إن كل حاجة بتيجي بطلوع الروح ولو جت ممكن تروح تاني، مش مكفيهم اللي حصل زمان جايين تاني؟ مش مفرحهم حرقة القلب طول العمر دا، جايين يخوفوني من تاني؟ دا أنا ما صدقت بقيت معايا أنتَ وهو، عاوزين يخسروني واحد فيكم ليه؟ دلوقتي أنتَ كنت هتقتله، عارف يعني إيه؟ كنت هتخسر نفسك وكل حاجة في لحظة واحدة، ودا كله بتقولي مالك؟ طب أنا هقولك، مالي إني لسه بخاف منهم ولسه مقتنعة إنهم مش هيسيبوا واحد فيكم في حاله، مالي إني مش هقدر أخسر واحد فيكم، مالي إني تعبت وأنا عمالة أضحك وأهزر علشان أداري خوفي عنكم وأحاول أفرح باللي بقى عندي، مالي إني لسه خايفة…
أنهارت باكيةً أمامه مُجددًا وهي تشعر بالتعب بلغ أشده بداخلها وأن روحها باتت مرهقة كُليًا، بينما هو ضمها للمرةِ الثانية بين ذراعيه وقال بنبرةٍ هادئة كانت مثل الإذن لحواسها حتى تسمح بعبور دموعها وشهقاتها:
_عيطي طيب وخرجي اللي حاسة بيه، أنا هنا أهو معاكِ وجنبك ومش هسيبك، حتى لو حد منهم فكر يقرب منك أو من طريقك أنا عندي استعداد أقتله عادي، حتى لو التمن روحي معنديش مانع تكون فداكِ أنتِ يا “قـمر” وفدا ضحكتك.
بكت بين ذراعيه وهي تتمسك بذراعهِ بينما هو ظل يمسح على ظهرها ورأسها حتى هدأت تمامًا بفضل تواجده معها وهو يدعمها بحنوٍ جعلها تشعر بمشاعر جديدة نحوه لذا رفعت رأسها نحوه تأسره بنظراتها وهي تقول بنبرةٍ مختنقة إثر البكاء:
_عارف؟ أنا دلوقتي حاسة ناحيتك حاجة تانية، حاسة أني بحبك من تاني أو يمكن بشوفك لأول مرة، “أيـوب” علشان خاطري متسيبش أيدي، أوعى ييجي يوم ألاقي طريقي فضي من وجودك، أنا بخاف أوي من غيرك، ينفع متفلتش إيدك من أيدي؟ أصبر عليا بس متمشيش.
أخفض عينيه لها لتتقابل النظرات بينهما في صدقٍ من كليهما وهو يقطع الوعد للأخر وقد لاحظ لتوهِ لمعة عينيها التي تشبه ظهور الشمس من ليلةٍ مُعتمة ليهتف مستفسرًا بتيهٍ في عمق عينيها الصافيتين وهي تطالعه ببراءة طفلة صغيرة تخبره بصدقٍ عما تحفظه له:
_هو أنتِ عيونك حلوين وحنينيِّن كدا ليه؟.
انفرجت شفتاها ببسمةٍ أهدتها له حينما جاوب حديثها بسؤالٍ لا يُمت ما تفوهت به بصلةٍ فوجدته يبتسم هو الأخر ثم لثم جبينها وهتف بنبرةٍ هادئة لازالت تحت أثر عواطفه:
_أوعدك والله إني هصبر لحد أخر نفس فيا، ولحد ما أنتِ بنفسك تملي من صبري، أنا مش عاوز منك حاجة غير إنك تفضلي معايا بس، أنا عاوزك معايا وتفضلي قمر الليالي كلها، ولأ مش همشي متخافيش، أنا بقيت موجود علشانك أنتِ.
ضحكت له، لم تكن مجرد بسمة فقط بل ضحكت له حتى ضحك هو الأخر ووضع وجهه بجانب وجهها وأغمض عينيه وهو يقول بنبرةٍ خافتة أقرب للهمس:
_أضحكي يا صبر “أيــوب”.
لاحظت “غَـالية” حديثهما سويًا واندماجهما معًا فابتسمت بمحبةٍ ثم عادت تكمل ما تفعله وتترك لهما المساحة الخاصة بها خاصةً حينما أحتوى هو نوبة الخوف الخاصة بابنتها واستطاع ببراعةٍ أن يُبدل خوفها إلى أمنٍ وكأنه الوحيد القادر على ذلك، ابنتها الضعيفة دائمة البكاء والخوف لا تظهر قوتها إلا بتواجده هو معه، هو فقط لا غيره.
__________________________________
<“لا أدري إن كان هو أنتَ، أم أن أنتَ هو”>
بعض الأشياء قد تكون مُمتعة بالفعل،
والبعض الأخر يُمتعنا فقط حينما يشاركنا من نُحب لتصبح أكثر الأشياء بساطةً هي أكثر ما نُحب..
استمر بقائهما سويًا في منطقة وسط البلد مع بعضهما في لحظاتٍ جمعت الماضي مع الحاضر في لوحة مُعبرة أسرت الاثنين بداخلها بالرغم من بساطة المكان والفعل إلا أن كلاهما لم يُنكر السعادة التي كان يشعر بها، وبعد إنتهاء جلستهما في المقهى الشعبية القديمة ركبا سويًا سيارة “يـوسف” الذي ركز بصره على الطريق أمامه فيما ضمت “عـهد” الحقيبة التي أهداها لها بالكُتب القديمة وهي تشعر أنها حصلت على كنزٍ عتيق أسفل واحدٍ من المباني الأثرية..
أرخت رأسها تضعها على زجاج نافذة السيارة وهي تتذكر كابوسها المروع الذي أيقظها صباحًا حينما كانت تغرق هي وهو يحاول أن يلحق بها لتجده غرق هو حتى يُنقذها هي، حينها صرخت باسمه واستيقظت من نومها بمفردها لكنها بكت وضمت جسدها بكلا ذراعيها وقلبها تتسارع دقاته..
أمعنت النظر في وجههِ أكثر بعدما نحت ذكريات كابوسها عن رأسها وتنفست بعمقٍ تراقبه بشغفٍ، كعادتهِ كان هادئًا وصامتًا ووسيمًا، رجلٌ بكل مواصفات الرجال وأهمهم حنانه عليها وكأنها ابنته، ابتسمت وهي تفكر بسذاجةٍ هل هو من تعرفه؟ أم أنه واحدٌ من الكثيرين التي تراهم هي به؟ وإذا كان هو كذلك فمن هو من بينهم؟ على كُلٍ هي الآن تراه بصورة الأب وليس الحبيب أو الزوج، لذا توسعت بسمتها أكثر حتى ظهرت نواغز خَديها وشعر هو ببسمتها فهتف بثباتٍ دون أن يُحيد نظره عن الطريق:
_دا يا بخته اللي بتفكري فيه وبتضحكي كدا.
انتبهت لصوتهِ الذي أخرجها من شرودها به وحمحمت بخشونةٍ جعلته يرفع أحد حاجبيه وهتف بسخريةٍ:
_يلهوي على كبرياء الأنثى، مفيش فايدة.
فهمت أنه يشير إلى صمتها وإلى عدم إفصاحها عن شرودها به لذا حمحمت من جديد وقالت بنبرةٍ هادئة تكذب عليه وتواري خلف ذلك حقيقة تفكيرها:
_لأ مش كبرياء ولا حاجة، كل الفكرة بس إني سرحت في الحاجات اللي هعملها للديكور في الخطوبة وابتسمت من مجرد التفكير في الحاجة اللي هعملها.
نظر له بطرف عينه وحرك رأسه نفيًا بيأسٍ ثم هتف بسخريةٍ:
_طب وليه نكدب؟ ما تقولي الحقيقة يا عسولة أحسن.
_حقيقة إيه يا “يـوسف”؟.
سألته باستنكارٍ شديد لجملتهِ وهي من الأساس تعلم سبب حديثه وتعلم قدر ذكائه الذي لا غُبار عليه، تعلم أنه يفهم عليها من مجرد نظرة عابرة أو حتى طرفة عينٍ وقد أكد لها هو كل هذا حينما حرك رأسه ينظر لها وهو يقول بنبرةٍ هادئة رخيمة:
_حقيقة إنك سرحانة فيا وإنك بتفكري أنا مين من وسط المليون واحد اللي شوفتيهم فيا، أو بمعنى أصح شوفتي فيا نسخة جديدة، بس عادي أتعودي علشان أنا نفسي والله مش عارف أنا مين فيهم، كلهم غُرب عني.
رغم تعجبها من اكتشافه أمرها وأمر تفكيرها لكنها ابتسمت بسمة هادئة له وقد استشعرت لمحة ألمٍ في حديثه لذا رفعت رأسها عن زجاج النافذة لكي يتسنى لها رؤيته بعدما أعاد بصره للطريق من جديد لتسأله هي باهتمامٍ:
_طب وأنتَ بتتعامل معاهم إزاي وهما غُرب عنك؟.
رفع كتفيه وهتف بنبرةٍ حائرة ردًا عليها بيأسٍ:
_للأسف مبعرفش أتعامل، بس بحاول أفرض سيطرة عليهم يمكن كلهم يتفقوا مع بعض ويسكتوا، على العموم أنا مبعرفش اسكتهم غير في حالة واحدة بس.
حركت رأسها تستفسر منه وكذلك عيناها نطقت بهذا الاستفسار لتجده ابتسم لها وقد صفت عيناه وهو يحتويها بنظراتهِ هاتفًا بصدقٍ:
_لما بشوفك أو أكون معاكِ، ساعتها كلهم بيسكتوا خالص ومبسمعش نفس لواحد فيهم، ساعتها ببقى عاوز أسمعك أنتِ، مش أنا لوحدي برضه علشان مبقاش كداب بس هما كمان بيحبوا يسمعوا صوتك، وعلى فكرة، مش في الغُنا بس، دا بأي شكل حتى لو هتسألي الساعة كام.
تبدلت ملامحها كُليًا وغلف الخجل وجهها وطغت الحُمرة على وجنتيها وهي تضم كفيها معًا بسعادةٍ تحاول إخفائها عنه بعدما عجزت عن الرد، بينما هو حرك رأسه يغمض جفونه لوهلةٍ وهو يحاول إخبارها بكل ما يحمله في قلبه، يود الإفصاح عن ماضيه كاملًا ويود اخبارها بحبسه ودخوله مشفى الأمراض العقلية، لكن وحدها نظرتها هي من تعجزه عن ذلك، الإبهار الذي يراه في عينيها له هو ما يُعيق اعترافه لها ويحول بينه وبين أخذ مسلك الصراحة..
يخشى تبدل نظرتها للشفقة أو ربما الكره أو ربما حتى النفور أن يرتبط اسمها باسم رجلٍ غريبٍ مثله، يخشى أن تتبدل قوتها التي اقتبستها هي منه أن تتحول إلى ضعفٍ وهي تحاول التكيف معه، لذا زفر بقوةٍ وقد عادت رأسه تعج من جديد بالأفكار وتلك المرة كان الحوار بين ساكني رأسه:
_جدع أنتَ كدا يعني؟ بتحببها فيك علشان تبقى كاسر عينيها لما تعرف حقيقتك؟ بحيث إنك تثبت إنك سبب قوتها؟.
تدخل الصوت الأخر يهتف بتهكمٍ:
_لأ سيبك من كدا، البيه بيدي نفسه حق أنه يخبي حياته عنها، لسه لحد دلوقتي مخبي ماضيه كله رغم أنه شايف الأسئلة في عينيها، بجد غريب فعلًا.
تدخل هو بنفسه دون أن ينطق لكنه وجه الحديث لرأسه:
_بس منك ليه، أنا على فكرة معملتش حاجة غلط، أنا فعلًا بحبها وعلى فكرة كل دا مش هيفرق معاها، هي مش سطحية علشان تبص لواحد على ماضيه، بعدين دي حاجة من قبلها هي ملهاش دعوة غير بحياتي بعد ظهورها.
تدخل الأول يرد عليه بنفورٍ منه ومن تفكيره:
_لأ لأ متعيش الدور، أنتَ عارف كويس أنه يفرق معاها بدليل إنك بتحاول تخبي كل دا، طب تقدر تقولي إنك مش خايف على نظرتها ليك؟ مستحيل، هي بتخليك تحب نفسك علشان علطول أنتَ بتكون معاها بطبيعتك، وطبيعي إنك خايف صورتك دي تتبدل وتبقى عبارة عن صورة تانية هي كرهاك فيها.
تدخل الصوت الثاني يقول بنبرةٍ ضاحكة:
_لأ سيبك منه، دا شكله لسه متأثر بموقف “شـهد” أكيد خافت على نفسها منه إنه بيتقال عليه مجنون وبتاع مشاكل ومريض نفسي بدرجة عالية، بس أقولك معذور برضه، “شهد” كانت مجرد إعجاب ظاهري وأثرت فيه، إنما دي بقى؟ دي مخلياه عاجز حتى قدام نفسه، دي حتة منه.
استمع لهذا وذاك وظل يتراوح بينهما روحةً وجيئة مثل كرةٍ تركلها الأقدام والجميع يتكالبون عليها لإحراز الهدف، لم ظل هكذا حتى أنه لم ينتبه للطريق وأكمل في وجههِ بنفس الشرود فوجدها هي تخرجه من هذه الحالة حينما لمست ساعده تنبهه بقولها:
_خلي بالك أنتَ طلعت الكوبري، المفروض نكمل من تحت.
حرك عينيه نحو الطريق وقد أدرك حقًا ما فعله فزفر مُطولًا وهو يلعن أصواته الداخلية وحرب نفسه التي لم تكف عن إيلامه وقد أخرج سيجارةً من علبته يخرج فيها غيظه بصمتٍ تام جعلها تراقبه بعينيها وهي تسأله بترقبٍ عن تبدل حاله بهذا الشكل المحلوظ:
_هو أنتَ مالك؟ مش كنت كويس دلوقتي؟.
أغمض جفونه لوهلةٍ قبل أن يصرخ فيها هي أنها سبب حيرته وحالته لكنه توقف عن كل ذلك واعتذر لها بنظراته وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_متقلقيش، أنا بس بفكر في حاجة تبع الشغل.
تعلم أنه يكذب عليها وأنه يتهرب منها لكنها لم تفضل الضغط عليه لذا تركت له حرية التصرف ثم أنهت حديثها واهتمامها بقولها:
_على العموم أنا هنا لو عاوز تقولي حاجة هسمعك، وأكيد طبعًا سرك محفوظ ومتقلقش أنا أمان، ولو مش عاوز برضه ليك مُطلق الحرية بس المهم إنك تكون كويس.
حرك رأسه نحوها يراقبها بعينيهِ وفقط أراد أن يضمها، أراد أن ترحمه من عذابهِ وعذاب نفسه وإيلام ضميره لكنه فقط ظل يعتذر لها بنظراته وكل ما يُردده في داخلهِ دون أن يلقيه عليها:
_”الحرب مَقرُها بداخلي والمهزوم فيها هو أنا”.
هذه هي حقيقته الوحيدة، الحرب مقامة فيه هو ولم تكف ولو لحظةٍ، حربٌ مقرها بداخلهِ ويا للعجب أن اطرافها هو وهو والعديد منه هو، الغريب أن المهزوم في هذه الحرب كان هو، بالرغم أن الحرب المُقامة كانت بينه هو وهو، ولازال حتى لا يعلم من هو الرابح فيهم إن كان هو أو هو؟.
__________________________________
<“شئنا أم أبينا اجتمعت الطُرق وتلاقينا”>
سعادة غامرة تطرق بابه لكي تزوره في حين يود هو أن تستوطن فؤاده، لم ينس ولو لثانيةٍ واحدة هيئتها الرقيقة اليوم في الكنيسة حينما تم إقامة الحفل بخطبتهما في الكنيسة، كانت رقيقة كما هي بطلتها المعهودة وبعينيها ونظرتهما المنشودة، هي نفسها صاحبة الأصل الكريم من ملكت الفؤاد ووضعت عليه صك ملكيتها وكان النظير نظرة من عينيها..
تنهد “بيشوي” الذي وقف في غرفتهِ يبدل ملابسه لأخرى خاصة بحفل الخطبة الليلي في بيت “جـابر” ووقف أمام المرآة يُهندم نفسه ثم فتح أحد الأدراج الخاصة بأشيائه الخاصة وسحب منها المرسال الأخير المُغلف بالظرف الأسود، فتحه يقرأ ما دونه هو بكل يقين من قلبهِ:
_كيف حالك يا من تعاليتي على الفؤاد بدلالكِ؟..
لكن دعيني أولًا قبل السؤال
ألقي عليك السلام،
والسلام لقلبك الحُـر أبلغ الكلام،
اليوم يحتار قلبي إن كان يُحق له سؤالك أم عليه أن يُجبر على مسارك؟ لكنه يعلم بكل يقينٍ أن كل الحروب سيربحها ويخسر أمام جمالك،
لكن لا داعي للقلق أو الحزن إن كان الرفيق من بعد كل الحروب للفؤادِ هو فؤادك..
اليوم أكتب بعدما راسلتكِ بكل يقين أن الدنيا ستجمعنا..
والرب العظيم لحديثنا سيسمعنا، واليوم أولى الخطوات لاجتماعنا والفرح والهُنا مُرافقين لنا، والحب في الطريق يسير معنا، اليوم أولى الأيام في حربي داخل غابات عينيك الخضراء، اليوم بداية الطريق في السراء..
اليوم هو اليوم الموعود
لتلاقي السُبل من بعد الوفاء بالعهود.
أطلق زفيرًا قويًا من جديد بعدما قرأ كلماته ثم أغلق المظروف الأسود ووضع المرسال البُني بداخلهِ وهو يبتسم بوجهٍ بشوشٍ ثم كتب في الخارج نفسها الجملة التي يؤمن بها ورافقت كل مراسيله، وهي نفسها الجملة الخاصة بأحد كتابه المُفضلين “فاروق جويدة”:
_”رُبما غدًا أو بعد غد، رُبما بعد سنينٍ لا تُعد..
رُبما ذات مساءٍ نلتقي..
في طريقٍ عابرٍ من غير قصدٍ”
وصله صوت طرقات على باب غرفته جعلته يأذن للطارق بالدخول ولم يكن سوى “يـوساب” الذي دلف مبتسم الوجه وهو يمسك في يده باقة الزهور وهتف بنبرةٍ مرحة:
_أمسك يا عريس، مطلع عين أبونا من الصبح، بس فداك مش مهم، بوكيه الورد أهو ظبط حالك لحد ما أروح أجيب ماما وبابا وأجي تاني، خالتي قالتلي إنك هتروح كمان ساعة عند العروسة.
حرك رأسه موافقًا بصمتٍ ثم أمسك الباقة يضع بداخلها المرسال لكنه تذكر أمر إمضته فسحب المرسال من جديد يكتب في نهاية طرفه الأيسر:
_المحارب الباسل لأجل عينيك الخضراء.
وضعه في مكانه من جديد وقد غمز له “يـوساب” ورفع إبهامه يخبره بصمتٍ أن كل شيءٍ على ما يُرام فهتف “بيشوي” بنفس السخرية التي اعتادها معه:
_مش ناوي تبقى تمام أنتَ كمان؟.
ارتسم الإحباط على وجه الأخر وزفر مُطولًا وأضاف بيأسٍ:
_مش لما هي تقبل وجودي؟ مشكلتي إنها بحالات مش أكتر، ساعات أحس إنها قابلاني وفيه حاجة ناحيتي وساعات أحس إنها بتعاتبني على حاجة أنا معملتهاش، بس لو عليا عادي، مشكلتي في طيشها وتهورها، لمجرد إنها عاوزة توصلي رسالة ممكن تضيع نفسها عادي، تصاحب ناس مش شبهها، تهمل في حياتها، أنا مبفرضش نفسي على حد يا “بيشوي” دا غير إن أبوها مبيدنيش فرصة أقرب منها.
أبتسم “بيشوي” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_من الناحية دي متقلقش، “جابر” آخره أنا عارفه كويس، أنا ماكنتش بنزل السوق وأقف فيه وأضيع مستقبلي علشان ييجي واحد زي دا يعلم عليا، بنته وبيته وكل حاجة عنده هتمشي بإذني، عجبه أهلًا وسهلًا، مش عاجبه يبقى هيشوف الوش اللي مخوف الناس كلها مني، النهاردة فرصتك أتكلم معاها، لمح ليها، أعترف حتى، اضمنها هي علشان تقدر تفتح الموضوع بعد كدا، والباقي عليا أنا.
أومأ له “يـوساب” بشرودٍ وهو يود فقط أن تمن عليه وتخرجه من حيرتهِ، يودها أن تخبره بمدى تقبلها له إن كانت تقبله أم لا، يود منها أن تعترف بكل شيءٍ حتى وإن كانت تحمل بداخلها الكره له، لعل ذلك يكون سبيلًا لإخراجها من رأسهِ.
بعد مرور ساعة تقريبًا..
أنهت “عـهد” عملها في شقة “مهرائيل” بعدما أضافت بعض الزهور المُزينة وأضافت معها اسماء العروسين خلف مقاعد جلوسهما ثم عادت للخلف تُتمم على ما صنعت يداها، ابتسمت حينما رآت الديكور الذي تولت هي مهمته باعتبارها مُحبة لمجال الديكورات والإحتفالات، أضافت الستار المُضيء باللون الذهبي ثم وضع الحامل الدائري المعدني باللون الذهبي وقامت بتغطيته بالزهور الصناعية بُنية اللون وبعض الفروع باللون البيج ومعها بعض الزهور البيضاء وفي المنتصف اسم العروسين..
ابتسمت بحماسٍ ثم أخرجت هاتفها تلتقط صورة لما فعلته ولأول مرة تتصرف بغير تعقل بل أرسلت له الصورة ورافقتها برسالة صوتية غلفها الحماس الذي طغى على تبرتها:
_عاوزاك تقولي رأيك بكل صراحة، حلو؟.
فتح الرسالة تلقائيًا يشاهد ما تتحدث عنه من خلال الصور وقد ابتسم بعينيه وظهر الفخر في نظراتهِ وللحظةٍ أراد أن يخبر الجميع أن هذه زوجته وما تفعله هي، هو أفضل ما يراه لذا ابتسم مُجددًا ثم فتح الهاتف يرسل له بنبرةٍ رخيمة دافئة ولم يخفى عنها الفخر الشديد:
_كدا كدا حبيب عيوني مبيعملش حاجة وحشة.
استمعت للرسالة وقفز قلبها من محلهِ لينبض هذه النبضة العنيفة التي يترتب عليها تأهب بقية الحواس لتشرد فيه هو ولم يخرجها من هذا الشرود سوى صوت “مارينا” التي هتفت بدهشةٍ من رؤية الديكورات:
_يا ربي !! دي تحفة يا “عـهد”.
نظرت لها الأخرى وهي تقول بنبرةٍ هادئة بعدما ابتسمت لها بودٍ:
_عقبالك أنتِ كمان، يلا أنا هروح أغير ومش هتأخر، شوفي عاوزة حاجة تاني كدا قبل ما أمشي؟.
نفت الأخرى ذلك وقد تحركت “عـهد” من المكان تتوجه إلى شقتها لكي ترتدي ثيابها وتحضر برفقة الفتيات كما الآخرين، بينما “يـوسف” لاحظ نظرات أمه نحو شقيقته وكأن كلتاهما تحاول إخفاء شيئًا عنه لذا سأل بنبرةٍ قوية بعض الشيء حتى لا يترك لهما مجالًا للكذب:
_هو فيه حاجة؟ مالكم أنتوا الاتنين؟.
ازداد القلق في ملامحهما وبلغ التوتر أشده ليتأكد هو من ظنونه لكن “غالية” اندفعت بمشاعر أمومتها التي نبعت من خوفها على صغيرها وقالت بنبرةٍ هادئة تمامًا:
_مفيش يا حبيبي، بس كل الفكرة إن بكرة كتب كتاب “آيـات” وهي عرضت على أختك تروح تسهر معاها ومع “نِـهال” علشان هيظبطوا حاجات هناك، بس قولنا نعرفك علشان هتفضل هناك لحد أخر الليل من بعد الخطوبة، قولت إيه؟.
حرك عينيه نحو شقيقته التي جاهدت لكي تبتسم له حتى لا يشك في الأمر وفي الحقيقة توترهم بهذا الشأن أقنعه لذا ابتسم للأخرى وهو يسألها بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_وأنتِ إيه اللي يوترك من كدا؟.
ازدرد لُعابها وردت عليه بنبرةٍ مُتلعثمة وهي تحاول اختلاق الكذبات المُقنعة:
_أصل الفكرة كلها إن “أيـوب” كان رافض إني هروح هناك في الوقت دا وقالي إن الأفضل ماروحش، بس “آيـات” أصرت وأنا قولت رأيك هو اللي هاخد بيه، خاصةً يعني إن “مهرائيل” هتكون تعبت بسبب الخطوبة النهاردة.
زفر بقوةٍ ثم حرك رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ هادئة:
_ماشي، روحي بس أنا هاجي آخدك بليل.
حركت رأسها موافقةً ثم اقتربت منه تعانقه لأول مرة بهذه الطريقة التي أثارت ريبته وجعلته يفكر لما تتشبث به بهذه الطريقة، لكنها مسحت على ظهره وهي تقول بنبرةٍ هادئة تحاول من خلالها إخفاء بكائها:
_أنا بحبك أوي وبخاف عليك زي ما أنتَ بتخاف عليا وأكتر.
ابتسم رغمًا عنه ورفع ذراعه يمسح على ظهرها وهو يتنهد بعمقٍ ولم يعلم لما يشعر أن هناك ما يتم إخفائه عنه لكنه لم يكترث بل صمت وأنتظر حتى ذهبوا جميعًا إلى الخِطبة ومعهم زوجته التي بدلت ثيابها وارتدت أخرى تناسب الحفل.
مرت تقريبًا ساعة أخرى..
بعدها حضر الجميع للخِطبة ومعهم “بيشوي” بأفراد عائتله كاملةً ومعه في الجوار “أيـهم” الذي لم يتركه منذ الصباح بل معه أينما ذهب ويعاونه فيما يفعل، عند دخوله أرتفع صوت الزغاريد عاليًا من النساء وقد وقفت “مهرائيل” تلقائيًا وهي تتابعه بعينيها المُبتسمتين، كانت رقيقة بهذا الفستان الأسود الطويل الذي أخفى جسدها كاملًا وقد ازدادت أكمامه بطبقة من خامة الشيفون الذي أضاف للفستان إضافة أخرى رقيقة، بينما هو رفع عينيه نحوها ليرى ملامحها المتوردة بفعل توترها وغُـرة رأسها التي استقرت فوق جبينها وبقية خصلاتها مسترسلة كما أصبح يُحبها مؤخرًا…
أقترب منها متجاهلًا كل من حولهِ فيما قامت “مارينا” بتشغيل الأغنية التي تعلم أن شقيقتها تفضلها وهو أيضًا يحبها، لذا أشارت لـ “عهد” التي قامت بتقليل الإضاءة بعض الشيء بالتزامن مع اقتراب “بيشوي” بباقة الزهور من خطيبته:
_من يوم ما جت عيونه في عينيا..
شوفت ضحكته الجميلة ديا..
بحلم بيوم ما يبقى ليا وأبقى ليه..
وأصحى ألاقي حبيبي حواليا..
ابتسم لها “بيشوي” ثم قدم لها باقة الزهور وهو يقول بنبرةٍ هادئة بعض الشيء:
_اتفضلي مبروك يا عروسة.
اخفضت رأسها بخجلٍ منه وهي تلتقط الباقة من بين كفيه وهتفت بنفس الخجل الذي طغى عليها حينما أدركت أن النظرات بأكملها مصوبة نحوهما فقط:
_الله يبارك فيك، البيت نور بوجودك فيه.
وقف بجانبها أكثر لا يصدق نفسه أنه أخيرًا أصبح في بيت “جـابر” يجاور حبيبته أمام الجميع دون أن يختلس النظرات لها أو يُرغم طرقاته على الإنحراف نحوها، لذا خرج من شروده على كلمات الأغنية من جديد:
_وأدي اللي في خيالي بيحصل قصادي..
حبيبي جنبي في حضني الليلة دي..
ولا وبقيت معاه…نادىٰ
الفرح جمعنا بالحب ونادىٰ.
أنا وحبيب وتالتنا السعادة..
والحلم فسرناه.
تلاقت النظرات من جديد فيما أقترب منهما “يـوساب” الذي بدأ في التقاط الصور للعروسين معًا وقد أتت شقيقتها تجاورهما ثم سحبت معها “آيـات” وبقية الفتيات لينسحب “بيشوي” نحو الشباب ليجد “أيـوب” خارج الشقة يقف بجوار الباب فقال بسخريةٍ:
_دا أخرك يعني؟ ياعم تعالى بارك متبقاش تنح بقى.
أقترب منه “أيـوب” يعانقه ويبارك له وكذلك ضمه “بيشوي” الذي هتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا عارف إنك عملت فوق طاقتك وكفاية إنك شايل خاطري، لو عاوز تروح روح أنا كدا كدا مش فاضيلك.
ضحك “أيـوب” له ثم عاد لموضعه يستقبل الناس الذي قام العريس بعزيمتهم إلى هنا ومعه أيضًا “تَـيام” الذي عاون معهم في كل شيءٍ منذ الصباح حتى سأله “يـوسف” بسخريةٍ:
_هو مش المفروض إنك عريس؟ بتعمل إيه هنا؟.
غمز له “تَـيام” وهتف في أذنه بلمحة خبثٍ:
_ماهو علشان أنا بكرة عريس بقدم السبت علشان ألاقي الحد، فاكرني بعمل كدا محبة؟ أنا بس مستني بكرة أخليهم كلهم يلفوا حوالين نفسهم، بس سيبك أنتَ، أنتَ منورنا والله.
ابتسم له “يـوسف” وربت على ظهرهِ ليجد “تَـيام” يهتف بضيقٍ من الازدحام الذي حجب عليه رؤية خطيبته:
_ما حد يقول للناس دي توسع شوية خلونا نشوف القمر.
حرك “يـوسف” رأسه نحو “أيـهم” الذي وقف يمسك كف ابنه وهو يتحدث في الهاتف ثم عاد إلى “تَـيام” يهتف بضحكةٍ مكتومة من بين شفتيه:
_طب خلي بالك بقى علشان أخو القمر في ضهرك، لم ليلتك كلها ساعات وأعمل ما بدالك لما يشهروا جوازكم.
قبل أن يتحدث الأخر صدح صوت هاتفه برقم “مُـحي” فقال “تَـيام” بنبرةٍ ضاحكة:
_الواد “مُـحي” بيتصل، استنى.
تعجب “يـوسف” من الجملة وعقد مابين حاجبيه ليرى الأخر ضاحكًا وهو يقول بنبرةٍ خافتة وصلت فقط لـ “يوسف”:
_أيوة يا عم بكرة الجمعة كتب الكتاب، بكرة بقى الرحرحة على حق، هستناك أوعى ماتجيش، إذا كنت عاوز كورس رحرحة يعني، عقبالك يا عم.
أغلق معه المكالمة بعدما آكد عليه ضرورة الحضور فيما قال “يـوسف” بسخريةٍ:
_لو عاوز ربنا يكرمك أبعد عن “مُـحي”.
ضحك له “تَـيام” وهتف بنبرةٍ هادئة:
_طب على فكرة هو جواه بذرة حد كويس بس عاوز حد يشد عليه، أقولك ؟ الواد دا علاجه “أيـوب” وأنا بستدرجه لحد ما أسحب رجله لهنا وأسلمه لـ “أيـوب” تسليم أهالي.
بنفس الهدوء حرك “يـوسف” رأسه نحو “أيـوب” الذي ظل بعيدًا عنهم يستند بظهرهِ على الحائط وقد ضم كلا ذراعيه عند عضلات صدره وشرد تمامًا عن الجميع فيما حدث اليوم وكيف تحول بهذه الطريقة الغير محسوبة، ظهور هذا البغيض أمامه أحيا العديد من ذكرياته المؤلمة وخاصةً حينما كان يصرخ متوسلًا لهم من قسوة الطقس عليه وهو يرتجف بجسدٍ هزيلٍ، لم يفهم لما تظهر هذه المآساة من جديد، أين عزيمته وأين صبره وقوة إيمانه؟ لا عليك يا “أيـوب” لازلت بشرًا وليس قديسًا أو ملاكًا، تألم وأبكْ وأصرخ ثم عُد من جديد كما كنت أنتَ مثالًا يُقتدى به..
ترك “يـوسف” موضعه وأقترب منه يسأله باهتمامٍ:
_أنتَ كويس يا “أيـوب”؟.
حرك الأخر رأسه نفيًا بشرودٍ جعل “يـوسف” يسأله باهتمامٍ أزداد عن السابق:
_طب والسبب؟.
حينها رفع “أيوب” عينيه نحوه ثم مط شفتيه بيأسٍ وهتف بنبرةٍ هادئة ولولا وعده لزوجته وحماته لكان أخبره بما حدث، لكنه أخفى الأمر عليه وهو يقول:
_والله ما أعرف، بس متقلقش أنا بخير.
_أتمنى إنك تكون بخير.
هتفها “يـوسف” بصدقٍ ثم ربت على كتفهِ وظل بجوار “أيـوب” وكأنه لا يملك حتى الجُرأة في تركهِ بهذه الحالة، لكن هناك ما أثار تعجبه وهو يحاول ربط الأمور ببعضها من خلال حالة شقيقته اليوم وحالة والدته وبين “أيـوب” وماهو عليه الآن، يبدو أن هناك مالم يعلمه هو لكنه بالطبع لن يعرفه في هذه اللحظة وهنا في الحفل، لكنه بالطبع سيعرف.
__________________________________
<“لا تبحث عما سيؤلمك، أتركه وشأنه”>
وصل إلى شقتهِ أخيرًا ومعه معاونه وذلك اللص..
كان “منذر” في أوج استعدادهِ لكي يصل لأي معلومة توصله لابن عمه، الأمر أصبح في غاية الصعوبة عليه وعلى تحملهِ، صعد إلى الأعلى بصورة طبيعية وكأنه أتى مع بعض الضيوف الخاصين بهِ والآخر يسير معهم منصاعًا لكل أوامره خوفًا من فوهة السلاح المُلاصقة لجانبهِ…
قام “مُـنذر” بتقييده في المقعد وكبل أطرافه ثم هتف بنبرةٍ لم تبشر بأي خيرٍ البتة بل كانت تحمل التهديد:
_كدا أضمن علشان أقدر أتكلم من غير ماتسوق العوأ عليا، كلمتين ورد غطاهم، الواد اللي خدته من “سامي” فين؟ وأحسنلك تقول بدل ما أخليك تقول غصب عنك.
ازدرد الرجل لُعابه وهتف بنبرةٍ مشوشة:
_يا باشا وربنا المعبود ما أعرف، الكلام دا كان من ييجي ٣٠ سنة، وأنا مش هخبي عليك، أنا ساعتها بايع فوق الـخمسين عيل فوق بعض، يعني مستحيل أفتكر.
رفع “مُـنذر” أحد حاجبيه ثم ترك محله وأخرج من جيب بطاله الخلفي مِدية صغيرة يلمع نصلها بشدة ثم باغته حينما غرزها بين أنامله فجأةً حتى صرخ الأخر متأوهًا بينما “مُـنذر” قبض على خصلاتهِ وهو يقول بنبرةٍ هادرة من بين شفتيه:
_قولتلك بلاش شغل عوأ معايا، فاكر نفسك قدام وكيل نيابة؟ كتر وأكدب أكتر علشان أخرتك تيجي بسرعة أكبر، وساعتها أقسم بالله هبيع كل حتة فيك في مكان ما هخلي طرف منك يتلاقى مع التاني، أنجز الواد راح فين ساعتها ومين خده؟.
تلجلج الأخر وهتف بنبرةٍ متقطعة من فرط الألم:
_يا باشا ساعتها يمين بالله المدام بتاعتي هي اللي اتعاملت، أصل أنا ماكنتش لوحدي، كان معايا بت ممرضة في مستشفى بتسلكلنا العيال، وواد شغال في مستوصف وبرضه كانت دي شغلته…ساعتها سوق العيال دا كان بيكسب، واحدة ربنا أداها بت بس جوزها مهددها أنه عاوز ولد تقوم مبدلة بنتها بعيل، واحدة جابت عيل في الحرام وعاوزة ترجع تاني زي ما كانت تقوم بايعة العيل وتاخد قرشين، عيل أتولد أهله مريشين نخبي الواد عنهم شوية لحد ناخد ما ناخد منهم قرشين، وفيه كمان ناس بتاخد العيال شوية وترجعها تاني، بس اللي أنا خدته من سامي دا كان تعبان أوي ومراتي هي اللي اتصرفت فيه.
قبض “مُــنذر” على عنقه وهو يقول ببساطةٍ شديدة لا تتناسب مع هول الأمر المُفجع في الإتجار بالبشر:
_بسيطة، نروح نجيب المدام هي تقولنا.
أشار لمعاونه صاحب البنية القوية الذي عرفه عليه “إيـهاب” ليكون في معاونته كما أنه يثق فيه ثقة عمياء بسبب حمايته لحياة شقيقه، وقبل أن يتحرك الأخر أوقفه الرجل بقوله :
_يا باشا عليا الطلاق من مراتي الجديدة مراتي التانية أنا مطلقها من بدري بعدما نصبت عليا في حق عيلين، لو لقيتها تبقى حلال عليك، دي مرة سَــو.
أغمض “مُـنذر” جفونه وهو يشعر بالغضب يتفاقم بداخلهِ عن المعقول وقد شارف على إرتكاب جناية لتوهِ لذا أمسك رأس الرجل وضربها في الطاولة من فرط غيظه، الغيظ بداخله لم يكن فقط بسبب ابن عمه بل بسبب قسوة قلبه المفرطة وحديثه عن الصغار وكأنهم سلعة تستخدم للمُقايضة، لا يكره في حياتهِ سوى القاسيين الذين عرفت قلوبهم بالغلظة، فمن لا يرحم الطفل الصغير العاجز عن فعل أي شيءٍ كيف سيرحم كبيرًا من الممكن أن يرد له ضرباته؟.
لاحظ معاونه حالته فسحب له المقعد يجلسه عليه وسأله بنبرةٍ هادئة:
_تحب أكلم “إيـهاب”؟ صدقني مهما حصل محدش بيقدر يقف في وشه، دا مخلي نزلة السمان كلها لحد الهرم بأي حارة جواهم يترعبوا منه ومن اسمه بس، تحب نجيبه؟.
حرك رأسه نفيًا وهتف يرد عليه بنبرةٍ مُنهكة كصاحبها:
_”إيـهاب” لو جه مش هيعمل حاجة، بس أنا هحاول لآخر نفس فيا لحد ما أرجع ابن عمي وحقه، المهم عاوزك تاخد الزفت دا ترميه فأي داهية علشان أكيد معروف إنه هنا ومش عاوز مصايب، وإذا كان على طليقته دي أنا عارف اسمها، هشوف سكتها كدا.
أومأ له الأخر وقام بحمل الرجل وبخفةٍ خرج به من الشقة نظرًا للفارق الجسدي بينهما ومعه مفاتيح السيارة، بينما “مُـنذر” ترك محله ووقف أمام المرآة يتابع نفسه بعينين ثاقبتين خاويتين من الحياة، نظرة زُجاجية لا روح فيها ولا أمل، ألم يكن أمامهم طفلًا صغيرًا ؟! ألم يكن إنسانًا من لحمٍ ودمٍ؟ ألم يكن ابن عمه مثله؟ كيف يفعلون ذلك بالصغار؟ كيف يتم سلب الحياة منهم وإجبارهم على حياةٍ لم تناسبهم؟ كيف وكيف ولماذا ولما ومتى والعديد من الأسئلة تجول بداخل رأسهِ جعلته يغمض جفونه ثم ولج للمرحاض يضع رأسه أسفل المياه الباردة لعلها تقوم بدورها في إبعاد الضجيج عن رأسهِ…
__________________________________
<“بعض المعرفة راحة، والبعض يسلب الراحة”>
ازداد حلول الليل وقد قام “بيشوي” بإلباس خطيبته الذهب الخاص بها ودبلته التي توسطت إصبعها وبجوارها الخاتم الخاص بها الذي كان على هيئة كفين مُتعانقين معًا، ذلك الطقم الذي قام بشرائه منذ أن وقعت عيناه عليه وكأنه يعلم أنه لم يلق بسواها…
قامت هي بإلباسهِ دبلته أيضًا لتزداد الفرحة أكثر وأكثر وتصبح أمام الجميع على طريقه وفي نفس خطاه ليصدر أمر ملكيته أمام الجميع بدءًا من الليلة وحتى الفترة المُتبقية هي من الآن خاصة به وبناءًا على ذلك انتهى الحفل الليلي الختامي ليذهب كل فردٍ إلى بيتهِ وأخرهم كان “يـوساب” الذي عاون في رفع المُعدات من البيت ليعاون “مارينا” بصورةٍ مُستترة وما إن جاورته بعد تنزيل المقاعد الحديدية شكرته بعفويةٍ من طبعها:
_شكرًا يا دكتور “يـوساب”.
رفع حاجبيه بسخريةٍ وهتف يُقلد طريقتها بقولهِ:
_دكتور “يـوساب” !! دمك تقيل، سم.
رمقته من أعلى لأسفل بنظرةٍ عابرة ثم هتفت بدلالٍ مصطنعٍ:
_معلش نسيت إني المفروض اتمايص علشان دمي يكون خفيف، على العموم شكرًا برضه، إحنا مش قلالاة الأصل.
ازداد تعجبه أكثر منها لكنه نحى هذا التعجب جانبًا ثم أخرج من سترته السوداء زهرة بيضاء وقال بنبرةٍ هادئة:
_قبل ما تكسفيني أنا جايبها علشانك، خديها.
رفعت “مارينا” عينيها نحوه بخجلٍ طغى على ملامحها لكنها أخذتها منه وهتفت هذه المرة بنبرةٍ أهدأ خلت من أي تهكمٍ أو سخريةٍ:
_شكرًا، شكلها حلو أوي.
_شبهك على فكرة
هكذا كان رده بتلقائيةٍ مما جعلها خجلت منه أكثر ومن نظراتهِ لها ثم ركضت نحو الداخل وهو يراقبها مستمتعًا بمظهرها، الغبي فقط هو من لم يلاحظ مشاعرها نحوه وهو ذكي بما يكفي لكي يعلم أن هذه البلهاء تشعر تجاهه بمشاعر يتمناها هو لكن هناك حالة مُبهمة تسيطر عليه في فهم الأمر بصورته الصحيحة.
وقفت “مهرائيل” في غرفتها أمام المرأة تراقب ملامحها السعيدة واصبعها الذي تم تزيينه بدبلة “حبيب العمر” كما تم تلقيبه من قبل قلبها، كانت مثل الطير تختبر الحرية لتوها وهي تقف بجواره أمام الجميع لتخبرهم بكل قوةٍ أنها لم ولن تصبح لأخرٍ غيره هو..
راقبت باقة الزهور والمرسال وهي تبتسم بعينيها ثم ارتمت على الفراش تلقي بجسدها عليه دُفعة واحدة وهي تبتسم بحالمية، المسألة فقط أصبحت في شهر أو ربما أقل لتصبح داخل بيتهِ بدون رجعة من جديد أو حتى فراقٍ يفصل بينهما.
في مكانٍ أخرٍ..
تحديدًا بداخل شقة “فـضل” قامت “ضحى” بتبديل ثيابها بعد عودتها من الخطبة وقامت بتنزيل الصورة مع العروس والفتيات ثم أغلقت شاشة الهاتف وألقت جسدها على ظهر الفراش بتعبٍ من يومٍ لم تنل فيه لو قسطًا من الراحة، وقبل أن تغمض جفونها تذكرت أمر “إسماعيل” الذي أصبح مستسلمًا لها تمامًا وكأنه يسير وسط البحر منصاعًا خلف حركات الموج دون أي مقاومةٍ تُذكر، يبدو حقًا أن الأمر أصبح يتعلق بتواجدها معه…
غرقت في تفكيرها فيه وفي غموضه وفي هذه الحالة التي يعيشها مختليًا بنفسهِ بعيدًا عن بقية البشر عدا أحبائه فقط ويبدو أنها دلفت هذا العالم معهم أو ربما تكون هي محور هذا العالم، ظلت تفكر وتفكر حتى دلف شقيقها لها بعدما سمحت له فدلف يطالعها بملامح غريبة عليها جعلتها تعتدل في الفراش وهي ترمقه باستفسارٍ جعله يقترب منها وحذا حذوها هو الأخر حينما طالعها بنظراتٍ متسائلة ثم قال بنبرةٍ هادئة:
_أنا روحت وسألت النهاردة زي ما قولتلك، محدش جاب سيرته أو سيرة أخوه بحاجة وحشة بالعكس، كلهم شكروا فيه وفي تربية الحج “نَـعيم” حتى “يـوسف” كمان كلهم شكروا فيه، وخصوصًا “إسماعيل” كل الناس أجمعت على أخلاقه وطيبته وإنه علطول هادي مش بتاع مشاكل، بـس…
سقط قلبها من محلهِ عندما ترك حديثه مفتوحًا لتندفع وهي تسأله بلهفةٍ أعربت عن قلقها:
_بس إيه متوترنيش، فيه تاني؟.
اندفع هو الأخر يقول بصراحةٍ دون أن يخفي الأمر عنها:
_بس ماضيهم يا “ضُـحى” أبوهم كان تاجر آثار وسمعته زي الزفت، وأخوه كان في السجن ولسه خارج من شهور، الكلام دا واحد قالهولي لما عرف إن الموضوع جواز، أظن يعني من حقي أخاف عليكِ بعد اللي سمعته دا ولا إيه؟.
نزلت عبراتها دون أن تعي هي لذلك وردت عليه بنبرةٍ مختنقة وحزينة دون سببٍ واضحٍ لذلك:
_بس هو قالي كل حاجة مخباش عليا والله، صدقني أنا كل دا مش فارق معايا يا “عُـدي” أنا اللي فارق معايا هو نفسه، أي حاجة تانية مش مهم، اسأل “يـوسف” عنه وهو يقولك كل حاجة، علشان خاطري.
تعجب هو من بكائها وحزنها بهذه الطريقة فهتف بنبرةٍ جامدة بعض الشيء وكأنه كره لحظة ضعفها هذه:
_أنتِ بتعيطي ليه؟ دا جواز يا “ضُـحى” مش لعب عيال، يعني هتخرجي من هنا على بيت تاني تقضي عمرك كله فيه، يعني فيه حاجات مش واخدة بالك منها، طب تمام، عيالك لما يكبروا وضعهم إيه؟ جدهم تاجر آثار وعمهم كان في السجن؟ بلاش، مين قالك إن دا كله مش مأثر عليهم؟.
أمسكت كفه وكأنها تتوسله وهي تقول بنبرةٍ باكية:
_صدقني والله أنا عارفة كل دا ومفكرة فيه، إذا كان على باباهم هو مات خلاص وملهوش وجود تاني، وإذا كان على “إيـهاب” فهو كان مظلوم، دي قضية حد لفقها ليه علشان يخلصوا منه، إنما هو مش كدا، صدقني يا “عُـدي” أنا أول مرة أحس كدا ناحية حد، أول مرة أحس أصلًا إن فيه حب ومشاعر زي دي ممكن حد يحس بيها، ساعدني لو بتحبني.
زفر بقوةٍ وسألها بتعجبٍ:
_ومطلوب مني إيه؟ أكدب على أبوكِ؟.
حركت رأسها نفيًا ومسحت عينيها بظهر كفها الحر وهتفت بنبرةٍ مبحوحة:
_لأ متكدبش، قوله على أخلاق “إسماعيل” وعلى كلام الناس عنه وعن حبهم ليه، قوله عن حبي أنا ليه وإني مش عاوزة غيره من الدنيا دي، قوله إن بنته أخيرًا لقت الراجل اللي كانت بتحلم بواحد زيه، قوله إنه لوحده ومحتاجني معاه، قوله إنه ملهوش حد في الدنيا دي وأنا عاوزة أكون دنيته كلها، قوله إني بحبه.
تأثر هو من حديثها واستشعر الصدق في كلماتها، لقد أخطأ حينما ظنها مجرد فتاة مُعجبة بشابٍ يملك العديد من الصفات التي تجذب الفتيات نحوه، لكن تمسكها به بهذه الطريقة جعله يتنهد بعمقٍ ثم رفع كفه يمسح دموعها وسألها بمعاتبةٍ:
_أنتِ بتعيطي ليه؟ أنا بكلمك عادي.
هتفت هي بنفس النبرة الباكية ردًا عليه:
_بعيط علشان خايفة، أنا وعدته إني هكون معاه وإنه لو عاوزني وخد خطوة واحدة ليا أنا لا يمكن أسيبه أو أبعد أيدي عنه، فيه إني مش بس حاسة إني بحبه، حاسة أني عاوزة أكون معاه في كل حاجة، عامل زي العيل الصغير ملهوش حد وماشي تايه في الدنيا، حتى عينيه بتقولها كل مرة بشوفه فيها إنه مش زي ما باين عليه، أنتَ جربت تحب قبل كدا ولما سابتك زعلت، علشان خاطري أقف معايا..
أقترب منها ولثم جبينها ثم وضع رأسها على صدرهِ يضمها بكلا ذراعيه بالرغم من تشتته لكنه أذعن لها وقال بنبرةٍ هادئة:
_حاضر، حاضر يا “ضُـحى”.
أغمضت جفونها وهي تتضرع بقلبها أن يعاونها شقيقها في هذا الموضوع، في الحقيقة هي تشعر كأنها محاربّ يركض على كل الجبهات حتى يتفادى الضربات الجوية المُباغتة ولا يعلم من أي جهةٍ ستطوله الضربات، الأمر كلما ظنته يتبسط أمامها تفاجئت به يزداد صعوبة عليها وعليه، لكنها ستستمر لأجلهِ هو وفقط..
__________________________________
<“عدوك في أشد الحاجة إليكَ، لا تذهب إليه”>
عاد للبيت مع أمهِ وزوجته وبقية أفراد عائلته عدا شقيقته التي توجهت إلى بيت زوجها تعاون أفراد العائلة في ترتيب كل شيءٍ لأجل عقد القران الذي سيقام غدًا، كاد أن يذهب لزوجته يخبرها بكل شيءٍ لعله يهرب من كل ذلك ومن حرب رأسه التي لم تكف عن نزف دمائه وعن الفتك بخلايا رأسه مستخدمة أرضها حربًا داميةً لها…
صدح صوت هاتفه في هذه اللحظة بأحد الأرقام التي نادرًا ما يتم التواصل بينهما وقد عقد ما بين حاجبيه وهو يجاوب على المكالمة بتعجبٍ غلفته الحيرة:
_أيوة يا “غـالب”؟ فيه حاجة؟.
هتف الأخر بأسفٍ ردًا عليه:
_معلش يا “يـوسف” أنا أسف إني بكلمك فجأة كدا، بس هو أنتَ في القاهرة ولا في شغلك برة؟.
ازداد توتر “يـوسف” لكنه جاوبه بنبرةٍ مشدودة بعض الشيء بسبب السؤال الغير متوقع:
_لأ أنا هنا، بس خير فيه حاجة؟.
ظهرت الراحة في نبرة الأخر وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_بص، “نـادر” ابن عمتك هنا وسِكر لحد ما بقى مش عارف يفتح عينه حتى، لو عليا هسيبه عادي بس أنتَ عارف قواعد المكان، قولت أكلمك تيجي تاخده خصوصًا إن محدش عارف يتعامل معاه، تيجي تاخده ولا أحطه في عربيته لحد الصبح؟.
زفر “يـوسف” بقوةٍ وهو يفكر بحيرةٍ كيف لهذا القذر أن يكون سببًا في كل تعبه حتى في أكثر الأوقات حاجةً للراحة، من أين يظهر له هذا النادر لكي يُعكر صفوه؟ وماذا حدث لكي ينتهي به الأمر في ملهى ليلي يتناول فيه الخمور؟ لاحظ “يـوسف” حديث الأخر معه فهتف بنبرةٍ جامدة أعربت عن نفاذ صبره:
_جاي يا “غَـالب”، محدش يقرب منه.
أنهى المكالمة ثم وضع الهاتف في جيبه وخلع ثيابه البيتية ثم أرتدى أخرى عصرية بعض الشيء، المكان الذي عاهد “نَـعيم” ألا يذهب إليه مُجددًا الآن يخون العهد من جديد ذاهبًا إلى هناك، خرج من البيت بعدما أخبر أمه بذهابه ثم ولج سيارته ورحل من الحارة نحو الملهى الذي وُجِدَ به “نـادر”.
وصل إلى هناك في وقتٍ قياسي وولج مباشرةً إلى صالة المكان ليجد مالكه في الإنتظار وما إن رأه أقترب منه وهو يشير نحو “نادر” وهتف بنبرةٍ هادئة:
_أنا سيبته زي ماهو عمال يشرب وأظن أنتَ عارف لما بيشرب كتير بيحصل إيه، صحيح أنتَ بطلت تيجي وهو كمان بقاله كتير مجاش، ولما جه وصل جعان شرب وكل حاجة.
زفر “يـوسف” مُطولًا ثم تجاوز هذا الشاب واقترب من “نـادر” يتفحصه ليفتح الأخر عينيه على مضضٍ وما إن رأى “يـوسف” أمامه ظن نفسه في أحد أحلامه لذا هتف بنبرةٍ خاملة وثقيلة إثر تناوله الخمور:
_يـوه بقى؟؟ جيت ليه ما تسيبني في حالي.
اعتدل “يـوسف” في وقفتهِ وهتف بتهكمٍ ردًا عليه:
_عقبال ما “عزرائيل” يجيلك بنفسه إن شاء الله.
ضحك “غالب” عليهما فأشار له “يـوسف” أمرًا له:
_هات رجالتك تشحنه في العربية، خليني أغوره.
حرك رأسه موافقًا وأشار لهم برأسهِ ثم حمل حاجته وأعطاها لـ “يـوسف” وهو يقول بنبرةٍ هادئة:
_دي حاجته كلها أهيه، أبقى خلينا نشوفك تاني.
ضحك “يـوسف” رغمًا عنه وهو يسأله بسخريةٍ:
_ليه محسسني إنك فاتح محمصة؟ أنتَ صاحب مدعكة.
ضحك الأخر وأطاح برأسهِ فيما ودعه “يـوسف” ثم خرج نحو سيارته الذي جلس بها “نـادر” وجاوره هو خلف مقعد القيادة يراقب الأخر بهذه الحالة الغريبة، ملابسه مبعثرة وخصلاته مُشعثة والخمول باديًا عليه، حينها أخرج هاتفه يطلب رقم الوحيدة التي ستدله على ماحدث وحينما طلب رقمها وتواصلت معه، سألها هو بتعجبٍ:
_معلش يا “مادلين” هو إيه اللي حصل النهاردة يخلي “نـادر” يسكر ويسهر في الكباريه من تاني؟.
أخبرته هي بنبرةٍ خافتة حينما تركت الفراش:
_اللي عرفته إنه إتخانق مع أبوه وضربه بالقلم وطرده من الشركة، هو حكى لـ “عاصم” وقاله يحاول يعرف طريقه بس بعدها “فاتن” اتخانقت مع جوزها و “شـهد” راحت شقتها يمكن يكون راحلها، هو معاك ولا إيه؟.
همهم موافقًا بشرودٍ ثم حذرها من عدم إخبار البقية ورحل بالسيارة نحو الحارة من جديد، في باديء الأمر قبل أن يعلم بما حدث قرر أن يذهب ويلقيه بداخل البيت لكن عند معرفته ماحدث تبدلت أفكاره تمامًا وبدل خطته لكي يذهب به إلى بيتهِ، سيحصل على انتقامه لا محالة من ذلك، لذا نظر في وجه “نـادر” يتفحصه ثم ابتسم بزاوية فمهِ وهتف بنبرةٍ ضاحكة:
_معلش، بالشفا يا حبيبي.
هذه المرة اتفقت كل الأصوات بداخلهِ دون ذرة رفض واحدة، تلك المرة جميعهم أذعنوا له وأعطوه الموافقة على ما حدث ليتحكم هو فيما هو قادم عليه ومعه صك الموافقة من كل المُعارضين، لذا تحرك بسيارته شاقًا الطريق تجاه بيتهِ في الوقت نفسه الذي وصل فيه “أيـوب” بزوجته لكي يوصلها إلى البيت…
لحظة جمعت بين الأربعة سويًا وقد نزل “يـوسف” من سيارته ليسأله “′أيـوب” عن سبب خروجه في هذا التوقيت وما كان على الأخر إلا أن يخبره بما حدث موجزًا في الحديث حتى سأله “أيـوب” بنبرةٍ جامدة متخذًا وضع الهجوم:
_طب وسيادتك جايبه هنا ليه؟.
هتف “يـوسف” بثباتٍ وهو يعلم أن الأخر لن يقبل بذلك:
_هوديه فين يعني؟ بيته لو كنت روحته كان زمان الليلة دي فيها قتيل، وأكيد كنت هبقى قاتل، بعدين أنا المفروض أعمل إيه يعني؟ أسيبه في الشارع؟ ولا اخليه في الكباريه لحد الصبح؟.
اندفع “أيـوب” بنبرةٍ جامدة يصرخ في وجههِ:
_لأ إزاي؟ هاته بيتك اللي فيه أمك وأختك، واحد سكران وجاي من كباريه نسيبه؟ عيب ميصحش نفتحله بيتنا ونرحب بيه، وناخده في حضننا كمان، مش فاهم دماغك.
رفع “يـوسف” صوته هو الأخر في وجههِ:
_إيه اللي مش فاهمه سيادتك؟ واحد زي دا هحطه فين؟ بعدين أنا معنديش حل تاني، بكرة الصبح هغوره في ستين داهية ولا أقولك، أنا قلبي قاسي متزعلش نفسك.
أنهى جملته ثم أغلق باب السيارة على الأخر وهو يقول بنفس الغضب المكنون بداخلهِ:
_أقولك خليه مخمود هنا لحد الصبح أو لحد ما تيجي عربية تشيله، أنا معنديش اعتراض نهائي، مرتاح كدا أنتَ؟.
رفع “أيـوب” كلا كفيه يمسح وجههِ بعنفٍ ثم أشار لزوجته حتى تسبقه للأعلى وما إن فعلت فتح هو باب السيارة بعدما خطف المفتاح من “يـوسف” ثم عاونا بعضهما في الصعود بهذا السكير الذي غلبه النوم، وبعد مرور دقائق دلفا به سويًا نحو الداخل بشقة “يـوسف” وتم وضعه في الغرفة الرابعة الفارغة فيما سحب “أيـوب” كف زوجته من أمام الجميع الذين تلبستهم الدهشة فيما خرج هو بها من الشقة متوجهًا نحو شقة “فضل” وقد فتح له “عُـدي” الباب بتعجبٍ.
حينها أدخلها له “أيـوب” بجمودٍ سيطر عليه وهو يقول بنبرةٍ جامدة يحذر الأخر به:
_”قـمر” متخرجش من هنا قبل الصبح، فاهم؟.
أومأ الأخر موافقًا فيما هتفت “قـمر” تعانده بقولها:
_أنتَ هتحبسني يعني؟ أنا مالي يا عم؟.
حذرها بنظراته ثم أقترب منها يهتف بنبرةٍ جامدة:
_مالك؟ طب مفيش خروج غير لما أجي أخرجك أنا بكرة من هنا، حلو كدا؟ البيه سكران عارفة يعني إيه؟ يعني مش واعي لنفسه وفي عالم تاني، ومش بس كدا دا كان سهران في هباب فوق دماغه والله أعلم حصل إيه تاني، تحبي أوضح أكتر ولا نخلص ونلم الدور؟.
تركته ودلفت غرفة “ضُـحى” فيما خرج هو من الشقة ليتواجه مع “يـوسف” الذي كاد أن يدخل له وقد وقف أمامه “أيـوب” يحذره بقولهِ:
_بكرة تشوف صِرفة وتمشيه من هنا..
حرك الأخر كتفيه وهو يقول ببراءةٍ غريبة:
_ماوعدكش بصراحة.
رفع الأخر حاجبيه مستنكرًا ثم هتف بيأسٍ منه:
_يا صـبر “أيــوب” !!.
رحل بعد جملته من البناية فيما وقف “عُـدي” يطالعهما حائرًا وعاجزًا عن فهم سبب الحديث أو عن من يتحدثون لكن الأخر ودعه ثم ولج شقته ودلف نفس الغرفة الخاصة بنوم “نـادر” وهو يفكر في كيفية التصرف معه في تحويل كت حدث لصالحهِ هو..
__________________________________
<“النجوم سقطت أخيرًا بين كفي الصغير”>
في اليوم الموالي..
كان الحماس هو الطاغي على الجميع بخصوص هذه المُناسبة وعقد القران المُحدد بهذا اليوم، يوم أنتظره الكثير والكثير حتى شاء القدر في نهاية الأمر بمجيء هذا اليوم..
بعد صلاة العصر في مسجد الحارة بدأت الحشود تتوافد إلى هناك لحضور عقد القران وقد تولى “أيـوب” مهمة استقبال الناس وكذلك “أيـهم” أيضًا، بينما “تَـيام” فكان يُجهز نفسه برفقة “بيشوي” الذي تولى رعايته ومعاونته باعتباره كبيره والمسئول عنه أمام عائلة “العطار”..
وقف “أيـوب” أمام باب المسجد فوجد السيارات تتوقف خلف بعضها وقد نزل منها ضيفه المرحب به من قبل الجميع “نَـعيم” برفقة الشباب مع بعضهم ومعهم “مُـنذر” أيضًا، حينها هلل قلب “أيـوب” دون تفسيرٍ واضحٍ لذلك لكنه فرح بتواجدهم لأجل “تَـيام” الذي يقف بدون رجالٍ في عائلتهِ سوى أزواج خالته ومن الأساس هو يكرههم..
أتى “عبدالقادر” خصيصًا لضيفه وهو يقول بنبرةٍ مرحبة بحبورٍ شديد مُهللًا بسبب رؤيته:
_الحارة كلها نورت بيك من تاني، تصدق إنك وش سعد وهنا؟ من المرة اللي فاتت والحارة بيزورها الفرح، الحمد لله يعني إنك معانا يا حج “نَـعيم”..
احتضنه الأخر يبارك له ويهنئه بزواج كريمته وكذلك “إيـهاب” وبقية الشباب ومعهم “مُـنذر” أيضًا الذي رحب به الأخر كثيرًا ثم بعدها دلفوا إلى الداخل بحضور المأذون وقد وصلت العروس ومعها الفتيات ومعهن “سمارة” بعدما أوصلها زوجها إلى هناك حينما أخبرته هي…
دقائق أخرى مرت تبعها دخول “تَـيام” بالأوراق في يديه ثم رحب بالجميع وأولهم “نَـعيم” ثم هاتفه ممازحًا للبقية أيضًا:
_بقولك إيه يا حج، أنتَ تحضر معانا بصفتك كبيري، واللهم صلِّ على النبي يعني معايا جيش رجالة، أنا عصفورة قصاد عيلة “العطار”.
انتشرت الضحكات عليه فيما أخرج “إيـهاب” بطاقته الشخصية وهو يقول بنبرةٍ ضاحكة مؤيدًا له:
_بس كدا؟ يا عم معاك أنا شاهد من طرف العريس.
انتشرت الضحكات عليهما وكذلك مازحه “مُـحي” و “إسماعيل” فيما شرد “نَـعيم” رغمًا عنه في ابنه، هل من الممكن أن يكون بمفردهِ في هذه اللحظة؟ هل من الممكن أن يكون صغيره على قيد الحياة ويحتاج لمن يقف معه في هذه المناسبة؟ ياليته يجد من يعاونه حتى لا يشعر أنه بمفرده، وحينها ابتسم لـهذا الشاب المرح وهو يضحك بعينيه له فيبدو أنه صاحب مكانة في قلوب البقية، رفع “نَـعيم” عينيه نحو “أيـوب” أولًا ونحو “تَـيام” ثانيًا ثم هتف بنبرةٍ هادئة أمام الجميع:
_أنا موافق أكون كبيرك عادي، بس متزعلش “أيـوب”.
تلاشت بسمته وهتف بسخريةٍ:
_دا إيه دا؟ أنا أصلًا داخل العيلة دي أنكد على “أيـوب”.
انتشرت الضحكات من جديد ثم بعدها بدأ عقد القران بعدما وضع “تَـيام” كفه في كف “عبدالقادر” الذي ابتسم له وهتف له بنبرةٍ خافتة حتى لا يشعر الأخر بالحزن:
_أنا أبوك زيك زي ولادي بالظبط، أنتَ مش غريب عني.
ابتسم له “تَـيام” بعينيه ثم بدأ المأذون في تلقينهم حديث الزواج وهما يرددان خلفه، أولًا كان “عبدالقادر” يقبل زواجه من ابنته وثانيًا كان “تَـيام” يرد عليه بقبول هذه الزيجة، من الأساس لم تكن مجرد زيجة عابرة فحسب، بل هي ليلة تحقيق الأمنيات والحصول على كل الآمال، ليلة من بعد الظن في استحالتها كانت أشبه بتحقيق المعجزات..
رفع “تَـيام” رأسه للأعلى يطالعها وهي تنظر نحوهما بوجهها البشوش، يراها كأنه يطالعها للمرةِ الأولى، كانت ترتدي خمارًا باللون الأبيض وكذلك فستانها الفضفاض، من بعد شهورٍ قضاها في خطبة شرعية فقط دون أي حديثٍ، الآن فقط يحق له أن يخبرها بكل الحديث، وقد أدرك لتوه معنى البركة التي أخبرته عنها عند عقد القران حينما يشعر بالفرح عند الحصول على حلالهِ..
مرت دقائق أخرى من بعد توزيع الحلويات والمشروبات على الجميع ثم بدأوا في الخروج من المسجد ليتقابل “تَـيام” مع زوجته التي نزلت لتوها أمام البقية فاندفع بمرحهِ المعتاد وهو يقول بنبرةٍ عالية:
_اللهم لك صومت وعلى رزقك أفطرت.
ضحك البقية عليه فيما ضمها هو نحوه ثم أطلق زفيرًا قويًا وهتف بنبرةٍ جمعت بين التعب والراحةِ معًا في نفس اللحظة:
_يا شيخة تعبتي أمي، وقطعتي نفسي.
خجلت هي وسكتت عن الحديث وأرادت البكاء من فرط الخجل، هذا الغبي لم يدرك بعد أنها لأول مرة تتعامل مع أحد الرجال خارج بيتها ؟ لذا تركته ووقفت خلف “نِـهال” تحتمي فيها فيما هتفت الأخرى بنبرةٍ ضاحكة:
_معلش بنتنا خجولة حبتين تلاتة كدا.
ضحك “تَـيام” لها ثم خرج من جديد يقف مع البقية في الخارج وفي هذه اللحظة توقفت سيارة أمام هذا الحشد لينزل منها “سـامي” الذي ابتسم بسخريةٍ وهو يقول:
_مش معقول؟ أنا توقعت برضه إني آجي ألاقي حبايب كتير هنا بس لدرجة “عبدالقادر العطار” و “نعيم الحُصري” مع بعض ؟! دي غريبة بصراحة، ابني فين بقى؟.
____________________

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوثهم)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى