رواية خطايا بريئة الفصل السادس والأربعون 46 بقلم ميرا كرم
رواية خطايا بريئة الجزء السادس والأربعون
رواية خطايا بريئة البارت السادس والأربعون
رواية خطايا بريئة الحلقة السادسة والأربعون
استبد القلق بالجميع وخاصًة هو فكان يخطوا كالثور الثائر ذهابًا وايابًا من شدة القلق أثناء تواجدها بغرفة العمليات فكاد يجن ويفقد اعصابه ليطمئن عليها لولآ أن “شهد ” حاولت تهدئة روعه قائلة:
-متقلقش يا اخويا بإذن الله هتقوم بالسلامة
-يارب يا “شهد”…يارب
قالها من صميم قلبه الذي ينهشه القلق وهو يدعوا الله بسره أن يطمئنه عليها،
بينما “فاضل”كان يجلس مهدل الكتفين ويبتهل لله بملامح تعكس خوفه وقلقه الشديد على ابنته، وبعد بعض الوقت خرجت الطبيبة ليندفعون إليها بلهفة ويتسائل هو بملامح شاحبة:
-طمنيني بالله عليكِ يا دكتورة
نزعت الطبيبه غطاء فمها الطبي واجابته ببسمة مُبشرة:
-حمد الله على سلامتها المدام جابتلك بنوتة زي القمر
هز رأسه وتسائل بتلهف شديد والقلق مازال ينهش قلبه:
-مراتي كويسة؟
ابتسمت الطبيبه وطمأنته:
-كويسة متقلقش دقايق وهتخرج
زفر براحة عارمة وتهللت أساريره وردد حامدًا وهو يقبل باطن وظهر يده بالتناوب:
-الحمد والشكر ليك يارب…الحمد لله…الحمد لله…
ليتسائل “فاضل” بلهفة لاتقل شيء عن لهفته:
– وحفيدتي طمنيني عليها
-البنوتة بخير هي بس هتروح الرعاية يعملولها اللازم وشوية وتقدروا تطمنوا عليها
هزوا رأسهم بامتنان للطبيبة وشكروها وإن تركتهم
ربت “فاضل” على كتفه وباركه ببسمة واسعة:
-مبروك يا ابني اللي جابلك يخليلك
رد “محمد” ببسمة واسعة:
-الله يبارك فيك يا عمي ربنا يديك الصحة و يخليك لينا
ثم من بعده باركته “شهد “بسعادة عارمة:
-مبروك يا خويا تتربى في عزك يارب
-الله يبارك فيكِ يا “شهد” عقبالك أنتِ كمان لما تجيبي “حمود” الصغير
-هانت ادعيلي يا “حمود” ده انا من ساعة ما عرفت انه ولد و الفرحة مش سيعاني
تسائل هو مندهش:
-غريبة طول عمرك بتقولي تربية الصبيان صعبة أيه اللي جد
اجابته بتنهيدة مطولة:
-اللي جد أن “كاظم “كان نفسه في ولد يكون سند وظهر ليه وللبنات وبصراحة كنت بدعيها من قلبي علشانه والحمد لله ربنا كريم
أومأ لها وشاكسها كعادته:
-الحمد لله تقريبًا كده صدقت أنك بركة زي ما بتقولي
نكزته ببسمة واسعة و يقهقه هو تزامنًا مع مجيء “كاظم” الذي اعتذر قائلًا:
-آسف اتأخرت بس كان لازم واحد فينا يحضر الأجتماع
هزو رأسهم بتفهم، ليتسائل هو:
-طمنوني “ميرال” عاملة ايه؟
-طمأنته “شهد” قائلة:
-الحمد لله قامت بالسلامة والدكتورة طمنتنا على البنت
-حمدلله على سلامتها يا عمي
اجابه “فاضل” بسعادة لا يضاهيها شيء:
-الحمد لله يا “كاظم ”
ليبتسم “كاظم” ويوجه حديثه ل “محمد”:
-مبروك يا ابو” چوري” تتربى في عزك
-الله يخليك يا جوز أختي عقبال “شهد” كده لما تجبلك ولي العهد وتقوم بالسلامة
شهقت هي متفاجئة حين تلمس بروز بطنها بحنية مبالغ بها أمام الجميع، وقال بتلهف وبعيون لامعة:
-يارب يا “محمد” ده انا بعد الايام والله
ابتسم “محمد” لسعادة زوج شقيقته وألتهى بعد ذلك بالحديث مع” فاضل” لحين خروجها، لتتنهد “شهد” وتتمسك بظهرها، ليجذب “كاظم ” يدها ويعلقها بذراعه ويخبرها أن ترتمي بثقلها عليه بعدما استشعر تعبها البادي عليها ويسير بها لأحد المقاعد القريبة كي يريحها، لتزفر هي براحة ما أن أجلسها وتهمس داعية:
-ربنا يديمك ليا ولولادك يا “كاظم” ويفرحك بيهم
-فرحتي اللي بجد أن ربنا رزقني بيكِ وكرمني بأم زيك ليهم يا “شهد”
ربتت على يده وأخبرته ببسمة هادئة:
-وانا كمان ربنا عوضني بيك ده كفاية انك ابن أصول وشايل بنتي في حباب عنيك ومش عامل فرق بينها وبين بنتك
-“طمطم “زي “سنا” بالظبط بالنسبالي وانتِ وهي غيرتوا حياتي أنا وبنتي وخليتوني أعرف يعني إيه عزوه وبيت ودفى وفتحتوا عيني على حاجات كتير كانت غايبة عني ومش عارف قيمتها
-وانا كمان معاك بحس إني مسنودة ومطمنة أي نعم اخويا طول عمره سند وضهر ليا بس أنت حاجة تانية يعني لو اتعريت مش هجري عليه هجري اتحامي واتداري فيك أنت
ابتسم تلك البسمة الرزينة الهادئة التي تذيبها ثم وضع ذراعه فوق كتفها وهمس بصدق شديد وبشعور صادق اكتسبه بالفعل من عِشرته الطيبة لها:
-بحبك يا “شهد” ومقدرش اعيش من غيرك
لتبتسم هي وتربت فوق كف يده المسنود على كتفها بحنان شديد وكأنها ارادت أن تؤيد ذلك الشعور المتبادل الذي تسلل بالفعل مع مرور الأيام لقلبها.
——————–
تأملها بعيون لامعة وهي تستكين بين احضان والدتها فحقًا لا يصدق أن تلك الصغيرة التي تشابه الملائكة هي ثمرة عشقه لها.
نظرت له “ميرال” نظرة حالمة رغم وهنها لتتسع بسمته شيء فشيء و يتنهد براحة عارمة ثم يقول والفرحة تتراقص ببندقيتاه وهو يجلس بجوارها ويزيح خصلاتها خلف اُذنها:
-الحمد لله على سلامتك يا حلو كنت هتتجنن عليكِ
-مبروك يا “حمود”
رد بنبرة عاشقة تفيض بسعادته:
-أنا مبسوط أوي يا “ميرال”
-أنا مبسوطة اكتر منك كفاية ان ربنا عطاني حتة منك… بص حتى شبهك ازاي
قالت أخر جملة وهي تضم صغيرتها وتتلمس وجهها بأناملها
ليشملهم هو بنظراته الحانية، ويخص صغيرته التي تشبه الملائكة بنومتها بنظرة مميزة لم تسكن عينيه مسبقًا
لترفعها هي وتضعها بين يده بحرص، لتتجمد نظراته عليها لثوانِ وكان عقله توقف ولا يستوعب أنها تخصه ليهمس بعيون يلتمع بهم الدمع:
-بسم الله ما شاء الله دي جميلة أوي يا “ميرال” وشبهك بالملي
ابتسمت هي وهمهمت:
-لأ دي شبهك أنت
-شبهي مين عايزة البنت تتعقد
-هو انت وِحش ده انت احلى راجل شافته عينيا يا”حمود”
تنهد تنهيدة مُسهدة واجابها وهو ينظر لها:
-دي عيونك الحلوة يا حلو
هامت به ببسمة واسعة وظلت نظراتهم الفرحة عالقة لحين قاطعهم “فاضل” بنفاذ صبر:
-انتوا بتتعزموا على بعض هي ولا شبهه ولا شبهك حفيدتي شبهي انا وهاتها بقى انا ساكت لكم من بدري
قالها بلهفة وسعادة متناهية وهو يأخذ الصغيرة من يد أبيها ويقبلها من جبهتها قائلًا بدموع أخذت تتهدل من شدة سعادته بها:
-بسم الله ماشاء الله ربنا يحفظها ويبارك في عمرها
لينهض “محمد” من جلسته يطلب بأدب:
-طب ممكن ترجعلي بنتي يا عمي أَأذن في ودنها
اجابه “فاضل” بكل إصرار وثقة:
-انا اقدر اعمل كده خليك أنت جنب مراتك واطمن عليها
قهقه الجميع على تشبث “فاضل”بالصغيرة واستحواذه عليها، بينما ضرب هو كف على آخر و جلس بقلة حيلة بجانب “ميرال” وشاكسها قائلًا:
-شكلي كده انا وابوكِ مش هنتفق الفترة الجاية
لتعلق هي ببسمة هادئة:
-انا اول مرة اشوف بابي فرحان اوي كده
لتعقب “شهد” على حديثها بذلك المثل المأثور:
-اومال لازم يفرح ده والنعمة صدق اللي قال أعز الوِلد ولد الولد
هزت “ميرال” رأسها وظلت تتطلع لهم ببسمة هادئة وهي تشعر بسعادة متناهية و تدعو الله أن يمدها بالقوة كي تكون أم جيدة لابنتها وتقسم بينها وبين ذاتها انها ستعوض بها كُل ما حُرمت هي منه بسبب انانية والدتها التي تخلت عنها.
—————–
أما عنه فقد مر عدة أيام وهاهو حضر لبيت خالته كي يرى اطفاله ككل اسبوع، فقد أحضر لهم العديد من الألعاب والأشياء التي يفضلونها على أمل أن يعوضهم ولو بجزء بسيط من ذلك الأهتمام الذي لطالما كان مقصر به في حقهم.
فقد رحبت به “ثريا” ولكن تلك المرة كان يشعر أنها متوترة وعلى غير عادتها ولكنه أجل سؤالها حين استئذنت منه وتحججت كي تذهب تلقي نظرة على أحفادها لكي تطمئن والدتهم التي تهاتفها كل نصف ساعة لتطمئن عليهم فاليوم يومها الأول بالعمل ولذلك اخبرته انها لابد أن تقدر قلقها.
لم يعير الأمر أهمية أكبر وكل ما حاول فعله بعد أن تركته هو استغلال الوقت لكي يحظى بقرب ابنائه، فقد هللت “شيري” اولًا بحماس طفولي وهي تتفقد محتوى الحقائب الورقية:
-وااااو كل دي حاجات حلوة يا بابي
أجابها “حسن” بحنان:
-كل ده علشانك انتِ واخوكِ
أومأت له وشاركت اخيها كما تعودت ليجلس “حسن” ابنه بجانبه ويتسأل:
-قولي عامل إيه في البتاعة بتاعتك دي اللي مضيعة وقتك على الفاضي
تهدلت جفون الصغير من قلة تقديره لموهبته وتحدث بإقتضاب:
-كويس يا بابي
هز “حسن “رأسه واستأنف:
-إن شاء الله لما تخلص الاجازة مفيش الكلام ده انا هكلم امك واقولها مش عايز حاجة تلهيك عن المذاكرة
ساد الحزن معالم الصغير وأخبره:
-بس انا بذاكر كويس يا بابي ومامي كمان بتذاكرلي وكل المدرسين مبسوطين اوي مني
رد “حسن” دون حيادية ودون أن يقدر رغبة الصغير واهتماماته المُحفزة له:
-وبعدين معاك اسمع الكلام انا عايز مصلحتك
نكس الصغير رأسه بحزن ثم أومأ له بطاعة، في حين اقتربت” شيري” بعد أن فشلت في فض غلاف الشوكولاته التي احضرها بين الأغراض:
-مش عارفة افتحها يا بابي افتحهالي واكلني
تنهد وتناول من يدها وحين انتهى اخبرها بنفاذ صبر:
-كُلي انتِ لوحدك أنتِ مش صغيرة
تنهدت الصغيرة بضجر وقبل أن تشرع في قطم الشوكولاته كسرت نصف اللوح كي تشارك اخيها كما تعودت ولكن “شريف” رفض قائلًا:
-مش عايز يا”شيري”سناني هتوجعني تاني وانا بخاف
لتضع ما بيدها جانبًا بعد أن فقدت شهيتها وتتحدث وهي تمط فمها:
-خلاص وانا كمان مش عايزة أَكُل
ليتسأل “حسن”:
-ليه سنانك بتوجعك مالها؟
اجابه “شريف” بإقتضاب:
-ضرسي كان بيوجعني وكنت بعيط ومش عارف انام بس مامي اخدتني هي و”نضال” للدكتور صاحبه
فور ذكر الصغير لأسم “نضال “شعر بدماء حارة تفور برأسه وأن كل خلية به تنبض بالغضب حتى أنه قال بحدة اجفلت الصغير:
-وسي زفت ده يروح معاكم ليه؟
أجابه “شريف” متلعثمًا:
-هو… صاحبي يا بابي… وبيحبني وبيلعب معايا
زمجر “حسن” غاضبًا وهو يتمسك بذراعه بقسوة لم يتعمدها:
-ازاي يعني صاحبك!
تلجلج الصغير واجابه بعيون زائغة وهو على حافة البكاء:
-يعني بيلعب معايا بلاي ستيشن وساعات بيكون في النادي وبيحضر معايا التمرين ويشجعني
اشتعلت نيران دواخله وغمغم بغضب وهو يترك يد الصغير ويمرر يده على وجهه كي يهدأ من روعه:
-وطبعًا كل ده وامك معاك مش كده؟
هز الصغير رأسه والخوف يسيطر على تقاسيمه، بينما قالت” شيري” ببراءة وكأنها تهدئة بدفاعها:
-“نضال” طيب يا بابي
وهنا لم يتحمل وهب من جلسته يصرخ بهم والغضب يعمي عينه:
-متجبوش سيرته قدامي وملكمش دعوة بيه وانا ليا كلام تاني مع امكم ليرفع سبابته محذرًا وهو يوجه حديثه ل “شريف”:
– وانت مفيش حاجة اسمها صاحبي دي فاهم
انتفضوا الصغار بخوف من صراخه المنفعل و انكمشوا على ذاتهم وقالوا في نفس واحد:
-حاضر يا بابي
وهنا حضرت “ثريا” على صراخه لتتسأل بريبة:
-في إيه يا ابني بتزعق ليه؟
زفر وهو يمرر يده بخصلاته الفحمية بعصبية ولم يجيبها بل كان ساهم وكأنه يحاول كبح شياطينه
لتسأل الصغار:
-إيه اللي حصل ياولاد عملتوا إيه عصب ابوكم كده؟
اجابتها “شيري” وهي تتحامى خلف ظهر اخيها:
-مش عملنا حاجة إحنا بس قولنا أن “نضال” طيب يا تيتا
تنهدت “ثريا” حين أدركت أن الصغار سهلوا عليها مهمتها ومهدوا لحديثها التي كانت لاتعلم من أين ستبدأه، فقد تداركت الموقف قائلة:
-طب روحوا يا ولاد ألعبوا في الجنينة شوية عقبال ما اتكلم مع ابوكم
انصاعوا لها الصغار وهرولوا للخارج، ليصيح هو فور خروجهم:
-شوفتي الهانم اللي علطول بتدافعي عنها كدبت عليا لما سألتها ايه اللي بينك وبينه وطلعت مقضياها معاه
احتدت نظرات” ثريا “و اخرسته قائلة:
-عيب كده دي أم ولادك و متعيبش في أخلاقها ده انت اكتر واحد عاشرتها وعارفها
-اومال تفسري كلام العيال بأيه وتفسري قربه منهم ومنها بأيه ياخالتي انتِ عايزة تجننيني
-هي قالتلك قبل كده مش هتستأذنك ولا هتاخد منك الاذن لو فكرت تربط مصيرها براجل تاني بس هي اصيلةوعلشان خاطر هما ولادك طلبت مني ابلغك وافهمك الوضع وبصراحة الراجل ابن حلال وطالب حلال ربنا وهي لسه صغيرة ومن حقها تجرب حظها مرة تانية
صدر ذلك الصوت الساخر من فمه وهدر بإنفعال:
-وهو كان ماله حظها معايا
تنهدت “ثريا” بنفاذ صبر وقطعت وصلة مبرراته وادعائه للبراءة قائلة:
-مش هتعيدو من تاني يا “حسن” أنت عارف عملت ايه ومش مرة واحدة؛ دي مرتين
أجابها بعنجهية رجل شرقي:
-انا راجل اعمل اللي اعمله أتجوز، أطلق، أو حتى اصاحب انا حر ومحدش يقدر يحاسبني لكن الهانم لأ…وطالما معاها عيال ورفضت ترجعلي يبقى لازم تتحمل مسؤوليتهم ومينفعش تتجوز
لم تيأس وحاولت إقناعه بحديثها:
-وهي مش هتقصر معاهم وكمان الدكتور ربنا ما كرمهوش بولاد وهيعامل ولادك زي ولاده بالظبط
زمجر غاضبًا يدور حول نفسه و الشياطين تتراقص امام عينه:
-ده على جثتي مش هيحصل
اقتربت “ثريا” من وقفته تربت على كتفه بحنو واستأنفت محاولاتها:
-يا ابني اسمع الله يخليك واللهِ الدكتور محترم واخلاقه عالية ويكفي انه جه لغاية عندي واتعهد قدامي وقدام ربنا أنه هيحط الولاد على راسه واديك سمعت بودانك من ولادك أنهم بيحبوه وهو حنين عليهم
نفى برأسه بعدم اقتناع وغمغم غاضبًاوهو ينقر على صدره بسبابته:
-بس دول ولادي أنا ومش هسيبهم لراجل غيري مهما حصل
الهانم عايزة تتجوز تتجوز بس تاني يوم هاخدهم منها واظن وقتها محدش يغلطني ده حقي اللي الشرع والقانون ادهولي
-يا ابني محدش هيخاف على عيالك ولا يراعيهم اكتر من امهم دي هي اللي قطعاهم من لحمها
ليصمم هو:
-بس امهم مش هتبقى فضيالهم وانا اولى بيهم
تابعت “ثريا “لكي تذكره في محاولة منها أن تقنعه:
-لاحول ولا قوة إلا بالله بلاش يا ابني تبقى أنين في حياتها وحياة ولادك وافتكر انها مقصرتش معاك ده يوم ما وقعت هي اول حد كان جنبك ده غير أنها ساعدتك في شغلك ومهانش عليها تشوفك بتضيع قدامها
عقب على حديثها وشيء من المنطقية تطفوا على حديثه:
-وانا مقولتش حاجة ومقدر ده بس لو هتفكري فيها هتلاقيها هي السبب والفلوس اللي هي ساعدتني بيها دي أنا ليا فيها انا اللي كبرتها وشغلتها
-طب يا ابني انا هفرض معاك أنك خدت الولاد هتعرف تتحمل مسؤوليتهم
أجابها بتسرع دون تفكير:
-اه هعرف
لتذكره بمعضلته بسؤالها:
-طب و”سميرة” هتوافق؟
زاغت نظراته وقال بنبرة مهتزة:
-غصب عنها لازم توافق…
تنهدت “ثريا” بضيق وجلست على أحد المقاعد القريبة متسألة بريبة:
-يعني هتغصبها تتحمل ولادك يا “حسن”
أجابها بأندفاع:
-اه هعمل كده
أسندت “ثريا “ذقنها بسبابتها وابهامها وقالت متهكمة:
-طب وحتى لو غصبتها تتقبل عيالك هتعمل كده قدامك علشان هتعملك حساب لكن تفتكر هتبقى أمينة عليهم في غيابك
تأفف من حديثها الذي يعلم انه بمحله ورغم ذلك عاند واقترح وهو يرتمي على الأريكة ويمسد جبهته:
-هجبلهم حد يراعيهم معاها
نفت “ثريا “برأسها بعدم رضا وتحدثت:
-مفيش حد هيبقى احن من امهم عليهم
لتنهض تجلس بجواره وتربت على ظهره ناصحة بحنو:
-علشان خاطري يا ابني ربنا يهديك سيبها تشوف حياتها وانت كمان عيش حياتك من غير ما تنغصوا حياة بعض والولاد تدفع التمن
اغمض عينه بقوة ليكبح تلك الأفكار المتضاربة داخل رأسه ويقول بضع كلمات نابعة من طباعه وأفكاره العُرفية التي لا نفع منها:
-ما قولتلهاش هي ليه الكلام ده فيها ايه يعني لو كانت اتنازلت وسامحتني؛ انا اتجوزت على سُنه الله ورسوله واللي عملته حلال كان مفروض من الأول رضت وعاشت علشان خاطر عيالها
ذكرته “ثريا” بأخطائه الفادحة التي لم يستوعب مدى فداحتها بالنسبة لها ومازال يدعي برائتها ويستخف بها رغم ندمه على فقدانه لامتلاكها:
-فيها أنك خذلتها ورغم كل اللي شافته منك ومن غبائك كانت بتفكر ترجعلك علشانهم بس أنت اللي بخيبتك بوظت كل حاجة وكأنك مبتتعلمش
تأفف وهو يلوح بيده ساخطًا:
-يوووه بقى يا خالتي انا مش ناقص بهدلة خلاص اللي حصل حصل
لتباغته هي بالحقيقة التي يحاول التهرب منها بشتى الطرق:
-أهوا علشان اللي حصل ده؛ لازم تتقبل وترضى علشان انت عارف كويس اوي ان مراتك مش هتتقبل ولادك واظن انت بنفسك اللي قايلي أن بيركبها ميت عفريت لما بتجيب سيرة عيالك و بتتلكك علشان متجبهمش البيت ما بالك بقى لو قولتلها هاخدهم من امهم علشان يعيشوا معاك
نعم تلك الحقيقة القاسية ومعضلته معها ولكن ماذا يفعل هي لايستهان بها ويصعب عليه ترويضها أو جعلها تقدم فروض الطاعة كغيرها…وعلى ذكر غيرها تقلصت معالم وجهه واكفهرت وغمغم بتراجع وهو يشعر أن النيران تتأكل دواخله:
-وحتى لو قبلت … انا مش هقدر اتخيل “رهف” مع راجل غيري يا خالتي انا ممكن اموت أو يحصلي حاجة لو ده حصل
أنبته “ثريا “قائلة:
-شوفت بقى ان احساس وحش ازاي وشوفت هي اتوجعت أد ايه لما انت عطيت نفسك نفس الحق
ليتناول نفس عميق ويهمس برأس منكسة يكوبها بين يديه:
-أنا عارف إني عمري ما رَيحتها وانها مستحيل هترجعلي بس انا…
كاد يسترسل ولكنها قاطعته:
-من غير بس يا ابني ارضى بحياتك الجديدة اللي انت اخترتها…وسيبها هي كمان تجرب
وإذا كان على الولاد مفيش قوة في الدنيا هتحرمك منهم
وهنا نهض يلقي نظرة على اطفاله من زجاج النافذة التي تطل على الحديقة يتأمل ركضهم ولهوهم بقلب محترق و بعيون تفيض بحيرته ما بين عنجهيته وأنانيته التي ترفض تنازله عنهم، ومابين عجزه في جعل زوجته صاحبة الرأس اليابس التي لايستهان بها أن تتقبل أمرهم.
—————-
مر بضع أيام وقد شاركته إدارة أملاكها كي تخفف عنه عبئها، فكان هو أكثر من مُرحب بالأمر فقد شجعها وشدد من أزرها حتى أنه كان أكثر من فرح بقرارها و وعدها أنه سيظل يدعمها إلى أن تثبت ذاتها وتحقق طموحها
وهاهي بعد انتهائها من بعض المهام الخاصة بالعمل قررت أن تفاجئه بحضورها وحين وصلت لمقر مطعمه تدلت من سيارتها وسارت للداخل بخطوات متلهفة وببسمة واسعة وحين اقتربت من مكتبه المخصص له داخل مطعمه وجدت بابه مفتوح وحينها اندثرت بسمتها وهي ترى تلك الفتاة التي لطالما شعرت بالغيرة منها تقف تتحدث معه ببسمة تكاد تشق وجهها لا والأنكى أن هو ايضًا كان يبتسم مما جعل الغيرة تنهش قلبها وما أن انتبه لوجودها همس متفاجئ بأسمها:
-“نادين”ايه المفاجأة الحلوة دي
ابتسمت ل “رقية “بمجاملة رغم شعورها وهي تجيبه:
-وحشتني وجيت علشان نروح مع بعض للولاد أصل ماما “ثريا”مش موجوده معاهم النهاردة معاهم المُربية بس…هز رأسه بتفهم لتصمت هي لهنيهة وتتسائل بترقب:
– هواناعطلتكم؟
قالتها وهي تتناوب نظراتها بينهم، ليبتسم ويقول بتلقائية اغاظتها وهو يقترب من وقفتها ويضع قبلة خاطفة على وجنتها:
-لأ يا حبيبتي معطلتناش ولا حاجة إحنا مكناش بنتكلم في الشغل أصلًا
ضيقت عينيها ببسمة مغتاظة وقالت من بين اسنانها:
-أصلًا…اصلًا
هز رأسه وهو بالكاد يكبت ضحكته على طريقتها، لتتنهد هي وتوجه نظراتها ل “رقية” قائلة:
– اخبارك ايه يا “رقية “؟
اجابتها “رقية” بود وهي مطرقة الرأس بحياء:
-الحمد لله يا مدام “نادين” المطعم نور والله لسه كنت بسأل استاذ “يامن” على حضرتك وعلى “غالية “و”حمزة”
اجابتها “نادين “ببسمة هادئة:
-الحمد لله كلنا كويسين مرسي لسؤالك…
ابتسمت “رقية” وقالت بعشم:
-انا كنت جاية اخد إجازة علشان فرحي الاسبوع الجاي
تهللت أسارير “نادين “فور معرفتها للخبر الذي كبح فضولها وقالت وهي تحتضنها:
-بجد مبروك ربنا يتملك بخير…
فصلت “رقية “عناقهم الودي وطلبت بخجل:
-الله يبارك في حضرتك كان نفسي تشرفونا
رحبت هي:
-إن شاء الله اكيد يا “رقية”
ليعقب هو على الأمر:
-“رقية “عايزة تاخد شهر اجازه يا “نادين” وبصراحة مش عارف همشي الشغل أزاي من غيرها
جزت على نواجذها و لم تستطيع التحكم بأعصابها حين قالت دفعة واحدة:
-متقلقش كله هيبقى تمام وانا معاك وبعدين شهر إيه ده شوية سيبها براحتها لازم تتبسط يعني شهرين تلاتة لتمط فمها وتستأنف متمنية:
– وياسلام بقى لو ربنا كرمها وحملت و ولدت لأ وكمان البيبي محتاج رعاية بعد كده فياريت تديها أجازة مفتوحة
انفلتت بسمته على غيرتها الواضحة في حين عقبت “رقية”:
-لأ مش للدرجة دي يا مدام “نادين” انا كل اللي طلباه شهر وبإذن الله هرجع بعده ملتزمة زي الأول
تمتمت ببعض الكلمات الغير مفهومة بصوت خفيض وهي محتفظة ببسمتها، ليتدارك وينهي الموقف:
-تمام براحتك يا “رقية “تقدري تتفضلي
-شكراً لحضرتك عن اذنكم
ذلك آخر ما قالته قبل أن تغادر مكتبه، لتضرب هي بكعب حذائها وتهرول لباب المكتب تغلقه بواسطة المفتاح الساكن بفتحته وإن تأكدت انها وسدته التفتت له وقامت برفع كميها لساعديها قائلة بتوعد وهي ترشقه بنظرات مشتعلة بغيرتها:
-بقى مش عارف هتمشي الشغل ازاي من غيرها هاا
انفجر هو ضاحكًا على هيئتها، لتزمجر هي وتخطو نحوه ليحاول تهدئتها وهو يتراجع للخلف:
-اهدي يا مجنونة إحنا مش في البيت هتعملي إيه!
-بقى أنا أجي ألقاك فاتح بوقك من هنا لهنا وقاعد تتساير معاها…هقتلك يا “يامن”
قالتها وهي تندفع نحوه ولكنه لف من الجهة الآخرى كي يتهرب منها وصوت ضحكاته تكاد تميتها غيظًا لتزمجر مرة أخرى وتحاول الإمساك به ولكنه لم يمنحها فرصة لذلك بل تعمد اثارة اعصابها اكثر بقوله وهو يقف خلف الاريكة يحتمي بها:
-ياروحي انا ميت فيكِ من غير حاجة متتعبيش نفسك وتقتليني
صرخت ودبت الأرض بكعب حذائها:
-بلاش تستفزني…
ادعى البراءة وهو يرفع يده مسلمًا:
-انا معملتش حاجة
-معملتش اومال مين اللي كان بيضحك ويقولها هحتاس من غيرك
شاكسها ضاحكًا:
-البنت جدعة وبعدين انا بتكلم عن الشغل بطلي افترى انا نيتي بريئة
-انت كمان بتمدح فيها قدامي
قالتها بإنفعال وهي تلقي عليه الوسادات الصغيرة الموضوعة على الأريكة التي تحيل بينهم، ولكنه تفاداها جميعًا وفي لمح البصر كان يقفز لجهتها و يكبل خصرها بذراعيه القوية ويسقطها على الأريكة ويسقط فوقها قائلًا ببسمة عابثة مستمتعة تحت مضضها:
-خلاص اهدي يا مغلباني انا كنت بغيظك مش اكتر علشان اشوف جنانك ده لما بتغيري
ظلت تنكزه بصدره وحاولت ابعاده عنها مستنكرة:
-على فكرة بقى انا مش بغير
اعتلى حاجبيه وهو يكبل يدها الاثنين بين قبضته ثم همس بشغب أمام وجهها:
-لأ بتغيري وتصرفاتك كشفتك
صممت على عنادها بأنفاس متسارعة:
-قولتلك مش بغير…مش بغير
احتضنها وصوب ناعستيه نحو عيناها بحيلة يعلم انها ستجدي معها:
-طب عيني في عينك كده
رفعت عيناها لخاصته التي تهيم بها وتخترق دفعاتها لتصرح متأففة وأنفاسه الساخنة تلفح وجهها وتذيب حصونها:
-يووه بقى اه بغير وببقى هتجنن لما بتضحك أو تتكلم مع ست غيري انت بتاعي لوحدي ومش من حق حد يشوف ضحكتك اللي بتخطف القلب دي غيري
اتسعت بسمته وهمس وهو يضع قبلات متقطعة على ثغرها:
-ضحكتي بس اللي بتخطف القلب مش أي حاجة تانية
أجابته وهي تنزع يدها من خاصته وتكوب وجهه القريب منها:
-كل حاجة فيك يا”يامن” بعشقها
-وأنا كمان بعشقك يا قلب وروح “يامن”
قالها بأنفاس لاهثة قبل أن يلتقم شفاهها بقبلة شغوفة أطاحت بدفعاتها..بعد وقت ليس بقليل ابتعد عنها قليلا فهمست :
-إحنا في المطعم وممكن حد يدخل علينا…
هز رأسه وهو يدفن وجهه بين ثنايا عنقها وهمس برغبة وهو ينثر قبلاته على عنقها:
-أنتِ قفلتي الباب بنفسك وبعدين متقلقيش محدش يقدر يطلع طول ما انتِ هنا
حاولت دفعه وهمست راجية:
-لأ يلا بينا نروح زمان داده “منيرة” محتاسة بيهم لوحدها
هز رأسه بعدم اقتناع ورد وهو غارق بعينهاها :
-بقولك ايه انا مش هبعد …
– يا” يامن “انت اتجننت رسمي
-اه اتجننت و لعلمك بقى أنا من ساعة الهرمونات ما راحت لحالها و وحشني التفاوض معاكِ
وضعت يدها على وجهها وقالت وهي تشعر بالعار من ذاتها:
-يووه انسى بقى ده أنا كنت قليلة الأدب وقتها
قرص على شفاهه بحركة عابثة وقال ببسمة مشاكسة:
-وأنا بموت في قلة الأدب ياريتك فضلتي كده علطول
قلبت عيناها بلا فائدة واجابته مُصرة على موقفها وهي تقاوم أنامله
التي تتحرك بحرية:
-طيب ممكن نروح ونتفاوض في البيت ميصحش هنا وبعدين زمان ماما “ثريا”خرجت وانا قلقانة على الولاد
تنهد بعمق ولاح بخاطره سؤال عفوي:
-هي امي راحت فين مش بعادة تخرج لوحدها
تنهدت واجابته:
-النهارده كتب كتاب “رهف”
تقلصت معالم وجهه وازاح بجسده عنها قائلًا وهو يعتدل بجلسته بجوارها:
-ازاي نسيت انا كان لازم ابقى مع “حسن”…
رفعت جسدها بنصف جلسة وتساءلت بريبة:
-وتبقى معاه ليه ماخلاص يا “يامن” هما انفصلوا و”حسن “اتجوز وخلف كمان عايز ايه منها
-ما انتِ عارفاه غبي وممكن يبوظ الدنيا
-مش مامتك اقنعته وكلمته وقالت انه موافق الولاد يقعدوا معاها ومع الدكتور…
– “حسن” متضمنيش رد فعله اه هو وافق بس ده ميمنعش انه هيسيبهم ومش هيخترع اي حاجة بغبائه علشان ينكد عليهم
-بصراحة بقى ابن خالتك ده غريب اوي ده مفروض يعمل خاطر لوقفتها جنبه رغم اللي عمله فيها
-هو مقدر بس صعب عليه يتقبل أن حاجة كانت بتاعته وضامنها تروح من ايده ويملكها غيره
-بس ده كده يبقى حب تملك و أنانية مش اكتر
نهض يهندم ملابسه قائلًا:
-ممكن يكون ده مفهومك أنتِ لكن بالنسبة ليه عمره ما هيشوفه كده
-طب انت هتعمل ايه؟
قالتها وهي تنهض وتعدل من خصلاتها، ليجيبها وهو يتناول هاتفه ومفاتيح سيارته من فوق سطح مكتبه:
-هروح اشوفه فين ومعلش روحي أنتِ للولاد وانا مش هتأخر علشان نتفاوض على رواقة
قال آخر جملة مصحوبة بغمزة من ناعستيه لتتسع بسمتها وتهز رأسها بطاعة يعشقها منها فما كان منه غير أن يطبع قبلة على وجنتها ويصطحبها لسيارتها وإن غادرت انطلق بعدها وهو ينوي ان يعثر على “حسن” قبل أن يخرب الأمر ويفسد سعادتها التي يرى من منظوره الخاص أنها تستحقها.
——————–
أجواء هادئة مفعمة بالأُلفة والسَكينة جمعت الأهل والأقارب احتفالًا بعقد قرانهم داخل أحد بيوت الله حسب رغبتها التي احترمها و لم يريد أن يعارضها بها، فكانت هي ترتدي فُستان أبيض شاهق اللون بوردات من الچيبير المتناثرة وياقة عالية و بأكمامه من الشيفون المُبطن المتسع الذي يزم من عند رسغها وينساب برقة تليق بها…وقد تركت خصلاتها البندقية تنساب بحرية
على ظهرها و وضعت وشاح من نفس اللون عليهم احترامًا لحُرمة المكان وقد اكتفت بالقليل من مساحيق التجميل التي برزت شجن عيناها وملامحها الهادئة.
فكانت بارعة الجمال وكان يطالعها وكأنها اثمن واقيم أشيائه التي فاز بها.
وفور انتهاء المأذون من عقد قرانهم ومغادرتهم للمكان و وقوفهم في ساحته الخارجية قال بسعادة متناهية وهو يعانق يدها ويحتويها بين قبضته وكأنه ود أن يخبرها بطريقة محسوسة أن أقدارهم ترابطت ولن يسمح بتفكهها مهما حدث:
-مش مصدق أن امنية حياتي الوحيدة اتحققت…مبروك يا حبيبي
خجلت من كلمته الأخيرة التي لأول مرة يخصها بها وهمهمت وهي تطرق برأسها:
-الله يبارك فيك يا “نضال”
تنهد تنهيدة تنم عن راحة عارمة وهمس بنبرة صادقة نابعة من صميم قلبه:
-كل يوم وانتِ معايا لازم يتقالي ألف مبروك يا”رهف” انا بجد مبسوط اوي وحاسس اني هطير من الفرحة
رفعت نظراتها إليه وهمست بسعادة تضاهي خاصته:
-وانا كمان مبسوطة اوي
ابتلع ريقه وأخذ يتأمل خجلها بعيون تفضح تلك المشاعر الكامنة التي نفذ صبرها وفاضت فيض مع نظراته لها.
تزامنًا مع اقتراب “ثريا “منهم تقطع ذلك التواصل البصري قائلة وهي تجذب “رهف ” وتقبل وجنتها:
-مبروك يا”رهف” ربنا يسعدك يا بنتي
احتضنتها واجابتها ببسمة ممتنة صادقة:
-الله يبارك فيكِ يا ماما “ثريا “ربنا يخليكِ ليا… فرحتي ما كنتش هتكمل غير بيكِ
ربتت” ثريا” على ظهرها بحنو وما ان فصلت عناقها مدت يدها لتصافح “نضال” وتبارك له ولكنه مال على يدها يقبلها تبجيلًا لها وقال بإمتنان حقيقي:
-الله يبارك فيكِ يا أمي بجد أنا ممنون اوي ليكِ
ربتت “ثريا” على كتفه ودعت لهم:
-ربنا يسعدكم يا ابني ويهنيكم
ذلك آخر ما قالته قبل أن تغادر، لتنظر “رهف” لآثارها وتهمس له:
-انا بحب الست دي اوي يا “نضال”
هز رأسه ببسمة هادئة متفهمة لتستأنف هي بتنهيدة مطولة:
-كان نفسي “سعاد” تبقى معايا اوي وتشاركني فرحتي في يوم زي ده
رد بنبرة حنونة وهو يميل برأسه عليها:
-معلش هي وعدتك هتنزل في اقرب فرصة…
هزت رأسها ببسمة هادئة تزامنًا مع
اقتراب الصغار برفقة “كريمة “التي باركت بدورها لهم وعانقتهم بعيون دامعة من شدة سعادتها، وبعد مباركتها انحنى “نضال” يقبل الصغار الذين هتفوا بصوت واحد:
-مبروك يا “نضال “
لتقول “شيري” بعفوية طفولية اربكتهم:
-انا مش هقولك يا “نضال “تاني هقولك يا بابي علشان انت اتجوزت مامي
شحب وجه “رهف” واندثرت بسمتها وكادت أن تجيب لولآ أنه ناب عنها وقرص وِجنة الصغيرة بمداعبة قائلًا بسلاسة دون أن يجور على حق أبيهم:
-لأ…يا زئردة انا “نضال “وبس… وبعدين بابي بتاعكم هيفضل هو بابي و مفيش حاجة هتتغير
ابتسمت هي لأجابته التي زادت من احترامها له وثقتها بحكمته في احترام هذا الحيز الشائك بحياتها وحياة أطفالها، تزامنًا مع اقتراب “سليم “الذي اتى خصيصًا كي يشارك صديقه الوحيد فرحته:
-مبروك يا دكتور ال…
اعتدل “نضال” في وقفته وقاطعه قبل أن يسترسل باقي جملته:
-الله يبارك فيك يا وَحش وحشتني هو لازم اتجوز علشان اشوفك
رد “سليم ” مبررًا:
-الله غالب ما انت عارف مسؤوليات صاحبك
أجابه “نضال” بغمزة من عينه وهو يتحسس بروز بطن “سليم” بمكر:
-عارف وبان عليك ورق العنب بصراحة
نكزه بكتفه وهدر من بين أسنانه:
-احترم نفسك بدل ما اسيحلك قدام المدام
وهنا تراجع “نضال” ببسمة واسعة ورفع يده مستسلمًا:
-لا يا وَحش أنا أسف الله يكرمك بلاش دبش من بتاعك دي ليلة مفترجة
قهقه “سليم” بخشونة واعتلى حاجبيه الكثيفين حين همس بمكر:
-طب هسكت بس على الله ترفع راسنا يا دكتور الحريم
-أنا كنت بحلم باليوم ده يا” سليم “ولغاية دلوقتي مش مصدق انها بقت ليا
قالها بتنهيدة مُسهدة وهو ينظر لموضعها بين أطفالها التي ألتهت بهم عن حديثهم بنظرة فاضت بلهفة قلبه وتوقه لها ليعتلي حاجب “سليم” من جديد ويلتوي فمه ببسمة نادرة ويحثه بعينه أن يذهب لها وبالفعل ذلك ما فعله فقد أقترب منها وتوسط ابنائها ثم عانق يدها من جديد لتتشابك نظرتهم لثوانِ معدودة وتتحاكى بالكثير قبل أن تنهال عليهم المباركات قبل مغادرتهم التي استقبلوها بحفاوة وببسمات فرحة مستبشرة، أما هناك بأحد الزوايا مالت والدتها على أُذن تلك التي تكاد تموت قهرًا وتتأكلهم بنظراتها:
-شايفة بيبصلها إزاي ده هيكولها بعنيه…
-اسكتي ومتزودهاش عليا
-وازودها ليه يا خايبة ما انتِ اللي سبتيه وكنت مفكرة انك اتجوزتي اللي احسن منه واهوا اتطلقتي وخربتي بيتك وقعدتي في اربيزي من تاني
-يوووه بقى يا ماما كفاية انا هسبقك بدل ما تقعدي تحسريني اكتر من كده
قالت جملتها وهي تسير مغادرة جارة ابنها صاحب الخطوات المتعثرة خلفها،
أما عنهم كان لايشغلهم شيء سوى سعادتهم فقد تشابكت بالفعل أقدارهم ومنحه الله إياها ليكتفي بها هي وأطفالها وها هو يتوسطهم ببسمة واسعة ويسير معهم لسيارته وهو لا يصدق ان تلك الأمنية البعيدة التي كان يظن أن يستحيل تحقيقها قد كافأه الله بها فكانت سعادتهم غامرة لا تفي الكلمات لوصفها حتى انهم كانوا غافلين تمامًا عن نظرات تلك الحاقدة التي توارت بأحد الأركان البعيدة وهي
تهمهم وتلعن حظها إلى أن لفت نظرها وقوف شخص يتوارى مثلها و يترصد ما يدور وبفطنتها تعرفت على هويته فهو يقف مهزوم …فقد راقبت نظراته المتألمة التي استشفت بكل وضوح أنها تقطر بقهرته وحسرته على تلك التي تتعلق بذراع طليقها ويتوسط ابنائها؛ فنعم هي محقة فهو لم يتخيل ولم يتوقع بأبشع كوابيسه أن سيذوق من نفس الكأس الذي أذاقه لها، فالآن فقط شعر بنفس شعورها، فكان يختبأ خلف أحد السيارات بتلصص ويتجنب أن لا يراه أحد يراه كي لا يتشفى به، فكان متهدل الكتفين تحاوطه هالة من الخيبة والخسارة التي يستحقها، ولكن كيف لساخط مثله تقبل خسارته فقد ثارت ثائرته وهو يرى الأخر يشاكس اطفاله التي تكاد البسمة تشق و جههم أثناء مساعدته لهم لدخول سيارته فما كان منه غير أن يشعر بالدماء تفور برأسه ويقرر أن يعكر صفوها وإن كاد يندفع نحوهم ردعته يد قوية هدر صاحبها بأنفاس لاهثة:
-كويس إني كلمت أمي وسألتها عن المكان علشان كنت متأكد إني هلاقيك هنا
زمجر “حسن” غاضبًا وحاول دفعه عنه:
-سيبني يا “يامن”
صمم “يامن” وهو يدفعه معه غير عابئ بعصبيته:
-أهدى الله يكرمك وتعالى معايا
أعترض هو ودفعه بصدره لكي يتركه:
-مش عايز اهدى سيبني
وهنا صرخ “يامن” بوجهه لكي يفيقه من غفوته:
-يا اخي بطل غباء بقى خلاص بقت مراته وعيالك أنت بنفسك وافقت يعيشوا معاها هتروح تعمل إيه متبقاش غبي وتضحك الناس عليك
تبدلت ملامحه الثائرة وتهدل كتفيه بإنهزام بعد أن استوعب الأمر، ليجذبه “يامن “من جديد ولكن تلك المرة لم يعترض بل سار معه وعينه مازالت مُتعلقة بهم بقلة حيلة و بملامح بائسة متحسرة.
لتحين من” هاجر”بسمة ساخرة بعد أن رأت المشهد كاملًا وأدركت أنها ليست الوحيدة التي حصدت ثمار الندم بعد خسارتها الجاسمة.
————–
توقف بسيارته تحت البناية التي يقطن بها وقال ما أن اطفأ المحرك وينظر لذلك الذي يسند رأسه بإنهزام على زجاج النافذة
-“حسن” صلِ على النبي واطلع لبيتك وابنك وبلاش تحسس مراتك بحاجة وتخرب على نفسك
همس “حسن” بنظرات ساهمة:
-أنا السبب يا “يامن” أنا اللي وصلت بينا الحال لكده
حاول “يامن” مواساته قائلًا:
-متلومش نفسك خلاص اللي حصل حصل واهو ربنا عوضك وعوضها وإذا كان على ولادك متقلقش هما في أمان معاها والدكتور شكله ابن ناس ومحترم واكيد هيحطهم في عينيه
ليعقب “حسن” بنبرة بائسة:
-يرضي مين ولادي يتربوا بعيد عني
-“حسن” لو كان وضعك غير كنت قولتلك خد ولادك لكن مراتك هتنغص عليك عيشتك وحتى ولادك مش هيرتاحوا
وصدقني ده انسب حل ليهم
وكفاية أن “رهف” عمرها ما قصرت معاك ولا فكرت تحرمك منهم
وهنا طفرت مخاوفه:
-خايف ولادي يكرهوني وينسوني لما يعاشروا التاني انت مشوفتش بيعاملهم إزاي
– مش هيحصل انت ابوهم ومفيش قوة في الدنيا هتقدر تغير ده وهي اكيد مش هتسمح بكده دي في عز ما كنت منيل الدنيا بعمايلك كانت بتخاف على صورتك قدامهم وهي اللي بنفسها اللي كانت بتقربهم منك وتحنن قلبك عليهم
زفر” حسن “انفاسه المثقلة دفعة واحدة وهو يشعر أن حديثه بمحله ولكن ماذا يفعل بتلك الهواجس التي تنهك عقله من نحوها…تنهد “يامن” وربت على ساقه ناصحًا بعقلانية:
-ارمي اللي فات ورا ضهرك يا “حسن “وسيبها تعيش…هي تستاهل فرصة تانية و انت اللي اخترت حياتك واتجوزت مرة واتنين وخلفت حاول بقى متكررش اخطائك و تحافظ على بيتك وبلاش تخرب حياة الكل بغبائك…وارضى بنصيبك، مراتك على حسب كلامك طبعها صعب بس بتحبك
كان يستمع له بملامح جامدة مبهمة لا يستشف منها اقتناعه من عدمه فكل ما صدر منه أنه أومأ برأسه وببسمة باهتة غادر السيارة ودخل البناية دون أن يعير نداء ” يامن” أي أهمية فما كان منه غير يتنهد بعمق قائلًا وهو ينطلق بسيارته:
-ربنا يهديك يا “حسن” ويصلح حالك
أما هو فقد دلف لشقته ثم توجه مباشرًا لغرفة النوم ليجدها تغط في سبات عميق و الصغير بين أحضانها ليقترب بحركة محسوسة و ينتشله من احضانها ثم يرفعه بين يديه ويتأمل ملامحه التي تشبهه لحد كبير ببسمة حانية متأملة..ثم وضع قبلة حنونة مطولة على جبينه أثناء نومه قبل أن يضعه بفراشه الخاص الذي يقبع في أحد أركان الغرفة…
أفاقت هي فور أن أخذ صغيرها من بين أحضانها وظلت تطالعه بإندهاش وتستغرب دخوله للغرفة فهو غاضب منها بشدة بسبب موقفها من اطفاله حتى أنه يتخذ من الأريكة بالخارج مرقد له منذ أيام وهي لم تهتم بإرضائه بل كانت تلبي كافة متطلباته الحياتية كالمعتاد دون حديث يذكر وتعمدت ترك مساحة الكاملة لعقله كي يتقبل الأمر دون أن تتنازل هي.
ويبدو أنه فعل فكان يحتضن صغيرها قبل ان يضعه في الفراش الخاص به ويدثره بالغطاء وينظر لها بنظرة منهزمة احزنتها ولكنه ثبتت على موقفها وقبل أن تتفوه بكلمة واحدة كان هو ينزع حذائه ويرتمي على الفراش يحاوط خصرها و يدفس رأسه بحضنها قائلًا بنبرة متعبة واهنة:
-احضنيني يا “سميرة”…محتاج حضنك اوي
لم تترد للحظة واستجابت فقد ضمت جسده بحنان قائلة وهي تمرر يدها بين خصلات شعره:
-انت كويس يا “حسن”
لم يجيبها فكان يجاهد كي يقنع عقله بحديث “يامن “الذي مازال يتردد صداه بأذنه فكان الأمر ليس بيسير عليه حتى أنه كان كالمغيب ولم يستمع من الأساس لسؤالها
لتكرر هي:
-حاسس بحاجة طيب
وهنا انتبه لسؤالها وأجابها بسؤال آخر أهب حواسها:
-بتحبيني يا “سميرة”
تنهدت تنهيدة عميقة مطولة ثم اجابته وهي ترفع وجهه لها بواسطة كفوفها:
-أنت جوزي ودنيتي كلها يا أبو علي…هو أه بنختلف ساعات وبتغظني بتصرفاتك لكن اخدت على طباعك وعارفة اتعايش معاها
لاحت منه بسمة ساخرة وتهكم قائلًا:
-كل ده كلام كان ممكن تردي بكلمة واحدة يا “سميرة “وتريحيني
تدللت عليه كي تراضيه بطريقتها التي تجدي معه:
-شكلك عايز تسمعها يا ابو “علي”
أومأ لها ببسمة باهتة لم تصل لبنيتاه القاتمة لتهمس وهي تضم رأسه من جديد لحضنها:
-بحبك ومش عايزاك تزعل مني علشان انا معذورة و من حقي
حانت منه بسمة ممزقة وهو بين احضانها واغمض عينه بقلة حيلة كي ينعم بأحتوائها لحين استكان بهدوء ربما سيحيد عنه في الأحداث القادمة.
———————
اطمأنت على أطفالها داخل غرفهم التي قام بتجيهزها خصيصًا لهم داخل تلك الڤلا الصغيرة التي وقع اختيارهم عليها واتخذوا منها مَسكن لهم.
فحين تأكد من استغراقهم بالنوم سحبها خلفه متلهفًا وما أن دخل بها غرفة نومهم طالعت الفراش بتوتر شديد وهي ترى أحد قمصانها الحريرية التي ضبطهم بذاتها في الخزانة مفرود على الفراش لتبتلع ريقها وتتسائل بتوتر بالغ:
-مين اللي طلع ده!
أجابها بكل وضوح وعينه تفضح لهفته:
-أنا بصراحة عجبني اوي علشان ناعم ورقيق زيك وحسيت إني هيحصلي حاجة لو مشوفتهوش عليكِ…يرضيكِ
قطمت شفاهها واخذت تفرك بيدها بخوف من رهبة الموقف التي هي بصدده فكيف لها أن تلبس قميص بتلك الجرأة بأول يوم معه وكيف ستتعامل معه… هي ذاتها تعلم أنها ستتعود عليه وسيندثر خجلها ورهبتها مع الوقت ولكن رغم عنها تشعر أنها حديثة عهدها و تنتابها تلك القشعريرة وتنفض جسدها حين حاوط ذراعها وهمس بأسمها بنظرات تقطر بلهفته وتوقه لها:
-“رهف”…
قالها وهو يزيح وشاحها ويمرر يده بخصلاتها البندقية، لتتقهقر هي خطوة للخلف وتواليه ظهرها تحاول أن تتمالك زمام نفسها وتتخلى عن توترها لكي تتشجع لمواكبة تلك المشاعر العاصفة التي يلفحها بها، ليتنهد هو ويضمها ليلصق ظهرها بصدره ويهمس وهو يضع قبلة على خصلاتها:
-خايفة مني!
هزت برأسها و تلعثمت:
-مش خايفة بس…
ابتلعت باقي حديثها ولم تستطيع أن تعبر عن شعورها، ليتنهد هو ويديرها إليه ليوجه نظراتها المهتزة بتفهم وبنبرة حانية وهو يداعب وجنتها بحنان أسر قلبها:
-حبيبي أنا معاكِ وعمري ما هفرض عليكِ حاجة، كفاية إني هبقى جنبك
رفعت رماديتها له ببسمة ناعمة تشابه نسمات الربيع في روعة عبيرها فما كان منه غير أن يضمها إليه كي يطمئن قلبه الذي ينتفض بين اضلعه، ويجعله يستكين بقربها، فقد دثرها بين احضانه وهو مغمض العينين بنشوة عارمة، أما هي فكانت مازالت تنتفض لولآ أنه اجلسها معه على الفراش دون أن يفصل عناقه و أخذ يمرر يده على طول ظهرها بحركات حانية مطمئنة خففت من توترها وشعرت بعد بعض الوقت أن كافة افكارها قد بدأت تتلاشى شيء فشيء وكأن شعور النقص المرافق لها استطاعت تعويضه لتوها،
ليهمس هو بجوار أُذنها بنبرة دافئة حنونة خدرت حواسها:
-“رهف” غمضي عينك واتكلمي من غير تفكير وقوليلي أي حاجة حاسة بيها نفسي اسمعك
تنهدت تنهيدة عميقة تنم عن راحة عارمة ثم انصاعت له واسترسلت براحة وهي تبادله عناقه بتلقائية وكأن جسدها يتحرك من تلقائه:
-عارف… في حاجات معرفتهاش غير معاك يا “نضال”…إنت خلتني اكتشف ان في حاجات كتير أهم من الحب علشان تقدر تربط مصيرك بطرف تاني وأولها الراحة والثقة والمودة اللي بلاقيها في كل تصرفاتك معايا والرحمة اللي سَكنا قلبك من ناحية ولادي، وضوحك وتفسيرك لكل حاجة ببساطة حتى من غير سؤالي
بجد حاجة حلوة اوي عمري ما جربتها وهي راحة البال
ورغم خوفي من اللي جاي بس متأكدة أنك هتفضل جنبي وهتقويني…
لتفتح عيناها وتفصل العناق متسائلة بعيون متأملة:
-مش كده يا “نضال”
هز رأسه يؤكد لها بعيون لامعة من شدة سعادته باسترسالها وتسأل بعدها وخضراويتاه تتلهف لجوابها:
-يعني افهم من كده أن شعورك من ناحيتي مش مجرد شعور بالراحة بس! مش كده؟
هزت رأسها وابتسمت تلك البسمة التي تلفح قلبه بربيعها واجابته بصدق نابع من اقتناع قلبها بقرار عقلها:
-اللي متأكدة منه إن اللي فات قبلك ميتحسبش من عمري… لتتنهد تنهيدة مُسهدة وتستأنف وهي تتأمله وصولًا لعيناه الصادقة التي تهيم بها:
– ياريتني عرفتك من زمان يا “نضال”…
تزايد وجيب قلبه وكادت البسمة تشق وجهه من تصريحها فما كان منه غير أن حاوط خصرها بتملك وبتمسك شديد
وكأنه يؤكد أنه لن يخيب رجاءها ليتنهد براحة عارمة ثم يغمض عينه ويميل يسند جبهته على خاصتها هامسًا:
-بحبك يا “رهف”…أنتِ حلم عمري والدعوة اللي ربنا استجاب ليها بعد سنين…
ردت بصدق وهي تستند بكفوفها على ذراعيه مغمضة العينين مثله:
-لو اللي بحسه معاك ده اسمه حب فأنا محبتش غيرك يا “نضال”
فتح عيناه التي دمعت من شدة سعادته ثم همس ومازال يستند بجبهته على خاصتها:
-هنعوض العمر اللي فات واوعدك هعمل المستحيل علشان اسعدك
هزت رأسها وفرت دمعة من عيناها متأثرة بوعده الصادق ثم همست بثقة وقد تلاشى توترها وخوفها وحل محله راحة عارمة:
-متأكدة أنك هتعمل كده…
تعالت وتيرة أنفاسه وعينه أخذت تتفرس بوجهها وصولًا لثغرها، لترتبك هي كونها تعلم انه لن يبادر إلا برغبتها كما وعدها، بادرت هي وتشجعت حين تعلقت بعنقه ببسمة رغم رقتها إلا انها كانت اكثر من مغوية بالنسبة له، ليلبي تلك الدعوة منها ويميل عليها يلتقم شفاهها بقبلة شغوفة مُجأجأة بتلك المشاعر الكامنة التي يشعر كل منهم انها مرتهم الاولى في خوضها، فكانت هي تشعر بذلك الكمال الذي عوض نقصها أما هو فكان يشعر أنه النعيم بقربها ويقسم أنه لن يدع شيء يعكر صفو حياتها فسوف يقف بصدد أي شيء يخترق تلك الحصون الأَمنة التي سيشيدها حولها هي وابنائها.
————-
حلقاته برجلاته يوم ورا يوم يبقى بشنبات
يتجوز على اد حالاته ويخلف صبيان وبنات
ونقولهم من حبنا يا رب يا ربنا
انشالله تبقوا ادنا يا رب يا ربنا
يا رب يا ربنا تكبر وتبقى ادنا
تلعب وتجري زينا
آآآآآه…آآآآه
اغنية متوارثة مستوحاة من التراث كان يرددها الجميع بحماس غير عادي وبسعادة هائلة احتفالًا بمولودتهم، فكانت “ميرال” تحمل ابنتها وتسير بها في أرجاء ساحة القصر ويتبعها الجميع بشموع مضيئة من باب التفاؤل بالنور و كرمز للحياه.
فكانت “شهد” و”مُحبة” هم من تولوا تنفيذ تلك الطقوس بحذافيرها فقد تولت “شهد” دق الهون النحاسي بجانب الصغيرة وهي توصيها تلك الوصايا الشهيرة:
-اسمعي كلام امك
واسمعي كلام ابوكِ
واسمعي كلام عمتك
وكادت تستأنف لولآ أن “فاضل” تدخل معترضًا وهو يحمل الصغيرة ويوجه حديثه لها وكأنها سوف تستوعب ما سيقوله:
-متسمعيش كلام حد غير كلام جدو “فاضل”وملكيش دعوة بكلام عمتك
قهقه الجميع على حديثه واستحواذه عليها طوال الاحتفال في حين كان هو يضرب كف على أخر ببسمة واسعة قبل أن يهدر “فاضل” بإصرار وعلى وجهه بسمة واثقة:
-بتضحك على ايه دي حفيدتي أنا لوحدي ومش هتسمع كلام حد غيري
اقتربت “ميرال” منه و وضعت قبلة على وجنته قائلة:
– انا كده هغير من “چوري” يابابي
أجابها “فاضل” ببسمة حانية:
-أنتِ بنتي حبيبتي وأول العين ما رأت يا”ميرال”
وبعد أن جلس الجميع وانفض التجمهر من حولهم اعترض “محمد” بمشاكسة وهو يرفع سبابته:
-لعلمك بقى ياعمي انا اضحك عليا انت خدت البنت وامها مني وانا ساكت بس علشان بحبك
قهقه “فاضل” واجابه بمحبة خالصة:
-وانا كمان بحبك يا ابنى ربنا يعلم أن غلاوتك عندي زي غلاوة “ميرال” بالظبط
قبل “محمد” رأسه تبجيلًا له ثم قال:
-ربنا يخليكِ لينا ياعمي ويديك الصحة
ليسترسل “فاضل” بسعادة:
-ويخليكم ليا ياولاد أنا فرحتي بيكم متتوصفش وعارف يا ابني أنا بحمد ربنا أنه رزق بنتي بحد زيك وبأخلاقك…انت معدنك نادر الوجود يا”محمد” وأنا فخور أنك جوز بنتي
اتسعت بسمة “محمد “من مدحه له ثم قال بأمتنان:
-ربنا يجبر بخاطرك ياعمي ويقدرني واكون عند حُسن ظنك دايمًا
-انا واثق فيك يا ابني وعلشان كده مأمنك على بنتي وشغلي
ليحاول “محمد” أخذ الصغيرة منه قائلًا بخفة:
-طب بالنسبة لبنتي أنت مذكرتهاش
تراجع “فاضل” خطوتان وابتعد عن حيز يداه قائلًا:
-لأ إلا دي…دي حفيدتي انا ولو مش عاجبك اخبط راسك في الحيطة
قالها بإصرار حقيقي قبل أن يسير بالصغيرة من أمامه كي يرحب بباقي الضيوف
ليهز هو رأسه بلا فائدة ويقول لها:
-ابوكِ استولى على البنت
تعلقت بذراعه و واسته بعيون راجية:
-معلش هو فرحان بيها سيبه يا”حمود”دي كانت امنية حياته يشوف حفيد ليه
-على فكرة بقى أنا بهزر انا فرحان لفرحته ومقدر شعوره وتعلقه بيها…وبعدين فكرة أنه استولى عليها دي هتبقى فرصة هايلة بعد كده علشان ابقى استفرض بيك ياحلو
قال آخر جملة بهمس مغري وهو يميل على أُذنها لترفع هي رأسها وتشهق بخفوت وهي تنظر حولها:
-“حمود” وبعدين معاك الناس تاخد بالها وبعدين بطل و تعالى معايا نرحب بالضيوف مع بابي و نوزع العلب
لم تمهله وقت للاعتراض فقد سحبته معها لأصدقائها الذين انهالوا عليهم بالمباركات الفرحة الصادقة ومن بعدها انشغلت “ميرال” بصغيرتها في حين
جلست “نادين” برفقة”نغم” ويواجهها “يامن” و”فايز”من الجهة الآخرى منشغلين بتجاذب اطراف الحديث.
فقد مالت” نغم ” على أُذنها ونصحتها قائلة:
-قوليله واخلصي
ردت بتردد:
-خايفة من رد فعله
-متخافيش قوليلو واتوكلي على الله وإن شاء الله احساسي هيبقى في محله
-وافرضي بهدلني وقالي مش وقته
-“نادين” ارحميني انتِ متأكدة انه مش هيعمل كده وبعدين انا سايبة “فايز” وقاعدة جنبك من ساعة ماجيت وكلها دقايق وهمشي علشان متأخرش زي ما وعدت بابا سيبيني اروح اتكلم معاه كلمتين دي أول مرة اخرج معاه من غير بابا
-باباكِ صعب اوي يا”نغم” ده كتب كتابك و بقى جوزك مفروض يفك حصاره عليكم شوية
نظرت لموضعه ببسمة هادئة ثم قالت بتنهيدة:
-بابا شايف أن ده الصح وانا بصراحة مقدرش اعارضه علشان أكيد عنده حق وبعدين عارفة إيه اللي مستغرباه بجد؛ أن “فايز” نفسه مش معترض ومتفهم خوف وحرص بابا عليا لأبعد حد ده حتى وافق على اقتراحه وهنروح انا وهو نعتمر بعد الفرح
-ربنا يسعدكم يا”نغم “ويتمم فرحتك على خير
-يارب يا”نادين” يارب
قالتها بتنهيدة حالمة وهي تنظر له لتتسع بسمة “نادين” وتشاكسها:
-عارفة لو “ميرال” قاعدة كانت استلمتك زي ما كنتِ بتعملي معاها … فقومي احسن و روحي لجوزك بدل ما اندها ونحفل عليكِ
ابتسمت “نغم” وانسحبت قائلة:
-لأ وعلى ايه ربنا أمر بالستر…انا هروح وهبعتلك جوزك
هزت رأسها وإن اتى هو وجلس بجوارها، قال بريبة:
-كنتِ بتتوشوشي أنتِ و”نغم “في إيه أنا مش مرتحالك يامغلباني
ابتلعت رمقها وهزت رأسها:
-ابدًا يا حبيبي كنا بنتكلم عن “فايز”
أومأ وعقب على حديثها:
-على فكرة “فايز ” طلع حد كويس اوي
سَعدت برأيه الذي تغير، وكادت تنطق لولآ سؤاله:
-كلمتي امي واطمنتي على الولاد
هزت رأسها بنعم وببسمة متوترة حاولت أن تمهد:
-السبوع حلو أوي يا “يامن” حمسني اعمل زيه المرة الجاية
-المرة الجاية ايه يا”نادين” لسه بدري علشان نفكر
زاغت نظراتها وتلعثمت بترقب:
-مش بدري اوي يعني ولا إيه…
-مش فاهم!
تلجلجت وهي تتهرب من نظراته:
-أصل… يعني انا…
استراب من هيئتها المتوترة وقال بترقب لجوابها:
-انتِ ايه يامغلباني اتكلمي!
-انا…انا حامل
قالتها بنفس واحد وبأندفاع وهي تخفي وجهها بكفوفها تتوجس خِيفة من ردة فعله الذي كان أنه رمش عدة مرات غير مستوعب ما نطقت به و تأهب بنظراته واعاد سؤالها وهو يجذب يدها لكي يكشف عن وجهها:
-أنتِ ايه قولي تاني كده؟
قطمت شفاهها بخوف وهي تكرر:
-حامل…يا “يامن”
نمت بسمة على ثغره لم تنتبه لها حين تسائل بعدم تصديق:
-انتِ بتهزري صح!
تنهدت بضيق وهزت رأسها المنكسة بلا وقالت كي تخفف وطأة الخبر عليه:
-اناعارفة إني وعدتك نأجل لما الولاد يشدوا حيلهم شوية بس معرفش ده حصل أزاي… انا آسفة
قالت أخر جملة بخزي كونها أخلت بوعدها بسبب إهمالها في احتياطها
ولكنه دائمًا ما يفاجأها بردة فعله فلم يزيدها عليها بل رفع ذقنها بواسطة انامله وقال بتلك البسمة البشوشة الدافئة وهو يكوب يدها بين خاصته:
-بتعتذري وبتبرري ليه!
اه احنا كنا متفقين بس أنا عمري ما أقدر ألومك ولا اعتب عليكِ دي إرادة ربنا
لتتسأل بتوجس:
-يعني انت مش مضايق مني
نفى برأسه واتسعت بسمته بسعادة صادقة وربت على يدها كي يدعم حديثه المطمئن لها:
-بالعكس أنامبسوط جدًا علشان ربنا هيكرمني بحتة كمان منك
ولا انتِ نسيتي انا قولتلك عايز نص دستة خمس بنات و ولد وبعدين أمي كانت دايمًا بتقول الولاد لما بيجوا ورا بعض مش بتحسي بتربيتهم والحياه بتترتب بدري لما يكبروا مع بعض
لتتسائل وهي تتناوب نظراتها على عيناه تحاول تستشف صدق سعادته:
-بجد مبسوط يا “يامن”
أجابها بكل ثقة:
-بجد ياقلب وروح “يامن”
ابتسمت تلك البسمة التي لطالما اوقعته أسير في عشقها واحتضنت ذراعه براحة واسندت عليه رأسها، ليربت هو على يدها ويهمس بمجون وعيناه تفيض فيض بعشقها:
-عارفة بقى ايه اكتر حاجة محمساني للحمل ده…
تأهبت لإجابته باهتمام ليستأنف هو بغمزة ذات مغزى من عيناه الناعسة:
-أن الهرمونات هترجع تاني وهنرجع للتفاوض السلمي والامجاد هتعود
نكزته بخفة وقالت بلافائدة:
-رخم وبتموت في قلة الأدب
وهنا همس بمكر بالقرب من أُذنها:
– بذمتك هو في احلى من قلة الأدب
دفنت وجهها بذراعه وهزت رأسها ليقهقه هو على حرجها الذي يتأكد انها ستتخلى عنه بعد ايام بفضل حملها.
وهنا كان ختامها؛ فقد نال كل من ابطالنا ما يستحقه بعد أن تلاشى الغمام عن بصيرتهم وادركوا اخيرًا أن لا توجد خطايا بريئة بل الخطيئة تظل خطيئة مهما تعددت مبرراتها…
تمت
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)