رواية خطايا بريئة الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم ميرا كرم
رواية خطايا بريئة الجزء الرابع والعشرون
رواية خطايا بريئة البارت الرابع والعشرون
رواية خطايا بريئة الحلقة الرابعة والعشرون
“يحدُثُ أحيانًا أن ندفع الثّمن مرّتين، مرّة للحصول على الشيء، وأخرى للتّخلص منه.”
– مي زيادة
——————
الخواء هو كل ما يشعر به، لا يفعل شيء إلا أنه يمنح ذاته فترة سبات كي يسترجع أحداث الماضي وياللعجب! لايأتي بذاكرته إلا كل شيء جميل يخصها يتذكر حنانها معه وتفهمها له وتغاضيها عن الكثير في سبيل إرضائه فكان هو أول أولوياتها دائمًا ولكن بكل أسف لم يقدر ذلك يوم بل كان ساخط عليها وعلى كل شيء ولكن الآن حل محل ذلك السخط العظيم ندم أعظم يكاد يفتك به فكان ينفرد بذاته وسط ذلك الظلام الدامس الذي يسود غرفة نومه يتمدد على الفراش بجسد هزيل أفتقد بعض الكيلو جرامات ووجه شاحب تحجب رؤيتك عنه تلك الذقن المستطالة بإهمال دون عناية لعدة أيام، وعيون غائرة منهكة من شدة التفكير يركزها على سقف الغرفة وهو يلتهم سجائره وكأنه يروح عن ذاته بها وينفث بها عن توابع سخطه، وبالطبع الأمر كان يصيبها بالضجر الشديد لذلك لم تصمت بل واجهته حانقة وهي تقتحم الغرفة وتضغط على زر الإضاءة كي تضيئها وتكسر تلك العتمة التي أصبح لا يفارقها:
-وبعدين بقى في القرف ده انت بتعمل في نفسك كده ليه!
أنا زهقت من حبسة البيت تعالا نخرج أو نسافر كام يوم نغير فيهم جو
رشقها من طرف عينه وأجابها بوجوم وهو يضع ذراعه حول عينه يحجب الضوء عنها:
-الجلسة بتاعة القضية كمان كام يوم عايزاني اخرج واسافر أزاي وسط اللي أنا فيه ده أنتِ معندكيش دم مفروض تراعي شوية وتقدري
قلبت عيناها بسأم ثم تقدمت منه جالسة بجواره قائلة بهمس مغري أمام وجهه التي كوبته لتوها:
-عندي دم وعلشان كده بقولك لازم تخرج من الحالة دي وتغير جو وانا أوعدك هنسيك اسمك مش بس المسهوكة بتاعتك
نفى برأسه وازاح بوجهه بعيدًا عن مرمى وجهها قائلًا وهو يبعد يدها بيد وباليد الآخرى يطفئ سيجارته داخل المنفضة التي تعتلي الكومود ناهضًا يوليها ظهره:
-“منار”أنا مش في ال Mood ومليش نفس لأي حاجة.
رغم غيظها وتخييب آمالها؛ إلا أنها لن تستسلم بتلك السهولة فلابد أن تستغل الموقف لصالحها لأبعد مدى لذلك نهضت تحاوط خصره هامسة:
-روحلها يا “سونة” وحاول تقنعها تتنازل
-مش راضية حاولت كتير بس هي مصممة
-خلاص روح لخالتك واترجاها تقنعها أنت بتقول انها بتحبها وبتعملها خاطر
حل يدها من على خصره ومال على المنضدة يتناول علبة سجائره من جديد يلتقط احدهم ثم يقوم بإشعالها قائلًا بخزي وهو يزفر دخانها:
-مكسوف منها ومن “يامن” آخر مرة انفعلت وقولت كلام بايخ معرفش طلع مني ازاي…ده غير أن خالتي يوم المستشفى غلطتني فمستحيل هتتعاطف معايا
زفرت هي في ضيق ثم حرضته:
-حاول تاني مش هتخسر حاجة…انا بصراحة مش عارفة هي ازاى تتبلى على أبو ولادها كده وتبقى عايزة ترميك في السجن كده بجد قليلة الأصل موت يا “سُونة” كل ده علشان اتجوزت عليها طب إيه المشكلة هو أنت أول راجل يعملها
تعلقت بُنيتاه القاتمة بها لثوانِ معدودة يحاول أن يستسيغ حديثها ولكن فتات ضميره صرخ قائلًا:
-هي ما اتبلتش عليا يا “منار” انا فعلا كنت السبب في نزول البيبي وحتى في جوازي منك معطتهاش حق الاختيار ده انا فرضته عليها واستقويت وكنت فاكر أنها قليلة الحيلة و هتقبل مع الوقت
اغاظها حديثه بشدة لذلك صاحت بنبرة مُحرضة تقطر بالحقد لتلك الماكرة التي أفسدت عليها حياتها:
-انت بتبرر ايه؟ هي مش ضحية متخليهاش تقنعك بكده؟
أنت راجل وده حقك… هي بقى اللي غبية واعترضت على شرع ربنا… وإذا كان على البيبي أنت مكنتش تقصد
أغمض عينه بقوة وارتمى على أحد المقاعد فحديثها يشبه صوت عقله بشأنها ولكن كان صوت ضميره أعلى بكثير وهو من طغى عليه حتى أن سخطه العظيم من تصعيدها للأمر أندثر و وجد ببواطنه ألف سبب يدفعها لذلك فهو حقًا يفتقدها وبشدة رغم أنه يكابر للآن ولم يصرح بذلك ولكن عندما أبتعدت عنه وشعر أنها مقتته وتود أن تتخلص منه فقط حينها شعر كونها تمثل شيء كبير له لا يمكن الاستغناء عنه، فحياته دونها خاوية لم يعد بها دفء ولا سَكينة كسابق عهدها
-“سونة” سرحت فأيه؟
انتشله صوتها أثناء جلوسها على ساقيه وتلك القُبلات التي كانت تضعها على وجهه بكل إغواء منها مستمرة بهمسها كي تجعله طوع لها:
-أنا بس اللي بحبك وخايفة عليك وعلى مصلحتك يا “سُونة” هي عايزة تأذيك ومتستهلش تفكر فيها…
كان حديثها يطابق صوت عقله بشدة ولكن فتات ضميره حاول إقناعه أنه هو من أوصلها لذلك.
تمادت هي غير عابئة بتلك الثورة بداخله أما هو فكان يشعر بالضجر مما تفعله فليس بمزاج يسمح له أن يتودد لها حتى أنه كاد يتأفف ويبعدها عنه ولكنها كانت ماكرة تعرف كيف تسلب عقله بأفعالها وأسلحتها وحيلها وبالطبع هو كان أضعف من أن يقاوم ليندرج معها بما تريد جعلتها تظن أنها ستغنيه عن كل شيء بها؛ غافلة كون استجابته لها بعيدة كل البعد عن أفكارها.
—————-
مرت الأيام عليها بصعوبة بالغة حاولت إلا تغادر المنزل مرة آخرى متخوفة أن تراه ولكن هاهو أتى موعد اختباراتها ومجبرة هي على الذهاب لجامعتها وبالطبع ستراه هناك ولذلك كانت التوتر والقلق يسيطر عليها لدرجة انه بعد أن اوصلها “يامن” إلى هناك هرولت لداخل القاعة وجلست بمقعدها وهي تتلفت يمين ويسار بشكل مضطرب تخشى رؤيته إلى أن
اجفلها صوت “منه” صديقتها قائلة:
-اخيرًا شوفنا من تاني “نادين الراوي” فينك يا “نادو” مفتقدينك جدًا
ردت بمجاملة و ببسمة عابرة:
-اهلًا ازيك يا “منه”
-تمام انتِ اللي أزيك دي الشلة كلها هتجن عليكِ من اليوم إياه
هزت رأسها وأجابتها بإقتضاب شديد:
-انا كويسة…
مالت عليها “منه” وهي تضع يدها تواري فمها الذي يهمس بأُذن قائلة:
-ده انتِ فاتك كتير يا “نادو” واخبار الشلة كلها عندي
هزت “نادين” رأسها واجابتها بعدم اكتراث:
-ميشغلنيش ومش عايزة اعرف حاجة يا “منه”
زفرت “منه” بإستياء بعدما لاحظت ردودها المقتضبة وتغيرها الواضح كوضوح الشمس ثم قالت قبل أن تجلس بأحد المقاعد القريبة:
-واضح انك مش في الMood ومش عايزة تتكلمي…على العموم براحتك اشوفك بعدين
تنهدت هي بإرتياح عندما جلست بعيد عنها واخذت تهدأ روعها وتطمئن ذاتها داعية الله أن يمنحها القوة اللازمة كي تتخطى ذلك الأمر وتصلح ما ارتكبته بحق ذاتها قبل الجميع.
ثوانِ معدودة وكان هو أمامها يطالعها بنظرات مريبة جعلت الدماء تتجمد بأطرافها ولكن لحُسن حظها مقعده كان بعيد عنها لذلك تنفست الصعداء وحاولت أن تستعيد ثباتها كي تستطيع أن تؤدي اختباراتها،
وبالفعل بعد مرور ساعة ونصف من الوقت المقرر انتهت وغادرت ولكنه كان بالمرصاد لها حين لحق بها هاتفًا بأسمها عدة مرات مما جعلها تتجمد بأرضها وكم تمنت لو انشقت الأن وابتلعتها حين استأنف:
-ايه يا “نادو” متهيئلي قولتيلي هنتكلم ولا رجعتي في كلامك
أبتلعت غصة بحلقها واجابته بثبات تحاول أن تتهرب من مواجهته:
-انت اتجننت يا “طارق” أزاي تنادي عليا كده وتلفت النظر لينا…
اجابها بنفاذ صبر:
-مبقاش يهمني وبعدين اعملك ايه مش عارف أوصلك وعايز اتكلم معاكِ
-مش وقته يا “طارق”
-لأ وقته انا هتجن وأنتِ ولا على بالك ولازم نتكلم ودلوقتي
زاغت نظراتها ومررت يدها في خصلاتها تحاول أن تجد حيلة مناسبة لتمهد له الأمر ولكنه لم يمهلها وقت لذلك بل هدر بنبرة نافذة:
-بتدوري على حجه مش كده علشان تضحكي عليا بيها
نفت برأسها وقالت أول شيء جاء برأسها:
-حجه ايه! لأ كل الحكاية أن “يامن” بعد اليوم إياه وهو علطول معايا ومش بيفارقني ده غير انه بقى يشك في كل تصرفاتي علشان كده مش بعرف أكلمك
علقت سوداويتاه بها لثوانِ معدودة يحاول أن يستشف صدق حديثها وبالفعل فعل و فَطن لألعيبها…أما هي فكانت رغم كم التوتر التي تشعر به لكنها تماسكت وقالت بتمهيد حثيث:
-“طارق” عايزاك تعقل وتبطل تراقبني أنت بقيت بتوترني
ارتفع جانب فمه ساخرًا وصرح بتلك الاستنتاجات التى توصل لها:
-أنا مش مرتحلك على فكرة وحاسس أنك متغيرة، صوتك، ونظرة عينيكِ وحتى لبسك وتسريحة شعرك مش شبه “نادو” اللي أنا اعرفها اكيد في سبب قوي للتغير الجذري ده…غير شك الغبي ده فيكِ
اغمضت عيناها بقوة تستجمع شجاعتها وتستعيد قوة شخصيتها قائلة:
-اسمع مفيش أسباب بس الوضع كله مبقاش عاجبني أنت تصرفاتك كلها غبية و انا مش ناسية جرأتك يوم Nightclub… وبصراحة أنت مجنون وبقيت أخاف منك
تخوفت أن تخبره بعد أن رأت بأم عينيها توابع غضبه حين باغتها سابقًا داخل السيارة وارعبها بوعيده، فلم تملك تلك الشجاعة كي تخبره أن كافة قناعاتها وأفكارها السابقة كانت واهية وبالطبع لن تتجرأ بتاتًا أن تخبره أنها تعشق الآخر وستتمم زواجها منه بعد عدة ايام فهي لا تضمن ردة فعله ولذلك كانت تحاول أن تستخدم ذكاءها كي تحاول إقناعه بكل الاسباب الآخرى كي تحيد عن السبب الحقيقي، ولكن بالطبع الأمر لم يعجبه بتاتًا لذلك جز على نواجذه وهدر بنبرة غاضبة تقطر بغيرته:
-ايه المشكلة ولا هو حلال ليه وحرام ليا؟
قلبت عينيها بعدما تفهمت إلى ماذا يرمي ثم قالت بإندفاع بنبرة تحمل فخر ودفاع مستتر أغاظة بشده:
-هو جوزي
ابتسم بسمة مسمومة بغضب أعمى وهسهس متهكمًا:
-غريبة… مقولتليش ليه كنت بسايره كالعادة دلوقتي بتدافعي عنه وعن سُلطته الجبرية عليكِ بكل رضى…اتغيرتي كتير يا “نادو” وتغيرك ده مش مطمني
تأففت هي بثبات وبنبرة قوية كي يكف عن تلك التهكمات الصائبة:
-“طارق” لو سمحت انا اعصابي تعبت منك ومبقتش مستحملة
هز رأسه بحركة غير متزنة بالمرة تنم عن غضب عظيم وعقب بملامح لا تفسر:
-مش هيحصل يا “نادو”
جعدت حاجبيها بتوجس من تهديده المبطن لها الذي أوضحه بنظرات مشتعلة وبنبرة تقطر بالوعيد:
-مش “طارق المسيري” اللي يتلعب بيه ولو كنتِ فاكرة أنك هتخلصي مني بالسهولة دي تبقي بتحلمي
دار بؤبؤ عيناها برعب من تهديده المتكرر وشحب وجهها وإن كادت
ترد اتاها صوت صديقتها
-“نادين” واقفة مع البني آدم ده ليه؟
قالتها “نغم” بجدية شديدة وهي ترشق “طارق” بنظرات متدنية اغاظته للغاية وخاصًة حين وجهت حديثها له بنبرة قوية مُحتدة جعلت الانظار تتلفت لهم:
-وأنت واقف ليه كده مش نبهتك قبل كده تحترم نفسك وملكش دعوة بيها
جالت “نادين” بعيناها محيط المكان ولاحقت الموقف:
-“نغم” الله يخليكِ متكبريش الموضوع كل الحكاية أنه كان بيسألني على حاجة وجاوبته خلاص.
تناوبت” نغم” نظراتها المشككة بينهم وهدرت وهي تلوح له بيدها:
-طيب مستني ايه أتفضل
قلب عينه بغيظ وقد لعنها بسره ربما للمرة الألف بعد المائة ثم قال من بين اسنانه:
-ماشي همشي بس لسة للحديث بقية يا” نادو”
ذلك آخر ما تفوه به قبل أن يتركها تزفر بإرتياح وتتمسك بذراع “نغم” مغمضة العينين وكأنها تستجمع ذاتها، نظرت “نغم” لموضع يدها المرتجفة التي تتشبث بها ولاحظت شحوب وجهها لتسألها بتوجس:
-على فكرة انا مش مصدقاكِ ومتأكده أن في حاجة مريبة أنتِ مخبياها عليا
هزت رأسها وحاولت أن تتماسك كي لا تشعرها بشيء قائلة:
-مفيش حاجة غير اللي قولتهالك وبلاش طريقتك دي الله يخليكِ انا اعصابي بايظة لوحدها وعايزة أروح
شعرت “نغم” بالريبة اكثرمن تصرفاتها وردود أفعالها مما أكد لها أنها تخفي أمر جلّل يصعب عليها التصريح به لذلك طمئنتها قائلة وهي تربت على ذراعها:
-“نادين” اتكلمي وصارحيني متخافيش…لتستأنف مستفهمة بعقلانية شديدة:
-الشاب ده لو بيضايقك بأي شكل مينفعش تسكتي ولازم توقفيه عند حده احكيلي وهنشوف حل مع بعض
نفت برأسها مستنكرة وهي تقطم شفاهها تكتم انين قلبها فليس كل شيء بداخلها تستطيع البوح به وبالرغم من كون “نغم” تتفهمها وتوجهها للطريق الصحيح في كل مرة تخطئ بها ولكن الآن لا تعلم هل ستتفهمها ايضًا أَم ستتحامل عليها وتوبخها وتزيد أعبائها لذلك قالت كي تفر من ضغطها على أعصابها بنبرة صدرت منها دون قصد متلعثمة:
-مفيش حاجة من دي…متكبريش الموضوع…انا عايزة أمشي زمان “يامن” جه ومستنيني…سلام
قالتها وهي تخطف قبلة من وجنة الآخرى وتركض هاربة بينما “نغم” فكانت تشعر بشعور مقبض يداهمها وهي تتطلع لآثارها وكم دعت الله أن تكون كل شكوكها بغير محلها.
——————-
كان ينتظرها يتلهف كي تطمئنه وها هي تركض إليه وتصعد بجواره ليتساءل بقلق:
-هااا عملتي ايه طمنيني؟
اجابته ببسمة باهتة:
-الحمد لله متقلقش
زفر بأرتياح بينما هي استأنفت بمشاعر جارفة وهي تتمسك بأناملها المرتعشة كف يده وكأنها تتأكد أنه مازال معها و توده ينعمها بتلك الطمأنينة الدائمة التي يهددها ذلك المقيت:
– على فكرة وحشتني…
لاحظ رجفتها وفسر الأمر كونه توتر عادي بسبب الإختبارات لذلك كوب يدها براحتيه بإحتواء وقال ببحة صوته المميزة التي تعشقها وتشعر أنها تنفذ لقلبها:
-أنتِ وحشتيني أكتر عارفة بقالك أد أيه بعيد عني انا عاددهم بالدقيقة يا مغلباني
هامت بوجهه وبتلك الناعستين الدافئة التي تشملها ثم قالت بنبرة معذبة وبقلب يخشى الفراق:
-أوعدني أنك متبعدش عني وان مفيش حاجه هتفرقنا غير الموت يا “يامن”
جعد حاجبيه مستغربًا ذلك الخوف الذي يسكن عيناها ويفوح من حديثها، وطمئنها وهو يرفع كف يدها واضع قبلة مطولة بداخله:
-أوعدك يا قلب يا “يامن” بس علشان خاطري بلاش سيرة الموت
هزت رأسها بحركة بسيطة وعيناها تغرغر بالدمع فحقًا تعشقه ولا تريد خسارته ولكن كيف الفرار من توابع أفعالها،
لاحظ غيوم عيناها و سألها بإسترابة:
-“نادين” مالك انتِ بقالك كام يوم مش عجباني وعلطول سرحانة أنا مقدر أن الأيام دي مضغوطة بس مش عارف ليه حاسس ان في حاجة شغلاكِ وعلطول موتراكِ
حاولت أن تستعيد رباط جأشها وقد اخفت دمعاتها سريعًا مستنكرة:
-حبيبي مفيش…انا بس أعصابي مشدودة بسبب المذاكرة
تنهد تنهيدة مطولة ثم قال محفزًا إياها:
-هانت يا حبيبتي خلاص كام يوم وكل ده هيعدي وساعتها هدلعك اخر دلع وهاخدك ونسافر أي حتة تشاوري عليها علشان تريحي اعصابك
ابتسمت بإمتنان بينما هو قرص وجنتها بخفة قائلًا:
-ايوة كده اضحكِ خلي شمسي تطلع
اتسعت بسمتها تلك التي لطالما أوقعته بها رغم بهوتها الآن و قطمت شفاهها بخجل، مما جعله يهيم بها بتنهيدة مُسهدة هامسًا بعبثية تامة:
-يالهوي هو في جمدان كده…
نكزته بكتفه كي يكف عن إخجالها بينما هو شاكسها وهو يرفع يده داعيًا:
-يارب قويني وعدي الكام يوم دول على خير أنا مش عايز اتهور
هزت رأسها بلافائدة بينما هو استرسل وهو يشعل مقود السيارة:
-ماشي يا مغلباني …وعلى فكرة قبل ما انسى خالك “سعيد” كلمني وقلق عليكِ لما لقى تليفونك مقفول، بس انا طمنته وقولتله أني هخليكِ تكلميه
أومأت له بينما تساءل هو مستغربًا:
-بصراحة مش عارف ليه قافلة تليفونك لغاية دلوقتي ومش لاقي سبب مقنع لده
خار قلبها وبررت متلعثمة:
-كنت قفلاه مش عايزة حاجة تشغلني…لتنكس رأسها وتستأنف وكأنها أدركت أن لا فائدة من الهروب:
-بس خلاص هفتحه لما أروح وهكلمه أصلًا هو وحشني أوي هو وطنط “هانم” أنا فعلًا بقالي مدة مكلمتوش وليه حق يقلق
أومأ لها بتفهم كعادته وببسمة هادئة حانية وانطلق بها، غافلين عن ذلك المتربص الذي كان يقف على بعد منهم يراقب كل شيء وينظر لآثارهم بعيون حاقدة ولم ينتبه إلا عندما ربت “فايز” على كتفه قائلًا:
-وبعدهالك يا صاحبي ما تفكك منها
جز هو على نواجذه وأخبره بإصرار مقيت:
-بحبها…
حانت من “فايز” بسمة هازئة وقال بِفطنة:
-“طارق” أنت مبتعرفش تحب متضحكش على روحك أنت بس متغاظ علشان البت شوكتها قوية عليك ومعرفتش تكسر منخيرها وسلمت لواحد تاني غيرك، اللي أنت فيه ده مش حب؛ انت بس اتعودت أن مفيش حد ينتصر عليك ولا ياخد حاجة منك ويطلعك خسران
تقلصت معالم “طارق” واستنكر قائلًا بكل غرور وعنجهية:
– وحتى لو كلامك صح أديك قولتها مش” طارق المسيري” اللي يتلعب بيه ويطلع خسران من أي لعبة
هز “فايز” رأسه بلا فائدة بينما استأنف “طارق” متسائلًا:
-هي لسة جوة؟
تفهم “فايز” من يقصد بحديثه ليجيبه حانقًا:
-ايوة مخرجتش
-يبقى ننفذ اللي اتفقنا عليه…
زفر “فايز” بعدم رضا واومأ له بينما هو نمت بسمة منتشية على جانب فمه لا تنبأ بالخير بتاتًا
—————–
أنهت اختبارها واول شيء فعلته كانت تهاتفه وما أن أتاها صوته الأجش قالت بسعادة عارمة:
-“حمود” خلصت بجد مبسوطة أوي أن أول يوم عدى بسلام
أجابها هو من الطرف الأخر:
-طمنيني الأول عملتي ايه؟
-الحمد لله حليت كويس واخدت كل الوقت وراجعت اكثر من مرة
-طيب الحمد لله انا كنت قلقان ومصدقت خلصت شغل وجيت علشان ألحقك
أتسعت عيناها وتسألت وهي تهرول للخارج:
-أنت هنا؟
-اه مستنيكِ بره مقدرتش مجيش واطمن عليكِ
تدرجت وجنتهاوقالت بنبرة شغوفة للغاية وهي تسير بخطوات واسعة كي تلقاه:
-ربنا يخليك ليا يا “حمود” ويحل عقدة لسانك
استمعت لصوت ضحكته من الطرف الآخر، لتستأنف بمناغشة:
-بتضحك كمان يارب صبرني
-هانت يا حلو
جائت تلك الجملة المفعمة بالطمأنينة لتجعل قلبها يتراقص بين جنباتها وتقسم أنها وقعت بحبه للمرة الألف بعد المائة عندما وصلت لموقعه ووجدته ينتظهر بتلك البسمة التي تنم عن ما يكنه لها لتغلق الهاتف وتركض إليه قائلة:
-بجد هانت يا “حمود”
أومأ لها ببسمة حالمة واخبرها بصدق:
-انا عارف أن مهما عملت ومهما كان اللي وصلتله عمري ما هقدر اوصل لربع اللي أنت تستهليه بس أنا دلوقتي بقى ليا دخل ثابت و وظيفة محترمة تشجعني إني اقولك هانت…لتتهدل ملامحه ويقول بتوجس وبقلب يكاد يهوي بين اضلعه من الخوف:
-بس بصراحة خايف والدك يرفض
-بابي كل اللي يهمه سعادتي وبس وهو وعدني قبل كده انه هيعمل اي حاجة علشان يحققلي أحلامي ويشوفني مبسوطة وأنت كل امنياتي يا “حمود” وانا مش عايزة من الدنيا غير اني اكون معاك ومتأكدة أن بابي هيوافق لما يعرف انك بتحبني وبتخاف عليا زيه
قالتها بنبرة مفعمة بالثقة وبعيون تهيم به جعلت ملامحه تتمدد براحة ويعتلى ثغره بسمة رائقة قائلًا بحاجب مرفوع مشاكسًا:
-طب هو انا مخدتش بالي وغرقت قبل كده…لكن دلوقتي قلبي حاسس إني بدبس رسمي
-اه اتدبست ومش هتخلص مني ابدًا يا “حمود” أنا خلاص لازقة فيك للأبد
قالتها بكل إصرار وهي تتأبط ذراعه وتسير معه نحو سيارتها وهم يتبادلون بسمة مفعمة بالأمل اندثرت في توها وأخذت معها بوادر سعادتها عندما وقفت على مقربة من سيارتها فلم تفعل شيء سوى أنها تمسكت بذراعه وكأنها تخشى فقدانه وتعلن للجميع تمسكها المستميت به، نظر هو لشحوب وجهها ويدها التي تشدد على ذراعه بتوجس شديد وخاصًة عندما اتبع مرمى بصرها ليجد مجموعة من الشباب يقفون حول سيارتها و واحد منهم يجلس على مقدمتها بشكل مستفز وكأنها ملكية خاصة له مما جعله يتسأل بتوجس:
-في ايه يا “ميرال” انتِ تعرفيه؟
تلجلجت وهي تناوله مفاتيح سيارتها كي يتولى هو القيادة بالنيابة عنها:
-ده “طارق” زميلي وشلته سيبك منهم وخلينا ناخد العربية ونمشي أنا عايزة اقضي اليوم كله معاك
أومأ لها ببسمة هادئة ولم يعطي الأمر أهمية وعندما وصل للسيارة استأذن منه بأدب:
-بعد اذنك علشان هاخد العربية
حانت من “طارق” بسمة هازئة وقال ببرود:
-وماله ما تاخدها
-أنت قاعد على الكبوت همشي ازاي يا استاذ
قهقه “طارق” وأخبره بخبث مقيت وهو ينزل بجسده عنها:
-اه معلش يظهر إني اتعودت على القعدة دي وحبتها؛ أصل كنت كتير بستنى صاحبتها
قال آخر جملة بغمزه من عينه جعلت الدماء تتجمد بجسدها، بينما هو لم يستسيغ عقله ما تفوه به وقد تجهمت معالمه حين تسأل متأهبًا:
-نعممممم…تقصد ايه؟
أبتلعت هي غصة بحلقها وحاولت تلاحق الموقف وهي تقف بمواجهة “محمد” وتتمسك بيده راجية قبل أن يسترسل الآخر بالحديث اكثر ويخرب كل شيء:
-“محمد” خلينا نمشي لو سمحت وبلاش نضيع وقت اكتر من كده
أزاحها “محمد” جانبًا بحماية بعيد عن مرمى الآخر قائلًا:
-ممكن تصبري و متدخليش خليني أفهم البيه ماله
مط “طارق” فمه مستخف من صرامته معها وقال بتهكم تقصده كي يستفزه أكثر:
-ايه يا “ميرال” اسمعي كلام صاحبك… واصبري ولا أنتِ علطول كده مستعجلة على الصرمحة
تدخل هنا “فايز” قائلًا كي يكبح صديقه:
-“طارق” خلينا نمشي وبلاش تقول كلام ملوش لازمة يا صاحبي وتعمل مشاكل احنا في غنى عنها
هز “طارق” كتفيه وأخبره ببراءة مصطنعة:
-متدخلش أنت…الراجل شكله مضحوك عليه ولازم انبهه
زفر “فايز” بحنق من تصرفات صديقه بينما
إنفعلت هي قائلة وهي تلوح بيدها:
-انت مجنون ايه اللي بتقوله ده!
اعتلى حاجب “طارق” وهدر بخبث مقيت:
-ايه خايفة افضحك قدامه واقول حقيقتك
كادت ترد لولآ أن “محمد” اخرسها بنظرة من عيناه جعلتها تتجمد بأرضها حين احتدت نبرته ورأت عروقه تنفر من يده قائلًا بنبرة قوية لا تقبل المهادنة مستخدم كامل صوته الأجش:
-لما يكون في راجل واقف قدامك لازم تحترمه و توجه كلامك ليه… ولأخر مرة بحذرك متوجهلهاش كلام …أما شغل التلقيح ده فسيبه للحريم واتكلم من غير لف ودوران
أغاضه أنه يعطيه أوامر بل ويتهكم على رجولته لذلك قرر أن يفض كل ما بجعبته مرة واحدة كي يخرجه عن طوره وعن رزانته المستفزة تلك:
-أهدى على نفسك وبلاش تتحمق أوي كده اللي مش عايزني اوجهلها كلام دي كانت مقضياها مع نص شباب الجامعة وانا كنت آخرهم تقدر تقول كنت الأكس بتاعها
توحشت نظرات “محمد” وفارت دمائه الحامية فحديث ذلك المقيت غير مقبول بتاتًا بالنسبة له ليقبض على حاشية ملابسه قائلًا بحمئة شديدة وبنظرات قاتلة يشتعل الغضب بها:
-أنت بتقول ايه يا(***) سمعني تاني كده؟
نمت بسمة متخابثة على جانب فمه عندما أدرك أنه نجح في استفزازه، ليتمسك بقبضته في محاولة منه أن يزيحها قائلًا بتبجح لا مثيل له وافتراء جعل قلبها يهوي بين قدمها:
-اللي سمعته…بس نعيد تاني علشان خاطرك، المُزة اللي أنت مصاحبها كنت معاها قبلك وانا اللي سبتها علشان سمعتها اللي زي الزفت و “نادين الراوي”أقرب صاحبة ليها هي اللي سيحتلها وفضحتها في الجامعة كلها واسأل اي حد هيقولك على فضايحها…
لم يكمل حديثه إلا ووجد لكمة قوية أطاحت به من يد “محمد” جعلته يترنح بوقفته وتلاها شهقات الجميع تزامنًا مع صرخة قوية منها وتلاها ترجيها له بتلهف وهي تحاول منعه بنبرة متوسلة على حافة البكاء:
-اهدى واسمعني يا “محمد” متخليهوش يستفزك
حانت من “طارق” بسمة تقطر بالشر وهو يحرك فكه يمينًا ويسارًا أثر لكمته ثم قال بإصرار وبنبرة متوعدة وهو يعتدل بوقفته:
-وحياة امي لهدفعك تمن اللي عملته ده غالي اوي يا جربوع
صرخت هي راجية:
-اسكت حرام عليك يا “طارق” كفاية…كفاية
لتوجه نظراتها ل “محمد” تطالع إنفعاله وعروقه النافرة التي تنم عن غضب عظيم قائلة بنبرة راجية ودمعاتها تنسل من فيروزاتها تستعطفه:
-“محمد” متصدقهوش واللهي انا…
-مش عايز اسمع صوتك…فاااااااهمة
قاطعها هو بنبرة قوية وبنظرة صارمة نفضتها وجعلتها تبتلع باقي حديثها عندما جذبها من ذراعها و وضعها خلف ظهره موجهًا الحديث لذلك المقيت وهو يقترب من جديد منه ويدفعه بصدره بقوة ألمت الآخر وجعلت الشر يقتد بداخله ولكنه بالطبع لن يفسد الأمر ويتشاجر معه الآن فتلك ليست غايته:
-جاي تقولي الكلام ده ليه دلوقتي هاااااا؟
تمسك بصدره على موضع لكمته ثم اجابه ببسمة مستفزة:
– تصدق أنا غلطان أن قلبي عليك اصل سمعت أنك غلبان واكيد هي بتتسلى بيك زي اللي قبلك وحبيت انبهك علشان متخدعكش بحوار امها ده وتخليك تتعاطف معاها زي وزي كتير قبلي
كان يشعر ببركان ثائر تتفاقم حممه وتأكل دواخله من حديث هذا المقيت لا والأنكى انه تفاجأ بعلمه لتلك التفاصيل الذي ظن نفسه الوحيد الذي شاركها معها، لذلك كان مشدوه لدرجة انه تناوب نظراته بينهم بصدمة عارمة فنعم علم عنها الكثير ولكن لم يخطر بباله يوم كون لها علاقات اخرى قبله كانت تضم نفس التفاصيل التي جمعتهم سويًا وعند تلك الفكرة وجد دمائه الحامية تتفاقم لرأسه كحمم بركان ثائر يكاد ينفجر وتتناثر حممه تحرق الجميع ليمد أنامله يمسد جبهته بسبابته وابهامه يحاول ان يتمالك زمام نفسه كي لا يتهور ولكن كان الأمر ليس بيسير بتاتًا فعقله يستنكر الأمر بقوة ومنطقه يرفضه ولم يصوغه بالمرة لذلك وجد ذاته يلتفت لها متسائلًا وهو يشملها بنظرة دامية مشتعلة تنم عن غضب جحيمي بالكاد يتحكم بكبته:
-كلامه ده صح؟
نفت برأسها بحركة غير متزنة ولكن رد “طارق” كان أسرع من ردود أفعالها حين قال:
-متقدرش تنكر علشان الجامعة كلها عارفة فضايحها وهم قدامك تقدر تسأل أي حد فيهم هيقولك
تناوب نظراته المصدومة بينهم وهو يكور قبضة يده بقوة حتى نفرت عروق يده فكم كان يود أن يحطم رأس ذلك المقيت الآن بيده العارية ولكنه تماسك وتحامل على ذاته بكل عقلانية فذلك التهور والأفعال الصبيانية لا تمت لطبيعته بشيء، بينما غمغمت هي بشهقات باكية:
-“محمد” هفهمك…
دلك مؤخرة عنقه كي يهدأ من روعه وقال ببسمة متألمة متخاذلة لأبعد حد قبل أن يغادر بخطوات واسعة يتأكلها الغضب قبل أن يرتكب جريمة لتوه:
-يا خسارة يا “ميرال”…
حاولت مناجاته ومنعه من تركها ولكنه لم يمهلها فرصة لذلك بل في لمح البصر كان يختفي من أمامها ليزيد نحيبها وتصرخ بذلك المقيت بأنهيار تام:
-ليه ….ليه حرام عليك …عملتلك ايه أنا عمري ما أذيتك ولا أذيت حد ليه تعمل كده
كانت تتحدث ومع كل كلمة تسبقها دمعاتها الحارقة التي كانت تكوي قلبها قبل وجنتها من شدة قهرها بينما هو أخبرها بكل تبجح وبخبث مقيت يتقصد به أن يذكرها بفعلت الأخرى بها كي يشعل بداخلها تلك الضغينة من جديد:
-“نادين الراوي” قالت جملة في الصميم قالت “ميرال” مش بتغلب وكل يوم هتصاحب واحد شكل علشان كده متزعليش ودوري على غيره بس ياريت يبقى لارج شوية مش زي الغبي اللي ايده طرشة ده، وبعدين في داهية ده حتى مش لايق عليكِ ولا على مركز ابوكِ
-منك لله يا “طارق” منكم كلكم لله ربنا ينتقم منكم
قالتها بنبرة واهنة وشهقات تدمي القلب وهي توجه حديثها للجميع بينما هم كانوا فقط يشاهدون ما يحدث دون أن يتجرأ أحد على أن يتدخل لذلك جرت قدميها وانسحبت من بينهم باكية تصعد إلى سيارتها ثم انطلقت بها وهي تنعي حظها وتنعي حياتها فحقًا كانت تشعر إِن حقًا فقدته ستفقد معه حياتها لذلك قررت أنها لن تستسلم مهما حدث وسوف تقنعه ببراءة أفعالها.
————-
أخذت قرارها كي تثبت له كونها جديرة به وحدها فحقًا تريد إنهاء تلك الحرب الباردة التي أنشبتها تلك الخبيثة من وجهة نظرها كي تفسد حياتها وتخرب ما تطمح له فقد قصدت منزلها وهاهي تقف على أعتابه تطرق على بابها وحين فتح حانت منها بسمة ماكرة أخفتها سريعًا وقالت لتلك التي تطالعها ببسمة مرحبة:
-اهلًا حضرتك عايزة مين؟
قالتها “سعاد” دون دراية بهويتها مما جعل الآخرى تجيبها ببسمة عابرة:
-مدام “رهف” موجودة
أومأت لها “سعاد” واجابتها وهي تشمل هيئتها بريبة:
-اه “رهف” هنا أقولها مين؟
-انا “منار ” هي عارفاني كويس
عقل “سعاد” لم يسعفها في حينها و رحبت بها دون أي اسئلة آخرى وقامت باستضافتها بغرفة الصالون قائلة:
-اهلًا بحضرتك ثواني وهبلغ “رهف”
هزت رأسها ببسمة مجاملة وأخذت تتطلع لمحيط المكان تستكشفه، بينما حين ذهبت “سعاد” وأخبرت “رهف” بأسمها ثارت ثائرتها وعاتبتها كونها سمحت لها بالدخول ولكن “سعاد” بررت أنها لا تعرف هويتها وإن كانت تعلم لم تكن استقبلتها بل كانت وبختها و طردتها شر طردة، تفهمت “رهف” و اندفعت إلى غرفة الصالون التي استضافتها بها بعدما شددت عليها أن لا تتدخل بتاتًا وتبقى مع الصغار وتترك الأمر لها فقد هجمت على الغرفة قائلة بتأهب وبنبرة شرسة مستنكرة وهي تلوح بيدها:
-أنتِ ليكِ عين تيجي هنا…
عقبت على هجومها بنبرة مفتعلة مسالمة لاتليق عليها بتاتًا:
-أهدي … يا “رهف” لو سمحتي …أنا عارفة أنك مش طيقاني بس لازم تسمعيني ومش هتخسري حاجة
نظرت لها “رهف” نظرة مطولة تحاول أن تستشف نواياها ثم قالت بنفور وبملامح واجمة:
-أنا عمري ما شوفت حد في بجاحتك
اغتاظت من طريقتها ولكنها ثبتت و سايرتها قائلة ببراءة مصطنعة:
-أنا عمري ما اتخيلت أن الموضوع يوصل لكده بسببي …يعني لما اتجوزت “سُونة” مكنش قصدي اخرب بيتك…
رمشت “رهف” عدة مرات بأهدابها تحاول أن تتمالك زمام نفسها دون أن تتهور وتسحب تلك المتبجحة من خصلاتها في حين الآخرى استأنفت بكيد:
-وحياة “سُونة” اللي معنديش في الدنيا أغلى منه أنا مش وِحشة ومش علشان اتجوزته وحبيته ابقى خرابة بيوت
حانت من “رهف” بسمة هازئة وهزت رأسها بسخرية قائلة:
– بجد أنتِ مصدقة نفسك… تعرفي دلوقتي بس اكتشفت انكم شبه بعض ولايقين على بعض جدًا…كل واحد فيكم عايش دور الضحية و بيكدب الكدبة ويصدقها، انتو ازاي كده!
زاغت نظرات الأخرى ودافعت:
-يا “رهف” أنا مليش دعوة بخسارتك للبيبي ولا هو ده من ساعة اللي حصل وهو زعلان وبيحلف أنه مكنش قصده وبعدين اللي في بطنك ده كان ابنه أو بنته يعني مستحيل كان يقصد.
حقًا مدى التوافق الذي بينهم افحمها، فتقسم انها كانت مشدوهة من ادعائهم للبراءة وتقمصهم لهذا الحد لا والأنكى أن قناعاتهم راسخة لا تتزعزع وتمدهم بثقة لا مثيل كونهم على حق وعلى الأرجح ذلك ما دفع تلك المتبجحة لتأتي إليها لتدافع عنه وتبرر أفعاله وكأنهم لم يكتفوا بعد كل ما حل بها، ولكنها رغم كل شيء لن تستسلم بل ستظل صامدة ولن ينطلي عليها تلك الدراما الهزلية فقد تناولت نفس عميق ملئت به صدرها ثم تساءلت بنظرات قوية ثابتة:
-ياترى هو اللي باعتك تدافعي عنه؟ ولا أنتِ اللي جيتي من نفسك علشان خايفة عليه؟
أبتلعت “منار” رمقها وأوضحت بنبرة متخابثة لأبعد حد:
– انا جيت من وراه… وفعلًا أنا خايفة ومرعوبة عليه “سُونة” ده قلبي الحنين اللي مقدرش اعيش من غيره وعلشان كده جيت احاول اقنعك تتنازلي عن القضية أنتِ اصيلة و هو برضو ابو ولادك ومش هيهون عليكِ يتبهدل
لا… إلى هنا ولم تعد تتحكم بأعصابها فتلك المتبجحة تحرق اعصابها وتزيد من انين قلبها، فهي حتى لم تراعي أن تتحدث عنه بتحفظ بل تدعوه بذلك اللقب المستفز أمامها وتصرح بحبها له وتدافع عنه فقط لتكيدها، لذلك اندفعت قائلة بشراسة قتالية اكتسبتها بعد نكبتها:
-اتنازل عن ايه؟
أنا مش فاهمة ايه البجاحة بتاعتك دي وايه العشم ده أنت فاكراني ساذجة علشان اصدق الفيلم الهندي بتاعك ده أنت واحدة مادية كل غرضك الفلوس ومصلحتك و بس…وأحب اطمنك البيه اللي انتِ طالعة بيه السما مبقاش يلزمني وإذا كان هيهون عليا فأنا هونت عليه وعمره ما عمل حساب ليا ولا مشاعري ولا أي حاجة عملتها علشانه… وعلشان كده مش هتراجع و احب ابلغك اني سيبهولك وبكامل إرادتي
-انت مكبرة الموضوع اوي يا “رهف” وعطياه فوق حجمه فيها ايه يعني لو كنتِ قبلتي بالوضع وعشنا كلنا مبسوطين أنا عمري ما كنت هخليه يجي على حقك ولا على حق ولادك
جزت “رهف” على نواجذها من استفزاز الأخرى لها وقالت بشراسة وبنبرة متشفية كي تثير أعصابها مثلما فعلت معها:
-لا شكرًا أوي لكرم جنابك أنا متنزلالك عن حقي فيه… اشربيه لوحدك أما بقى حق ولادي فأنا أخدته تالت ومتلت وسحبت كل فلوسه وسبتهولك على الحديدة
تقلصت معالم وجهها بريبة وتسألت بعدم استيعاب:
-يعني ايه مش فاهمة؟
أجابتها هي بتشفي وبرأس شامخة بكل كبرياء وثقة:
-اللي فهمتيه حسن بيه طايل بتاعك مبقاش طايل و رصيده بقى صفر…
استنكرت هي:
-أنت بتقولي ايه مستحيل
قهقت “رهف” بعلو صوتها ضاربة كف على آخر ساخرة منها بأسف مصتنع:
-يا حرااااام يظهر أنه كان مخبي عليكِ ومكنش عندك علم بالموضوع…
لتهدأ ضحكاتها تدريجيًا وتستأنف بتهكم تقصدته:
-بس اعذريه يا “منار” أصل باين كده انه كان عارف انك اتجوزتيه علشان طمعانة في فلوسه وتلاقيه خاف يقولك علشان متسبيهوش يا حرااام
رفض عقلها الاستيعاب وهمهمت وهي تظن انها تتلاعب بها:
-مش مصدقة وعلى فكرة هزارك سخيف
ثارت رماديتاها وهدرت بشراسة وبنبرة هجومية:
-عارفة ايه السخيف انك كنتِ فاكراني غبية هقف اتفرج عليه و هو بيصرف فلوسي وحق ولادي على واحدة زيك رخيصة بتبيع نفسها للي يدفع اكتر
شحب وجهها وتعالت وتيرة انفاسها بغيظ لا مثيل له فمن كانت تظن انها ستكيدها؛ كادتها هي بل افحمتها واتلفت اعصابها وأودت بكافة آمالها وأطماعها وتأملاتها أدراج الرياح مما جعلها تهتف بغيظ وبنظرة نارية متوعدة:
-أنا أشرف منك وقسم بالله لو الكلام ده طلع صح مش هسكت وهحاسبه انه خبى عليا؟
شهقت “رهف” بخفوت وتهكمت وهي ترسم صدمة مفتعلة على وجهها:
-هتعملي ايه يا”منار” عيب مش ده “سونة” حبيبك وقلبك الحنين اللي متقدريش تعيشي من غيره…أيه غيرتي رأيك بالسرعة دي
ده حتى الست الأصيلة لازم تعيش مع جوزها على الحلوة والمره ولسة العمر قدامكم تقدري تقفي جنبه وتستحمليه علشان يقف على رجليه من تاني ويعوض خسارته.
كانت تتعمد أن تهزء منها كي ترد لها الصاع صاعين ورغم أن مجيئها من الأساس أجج جذوة النيران الكامنة ولم تنطفئ بقلبها ولكن الآن هي أفضل وتقسم أن حديثها ذلك أثلج قلبها واشعرها براحة عارمة لا مثيل لها، أما عن الأخرى فكان وجهها شاحب تجز على نواجزها من شدة غيظها وحتى أنها عجزت عن مجاراتها أو التفوه بأي شيء كل ما فعلته أنها دبت الأرض بكعب حذائها وغادرت بعدما رشقت “رهف” بنظرة ثائرة مشتعلة استقبلتها ببسمة متشفية وبنظرة واثقة لامعة بقوة تنم عن شخصية جديدة تشكلت من جديد بفضل ذلك الساخط وبفضل كم الخذلان الذي أغدقها به في كنفه.
———————
-هو فين؟
قالتها “ميرال” ببكاء مرير وبتلهف وهي تندفع لداخل الشقة بعدما فتحت لها “شهد” التي تنهدت وأخبرتها:
-في أوضته من ساعة ما جه ومخرجش منها وقافل على نفسه …هو في أيه يا “ميرال” أنتو اتخنقتوا؟
أيدت “ميرال” برأسها ودمعاتها تغرق وجهها وتوجهت نحو باب غرفته تطرق عليه راجية:
-“محمد” أفتح وخلينا نتكلم… متعملش فيا كده…محمد…افتح لو سمحت خليني افهمك…محمد علشان خاطر ربنا اسمعني…
كانت تتوسله من خلف الباب بنشيج قوي يقطع نياط القلب ولكنه لم يجيبها ولم يصلها رد منه لتقترب “شهد”منها تواسيها في حنان وهي تربت على ظهرها بتعاطف بَين:
-بس… وحياة الغالين عندك بطلي عياط واهدي هو لما بيزعل مش بيحب يتكلم وبيفضل قافل على نفسه لغاية ما يهدى ده طبعه من صُغره…
-بس أنا لازم افهمه يا “شهد” ولازم يسمعني أنا مش عايزة اخسره يا “شهد” بالله عليكِ متخلهوش يسبني
زفرت “شهد”وحاولت تهدئتها من جديد وهي تجرها لردهة منزلهم المتواضعة وتجلسها على أحد الأرائك:
-طب اهدي يا “ميرال” وفهميني
حاولت تنظيم انفاسها وكبح شهقاتها المتألمة ثم أجابتها بنهنهة متقطعة:
-الكلب “طارق” قاله إن كان ليا علاقات قبله… وانا والله مفيش واحد فيهم كان زيه…أنا كنت تايهة يا “شهد” كنت ضايعة ومش فاهمة… محدش كان بيوجهني ويفهمني الصح من الغلط كنت بدور على الحنية وبدور على حد يعوضني عن الأهتمام اللي اتحرمت منه أنا مكنش حد جنبي كنت لوحدي وهو الوحيد اللي لملم اللي باقي مني وشكلني من جديد أنا لو سابني هموت …هموت يا “شهد” ساعديني علشان خاطر ربنا ساعديني
كانت تتحدث بإنهيار تام وبنبرة باكية متألمة جعلت دمعات “شهد” تفر تضامنًا معها وتضمها لصدرها قائلة بنبرة مواسية:
-اهدي يا “ميرال”…اهدي علشان خاطري هو مش هيسيبك ده هو كمان روحه فيكِ بس كان لازم تحكيله ليه خبيتي عليه
رفعت رأسها قائلة بعيون يكسوها الحُمرة من شدة نحيبها:
-خوفت اخسره وميفهمنيش…وبعدين أنا أي حاجة حصلت قبل ما اعرفه ملهاش قيمة بالنسبالي و مجاش في بالي أني اتحاسب دلوقتي على طيشي وعلى اختياراتي الغلط…مجاش في بالي أن ربنا هيعاقبني فيه ويبعده عني
هزت “شهد” رأسها بتفهم بعدما استشعرت مدى صدقها و طمئنتها:
-هيروق والله أنا عارفاه سبيه يهدى وانا هفهمه وإن شاء الله خير
كفكفت دمعاتها بظهر يدها وسألتها بترقب:
-بجد هتكلميه
هزت “شهد” رأسها وأخبرتها بتعاطف وبقلب عطوف:
-أنا مصدقاكِ ومتأكدة انك بتحبيه ومش بتكدبي عليا…هكلمه وهبقى على أتواصل معاكِ بس الأهم من كل ده تركزي في امتحاناتك ومتشغليش بالك
نفت برأسها واخبرتها بضعف وكأنها فقدت شغف كل شيء:
-مش هعرف أعمل حاجة ولا أركز وهو بعيد عني
قرصت “شهد” أُذنها بخفة و وبختها قاصدة تحفيزها:
-اجمدي يا بت وبطلي دلع ده مستقبلك وعليا النعمة لو ما شوفتي حالك وركزتي لكون مسخناه بزيادة وابقي قابليني بقى لو كلمك ولا عبرك من الأساس
-لأ يا “شهد” الله يخليكِ والله لو حصل هموت من غيره…أنا هعمل كل اللي تقوليلي عليه
قالتها بصدق شديد وبعيون باكية متوسلة جعلت “شهد” تنهرها قائلة وهي تترك أُذنها وتضمها لصدرها بعيون دامعة متعاطفة معها:
-يخربيت فقرك قطعتي قلبي اسكتي بقى إلا انا لو اتفتحت في العياط مش بتسد وانا اصلًا فرفوشة يا ختي ومليش في النكد
حانت من “ميرال” بسمة باهتة من بين نهنهتها لتربت “شهد” على ظهرها وهي تتنهد داعية ان يتفهم شقيقها ويرأف بتلك المسكينة التي استشعرت مدى صدقها وتعاطفت كثيرًا مع انهيارها بلاه.
—————-
-أنت ازاي تخبي عليا انها خدت فلوسك؟
قالتها “منار” بنبرة عدائية وبتأهب ثار أعصابه وجعله يتساءل بتوجس:
-عرفتي منين؟
أجابته بغيظ:
-ده كل اللي يهمك…عرفت منين …أيه مكنتش عايزني اعرف مش كده؟
تأفف هو بنفاذ صبر وهو يجذبها من ذراعها:
-ردي عليا وقوليلي عرفتي منين؟
رمقته شذرًا ونتشت ذراعها من قبضته ثم أخبرته بنبرة تقطر بالحقد:
-من الهانم بتاعتك اللي غفلتك وضحكت عليك
زمجر غاضبًا وتساءل وقاتمتيه تحتد من شدة الغضب:
-شوفتيها فين؟
لوت جانب فمها وأخبرته ساخطة:
-روحتلها لغاية عندها علشان اترجاها تتنازل علشان كنت هموت من زعلي عليك والهانم قالتلي بكل جبروت أنها خليتك على الحديدة ده غير الكلام اللي زي السم اللي قالتهولي وأنا بحاول أدافع عنك
(ميراكريم)
مرر يده بخصلاته الفحمية يشعر أنه سيفقد عقله وهدرًا بعدم رضا:
-ليه عملتي كده…ليه؟
أجابته بإنفعال مُصرحة بتلك النوايا الغير بريئة بالمرة التي تتواري خلف فعلتها:
-روحت علشان بحبك وخايفة عليك وكنت فاكرة الهانم هتغير رأيها لما اتنازل عن كرامتي و اروح اتراجها بس هي اهانتني وغلطت فيك وقالتلي أنك مبقتش تلزمها ورفضت تتنازل
جلس بأنهزام مكوب رأسه بكفوف يده لا يقوى على استيعاب هذا الكم منها، بينما هي حرضته من جديد:
-لما سرقتك سكت ليه؟
أجابها بقلة حيلة:
-حسابنا كان مشترك ومكنتش مخونها ومفيش حاجة تدينها
نفخت أوداجها وتساءلت وهي تربع ذراعها وتهز قدمها بإنفعال:
-والعمل دلوقتي؟
زفر بقوة ومرر يده على وجهه المكفهر قائلًا:
-مش عارف…الشركة الشغل فيها واقف والعمال في الموقع رافضين يشتغلوا ومواد البُنا مرمية في الموقع ده غير أن المرحلة التانية للوحدات لو متسلمتش في معادها في شرط جزائي ملزم بيه في العقد
حانت منها بسمة هازئة محملة بسخط عظيم من حساباتها وتأملاتها التي ذهبت أدراج الرياح، بينما هو جذبها من جلسته دافن رأسه في حضنها راجيًا إياها بقلة حيلة وهو يحاوط خصرها:
-“منار” دي ازمة وهتعدي خليكِ جنبي انا مبقاليش حد غيرك
زفرت هي بقوة ودست أناملها بين خصلاته بملامح جامدة وعيون محتدة من شدة غيظها وظل يدور برأسها كل الأحداث السابقة لتزيد من حقدها وسخطها لكل شيء ثم تقرر أنها لن تظل مكتوفة الأيدي بعد الآن فلابد من إيجاد حل لتلك المُعضلة وفي أقرب وقت ممكن كي تعوض إهدارها للوقت.
فياترى ماذا تخبىء لك الأيام القادمة إيها الساخط على يدها! هل سترأف بك و بمصائبك وتبقى معك أَم ستتركك خائب الرجاء بعدها! حسنًا دعني أبشرك فإن كُنت تظن أن نوائب الدهر تكاثرت عليك وأحنت ظهرك فصدقًا القادم سيكون اعظم.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)