رواية خطايا بريئة الفصل الرابع والأربعون 44 بقلم ميرا كرم
رواية خطايا بريئة الجزء الرابع والأربعون
رواية خطايا بريئة البارت الرابع والأربعون
رواية خطايا بريئة الحلقة الرابعة والأربعون
تمر بك أيام تشعر فيها بان كل شيء يثقل على صدرك
الذين يحبونك والذين يكرهونك والذين يعرفونك والذين لا يعرفونك
تشعر بالحاجة إلى أن تكون وحيدا كغيمة
أن تعيد النظر بأشياء كثيرة
أن تعود إلى ذاتك مشتاقا لتنبشها وتواجهها بعد طول هجر
أن تفجر كل القنابل الموقوتة التي تسكنك
-غادة السمان
——————-
مرت عدة شهور عليها بروتينية تامة دون جديد وهاهي تدفع عربة المشتريات وتقوم بوضع مختاراتها داخلها، حين لمحت تلك السيدة العطوف جارتها، تتقدم منها و وحين لمحتها “كريمة” ابتسمت بسمة عابرة وقالت بنظرات حزينة:
-ازيك يا بنتي
-الحمد لله ازيك انتِ يا طنط
-الحمد لله على كل شيء …بعد اذنك
ابتلعت “رهف” غصتها وتسائلت وهي تلاحق خطواتها:
-انتِ زعلانة مني؟
نفت “كريمة” برأسها وهمهمت بنبرة متحسرة:
-زعلانة من الزمن وعلى حظ ابني
-طنط “كريمة” انا اسفة بس الحاجات دي نصيب وانتِ اكيد عارفة
هزت “كريمة” رأسها وعاتبتها قائلة:
-عارفة يا بنتي بس هو بيحبك وكان امنية حياته تبقى ليه…ابني عمره ما كان مبسوط غير لما قربتوا من بعض
لا تعلم لمَ تزايد تثاقل قلبها و وجدت ذاتها تنطق دون اي ارادة من عقلها:
-هو كويس؟
تنهدت “كريمة” بحزن وردت على سؤالها بسؤال أخر وضعها بمواجهة مع ذاتها:
-بتسألي ليه!يهمك أمره؟
زاغت نظراتها ونكست رأسها دون أن تجيبها لتزفر “كريمة “وتخبرها:
-على العموم هجاوبك…أخد قراره انه هيسافر ويسيب البلد…وبيحضر في الورق هيرجع تاني لشغله بره مصر
اخذ الأمر منها بعض الثوانِ لتستوعب حديثها ونطقت بعدها بحروف تضاهي تثاقل قلبها:
-هيسافر!
أومأت لها وأكدت:
-ايوة يا بنتي علشان يبعد زي ما وعدك
-بس انا مطلبتش منه يسافر
-من غير ما تطلبي ابني طالما وعدك يبقى عمره ما هيخلف وعده وهو شايف انه علشان يوفي بالوعد ده لازم يبعد
شعرت بالضيق من ذاتها وكادت أن تستأنف حديثها ولكن “كريمة” استئذنت منها وسبقتها بخطواتها…لتضع هي يدها على موضع قلبها الذي ينتفض عاصيًا بين ضلوعها وهي لم تتفهم ما الذي يصيبها…
——————
تغيرت حياتها بعد انتقالها لتلك الڤيلا التي ابتاعها من أجلها كي ينشأ بها ذكريات مميزة وبالفعل كان يجاهد كي يفعل ولكن يعيقه في التفرغ لها انشغاله بعمله وبأملاكها التي تولى إدارتها من جديد و رغم تقصيره معها إلا انه لم تشعر بالسوء منه فستقبل بأقل القليل وسوف ترضى فطالما كان يمنحها كافة اهتمامه و يغدقها بمشاعر عاشقة تذيب قلبها فلديه ما يكفي من الرصيد بقلبها ويكفي انها تشعر أن كل ما مضى لايذكر مقارنًا بسعادتها الآن كونه عاد لها.
فكانت تتململ بفراشها حين تسللت رائحته التي تميزها من وسط ألف رائحة غيرها، ابتسمت وهمست والنعاس مازال يسيطر عليها:
-صباح الخير يا حبيبي
حانت منه بسمة حانية وأجاب وهو يجلس يتأملها كعادة ملازمة له منذ زمن:
-اصحي خلي شمسي تطلع بنور عنيكِ
رفرفت بأهدابها واتسعت بسمتها ثم اعتدلت بنومتها وهي تفرك عيناها وإن انتهت وجدت فستان أبيض معلق أمام سريرها، انتفضت من نومتها واخذت تتأمله بنظرات حالمة فكان مطرز تطريز بسيط من خامة الستان المتداخل مع الشيفون الكرستالي بتصميم رقيق يناسب جسدها
-ايه ده يا “يامن”؟
اجابها وهو يقترب يلمس وجنتها بأنامله:
-فُستان عايزك تلبسيه بليل علشان هنخرج نتعشى مع بعض معلش أنتِ عارفة أد ايه كنت مشغول الفترة اللي فاتت ومكنتش بعرف اخرجك
هزت رأسها وقالت وهي تتعلق بعنقه:
-حبيبي أنا عذراك وبعدين حتى لو مقصر انا راضية المهم أنك معايا
تنهد وبينه وبين ذاته مازال مؤنب رغم رفضها:
-انا معاكِ بروحي قبل جسمي ونفسي أعملك حاجات كتير بس انتِ بقى اللي دماغك ناشفة
نفت من جديد برأسها واخبرته بإقتناع تام:
-أنت كفاية عندي مش عايزة حاجة تانية
ابتسموا معًا ولكن ظل السؤال يطن في رأسها ونطقت به:
-هو ليه جبته ابيض مش أي لون تاني!
اجابها بنظرات معاتبة ذات مغزى تخص رفضها لاقامة حفل زفاف:
-عايز اشوفك بالأبيض ولا دي كمان هتعارضيني فيها
نفت برأسها وقالت بطاعة:
-لأ مش هعارضك يا حبيبي حاضر
لتصوب نظراتها للفستان وتستأنف بإعجاب:
-الفستان حلو اوي وذوقك يجنن بس يارب يجي مقاسي بعد الكرش
قالتها ببسمة حالمة وهي تحتضن بروز بطنها الذي ظهر بشكل ملحوظ في الآونة الاخيرة
ليجلس على طرف الفراش ويقربها أثناء وقفتها منه ويقبل بطنها ثم يحاوط خصرها و يسند جانب وجهه عليها قائلًا بتنهيدات تنم عن سعادة عارمة:
-مش مصدق أن في حتتين مني جواكِ انا بحمد ربنا على نعمته و هديته التانية والتالتة ليا
مررت يدها بخصلاته رأسه التي تستقر على بطنها وسألته مستغربة:
-التانية والتالتة!
اجابها وهو يرفع ناعستيه التي تفيض بمكنون قلبه المُولع بها:
-ايوة هديتي الاولى كانت انتِ يا “نادين”
انحنت تقبل وجنته وتحاوط عنقه قائلة:
-أنت اللي كتير عليا اوي يا “يامن” ربنا يخليك أنت واشيائك ليا
احتضنت بطنها تقصد ابنائها ثم مطت فمها وكأن الأمر لاح في عقلها لتوه
-بس انا خايفة البت “غالية” لما تيجي تاخد الدلع مني
ابتسم وشاكسها وهو يقرص وجنتها:
-طب ما انا كمان خايف لما الواد بُرعي
يجي ياخدك مني
شهقت من ذلك الأسم الذي يتعمد ان يثير جنونها به:
-مش هسميه بُرعي بطل رخامة…ايه بُرعي دي انت عايز تعقد الولد حرام عليك
قهقه على جنونها وسايرها قائلًا:
-خلاص بلاش برعي هنسميه حموكشة
صرخت ونكزته بصدره لتتعالى ضحكاته ويتدارك قائلًا:
-خلاص متزعليش انا مش فارق معايا الاسامي المهم أنه ميخدكيش مني
ابتسمت ومطت فمها بدلال يعشقه:
-مفيش حد يقدر ياخدني منك يارخم
ليبتسم بسمة واسعة و يحاوط خصرها ويقربها لكي يغرق بين ثنايا عنقها، ويحمد ربه أنه لم يخيب رجاءه في عشقها.
————————-
جلس شاردًا، ينظر لمحيط المكان بعيون فارغة لم يعد يُسكنها إلا الألم، مخطئ هو حين ظن أنه سيتمكن من نسيانها وكيف يفعل وهو لسنوات لم يستطيع أن يفعل دون أن يتعلق بها ما بالك الآن بعد ان ظن انه اخذ خطوات بطريقها، فقد خذلته بنفورها ودفعت به لنقطة واهية لا وصول لها. ورغم صموده والتزامه بوعده لها إلا أنه يجاهد ذاته في نزع حبها من قلبه؛ قلبه الذي أَن بين اضلعه بألم مصاحب لرائحة عبيرها، زفر انفاسه حانقًا ولعن تلك الهواجس التي تنتابه بقربها ثم أخرج من درج مكتبه جواز سفره واخذ يتأمله وكأنه وسيلته الوحيدة للفرار من هلاك عشقها.
-ادخلك اخر كشف يا دكتور
قالتها الممرضة التي تعمل معه بعيادته كي تنتشله بها من شروده
فقد أعاد وضع ما بيده بالدرج كما كان واغلقه قائلًا:
-هو لسه في حد تاني انا مش قولتلك متخديش حالات تانية وتعتذري وتبلغيهم إن العيادة هتتقفل
-حصل يا دكتور بس الحالة صممت تقابلك وتكشف عليها
زفر أنفاسه وقال بعملية:
-طيب دخليها
-حاضر يا دكتور
ليتنهد وينزع نظارته ويغمض عيناه وأخذ يمسد موضعها على أنفه بأبهامه وسبابته لحين اتاه صوتها ليؤكد حدث قلبه
-ازيك يا دكتور…
فتح خضراويتاه دون أن ينظر لها وابتلع ريقه ثم حرك رأسه ببطء كي يتأكد من صاحبة ذلك الصوت الذي تسلل لقلبه قبل مسامعه، لتتجمد نظراته لثوانِ قبل أن يضع نظارته وكأنه يشكك برؤيته دون أن ينبث ببنت شفة، لتبادر هي من جديد:
-مش هتقولي اتفضلي؟
تحمحم يجلي صوته وهو يلعن ذلك القلب اللعين الذي هوى فور رؤيتها وتناسى تجريحها و نفورها، لتتجمد ملامحه ويتدارك بثبات انفعالي ويهب من مقعده مرحبًا بعملية شديدة:
-اهلًا يا بشمهندسة اتفضلي بتشتكي من ايه؟
تنهدت وسارت بخطوات وئيدة تجلس في المقعد المواجه لمكتبه وهي لا تعلم ماذا تقول أو من اين تبدأ لتبتلع ريقها وتقول ببسمة متوترة:
-بتمنى تكون العيادة عجبتك لما استلمتها
-سؤالك متأخر تلت شهور يا بشمهندسة…ليصمت لهنيهة ويستأنف:
-على العموم انا بلغت بشمهندسة “سارة” تبلغك امتناني لمجهودك
ردت ببسمة باهتة وهي تفرك بيدها:
-اه قالتلي
هز رأسه بثبات وتسأل بعملية وترتها:
-طيب قوليلي بتشتكي من ايه يا بشمهندسة علشان اقدر افيدك
زادت من فرك يدها متوترة وتلعثمت قائلة:
-أنا آسفة
-تساءل بثبات انفعالي دومًا يفحمها به:
-على ايه؟
ارتعش فمها من شدة توترها وصدر حديثها متقطع وهي تخبره:
-انا…كنت قليلة الذوق… وجرحتك… بس أنا…
قاطعها ببسمة يبرع دومًا في اقتناصها في أشد اوقاته بؤسًا:
-وايه الجديد ده طبعك يا بشمهندسة وانا اللي أسف أنتِ عندك حق مكنش في بينا شيء يذكر وحتى لو الموضوع اختلف بالنسبالي أنتِ ملكيش أي دخل بيه لأن انا الطرف الوحيد في الحكاية.
تنهدت واخبرته بنفاذ صبر بعد أن فشلت فشل ذريع في أن تترجم ما بداخلها:
-“نضال” متصعبش الموضوع عليا اكتر من كده…أنا معرفش انا جيتلك ليه كل اللي أعرفه إني مش عيزاك تسافر…لتصمت لبرهة وتستأنف موضحة:
-قابلت مامتك وقالتلي
اعتلى حاجبيه وباغتها بسؤاله:
-ليه مش عيزاني اسافر؟ محتاج اجابة واضحة وصريحة لأسبابك
اغمضت عيناها بقوة وقالت وهي تمرر يدها بخصلاتها البندقية بأنامل مرتعشة:
-مفيش اسباب…غير أن عايزاك جنبي…
ابتسم بسخرية مريرة وهز رأسه قائلًا وهو يسند جانب وجهه بقبضة يده:
-استبن يعني، مش كده؟
اغتاظت بشدة من ثباته وسخريته فما كان منها غير أن تهب من جلستها وتنوي المغادرة قائلة:
-لأ مش كده ويظهر غلطت لما جتلك عن اذنك
نهض من مقعده وفي لمح البصر كان يلحق بها ويمنعها من المغادرة قائلًا بعدما جذبها من رسغها:
-مش هسيبك تهربي قبل ما تكوني واضحة وصريحة مع نفسك قبل مني
تعالت وتيرة انفاسها وشعرت أنها تائهة داخل غابات الزيتون خاصته فور حديثه الذي استأنفه متسائلًا وعينه متجمدة على رمادها:
-اتكلمي يا “رهف”
اجابته متلعثمة وهي تسحب ذراعها و تشيح بنظراتها وتتقهقر بخطواتها:
-الفترة اللي بعدت فيها كنت حاسة أني مضايقة ومكنتش فاهمة ليه طالما ده اختياري لكن لما مامتك قالتلي أنك هتسافر حسيت بأحساس غريب مش عارفه افسره ولا فيه مصطلح يتماشى معاه بالنسبالي غير إنك حد مريح و برتاح معاه
تنهد وبصيص الأمل يلوح بداخله ثم تسأل متلهف لجوابها:
-عايزاني افضل جنبك بأي صفة!
نظرت لكل شيء عداه واجابته:
-سميها زي ما تحب بس علشان خاطري خليك ومتسافرش
تنهد وقال بتفهم شديد استغربته:
-انا مقدر خوفك يا “رهف” ومستعد مسافرش ومستعد استنى الباقي من عمري بس اديني أمل
مررت يدها بخصلاتها وقالت بعد أن زفرت انفاسها دفعة واحدة وتقدمت تجلس من جديد:
-أنامش خايفة انا مرعوبة يا “نضال” خايفة ادي لنفسي فرصة تانية زي ما بتقول أخسر ولادي وابوهم ياخدهم مني…لتهز برأسها وكان عقلها يرفض حتى التفكير بالأمر وتستأنف:
-ولو خسرتهم هحملك أنت الذنب وعمري ما هعرف اسعدك
تقدم لمقعدها ثم جثى مقابل لها يحفزها بنظراته قبل يديه التي تجرأت لأول مرة واحتضنت كف يدها وكأنه يريدها أن تستمد القوة منه:
-قولتلك حبي ليكِ هيقويكِ انا مستحيل اخليه يعمل كده أنا عارف أن الحضانة هتسقط لو اتجوزتيني بس في قواضي كتير في المحاكم ويمكن مش كلها اللي بتقدر الأم تحتفظ بالحضانة بس أنا وانتِ مش هنيأس لو حكمت هروح لغاية عنده وهنفذله أي طلب يطلبه علشان ميحرمكيش منهم، وهخليه يتأكد بنفسه إني هبقى أمين عليهم وهقدرهم ولادي اللي ربنا ما اردش يرزقني بيهم، انا هعرف اقدر النعمة كويس يا “رهف”علشان جربت وجع إني اتحرمت منها
قال آخر جملة بعيون غائمة تنم عن صدق حديثه الذي رغم انها استشعرته إلا أنها تخوفت قائلة:
-طيب وافرض…
قاطع سيل مخاوفها وطمئنها بتفاؤل و بإيمان قوي:
-سيبيها على ربنا ومتقدريش البلا قبل وقوعه…وخليكِ متأكده و واثقة فيا أن مهما حصل مستحيل هتخلى عنك او عن ولادك
هزت رأسها باقتناع ومنحته الأمل ببسمة هادئة لفحت قلبه وجمدت انفاسه من روعة ربيعها لتتسع بسمته شيء فشيء ويتنهد تنهيدات متتالية تدل على فرحة ذلك القلب الذي لطالما مال لها وأخذ دفعة للأمام بطريقها ورغم تلك التعثرات التي تنتظره يقسم أنه سيصمد وسيفعل المستحيل من اجلها ومن اجل ابنائها فلن يفوت تلك الفرصة الذهبية الأخيرة دون أن يحظى بقلبها قبل قربها.
————–
أصر أن ترتدي ذلك الثوب الذي جلبه لها يتناسب مع جسدها ومع ذلك البروز الطفيف ببطنها و وعدها أن يصطحبها بسهرة لن تنسى وكما توقعت
توقف بسيارته أمام مطعمه وماإن ترجل من السيارة التفت لبابها وقام بفتحه لها بطريقة مسرحية مادد يده لها وكأنه أمير هارب من احد اساطير القديمة ويصحب اميرته لتتويجها، فكانت تبتسم باتساع وهي تضع يدها بين راحته وتنزل بتأني من السيارة لينحني هو ونظراته متعلقة بها يقبل يدها ومن ثم يعلقها بذراعه ويتقدم بها، وحين وقفت على بُعد خطوات من ساحة مطعمه الخارجية و استغربت تلك البالونات البيضاء التى تغطي أرضها بالكامل معادا ذلك الممر الطويل المزين بالورود ويحاوطه من كل جانب شموع مشتعلة وممتدة لمرمى بصرها،
جعدت حاجبيها متسائلة:
– ايه ده يا “يامن” انت عملت كده علشاني؟
غمز لها وحمسها قائلًا:
-تعالي بس ده انا لسه هبهرك
تجمدت نظراتها لحين جذبها واكمل سيره بها وإن تخطوا الممر معًا وجدت المكان يتوهج بدفء والإضاءات الخافتة لتشهق متفاجئة وهي ترى طاولة عريضة حافلة بالطعام وتضم أصدقائها والاقربون لها متأهبين في انتظارها:
-ايه ده دول كلهم هنا!
قالتها ببسمة فرحة واسعة ليهز رأسه ويجيبها بنظرات حانية:
-جمعتهم كلهم علشان اعوض فرحتك اللي اتنازلتي عنها هنحتفل بس بطريقتنا وهنغني ونرقص للصبح
وفور نطقه بأخر جملة انطلق في السماء العاب نارية ملونة استحوذت على نظراتها و خطفت انفاس الجميع واولهم انفاسها فكانت تنطلق بصخب مبهج وكأنها تزف سعادتها وتخلد تلك الذكرى بأعماقها فقد هللت ببسمة تكاد تشق وجهها وهي تعانق كلتا يديها بخاصته:
-الله تجنن…تجنن…تجنن
ربنا يخليك ليا يا “يامن” انا مبسوطة اوي
ليداعب وجنتها وهو يقف مواجه لها ويهمس عاشقًا:
-ربنا يقدرني وابسطك علطول يا قلب وروح “يامن”
ابتسمت بوله تام ثم وضعت قبلة خاطفة على وجنته:
-ويقدرني و اعوضك يا حبيبي عن كل اللي فات
تنهد كل منهم تنهيدة حالمة لحين غمز لها كي ينضموا لهم فكانوا الجميع حاضرون وأولهم ثريا ونغم و شهد وطمطم وكاظم وسنا وميرال ومحمد وقمر وحامد وحتى خالها سعيد وزوجته هانم فقد حضروا جميعهم لمشاركتهم سعادتهم.
وإن قاموا بمباركتها همس “محمد” بضجر وهو يميل على أُذن “ميرال”:
-نص ساعة ونمشي انا عريس جديد ومضمنش نفسي قدام الناس اكتر من كده…
شهقت “ميرال” ونكزته برفق وعقبت على جرأته الغريبة منذ زواجها:
-بقالنا شهور عرسان يا”حمود” وعلى فكرة الجواز غيرك اوي ارجع مؤدب لو سمحت…
ابتسم ساخرًا ثم قال متحسرًا وهو يضرب كف بأخر:
-مؤدب…وماله… حاضر هو انا كان قلبي حاسس أن الجوازة دي منظورة من اولها…
ابتسمت هي ونهضت تحتضن “نادين” وتتشارك معها هي و”نغم” و”شهد” و”قمر” الهمسات النسائية التي تعبر عن سعادة كل منهم فقد كانت البسمة طوال الحديث لم تفارق وجوههم.
وفي تلك الأثناء اتى هو برفقة أطفاله، وتقدم من “يامن” مباركًا:
-مبروك يا صاحبي
التفت “يامن” له وهدر بنفس جملته يقصد زيجته الجديدة:
-ومبروك ليك أنت كمان يا صاحبي
زفر “حسن” وقال ساخطًا وهو يتذكر نكبته التي أوقع ذاته بها:
-مبروك ايه؟ والنبي متفكرني ده انا بضرب نفسي ميت جزمة بس خلاص مفيش مفر والهانم حامل لأ وكمان قرفاني ومطلعة البلا عليا
قهقه “يامن”ونكزه بصدره قائلًا بتشفي نابع من عدم رضاه عن افعالها المخزية:
-مش خسارة في طيبة قلبك والله ده ذنب “رهف”
لكزه “حسن” بكتفه وعقب بغيظ:
-رغم انك رخم على رأي مراتك بس إن جيت للحق أنا ظلمتها لما قولت عليها قليلة الاصل بصراحة وقفتها معايا بميت راجل وخلتني أحس أن أد ايه كنت غبي لما خسرتها
تدخلت “ثريا” هنا وهي تقترب منهم:
-من ناحية الغباء فأنت طمعت فيه لوحدك بس هنعمل ايه ربنا يصلح حالك
آمن على دعائها لترحب بصغاره ببسمة حانية وهي تعانقهم وتقبلهم:
-وحشتوني ياولاد كويس انكم جيتوا مع ابوكم
عانقوها مبتسمين واخبرها “شريف “:
-مامي هي اللي قالت لنا نيجي مع بابي علشان نشوفك يا تيتة ونطمن على عمو “يامن”
انحني “يامن” وقبل كل منهم قائلًا:
-حبايب عمو “يامن” انا اصلًا كنت هزعل لو مجتوش
لتنظر “ثريا” ل “حسن” وتقول ببسمة حانية:
-ايوة كده ريحوا قلبي وخلوا الشمل يتلم
تنهد “حسن” واقترب يقبل جبهتها ثم تحسر بنبرة نادمة لطالما تخص حديثه عنها رغم هدمه بغبائه لكل سُبلها:
-مش هنفترق تاني يا خالتي بس كان نفسي “رهف” تبقى معانا
تنهدت “ثريا” واخبرته:
-كلمتها ومرضتش تيجي علشان متشوفش وش مراتك الجديدة
لتضيق عيناها وتضيف متسائلة:
-قولي هي مجاتش ليه معاك؟
زاغت نظراته وتستر على رفض “سميرة” وتسلط لسانها التي اغدقته به حين ألح عليها أن ترافقه:
-اصلها مش بتحب الدوشة والحمل في اوله و تاعبها ياخالتي
لوت “ثريا” ثغرها بعدم رضا…لتنفلت ضحكة من “يامن” فشل في كبتها ليلكزه “حسن” من جديد بغيظ كي يكف عن التشفى به تزامنًا مع اقتراب “نادين” من “يامن” الذي بدوره حاوط خصرها لينظر “حسن” لها ويعتذر وهو يراها ترشقه بنظرة قاتلة:
-عارف ان اعتذاري اتأخر بس آسف على اللي قولته انا اعصابي كانت بايظة من خوفي عليه وقتها
تنهدت ولم تجيبه ليربت “يامن” على خصرها تربيتات خفيفة ويحثها بعينه أن تقبل اعتذاره فقد اخبرته سابقًا بتلك المُشدة التي قامت بينهم أثناء وعكته، لترفض هي وتهز رأسها لتتدخل “ثريا” راجية:
-حقك عليا انا يا بنتي انا عارفة انه غبي ومتسرع وبيحدف دبش بس صدقيني اتكلم كده من خوفه على “يامن”
رغم أن خالته شتمته لتوها إلا انه رد وكأنه يشعر بالفخر من طباعه المُنفرة:
-والله ما حد فاهمني غيرك يا خالتي.
تنهدت و تناوبت النظرات بينهم لثوانِ قبل أن تقول:
-انا هسامحك علشان خاطر ماما “ثريا”
ربتت “ثريا” على ظهرها وقالت داعية:
-ربنا يخليكِ يا بنتي
لتحتضنها “نادين” وتستانف بمحبة صادقة:
-ويخليكِ لينا يا ماما “ثريا” وميحرمناش منك ابدًا
-طب هو انا مش هيجي دوري ولا ايه في الاحضان اللي انتِ بتوزعيها دي؟
قالها مشاكسًا وهو يفتح ذراعيه لاستقبالها، لتفصل عناق “ثريا” وتهرول إليه كتلك الطفلة ذاتها التي لطالما اتخذته مأوى وحصن منيع لها،وإن فعلت دثرها بين مستمتع بملاذها وبعد ثوان أعطى إشارة بيده وفصل عناقه غامزًا أن تنظر لمرمى بصره وإن فعلت وجدت لافتة كبيرة بكبر مبنى مطعمه تدلى من فوقه لتظهر هي بفُستانها في تلك الصورة التي أصر أن يلتقطعها بهاتفه قبل خروجهم من المنزل
وطبع عليها بخط كبير(أنتِ الروح لروحي بحبك يا نادين)
اتسعت عيناها وصفقوا الجميع مهللين لتتناوب نظراتها ببسمة غير مُصدقة تكاد تشق وجهها وتتعلق بعنقه واضعة قبلة خاطفة بين ثنايا عنقه ثم همست بعشق وبعيون دامعة من شدة سعادتها:
-أنا كمان بحبك يا نقطة ثابتة في حياة وقلب “نادين”
ومن هنا بدأت السهرة التي كانت مبهجة، صاخبة، راقصة مفعمة بالمحبة ومترابطة لحد كبير فكل منهم كفر عن خطيئته ونال ما يستحقه من الألم ولكن دائمًا عوض الله جميل.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)