رواية خطايا بريئة الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم ميرا كرم
رواية خطايا بريئة الجزء الثامن والثلاثون
رواية خطايا بريئة البارت الثامن والثلاثون
رواية خطايا بريئة الحلقة الثامنة والثلاثون
أناديك والليل جاثم خلف الجدران , والفراق قد شهر مخالبه…أناديك والنوم يتقدم مني مهدداً بعشرات من كوابيس الوداع…أناديك يا من كنت قبل دقائق معي.
-غادة السمان
—————
بُستان مليئ بالورود الزاهية كانت تسير به حافية القدمين وثوبها يهفهف مع نسمات الهواء وهي هائمة في روعة عبق المكان الأخاذ الذي تسلل إليها مصحوب برائحته المميزة، تلفتت يمينًا ويسارًا تبحث عنه وخصلاتها تتناثر معها بحركة متمردة تشبهها لحين استقر نبضها وسَكن قلبها حين رأته يقف بعيدًا يحمل جرة ماء قام بملئها من ذلك البئر القريب كي يسقي زهورها، زعقت بأسمه متلهفة تسأله أَكُل هذا من أجلها!
فكانت إجابته تلك البسمة الحانية التي لطالما شملها بها لتتهلل أساريرها و
و تهرول إليه ولكن مهما حاولت الأقتراب تجد ذاتها بمكانها، صرخت بأسمه راجية أن يأتي ويمسك بيدها ولكنه لأول مرة لم ينصاع لها فقد نظر لها نظرة مطولة كأنه يودعها بها ثم وقف على حافة البئر واسقط نفسه به بكل طواعية بداخله لتصرخ باسمه ودون أن تبذل عناء كالسابق وجدت ذاتها على بعد خطوة من موضعه وكأن شيء كان يعيق وصولها؛ ولكن لبؤس حظها لم تجد له أي أثر وحينها صرخت صرخة مدوية استمر انينها وهي تنتفض من الفراش بحالة هياج غير عادية، فلم تذكر شيء سوى ذلك المشهد اللعين حين اطلق خالها عليه الرصاص وسقط أمامها انتفضت من مكانها وصدرها يعلو ويهبط بأنفاس متتالية وهي تكاد تموت رعباً من إجابة سؤالها التي ألقته على زوجة خالها “هانم”التي كانت تجلس بجوار فراشها:
-“يامن” فين…”يامن” حصله ايه؟
حاولت “هانم” طمئنتها:
-اهدي يا بتي إن شاء الله خير
هو في أوضة العمليات والحكما معاه
نفت برأسها وصرخت متوسلة ودمعاتها تهطل متألمة:
-قوليلي انه كويس…هو مامتش مش كده؟
-لع يا بتي هيبجى زين ادعيله
-هو فين…انا عايزة اشوفه…
قالتها ببكاء هستيري وهي تهرول للخارج وتستند على كل شيء يدعمها كي تظل واقفة ولا تخور قدميها بها من شدة فزعها
لتلحق بها “هانم”وتسندها وتوصلها لهناك في حين هي كانت تشعر أن روحها تنسلخ منها وهي ترى الطبيب يخرج بعد استغراقه هو وفريقه أزيد من ثلاث ساعات معه بغرفة العمليات، فكان يعتلي وجهه ملامح غير مُبشرة
جعلت وتيرة بكائها تتزايد و قلبها ينقبض بقسوة بين أحشائها حين سمعته يخبر خالها” سعيد” بحالته:
-للأسف حالته حرجة جدًا الرصاصة كانت قريبة جدًا من القلب … بس احنا قدرنا نخرج الرصاصة ونوقف النزيف …ادعيله يا حج هو في أْمس الحاجة للدعاء
نكس “سعيد” رأسه بأسف في حين هي خارت بها قدميها لولآ “هانم” التي اسندتها واجلستها على أقرب مقعد، لتختنق انفاسها وتظل أسنانها تصطك ببعضها تهز رأسها بحركة غير متزنة بالمرة تنم عن انهيارها وذكرى ذلك اليوم المشؤوم حين فقدت والدتها تترأى أمام عينيها من جديد لتحرق روحها، لتنكمش على ذاتها ويضل جسدها يتأرجح للأمام والخلف بحركة غير متزنة مغمغمة برعب مميت من بين نحيبها الذي يدمي القلب:
-هو كمان هيموت ويسبني…هيسبني زي ما امي سابتني هيستسلم زيها انا مستهلش أن حد يتمسك بالدنيا علشاني أنا عارفة أنا واحدة غبية ربنا ياخدني يارتني كنت أنا اللي اتصابت وريحت العالم مني اااااااااااه….اااااااااه
صرخت بحرقة جثت على صدرها وصوت نحيبها يتعالى ويتعالى ورغم محاولتهم العدة في تهدئتها إلا أنها كانت بحالة هياج وانهيار يرثى لها.
————–
استبد القلق بهم وهم يقفون أمام غرفة العمليات ينتظرون خروج أحد الأطباء لطمأنتهم فكانت “ونيسة” تولول باكية بينما “عبد الرحيم” فكان يجلس منكس رأسه و يكوبها بكفوف يده ويطرق عليها قائلًا بقهر مما أصاب ولده:
-ياريت كنت أني يا وَلدي هجطم الحنضل جطم بعدك يا وَلدي ليرفع رأسه لأعلى ويرجو الله متوسلًا:
-يارب بلاش هو ده زرعة عمري… هو غلبان ميستهلش حاچة عِفشة يارب متخدوش بذنبي
-واللي زيك يعرف ربنا من فين؟
قالتها “قمر” بعيون كارهة، دامية لم ينقطع دمعها قط من حينها…
لتوبخها “ونيسة” قائلة:
-اتحشمي يا مخبلة وسكري خشمك
هبت هي معترضة نعتها لها:
-متعبيش فيا أني مش مخبلة
ومش هسكر خشمي إلا لما افضح چوزك ولو فاكرة إني هخاف منيه كيف اهل البلد اللي اتسترو عليه تبجى غلطانة
وهنا رفع “عبد الرحيم “رأسه لها وضميره ينهش به ينظر لها نظرة مطولة يتهدل الدمع معها وهو يشعر بعجز وانهزام لا مثيل له فيقسم أنه لايعلم كيف طاوعه عقله على فعل ذلك من الاساس وكأن شيطانه الذي كان يقوده لذلك الفعل المشين قد تخلى عنه ليتركه يتحمل العواقب وحده.
ساد الصمت لثوانٍ ولم يكسره سوى خطوات رجال المباحث الذين حضروا بناءٍ على بلاغ إدارة المشفى عن الواقعة وقد جاؤوا كي يتحققوا من ظروف وملابسات القضية فقد
تقدم أحدهم بالسؤال:
-انتوا اهل المصاب
اجابه “عبد الرحيم “بذعر وبوجه شاحب وهو ينهض من مقعده:
-ايوة يا بيه “حامد” يبجى وَلدي
-طب يا حج قولي ايه اللي حصل؟
تلجلج وزاغت نظراته ولم يقدر على التفوه بكلمة واحدة في حين هي انتفضت دون مهابة قائلة:
-هو اللي ورا كل المصايب يا بيه
حاولت “ونيسة” اخراسها:
-سكري خشمك يا بت
رفضت هي وبكل شجاعة وقفت مقابل لهم قائلة:
-لع مهسكرش لتنظر ل”عبد الرحيم “وتستأنف تشير عليه بأصابع الاتهام:
-انت اللي كاريت على چوز “نادين” وجات في “حامد” بالغلط
انت جولت بخشمك مش هو المجصود جَبل ما تاخد البندجة وتطخه…
هنا انقضت “ونيسة” تكتم فمها بكف يدها صارخة:
-هتخبصي تجولي ايه يا مخبلة ده ابو چوزك عاوزة ترميه في حديد
نفضت يدها عنها وصرخت باكية بأنهيار تام نابع من تمزق قلبها على وليف روحها:
-مهخبص أنا بجول الحجيجة اللي أنتوا بتغشموها “حامد” بين الحيا والموت وابوه لازمنًا ياخد جزاته
كان هو يستمع لها برأس منكس بخزي لم يقوى عن الدفاع عن ذاته فهي محقة هو المتسبب بكل ذلك ويستحق العقاب و سوف يرضى بأي شيء إلا أن يصبح عقابه هو فقدان ولده الوحيد وسنده بالدنيا. لذلك غمغم بنبرة مختنقة حين سأله الضابط عن صحة ادعائها عليه:
-حوصل يا بيه بس وحياة الغالين عندك هملني اطمن على ولدي في اللاول
نفي رجل المباحث الجنائية برأسه وأشار لأحد معاونيه أن يتحفظ عليه، ليصرخ هو راجيًا:
-احب على يدك يا بيه هملني اطمن على وَلدي
أصر على التحفظ عليه واخذه معه في حين هو صرخ ببكاء مضني وهو ينحني على ركبتيه و يقبل حذائه:
-احب على رچلك يا بيه هملني ده وَلدي ومحلتيش غيره
رفض واخبره برسمية وهو ينحني يقبض على ذراعه لكي يوقفه :
-لو الحكاية اللي مراته حكتها دي صح صدقني متستهلش الرحمة ولا الرأفة… ليدفع به نحو معاونيه ويأمرهم:
-خدوه
حاوطوه من الجهتين وقاموا بدفعه لكنه كان يعافر معهم ويصرخ راجيًا ودمعاته تزف ندمه وحسرته وهو يلتفت برأسه يرجو رجل المباحث:
– يا بيه…هملني…وحياة الغالين عندِك…هطمن عليه واعمل فيا ما بدالك يا بيه علشان خاطر رَبنا
أشار بيده دون تعاطف ليستمروا في دفعه للخارج ليصرخ “عبد الرحيم “بقهر:
-اااااااه يا وَلدي ….سامحني انا اللي استاهل ربنا ينتجم مني…رَبنا ينتجم مني
ليتحمحم الضابط ويوجه حديثه ل”قمر” التي كانت تقف متسمرة:
-اطمني على جوزك وهستناكِ في المركز علشان أخد باقي اقوالك
هزت “قمر” رأسها بطاعة وحين غادر
لطمت “ونيسة” وجهها وانقضت على “قمر” تمسك ذراعيها وترج بجسدها ناهرة:
-إكده تشهدي على ابو چوزك يا مخبلة وتودريه يخونك عيشنا وملحنا
حاولوا أحد الممرضات منعها عنها ولكن لم يفلحوا فكانت تهز بها بطريقة جعلتها تفقد اتزانها وتدور رأسها لتسقط في حينها فاقدة لوعيها.
—————
في ظل تلك الأجواء الكارثية التي كانت على الصعيد الأخر كان هو يتواجد بذلك النادي الذي يملك حقوق عضويته.
جالس شاعرًا بالضيق الشديد بعدما أدرك انه مخطئ حين ظن أن بمجيئه لهنا سيجد ما يلهيه ويكبح تفكيره فيما حدث داخل المشفى بينه وبين طليقته
فكان يقوم بمراجعة بعض الملفات الخاصة بمرضاه حين طرق باب مكتبه وظهرت هي أمامه حاملة بيدها طفل رضيع من الوهلة الأولى علم أنه ابنها فقد نهض هامسًا بتعجب من حضورها:
-“هاجر”
ابتسمت هي بسمة واسعة واجابته وهي تمد يدها كي تصافحه:
-ازيك يا “نضال” وحشتني
جعد حاجبيه وتجهمت معالم وجهه في حين استأنفت هي مبررة زيارتها:
-أنا كنت ب”جاسر” ابني هنا علشان عنده تطعيم وقولت اعدي اسلم عليك واشوفك
يحفظ كافة تصرفاتها عن ظهر قلب ويعلم أن حجتها واهية ولذلك تنهد بضيق وأجابها:
-ماما قالتلي انك قومتي بالسلامه وبلغتها تباركلك بالنيابة عني
-ولا يهمك…قالتها وهي تناوله الصغير بين يده وتجلس بالمقعد المقابل له، بينما هو ارتبك من فعلتها ولكنه معتاد بحكم عمله على التعامل مع الأطفال وخاصًة حديث الولادة منهم لذلك أخذ يُهدهد الصغير بحنو شديد وعلى ثغره بسمة هادئة، لتباغته وهي تنظر له نظرات لطالما خصته بها :
-كان نفسي ابني يبقى منك
توقف عن هدهدة الصغير واندثرت بسمته ونظر لها نظرة مطولة فسرتها هي:
-متستغربش أنا عمري ما بطلت احبك حتى لما سبتك بس غصب عني كان نفسي ابقى أم وأنت…
قاطعها وهو ينهض يعيد لها ابنها:
-واديكِ بقيتِ وحققتي اللي كنتِ بتحلمي بيه عايزة ايه تاني وبتقلبي في القديم ليه؟
-علشان مش قادرة يا” نضال “مش عارفة احبه ربع ما كنت بحبك…
زفر انفاسه واجابها بكل تروي وهو محتفظ بهدوء اعصابه المعتاد:
-“هاجر” الكلام ده عيب يطلع منك انتِ على ذمة راجل اختارتيه بكامل ارادتك و لازم تحترميه وتقدري وجوده… اللي بينا صفحة واتقفلت
نفت برأسها بعدم اقتناع واقترحت:
-هطلق وخلينا نرجع لبعض
حانت منه بسمة ساخرة ورد بخيبة أمل نابعة من ذلك الشرخ العميق الذي خلفته هي بكبرياء رجولته وكان سبب في تنغيص عِشرتهم وجعلها شبه مستحيلة:
-طول عمرك عايزة من الدنيا كل حاجة ومش بتحبي تخسري …بس للاسف انا معنديش أي استعداد ارجع لواحدة كانت بتعايرني بنقصي وبتقل مني ومحسساني انها بتتفضل عليا
-انا كنت غلطانة يا “نضال” سامحني
قالتها نادمة ولكنه لم يتأثر بندمها وهدر بنبرة جدية للغاية كي يجعلها تزيح تلك الأفكار عن رأسها:
-انا مش بلومك يا”هاجر” انك معرفتيش تتقبلي عِلتي و طلبتي الطلاق ده حقك وانا قدرت رغبتك واحترمتها واصلًا مكنتش هقبل احرمك انك تبقي أم و أظلمك معايا… أنتِ بنت خالتي قبل ما تكوني طلقيتي واتمنالك الخير فلو سمحتِ بلاش تفتحي جراح قديمة وتقلبي في اللي فات وياريت أخر مرة تفتحي معايا أو حتى مع نفسك الموضوع ده وحاولي ترضي بحياتك الجديدة وتحمدي ربنا
-“نضال” أنا ندمت وعمري ما كنت مبسوطة غير معاك… أنت مش عارف أنا عايشة ازاي…
قطع سيل اعذارها التي لن تنطلي عليه ولن يستسيغها مهما فعلت وتحجج قائلًا كي ينهي تلك الدراما الهزلية التي تعارض مبادئه:
-انا اسف يا “هاجر” بس عندي عملية كمان عشر دقايق ولازم اتحضرلها قومي روحي لبيتك و جوزك وبلاش تخذلي ثقته فيكِ اكتر من كده.
اصابت كلماته الجارحة صميم ضميرها لذلك غامت نظراتها ونكست رأسها ثم عدلت وضعية حملها للصغير وغادرت تاركته من حينها يشعر أن شيء ثقيل يجثو فوق صدره وسؤال لعين يتردد بعقله ماذا لو كان هو بموضع زوجها.
-هو ممكن اعزمك على فنجان قهوة
انتشله من شروده صوت أخر شخص توقع أن يراه الآن. ليرفع خضراويتاه ويعقب على حديثها بملامح ثابتة:
-لأ مش ممكن
زاغت نظرات “رهف “وهي تظنه يتعمد أن يحرجها كما فعلت معه ولكنه استأنف بحاجب مرفوع بتسلية:
-مش بشرب القهوة ممكن شاي بحليب يا بشمهندسة
شبح بسمة خافتة كاد يظهر على ثغرها اخفته سريعًا ثم جذبت المقعد وجلست مواجهة له ليباغتها وهو يشهر اصبعه بوجهها:
-بصي انا طيب ازاي وسيبتك تطفلي عليا
قطمت شفاهها بحرج وعقبت:
-انت قلبك اسود اوي
حانت منه بسمة مشاكسة رغم تلك الحالة التي كان عليها وقال بخفة وهو يؤشر على ذاته بكل براءة:
-أنا بالعكس واللهِ حتى بأمارة ان بقالنا خمس دقايق وممسكتش في خناقك
نكست رأسها تتحاشى عيناه ولملمت خصلاتها البندقية بشيء من التوتر قائلة:
-احنا اتفقنا نعمل معاهدة سلام مش كده.
هز رأسه وتنهد عميقًا قبل أن يجيبها:
-وأنا لسة عن وعدي يا بشمهندسة…طمنيني “شيري” عاملة ايه دلوقتِ؟
اجابته بتلقائية :
-الحمد لله احسن والحرارة مرجعتش تاني… أنا كلمت ماما “ثريا ” وقاعدة معاها وجيت اجيب” شريف” التمرين والله لو مكنش عنده بطولة مكنتش نزلت وسيبت اخته
هز رأسه بتفهم رغم تعجبه من استفاضها معه بالحديث:
-حمد الله على سلامتها يا بشمهندسة
تنهدت واخبرته بعدما أزاحت تحفظها بعض الشيء عرفًا بشهامته و مواقفه العدة معها:
-البركة في ربنا وفيك يا دكتور
أجابها ببساطة دون عناء التكلف:
-انا معملتش حاجة متكبريش المواضيع
تحمحمت هي تجلي صوتها واخذت تفرك بيدها في حين جمدت خضراويتاه عليها وقال يحثها على الحديث:
-اتكلمي يا بشمهندسة انا مش بَ عُض انا أليف واللهِ
أطلقت سراح بسمتها اخيرًا على دعابته وتشجعت قائلة:
-بما أننا عملنا معاهدة سلام وانا اعتذرت منك…خليني اكمل شغل في العيادة انا حاسة انها هتطلع حلوة اوي معايا
مسد منحدر أنفه وأجابها متهكمًا:
-غريبة هتقبلي تتواضعي للدرجادي
زفرت حانقة من ذاتها ومن هجومها السابق عليه ثم قالت بحرج وهي تمط فمها:
-مش بقولك قلبك اسود
قهقه هو بكامل صوته وكأن الحزن الذي كان يعتريه منذ قليل قد تبخر وخاصًة حين اجابها من بين ضحكاته المتسلية:
-قلبي ابيض زي الشاي بحليب اللي نسيتيه يا بشمهندسة ومش مسامح فيه
هزت رأسها بلافائدة وهي تتحاشى النظر له واعتلى ثغرها بسمة هادئة تنتمي ل “رهف” القديمة ثم أشرت للنادل كي تلبي رغبته، بينما هو دون أن تندثر بسمته تجمدت نظراته عليها وهمس بصوت خفيض للغاية لم يصل لها:
-لسة ضحكتك زي ما هي متغيرتش
قطع سيل نظراته قولها بأريحية أكثر رغم تحفظ نظراتها:
-مسامح كده اهو هيجيب الشاي بحليب بتاعك اظن كده بطلت حجتك قول انك موافق بقى انا بجد متحمسة
تنهد بعمق ودون وعي كانت خضراويتاه تغيم بنظرة اعجاب واضحة حين أجابها ببسمة مريحة مشاكسة:
-موافق طبعًا يا بشمهندسة ده شرف ليا
تنهدت بأرتياح ثم ببسمة هادئة متحفظة بعض الشيء تعتلي ثغرها أخبرته:
-يبقى اتفقنا انا هبدأ من بكرة ولو حابب اجبلك المخطط مرة تانية تبص عليه قبل ما ابدأ مفيش مشكلة
اومأ له لتنهض هي قائلة:
-تمام عن اذنك يا دكتور
نهض ايضًا ومد يده لها قائلًا وشيء لعين بداخله يدفعه كي ينظر لرماد عيناها التي يكمن شجن غريب بها لأخر مرة :
-مبسوط اوي بمعاهدة السلام اللي بقت بينا يا بشمهندسة
ترددت لوهلة قبل أن تصافح يده وحين فعلت غرقت اناملها براحة يده لترفع رماديتها له وتلحظ نظراته النافذة لتطرق برأسها وتنظر لكل شيء ماعدا هو ثم همست بنبرة متوترة وهي تسحب يدها من بين خاصته :
-انا اسعد يا دكتور…عن اذنك
-والله عال يا هانم سايبة ولادك وقاعدة مع البيه ولا على بالك
قالها هو بحدة مبالغ بها وهو يتقدم من مكان جلستهم وعينه تطلق شرار مشتعل يكاد يحرقهم معًا.
-“حسن”
تفوهت بأسمه بشدوه لا تستوعب ما نطق به في حين هو هدر بغيرة قاتلة وهو يرفع أصابع الاتهام نحو “نضال”:
-ده اللي علشانه مش راضية ترجعيلي مش كده…مش ده الدكتور اللي ساعدك وفبركلك التقرير علشان تحبسيني.
هنا تقدم “نضال” مستنكرًا اتهامه:
-انت اتجننت بتقول ايه؟ حاسب على كلامك يا بني أدم أنت؟
احتدت نظرات “حسن “وقال بعجرفة كعادته التي لم يغيرها شيء وهو يقبض على حاشية ملابسه:
-ماله كلامي مش جاي على هواك ولا ايه يا دكتور محموق اوي وريني تقدر على ايه.
جز “نضال” على نواجذه وكاد يرد رد يليق به وبأخلاقه وهو ينزع يده عن ملابسه لولآ أن “رهف” وقفت تحيل بينهم وتوجه حديثها ل “حسن”:
-اللي بتعمله ده !انت بجد حد مش طبيعي انا مش مصدقاك
رد “حسن” منفعل غير عابئ بهمهمات رواد المكان من حولهم:
-بقول الحقيقة يا هانم ويمكن كمان لسة قاعدة في شقة “سعاد” لغاية دلوقتي علشان تبقى جنبه
فاض الكيل به وقد فكر جديًا أن يتخلي عن ثباته الإنفعالي؛ حتى انه كور قبضة يده بقوة يحاول كبح رغبته و التحكم في زمام نفسه قبل ان ينقض عليه يهشم رأسه ويُبلعه لسانه السليط الذي يقطر سمٍ زعاف، ولكنه تروى من اجلها ومن اجل تلك العيون التي تتربص بهم وتتصيد للفضائح، بينما هي ردت على الأخر بشراسة قوية:
-ده اللي عقلك هيئهولك علشان انت فاكر ان كل الناس زيك…
ردد بغضب بعدما تفهم إلى ماذا ترمي:
-قصدك إيه يا “رهف”؟
اجابته بنظرات قوية ثابتة :
-قصدي انت عارفه كويس… وياريت تمشي وكفاية فضايح لغاية كده
زاغت نظراته وجز على نواجذه ثم قال من تحت انفاسه الغاضبة:
-على العموم خالتي هي اللي بعتاني علشان لازم تسافر البلد وتلفونك مقفول ومش عارفه توصلك
جعدت حاجبيها واستطردت قائلة بعدم ثقة:
– انا سيباها مع “شيري” ومجبتش سيرة سفر …
أجابها ونظراته الحاقدة لم تفارق موضع “نضال”:
-“يامن “ضربوا عليه نار وحالته خطيرة ولازم اخدها اوديها هناك علشان تبقى جنبه
شهقت هي بفزع وقالت متعجلة بعدما استشفت صدق حديثه:
-يا خبر طب يلا نجيب “شريف” ونروحلها علطول
لتلتفت ل” نضال” قائلة وهي تخطو خطواتها:
-عن اذنك يا دكتور.
رد “نضال” بتنهيدة متقطعة:
-طبعًا اتفضلي يا بشمهندسة وهبقى اكلمك اطمن عليه.
هزت رأسها وهرولت مُسرعة لتجلب ابنها هاتفة بأسم الأخر:
-يلا يا “حسن”
بينما هو كان بنيته أن ينقض عليه ويفتك به من شدة غيرته ولكن حين تناهى إلى مسامعه اسمه منها من جديد عرض عن الفكرة وكل ما كان يشغله أن يهرول خلفها ولكن بعد أن رشق “نضال” بنظرة مغتاظة حاقدة تنم عن تلك النيران التي انشبها بداخله، ولكن الأخر كعادته أخذ الأمر بكل ثبات إنفعالي وبنظرات ثابتة ظنها الأخر متحدية زادت من سعير نيرانه المتأججة.
——————-
شعرت بثاقل غريب برأسها و ضعف يجتاح كافة جسدها حين رفرفت بأهدابها تستعيد وعيها؛ لتجد طبيبة تجلس جوارها تتفقد حالها، تحاملت على ذاتها و صعدت بجزعها تستند على ظهر الفراش المكتنز خاصًة غرفة الكشف وهي تمسد جبهتها متمتمة:
-هو ايه اللي حوصل؟
أجابتها الطبيبة بعملية وببسمة هادئة:
-كنتِ غميانه يا “جمر”
هزت رأسها ثم نفضت الغطاء عنها وهبت مغمغمة بملامح حزينة متهدلة والقلق والحسرة تفتك بها:
-“حامد” أنا لازمنًا اطمن عليه زمناته خرچ من اوضة العمليات
منعتها الطبيبة قائلة وهي تجلسها مرة أخرى:
-اطمني يا جمر “حامد” هيبجى زين وتنه خارچ والدكتور جال أن الرصاصة ما مچاتش في أعضاء حيوية وحالته لحد كبير مستقرة
رفرف قلبها وانفرجت معالم وجهها وتسائلت بعد تصديق:
-من صوحك يا حكيمة
لتؤكد الطبيبة قائلة:
-من صوحي يا “جمر” وهو كلها كام ساعة وينجلوه اوضة عادية وهتجدري تطمني عليه بنفسك و تبشريه
تهللت أسارير “قمر” وكسرت بسمة باهتة وجوم وجهها ولكن تردد صدى كلمتها الأخيرة بأُذنها لتتساءل بريبة:
-ابشره بإيه؟
وهنا اخبرتها الطبية بيقين مؤكد بعدما قامت باكتشاف الأمر عند إغمائها:
-مبارك يا جمر أنتِ حِبلة
——————
-ايه بينك وبينه؟
قالها هو منفعل وهو يجلس بجوارها في السيارة اثناء قيادتها في طريق المنزل.
زفرت هي انفاسها واجابته بإقتضاب دون أن تمنحه نظرة واحدة:
-شغل
-شغل!
كرر جملتها بنبرة منفعلة للغاية وملامحه تنم غضب عظيم…
لتزفر من جديد حانقة وتدير رأسها لصغيرها المنكمش بمقعد السيارة قائلة:
-“شريف” حط السماعات بتاعتك يا حبيبي واسمع الاغاني اللي بتحبها
اومأ الصغير بطاعة وعينه لا تفارق ظهر والده بذعر ظهر جلي على تقاسيمه حين أخرج سماعات اُذنه واوصلها بجهازه وانصاع لها لتطمئنه “رهف” بعيناها من المرآة الأمامية التي علقت عينه مصادفة عليها وتخبره بنظراتها أن كل شيء سيكون على مايرام.
في حين أن ابيه لم يكن يشغله كل ذلك واستأنف صراخه بها:
-شغل ايه اللي بينك وبينه وبعدين حتى لو شغل مش في النوادي يا هانم
-ممكن تتكلم بطريقة احسن من دي وراعي أن الولد معانا وخايف من صوتك
لم يهتم بحرف مما نطقت به بل تعالى صوت صراخه أكثر:
-انا بقولك ايه وانتِ بتقوليلي ايه انا عايز افهم شغل ايه ده اللي بينك وبينه ومخليه بيتكلم بثقة كده ويقولك هكلمك اطمن عليه يعني معنى كده انك عطياله كمان رقم تليفونك
وهنا لم تتحمل طريقته التي لم تتغير وتذكرها بخنوع “رهف” القديمة لذلك قالت بشراسة قتالية:
-انت بأي حق بتحاسبني وبتتهمني…انا مبقتش مراتك واللي بينا هما ولادك وبس متديش نفسك حجم اكبر من حجمك في حياتي.
برر هو بعجرفة دون أن يعير شيء أي أهمية
غير تلك الغيرة التي تتأكل قلبه:
-ماهو علشان خاطر انك أم ولادي أنا بحاسبك وبصراحة بقى موضوع شغلك ده مش داخل دماغي وشايف ولادك أهم ومن حقهم تتفرغي ليهم ده لو عايزة مخدهمش منك…
اوقفت سيارتها أمام البناية فور وصولهم وأمرت الصغير بحركة من يدها أن يسبقها للداخل وحين فعل تنهدت تنهيدة مثقلة بالكثير وقالت وهي تنظر له نظرة مطولة مؤنبة مفعمة بالخذلان والخزي التي ذاقتهم على يده:
-تاخدهم مني ! تاني هترجع تساومني وتلوي دراعي بيهم …أنت هتفضل زي ما أنت عمرك ما هتتغير…
نكس رأسه وابتلع غصته قائلًا بتراجع كي يلاحق زلفة لسانه وتسرعه:
-لأ اتغيرت وبُعدك عني علمني كتير بس غصب عني يا “رهف” أنا قولت كده من حُرقتي أنا هموت لو شوفتك مع حد غيري
-غيرك…مش ده الحق اللي أنت عطيته لنفسك قبل كده!
غامت عينه بالندم وقال راجيًا بعدما أزاح حدته وعجرفته جانبًا:
-“رهف” أنا ندمت وحياة ولادي ندمت وطلقتها ولسة عندي أمل تسامحيني أنا لسة بحبك
نفت برأسها بعدم اقتناع وردت بصمود وقناعات أصبحت راسخة بها بعد نكبتها:
-مشكلتي معاك مكنتش هي وبس…واظن مش محتاج إني اقولك نفس الكلام في كل مرة ومش كل مرة هقولك حاول تتقبل الوضع الجديد وتتعايش معاه
مرر يده بخصلاته الفحمية القاتمة وقال وهو يشعر أنه على حافة الجنون:
-طب ريحيني وقوليلي أيه اللي بينك وبينه؟
-قولتلك شغل وبس… وصدقني يوم ما هفكر أربط مصيري بواحد مرة تانية مش هخبي ومش هقدم حجج ومبررات ليك
قالتها وهي تتدلى من السيارة ليلحق هو بها ويتدلى مثلها ويتمسك بذراعها قبل أن تتخطاه قائلًا بحسرة وعينه تتوسل غُفرانها:
-“رهف”…بلاش ترجعيلي خدي وقتك وانا عندي أمل انك تسامحيني انا هستناكِ ومش هيأس بس علشان خاطر اللي كان بينا بلاش تعملي فيا كده أنا مش هستحمل اشوفك مع راجل غيري… ليتناول نفس مثقل عميق ويزفره محمل بعبق احتراق قلبه ويستأنف بنبرة مرتعشة راجية :
-اكرهيني، عاقبيني، ابعديني، اعملي فيا اللي يريحك؛ بس اوعي تحبي غيري…
ارتعش فمها ونزف جرحها الكامن مرة أخرى فور حديثه، و وجدت ذاتها تخبره بكل وضوح وبصوت مذبوح يقطر بأنين قلبها:
-قلبي مبقاش عنده طاقة ليك او لغيرك يا “حسن”…انا هعيش لولادي وشغلي ونفسي وبس وياريت متفتحش في جراح قديمة وحاول تتخطاني زي ما بحاول اتخطاك…
قالتها وهي تهرول من أمامه كي تصعد الدرج لتؤاذر تلك السيدة الحنون في مصيبة ولدها تاركته ينظر لآثارها بعيون غائمة وبملامح متهدلة بائسة تنم عن فداحة خسارته لها.
——————
وقفت واهنة تستند على زجاج العناية المشددة وعيناها تفيض بمخزونها تطالعه وهو مُمدد أمامها شاحب الوجه وبهيئة سَاكنة تحاكي الموتى بثباتها، فكل ما يدل على حياته هو طنين الاجهزة الطبية المتصلة بجسده ويتدلى من احدهم خراطيم الهواء تخترق فمه وانفه، أما عن صدره العاري فتم تغطيته كاملًا بشاش طبي حيث موضع الرصاصة التي اخترقته.
اختنقت انفاسها وهمست بحرقة راجية وعيناها الباكية لم تفارق موضعه خلف الحاجز الزجاجي:
-متسبنيش يا “يامن” أنا مليش غيرك …أنا اسفة والله آسفة أنا السبب يارتني انا مكانك…أنا استاهل لكن أنت لأ يا “يامن”
كانت تقف على مقربة منها احد الممرضات التي تقوم بمناوبة ليلية وقد تأثرت كثيرًا بحُزنها وتعاطفت معها لتتقدم منها وتقول مواسية:
-ربك كريم ادعيله يابتي
-عايزة اشوفه خليني أدخله وحياة اغلى شيء عندك
-الزيارة ممنوعة يا بتي والحكيم منبه
-مش هتأخر إن شا الله ثواني بس اشوفه عن قرب وهخرج بالله عليكِ وافقي
تنهدت بقلة حيلة وقالت وهي تنظر يمينًا ويسارًا تتفقد خلو المكان:
-ماشي يا بتي انا هدخلك بس علشان جطعتي جلبي… هِمي معايا هلبسك جاون واعقمك جَبل ما تدخليله ويارب تعدي على خير
هزت” نادين” رأسها بأمتنان عظيم دون أن تنضب دمعاتها وما أن جهزتها وادخلتها لموضع رقدته، كتمت شهقاتها بكف يدها وتقدمت منه بخطوات وئيدة واهنة تطالعه عن كثب بقلب يتلوى ويأن بين احشائها، وضمير ينهش بها ويخبرها أن هي المتسببة الوحيدة في ما أصابه،
حاولت التحكم بأنفاسها ثم مالت على جبينه تقبله قبلة عميقة مطولة ودمعاتها تنهل من عيناها تروي شحوب وجهه معها أثر قربها…لتتراجع برأسها ومازالت تميل بجزعها تتأمل سكونه بنظرة متألمة وتتلمس يده قائلة بنبرة مختنقة ممزقة لا مثيل لها:
-ارجعلي يا “يامن” …ارجعلي…متسبنيش حقك عليا أنا السبب…انا عارفة أن مفيش حاجة هتبررلك غلطي وأنا مش بنكره بس انا ندمت والله ندمت…بس متأخر أوي لتمرر يدها تزيح دمعاتها التي تعيق رؤيتها لوجهه وتستأنف مبررة سبب عنادها وما احرق قلبها :
– أنا كل اللي كان قاهرني منك انك ثورت لكرامتك و سبتني وانت عارف إني مقدرش اعيش من غيرك… أنا كنت بحلم بيك جنبي كل ليلة وعندي امل انك هترجع؛ لغاية ما بعتلي ورقة طلاقي…أنت وجعتني أوي ومكنتش قادرة اتخيل أنك خلاص خرجتني من حياتك…لتشهق وتضيف بندم حقيقي من بين نحيبها:
– أنا عارفة إني غلطانة وغلطي كان صعب عليك تتقبله ومش بلومك أنا بس كان نفسي تسمعني كنت فاكرة أنك هتفضل جنبي ومستحيل تتخلى عني زي كل مرة بغلط فيها أنا اتعودت اجري عليك واتحامى فيك… أنا اكتشفت إن أنت كل اهلي وناسي وعزوتي ومفيش حد هيخاف عليا أدك… أنا بحبك… بحبك… وعلى قد ما بحبك على أد ما بكره نفسي إني عمري ما ريحتك ارجعلي يا “يامن”… متسبنيش لوحدي أنا هموت من غيرك والله هموت من غيرك أنا ندمت والله ندمت… وبدل ما اترمي في حضنك وقولك أد ايه أنت وحشتني لما رجعت… عاندت قلبي وعاندتك وكنت السبب في اللي حصلك يارتني موت ولا أني كنت سبب في اذيتك…
لتخور بها قدميها وتجثو بجوار فراشه راجية وهي مازالت تتشبث بيده وكأنه هو طوق نجاتها:
-متسبنيش يا “يامن” أنا محتجالك اوي علشان خاطري لو مش علشاني علشان خاطره هو… قالتها وهي ترفع جسدها وتجعل يده تستقر على بطنها تفضح له ذلك السر التي تكتمت عليه كي لا يعود لها مضطر من أجله:
-أنا حامل يا “يامن”….لتبتلع غصتها المريرة وتستأنف بيأس وبتشائم اصبح ملازم لها وهي تريح جانب وجهها على راحة يده:
-أنا مش هعرف اربيه لوحدي أنا مش هعرف اكون أم مش هعرف….انا واحدة غبية عمرها ما عرفت تحافظ على حاجة
-كفاية إكده ارچوكِ هتتسبي في اذيتي انا دخلتك بس رأفة بيكِ
قالها الممرضة وهي تنهضها من جلستها ارضًا بجانب فراشه، لترفع عيناها الدامية لها وتغمغم من بين شهقاتها بهستيرية:
-هيبقى كويس مش كده؟
طمنيني وقوليلي أنه مش هيموت ويسبني
نكست الممرضة رأسها بأسف وحاولت مواساتها :
-ادعيله وخلي عشمك في ربنا كبير
شهقت بحرقة قاسية وغمغمت بخزي من نفسها:
-بس ربنا مش هيقبل دعائ واحدة زي أنا كُلي ذنوب
اجابتها الممرضة بإيمان قوي:
– متجوليش إكده يا بنتي واستغفري ده ربنا قال في كتابه العزيز: «قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِن رَّحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ»
استهدي بالله يا بتي واستغفري ربنا وسلمي أمرك ليه واوعاكِ تيأسي ده ربك غفور رحيم ومش هيردك واصل
هزت رأسها باقتناع تام وتمتمت بنشيج قوى نابع من توبتها الصادقة وندمها الذي ينهش بها وهي ترفع نظراتها للأعلى:
-يارب…يارب سامحني و رجعهولي يارب اشفيه ومتوجعش قلبي عليه
ربتت الممرضة على ظهرها وسحبت جسدها الواهن معها للخارج، لتظل عيناها الدامية مُعلقة به وتردد دعائها بتضرع إلى الله بنفس تائبة نادمة على سوء أفعالها التي اوصلته لهنا.
—————–
اتى الموعد المتفق عليه وها هم يجلسون بغرفة الصالون ينتظرون حضورهم وهم بأحسن حلتهم ويجلبون معهم باقة رائعة من الورود و زيارة فاخرة تليق بعزة نفسهم.
فكان هو متوتر للغاية من تلك الشروط التي سوف يخبره بها فكل ما يخشاه أن تكون أمور مادية فوق استطاعته ولا يستطيع تنفيذها، في حين كانت “شهد ” والصغيرة في عالم موازي يطالعون كل شيء بانبهار شديد.
-هار اسوح هو في كده أيه الاُبهة دي يا “حمود”! ده متحف يا اخويا مش بيت هو ابوها ده بيشتغل ايه! ده لو تاجر مخدرات بيته هيبقى اقل من كده!
زفر “محمد “بتوتر قائلًا وهو يحل رابطة عنقه بعض الشيء كي يستطيع التنفس بشكل أفضل:
-“شهد “ابوس ايدك بلاش فضايح اسكتي عيب كده افرضي حد سمعك
لوت شدقيها وهمهمت مستنكرة:
-يوه انا قولت حاجة انا عايزة اطمن يا خويا ده هيبقى جد عيالك
-“شهد “مفيش حاجة من دي و افصلي لو بتحبي اخوكِ انا اصلاً متوتر بما فيه الكفاية
-ربتت على ساقه بمؤازرة ثم طمئنته بِفطنة:
-ياخويا صلِ على النبي والنعمة خير ده ابوها جه لغاية عندك يعني متقلقش وإذا كان على الشروط اللي قال عليها اكيد هتبقى في مقدرتك ابوها مش هيعجزك هو عارف ظروفك كويس
هز” محمد” رأسه لها يحاول أن يستبشر بحديثها لتمنحه هي بسمة حانية وهي تعدل من رابطة عنقه التي أفسدها بتوتره:
-متقلقش يا قلب اختك بإذن الله ربنا هيتمم فرحتك على خير
رفع يدها التي تحاوط رابطته وقبلها بحنو اخوي يؤمن على دعوتها:
-يارب يا “شهد” وميحرمنيش منك ابدًا
حانت من ذلك الذي يقف على عتبة الباب بسمة هادئة بعدما شَهد على ما دار بينهم وكم شعر بالراحة لتلك العائلة الصغيرة المترابطة و المفعمة بالدفء والاستقرار الذي يفتقده هو وصغيرته التي تخطته قائلة:
-بابي يلا ندخل نرحب بالضيوف انت قولت معاهم بنت وانا عايزة ألعب معاها
انتبهوا عليهم لينهضوا في حين تقدم “كاظم “وصغيرته ببسمة رزينة يرحب بهم:
-اهلًا وسهلًا اتفضلوا بعتذر بس عمي معاه المحامي في أوضة المكتب وثوانِ وهيكون معانا
هز “محمد” رأسه بتفهم بينما “شهد” ظلت منكسة راسها بحرج في حين أن الصغيرة تقدمت من طمطم قائلة:
-ازيك انا “سنا” وانتِ اسمك ايه؟
ابتسمت “طمطم” بأعجاب وهي تتمعن ب “سنا” التي تشبه عرائس الباربي في هيئتها بعيونها التي تشابه لون السماء وخصلاتها الشقراء الناعمة المنسدلة.
-انا “طمطم” انتِ حلوة اوي شبه الاجانب
قالتها بعفوية، لترد” شهد “وهي تشملها بنظراتها الحانية:
– بسم الله ما شاء الله عليها ربنا يخليهالك زي القمر
قولها جعل ” كاظم “يبتسم ويوضح:
-هي فيها شبه كبير من مامتها أصلها إيطاليا
انطفأت ملامح الصغيرة واطرقت برأسها قائلة:
-الله يرحمها راحت عند ربنا
غامت عين “شهد” وضمتها لها بحنان قائلة:
-ياحبيبتي يا بنتي ربنا يرحمها معلش هي في مكان احسن
اومأت الصغيرة وهي ماتزال بين أحضانها:
-بابي قال أن مامي في الجنة
هزت “شهد” رأسها ثم وضعت قبلة على قمة رأسها قائلة بتعاطف وعيناها تكاد تفيض بدمعها:
-طب خلاص بقى روقي كده بالله عليكِ إلا هعيط و أنا اصلًا فرفوشة ومليش في النكد.
ابتسمت الصغيرة وخرجت من أحضانها تطلب بأدب:
-طب ممكن اخد “طمطم” تلعب معايا
وافقت “شهد” ببسمة مرحبة واعطت ابنتها اشارة بعيناها أن تنصاع لها وما أن خرجوا تنهدت وهمست بحزن لحالها:
-اللي قال اليتيم يتيم الأم صدق واللهِ
كان هو يشاهد كل ما يدور بملامح رزينة هادئة، أما عن “محمد “فكان في عالم موازي تتركز عينه على مالكة قلبه التي أخذت تقترب بثوب وردي رقيق مزموم بشريط فضي من عند الصدر وينسدل باتساع يهفهف مع خطواتها مثل قلبه الذي يكاد يشق صدره ويرفرف من شدة سعادته ، فقد هب واقفًا يعدل من ياقة قميصه الزاهي الذي يضاهي لون نيته الناصعة ثم اغلق زرار حلته الرمادية في حين هي لم تستطيع منع ذاتها من تأمله فقد اسرها بهيئته الرسمية التي تخطف الأنفاس، دام عناق نظراتهم طويلًا حتى انه لم ينتبه أن ابيها يرافقها إلا حين قال:
-اهلًا يا “محمد” بعتذر عن تأخيري
تحمحم بحرج ومد يده يصافحه بأدب:
-ولا يهم حضرتك يا “فاضل” بيه
وكعادتها لم تستطيع ضب لسانها فقد ردت متهكمة:
-قعدت تقول لو اتأخرتوا هرجع في كلامي واهو ربنا نصرنا وانت اللي اتأخرت بس احنا ولا هنتأثر
قهقهوا جميعًا على حديثها ليدعوهم “فاضل” أن يستريحوا
وما أن فعلوا تناوبوا النظرات بينهم في انتظار من سيشرع بالحديث ليتحمحم “محمد” يجلي صوته الأجش ويقول بشيء من الارتباك:
-انا جيت لحضرتك زي ما الأصول بتقول يا “فاضل” بيه، اطلب ايد” ميرال”
ابتسم “فاضل” بسمة هادئة ورد بقبول:
-وانا معنديش مانع يا “محمد”
تهللت أسارير الجميع و دخلت “مُحبة “مهللة بزغودة فرحة وهي تحمل كاسات العصير وتضعها على الطاولة ثم وقفت بجانب “ميرال” و ربتت على كتفها بحنو مباركة…
ليضيف “فاضل “بجدية بعدها:
-انا صحيح وافقت بس زي ما قولتلك ليا شروط
ابتلع “محمد “رمقه وأجابه:
-وانا تحت امرك
هز “فاضل” رأسه برضا ثم نظر لأبنته و وجد البسمة لا تفارق وجهها والسعادة تشع من عيناها ليتنهد بعمق ثم يقول بجدية شديدة:
-انا وكلت المحامي هيصفي كل شغلي برة وهستقر هنا
تفاجأت “ميرال” قائلة:
-بجد يا بابي يعني مش هتسافر تاني وتسبني
نفى “فاضل” وأكد لها ببسمة حانية:
-لأ يا قلب بابي خلاص مش هخلي أي حاجة تبعدني عنك
نهضت “ميرال” وقبلته بوجنته ثم جلست مرة ثانية، ليستأنف “فاضل” حديثه أمام نظرات “محمد” و”شهد” المتأهبة:
-هتسيب شغلك و هتمسك إدارة شركاتي انت و”كاظم” اصل هو كمان قرر يستقر في البلد وبعد الجواز هتيجو تعيشوا معايا انا مش هعيش في القصر الكبير ده لوحدي
تقلصت معالم” محمد” بعدم رضا ورد بكبرياء وبعزة نفس طاغية وبقناعات مازالت راسخة بعقله:
-بس كده حضرتك بتلغيني و…
قاطعه” فاضل “:
-انا مش بلغيك بالعكس أنا هساعدك تحقق طموحك ومتقلقش أنا مش هديك اكتر من حقك في الشغل على أد تفانيك هتاخد أجرك
-“فاضل” بيه أرجوك أنت بتصعبها عليا يعني ممكن اتفهم موضوع الشغل لكن صعب اجي اعيش هنا واسيب “شهد” و”طمطم” ارجوك بلاش الشرط ده
-أنت قولت هتعمل المستحيل علشانها وبيتهيألي اللي بطلبه منك شيء هين وفي استطاعتك ولا انت مش قد كلمتك
تناول نفس عميق ونظر لها نظرة
تفهمت منها ما يدور برأسه وكيف لا تعرف و تلك القناعات الراسخة دومًا ما يفحمها بها، لذلك حاولت تعارض والدها قائلة:
-بابي بلاش تضغط عليه هو…
قاطعتها “شهد “بوضوح دون ذرة لؤم واحدة:
-بصراحة يا بيه ومن غير لف ولا دوران أنت بتصعبها عليه أنا لو كان عليا مش هاممني غير راحته وسعادته وعلشان انا عارفاه وفاهمة دماغه خلينا نقسم البلد نصين بحيث متبقاش بتلغيه لتلوي شدقيها وتضيف:
-ده غير أن الناس مش هتسكت و هتقول أنه بجوازه من بنتك طمعان فيك
استنكر “فاضل” قولها:
-ملناش دعوة بالناس المهم أنا عارف معدنه وأيه اللي في ضميره من ناحية بنتي وبعدين أنا مدين لأخوكِ بحياتي وحياة بنتي وعلشان كده مأمنه عليها وهي أغلى شيء عندي في الدنيا تفتكري مش هأمنه على مالي
ليعقب “محمد” :
-“فاضل “بيه حضرتك مش مدين ليا بحاجة انا عملت الواجب ولو أي حد مكاني كان عمل كده…
نفى “كاظم “برأسه ورد بالنيابة عن “فاضل”:
-لو أي حد مكانك مكنش عمل اللي أنت عملته وكان قال مليش دعوة ومكنش جازف علشان يدافع عنه…مش كل الناس في جدعنتك وشهامتك واخلاقك يا “محمد”
ابتسم “محمد “بسمة عابرة من مدحه له وأجابه بإرتباك:
-شهادتك ليا على راسي يا استاذ “كاظم “بس…
كاد يشرح له وجهة اعتراضه على مطلب ابيها لولا ان “فاضل” قاطعه بصرامة قائلًا وهو يهب من جلسته كي ينهي الجدل:
-اسمع يا ابني إذا كان على جوازكم في شقتك انا ممكن اتغاضى عنه بس هتعمل حسابك هتلاقيني كل يوم فوق راسك أما بالنسبة للشغل ده شرطي الوحيد ومش هتنازل عنه وبرفضك ليه اعتبر أن طلبك مرفوض
نهضت “ميرال” تتمسك بذراع والدها كي تمنعه من المغادرة ونظرت ل “محمد” نظرة راجية وعيناها تلتمع بدمعها:
-“محمد” علشان خاطري بابا اتهاون بلاش ترفض
رغم تهاون ابيها الذي ارضاه وحقق رغبته في الاستقلال إلا أن دموعها المتحجرة بعيناها طعنته و وضعته بصراع بين رغبة قلبه وبين عقله الذي يعج بتلك القناعات الراسخة، فكيف له ان يرفض ويكسر قلبها وكيف يحرم ذاته من حلال قربها الذي لطالما طمح به، ربتت “شهد “على ساقه كي تحثه على الموافقة بينما هي تركت ذراع والدها و اندثرت سعادتها وكاد يتهدل دمعها وهي تراه صامت لم يتفوه بشيء يريح قلبها
لتهمس بأسمه راجية :
-“محمد”
نظر لها نظرة عميقة مطولة وكأنه يحسم أمره بها ثم تنهد متمتًا بعدما طغى صوت قلبه على كل شيء:
-موافق يا “فاضل” بيه بس تأكد إني عمري ما هقبل اخد اكتر من حقي
اتسعت بسمتها من بين دموعها التي تهدلت تزف فرحتها وطالعته بنظرة تفيض فيض بمكنونها، بينما الجميع زفرو بارتياح في حين قال” كاظم” متعجلًا:
-على خيرة الله نقرأ الفاتحة بقى
رحبوا بالفكرة ليجلس “فاضل” وبجانبه “ميرال” ثم يقومون جميعًا بقراءة الفاتحة وإن انتهوا باركهم جميعًا وتعالت زغاريد “شهد” و”مُحبة” المُبشرة ليخرج هو من جيب بنطاله علبة مخملية ويخرج منها اسوارة ذهبية وخاتم يماثلها في التصميم على شكل فراشة رقيقة مذهلة ،مرصعة بفصوص فيروزية اللون تشابه لون عينها التي أوقعته بها.
لتقترب منه وتمد يدها اليمنى له ليضع الاسوارة حول معصمها ثم يليبسها الخاتم ببنصرها متمتًا بسعادة عارمة وعيناه تهيم بها:
-مبروك يا حلو
اتسعت بسمتها وهي تتناوب نظراتها بين يدها وبين وجهه ثم تمتمت بعدم تصديق:
-قلبي بيرقص يا “حمود” مش مصدقة
ليحرك شفاهه دون صوت بتلك الكلمة النادرة التي قلما نطق بها:
-بحبك يا حلو
دام تشابك نظراتهم الوالهة التي تقطر بسعادة قلوبهم وكأن انقرض العالم من حولهم …فقد غرق عن عمد ببحر عيناها وكم تمنى أن لا ينجو من جرف أمواجها فكانوا في حالة من الهيام الشديد حين باغتتهم “شهد” وهي تجذبه لأحضانها هامسة بأُذنه:
-دي قراية فاتحة مش كتب كتاب يا خويا خف مش قدام ابوها فضحتنا
ابتسم باتساع وهو يربت على ظهرها ثم فصل عناقها قائلًا ل “فاضل”:
-انا ليا رجاء عند حضرتك
تأهب “فاضل” لحديثه ليستأنف هو:
-انا مش عايز خطوبة ياريت يبقى كتب كتاب علطول
تنهد “فاضل” و وافق قائلًا:
-وانا معنديش مانع بس بشرط بعد الفرح بتسع شهور بالظبط عايز حفيد وعايز عزوة و ولاد كتير يملوا عليا القصر
تهللت أسارير” محمد “واجابه بثقة عارمة وهو يطالع خجلها و توهج وجهها بنظرة فضحت لهفته الكامنة:
-لا من الناحية دي متقلقش يا “فاضل” بيه…
ليقرر “فاضل “بعدها:
-يبقى كتب الكتاب الخميس الجاي
لتتعالى من جديد الزغاريد والمباركات لذلك الثنائي الذي انتصر عشقهم وترابطت أقدارهم لتكون رادعة لتلك الفوارق التي كانت تحيل بينهم.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية خطايا بريئة)