روايات

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثاني والستون 62 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثاني والستون 62 بقلم نهال مصطفى

رواية غوى بعصيانه قلبي الجزء الثاني والستون

رواية غوى بعصيانه قلبي البارت الثاني والستون

رواية غوى بعصيانه قلبي الفصل الثانية والستون

” بعد مرور ثلاثـة أشهـر ”
توالت الأصبـاح التي تُشبـه بعضهـا ولم يميـزها إلا لون الأمل الذي يصبغ أجنحـة الفراشـة .. تلك التي يمكن رؤية الحياة تركض بين تفاصيـل وجههـا وخفتها .. بكل مساء تطوي فيه ساعات الخزى ودقائق انتظارها بكبـو اليائس الغير مُجديـة .. كشجرة في غابـة يأتي كل مرة حطاب مختلف ليكسر منها غصنًا ليدفأ بأحتراقها ولا يبالي بتلك الشجرة التي تفقد روحها بالبطيء .. هذا هو طبع البشـر .
بجسـد نحيـل لما افترسه الفكر من ثنايـا قلبها وقفت أمام رُخام المطبخ وهي تضب خصلات شعرها الأشبـه بجناحي عصفور يريد أن يتحرر ، أن ينطلق لعالم الخيال الساكن برأسهـا لجزيرة الحُب التي تود أن تستوطن بها ، أطلقت ” حياة ” زفيـرًا قويـًا وهي تتفقد المكان حولهـا بيأس ثم توجهت إلى الثلاجة لتبدأ في إعداد مربع الغذاء لصغاره ” اللانكش بوكس ” بفتور اعتادت عليـه كل صباح .
بدأت في تجهيز الخبز المحشـو وتقطيع الخضراوات، ومن الجهـة الأخرى أشعلت الموقد لتحضيـر طبق البيض بالمشروم والخضار الذي إعتاد أن يتناوله عاصي يوميًا في وجبـة إفِطاره .. ما تركت الوعاء فوق الشُعلة ثم صبت بداخله قطع البصل والمادة الدهنيـة فعادت سريعًا إلى حشو الخبز للصغار .. تركت ما بيدها بعجـلٍ وركضت ناحية الموقد مرة آخرى لتُكمـل طهي البيض.. وسرعان ما شرعت في تحضيـر الوجبات الأخرى الخاصـة بأخوتها ..
حلقة مفرغة من المهام الصباحيـة أصحبت طقسًا يوميـًا في حياتها، تعلق في عنقها مسئوليـة رجل بابنتيه .. أخيين وابنة عـم .. سيطرت الواجبات على حياتها حتى تناست نفسها تمامًا ..
ضبت صناديق الطعام البلاستيكية وتركتهم جنبًا .. ثم عادت للثلاجة وأخرجت منها أنواع الجُبن المتنوعة والكثير من الخضار والفواكه.. رصت الأطباق على سطح المطبـخ وشرعت بملئها ..
امتدت أنظارها إلى غُرفة المكتب التي لم تطفئ أنوارها طوال الليـل .. خيم الحزن على أعينها الغارقة في بحور الدمع وعادت لمواصلة عملهـا ..
تناولت ” صنيـة ” ورصت الأطباق فوقها ولم تنس فنجان القهوة الذي يفضله بالمذاق الخاص به ، وحملتها وتقدمت بخطوات متحمسـة نحـو غرفة المكتب المُقيـم بداخلها لثلاثـة أيـام متصلة .. فتحت بابهـا بهدوء وتقدمت إلى منتصفها لتضع المائدة فوق الطاولـة ثم غيرت اتجاهها لتتقدم إلى مكتبـه الجالس عليه وأعينه الثابتة التي لم تَرف بعيدًا عن شاشة الحاسوب ..
وقفت خلف مقعده الجلدي وتدلت أصابعها الناعمـة فوق كتفـه وقامت بتدليكهما برفق مع نبرة صوتها الخافتـة :
-مش كفاية شُغل وترتاح شـوية !
رد غيـر مُكترثًا لقُربها الذي كان يوهجه بنار الحُب من قبل وقال بصوت جاد :
-الـ project ده مهـم أوي بالنسـبة لي .. وخلاص مفيـش وقت ولازم أعمل كل حاجة بنفسي .
ابتلعت غصـة لياليها التي باتت ترافقها وقالت بنبرة يحتلها أملًا جديدًا :
-طيب ممكن نفطـر سوا النهاردة ، مش الساعة دي الـ هتخرب الدنيا ؟!
رد بدون اهتمام :
-حاضر حاضر ، هخلص الميـل ده وهكون معاكي ..
جف قاع صبرها من معاملتـه المبهمة التي لم تفارقه لمدة شهرين خاصة بعد انتقالهم لمنزلٍ جديد ، واكتراثه بالعمل لدرجة لم تعهدها من قبل ، بُعده عنها لأيام كثيـرة .. نومـه بغرفة المكتب وتحولت غرفتهما لمقر سياحي لم يزوره إلا ليبدل ملابسـه .. انفجـرت تلك التراكمات بوجهه وهي تقفل شاشة الحاسوب بضيق وبنبرة منزعجـة :
-لا يا عاصي ، مش كل مرة تعمل كده لحد الأكل ما يبرد ومحدش بيأكله .
تمددت ملامح وجهه بذهول مشحون بالغضب من تصرفها :
-أيه الجنان ده ؟! أيه حصـل لكُل ده ؟!
تقطر الحزن من مُقلتيهـا :
-والله !! يعني كمان مش واخد بالك من تصرفاتك الغريبة ، ومعاملتك معايا ، أنا بقيت أشبه ببترينة عرض رايح جاي قُدامها ولا كأنها للفُرجة بس ..
ثم أخذت نفسًا طويلًا واطلقتـه بقوة :
-عاصي أنا مابقتش متحملة الوضـع ده .. ااه أول مرة أقولهـا بس حقيقي أنا تعبت ..
وثب قائمًا ليبرر تصرفاته بعنفوان ليدافع عن نفسه و ردًا على هجومها الغير مبرر :
-أنتِ عارفة إني الفترة دي عامل زي التور اللي بيلف في ساقية .. وفهمتك إني داخل على شغل تقيـل وهياخد كل وقتي ، فين بقا الغريب في كُل ده ؟!
وقفت أمامه بثورة متظاهر يطالب بحقوقه :
-وأنا فين ؟! أنا شايلة مسئولية البنات كاملة لوحدي .. ومسئولية أخواتي.. والبيت وطلباتكم كلها ، على أمل كلمة حلوة منك آخر اليوم .. وأنتَ بقى بتعمل أيه !!
تحركت حوله نصف دائرة وأكملت :
-بترجع متأخر ، تدخل مكتبك لحد الصبح وأنا مش مهم ، ولا بتفكـر تسأل عليـا ولا عملت أيه ولا عايشـة ازاي ! تعبانة ولا كويسة !! عاصي أنت أمتى آخر مرة نمت في أوضتنا ؟!
زفر بضيق :
-حياة سبق وقولت لك بدل المرة ألف لحد سيدة ما ترجع من الأجازة ، أجيب حد يساعدك ، رفضتي ، أعمل أي تاني ؟!
صرخت بوجهه :
-كُنت غلطانـة ، كنت فاكرة أنك هتقدر تعبي ومجهودي لما أعملك كل حاجة بنفسي ، كنت عايزة أعيش معاك حياة طبيعية ، زوج وزوجة ، كنت عايزة أعيشك فـ جو أسري ..
ثم وقفت أمامه وهي تطالعه بخوف :
-عاصي أنتَ بطلت تحبني ؟!
قفل جفونه للحظة ليستوعب حجم الأمر محافظًا على هدوئه وهو يضم كفيهـا كالصدفة التي تحوي لؤلؤتها :
-واضح أن أعصابك تعبانة شوية .
هبت بوجهه بحرقة إثر أيام الكتمان التي توقدت بصدرها :
-ماتقولش أعصابك تعبانة دي !! لأنك عارف غلطك و أنت مش عاصي اللي عرفته وحبيته .. في حاجة غلط ؟!
-طيب ممكن بس تستحمليني اليومين دول وبس !! عارف إني قصرت معاكِ ، بس مش لدرجـة الجنان اللي في دماغك وبطلت تحبني وكلّ الأوهام دي!!
سالت دموعهـا بعجز :
-طيب في أيه ؟! أنتَ أول مرة الشغل ياخدك للدرجة دي ، وأنا من حقي أفهم ، عشان مش لاقية مبرر لكل ده ؟!
قبل كفّيها بحب وكأنه أراد طبع زهور الاعتذار عليهما :
-الفكرة كلها إني ببدأ من أول وجديد فـ الوقت اللي مفيش فيه مجال للخسارة ، فكل خطوة لازم تكون محسـوبة ..
ثم غير مجرى الحديث ممازحًا ليلطف الأجواء بينهم :
-بس لو أعرف إن الشغل هيزعلك أوي كده ، في داهيـة الشغل اللي يشغلني عنك .. قوليلي أعمل أيـه عشان اصالحك .
شرقت شمس ابتسامتها مع شمس مطلع النهار من بين ليل كاحل وقالت :
-شوف أنت بقا !!
دنى منهـا خطوة :
-طيب غششيني ؟!!!
-كمان أغششك !!
ثم تركت يده وقالت بصوت خافت وهي تمسك بفنجان القهـوة وتمدها إليه :
-قهوتك .. حلوة ولا أعمل غيرها ؟!
ارتشف رشفة خفيفة من فنجانه وقال بتفكيـر :
-هي بردت ، بس هتعاقب واشربهـا .
ردت على الفـور :
-ليـه ، هعملك غيرها ..
نظر في ساعة يده :
-السـاعة جات 6 .. يادوب ألحق انزل عشان استلم الشحنة الجديدة بنفسي .
انكمشت ملامحها مرة آخرى :
-بردو يا عاصي !!
ثم شدت فنجان القهوة من يده :
-طيب هات دي ، مفيش قهوة أصلًا ، روح يلا شوف شغلك .
ضحكت بصوت منخفض ثم مال على أذنها قائلًا :
-هعوضك عن كل اللي فات ، بس اخلص من تجهيزات المصنع .
ختم جملته وهو يضم بين شفتيه شفتها السفليـة بحنـو طابعًا بصمة اعتذار جديدة وقال بتوسـل :
-يومين بس؟!
ثم تركها وغادر المكتب سريعًا بعد ما أخذ سترته السوداء ومسكها وراء ظهره .. في تلك الاثناء التي خرج فيها عاصي من غُرفتـه ، اندست خلف الحائط و توارت أذان ” فريال” المتجسسة على حوارهم بنظرات يملأها الشـر ودخان الانتقام لأخيها ” فريد ” وهي تتوعد قائلة :
-ولسـه يا رسيل .. مبقاش اسمي فريال لو ما خليت حياتك كُلها جحيـم .
•••••••
في تمام السابعـة صباحًا ؛ رن جرس جهاز التنبيه بجوار ” سوزان ” التي اعتادت على غلق هاتفها أثناء فترة النـوم وتركه خارج الغرفة كي تنعم بنوم صحي .. وثبت قائمة بهمـة ثم تفحصت خزانـة ملابسهـا وأخرجت منها ما تنوى أن ترتديه ورمته على مخدعها بعشوائية ، ثم ارتدت منامتها الحريـرية وخرجت من الغـرفة مناديـة على الخادمة :
-قهوتي بسـرعة .
هبطت درجات السُلم محدثة صوتًا مسموعًا إثر دق نِعالها ثم توجهت ناحيـة مُراد النائم على الأريكـة ، اقتربت منـه بهدوء وجلست بجوار مقعده ونادت عليـه بخفوت :
-مراد ؟!!
فتح عينيه بسـرعة واعتدل في نومته وهى يُقاوم ثقل النوم على رأسه متأففًا ، فسألتـه :
-مش هتبطل نوم على الكنبة؟!
رد بضيق :
-طيب قوليلي أعمل أيه ؟! كل ما أقرب من الأوضة بنتك تصرخ ولا كأنها شافت عفريت !!
ثم وثب قائلًا :
-دي خلت الشغالة تنقل كل لبسي أوضة تانية .. بصراحة أنا مابقتش مرتاح للوضع ده .
تدخلت سوزان لتواسيـه :
-معلش يا حبيبي شهور الحمل الأولية متعبـة ، وعالية وحمها غريب شويـة ، استحمل .
أجابها بامتعاض :
-استحمل لحد أمتى ؟!! دي داخلة على الشهر الرابع ومش طايقة ريحتي ولا عارف حتى اتكلم معاها ؟!! حقيقي الوضع بقا لا يُطاق .
ربتت على كتفـه :
-عدى الكتير مبقاش غير القليل يا مراد .. آكيد غصب عنهـا .
وقف مزفرًا باختناق وهو يتناول ساعة يده ومفاتيحـه :
-براحتها بقى ، أنا زهقت .
نادت عليـه بيأسٍ :
-طيب استنى أفطر الأول ما تطلعش كده .
رد مختنقًا :
-مش عايـز .
شد سترته السوداء من فوق المقعد وغادر المكان بخطوات واسعها مكتظة بزحام النفور من الوضع القائم الذي زاد عن حده ، وزوجته التي باتت لا تتحمل رائحته وكل ما تشمها يصيبها الغثيان وتتقيأ ماء جوفها .. قفل الباب بقـوة محدثًا صوتًا صاخبًا أوقظ عينيها النائمـة ، ففارقت فراشهـا بسرعة وهي تطالعه من أعلى ؛ فتنهدت بـ حزن وهى تحوي بطنها المنتفخة قليلًا متمتمة :
-ده خرج حتى من غير ما يصبح علينـا ؟!!
هنـا اقتحمت سوزان غرفة ابنتهـا بأعين محملة بوهج العتاب فقالت :
-صباح الخيـر يا حبيبتي ..
شدت عالية الستار ودارت إلى أمها وأجابتها بصوت فاتر :
-صباح النور يا مامي ..
ثم ذيلت جملتها بسؤالها المتوق :
-مامي مراد قالك حاجة ؟
اقتربت سوزان من ابنتها وربتت على كتفها بحنو :
-حبيبتي مراد تعب من الوضع ده ، لازم تشوفي حل يا عاليـة ، مفيش راجل هيتقبـل الوضع ده.
أغرورقت العبرات بمقلتيهـا :
-وأنا كمان تعبت ، كل يوم بحاول نرجع زي الأول بس غصب عني بتعب وببقى مش مستحملة أقرب و أجري على الحمام ، مامي أنا ضميـري واجعني أوي ومش عارفة إزاي ممكن أصلح كل الـ فات .
مسكت كفهـا برفق وجلسا الاثنين على طرف السرير حيث قالت سوزان ناصحـة :
-يبقى تسمعي كلامي !!
ردت بلهفـة :
-هنفذه بالحـرف .. بس قـولي أنا مش عارفة أعمل أيه !
أثناء خروج مراد من بوابة ” الڤيلا ” عاقت طريقه أحدى السيارات السوداء التي تحجب رؤية سائقها .. فرمل سيارته محدثًا صوت صاخبـًا وهو يسبه علنًا مع نظارته الشمسيـة ، أخفض زجاج السيارة وقبل أن يكمل شريط لعناته على من اعترض طريقـه بهذه الاندفاعية الحماقـة ، دلفت من المقعد الخلفي للسيارة فتاة في مطلع عقدها الرابع بقوام ممشوق وهي تقترب منه بخطوات واثقة ومبهمة يحاوطها الغموض والإثارة حتى اتكأت على نافذة سيارته :
-سوري يا بيشمهندس على الدخلة دي ! صباح الخيـر الأول .
بأعين يتطاير منها الشرار وبصوت مبطن بداخله الامتعاض :
-أنتِ مين ؟!
أخرجت بطاقـة ورقية من جيبها وقالت بغموض يثيـر الكثير من التساؤلات :
-هستناك في العنوان ده .. ده لو عايز تعرف إحنا مين ؟!
رفع حاجبـه متعجبًا :
-ده أي شغل المافيـا ده ؟!
ثم قلب الهوية على وجهيها وقال مندهشًا من وقاحتها:
-و لو مش عايـز !
ردت باختصار بدون الإفصاح عن سبب مجيئها :
-بس أحنـا عايـزين .. مستنياگ .. ااه المصلحة واحدة يا بيشمهندس .
ولت ظهرها قبل أن تنتظر رده بعد ما ألقت في رأسه بارود الفضـول حول هوية تلك السيدة الغامضة وما المصلحة التي ستأتي من ورائها .. تحرك مراد خطوة بسيارته ثم فرمل محدثًا صوتًا مزعجًا حتى بات مجاورًا لها وقال :
-الـ عايزني يجيلي .. أنا ما بروحش لحد .
توقفت للحظة راسمة على محياها ابتسامة خبيثة مجهولة المغزى ثم مالت على نافذة سيارته مرة آخرى و بثقة عارمـة أردفت :
-بس أنا واثقة إنك هتيجي ..
رفع حاجبه الأيمن كـ رد معارض لثقتها :
-واضح أنتوا الـ محتاجين لي ، مش أنا .
اتسعت ابتسامتها التي تعكس وميض الإعجاب :
-النهاردة بالليـل ، عزمي بيـه هيكون مستنيك في مكتبه ، متتأخرش .. لو اتأخرت عن ٨ بالليل هنزعل وأحنا جماعة زعلهم وحش أوي .
اكتفى برسم ابتسامة ماكرة على محياه وهو يقفل زجاج النافذة ويرتدي نظارته الشمسية ويعاود قيادة سيارته بدون أي جواب منه يبين موافقتـه على تلبيـة عرضها المبهـم … وقفت تلك السيدة حائرة للحظات تدرس فيها أسلوبه وتجاهلـه وقالت مُعلنة ناقوس الحرب :
-شكلك هتغلبنـا ؟!!!
روي عن أشرف الخلق ذاكرًا :
“الريح من روح الله ، تأتي بالرحمة وتأتي بالعذاب ”
ولكن رياح البـشر لم تأت صافيـة أبدًا لا تعرف للرحمة لون ، قد يملأها غبار المصالح ، و يلوثها رماد الحقـد ، ويزينها نسيم الهواء المزيف الكائن في صورة حب مزور .. المرعب بالأمر إنك لا تعلم حقيقة ما يدور حولك إثر أفعالهم المريبة .. ولكن من ولد بقاع العواصف لا يقلقه هبوب الرياح .
•••••••
قيـل في وصف رحمـة الرحمن، وتقلب أحوال البشـر كتقلب الشمس والقمر ، منهم من ينشق من جوف العتمة ومنهم من يولد من نسـل الضوء ، هكذا هي الأقدار :
“تضيق كأنها لن تتسع ، وتتسع كأنها لن تضيق ، يقلب الله الأمور لحكمة تجعلنا نعلم أن الأمر كله بيد الله .. وأن الله على كل شيء قدير ..”
هذه العبـارة التي وقفت ” شمس” عندها وهي تتفحص أحد مواقع التواصل الاجتماعي بغرفة الصالون الخاصة بشقتها ذات الطراز الحديث .. تذكرت تلك الأيام القاسية التي عاشتها بأحدى المساكن الشعبية ولكنها كانت مليئة برائحة الأمان رغم فقدانها كُل شيء ، وفي نفس اللحظة تجولت أرجاء منزلها الراقي الذي نعمت فيه بأيام يغمرها رائحة الحُب ولكن ينقصه دفئ جدتها رغم امتلاكها كل شيء .
دق جرس التنبيـه معلنـًا تمام الساعة الثامنـة صباحًا ، وقت نهوض تميم من نومه .. تركت هاتفها جبنًا وتعمدت ألا توقظـه هذه الساعة لأن عيناه لم تتذوق طعم النوم منذ يومين .. تركت مقعدها وهي تعقد حول خصرها شريطة من الحرير الذي قفلت بها منامتها الحريرية واتجهت نحو المطبخ لتعد له إفطارًا مصريًا أصيلًا بنكهة ” الفول والفلافل ” لتحيي بحياتهما أجواء الماضي مع الحاضـر .
فجت رائحة السمنة الفلاحي حولها لتملأ خزائن هواء المنتجع السكني الراقي الذي تقيم فيه ، فتذكرت دفء أيام جدتها وذلك العطر الذي كان يحتويها كل صباح .. مسحت دمعة انبثقت من طرف عينيها وقالت بحنين :
-وحشتيني أوي يا فوفا ، شوفتي شمس اللي كان نفسك تفرحي بيها اتجوزت وبقا مش ناقصـها أي حاجة غيرك .. أنا كُنت راضية على فكرة ؛ راضية إني مخدتش أي حاجة من الدنيـا بس أنت تبقي معايـا .
هنـا رفرف طائر العشق الذي أصاب قلبي ليطوق قلبها الشارد بلهفـة وصوت مدجج بحماس العصافيـر :
-مش معقول أصحى كل يوم على الروايح الحلوة دي .. الجيران هيطفشـوا مننا يا بنتي !
تنهدت بسكينة وهي تترك ما بيدهـا :
-تمـيم !!
-تميم أيه بس ؟! دول ناس عايشين على الطاقـة الشمسية وأنتِ كل يوم عاملاهم تلوث هوائي بنكهة الفول والفلافل ..
-الـ مش عاجبه يعزل من جمبنا .
ثم دارت إليه وما أن تفحصته عينيها بدهشة :
-أيه ده وكمان جهزت ؟!
اتكئ على رخامـة المطبخ وهو يقضم ثمرة الخيار بفكيه :
-أعمل أيه ؟!! قُمت مفزوع قلت شمس نامت ونسيت أن عندي ميتنج مهـم .
غسلت كفيها بالماء الفاتر وهي تجيبه بلطف ينافس رقـة الورد :
-خالص والله .. كل الحكاية قلت اسيبك ترتاح شوية، وبعدين هو الشغل بيخلص ! صحتك عندي أهـم .
زفر تراكمات أيامه الماضية بكللٍ :
-“معاكي حق .. عاصي ده طلع من جبال أنه متحمـل كل ده .. الشغل عامل زي الطاحونة وأنا لازم أراجع كل حاجة بنفسي ، وللاسف مفيش حد ممكن أثق فيـه .”
جففت كفيها وسألته بخيبة :
-لسـه عاصي مردش عليـك .. أنا مش عارفة هو معاند ليه بعد ما عرف كلام نعمة .
تميـم بتعبٍ :
-لسـه ، وأنا مش عارف هو بيعند ليـه .. ومش عارف أيه في دماغه ، عاصي الفترة دي ماشي زي القطر ، مش عايز حاجـة توقفـه .
ثم عقد ذراعيـه أمام صدره فبرزت عضلاته وأكمل بإعجاب :
-بس ابن اللعيبة عامل شغل دمار في الغردقة كلهـا .. وسايبني هنا بغرق لوحدي .. ده حتى مشاركة مش راضي يشاركني ؟!! حقيقي مبقتش عارف أزاي أقنعـة يرجع ..
لمعت عيناه بأسف :
-شمس أنـا عمري ما كرهت عاصي رغم مؤمرات عبلة الله يرحمها ، وحقيقي بتمنى يرجع تاني بس المرة دي نشتغل سوا .. من غير عداوة .
اقتربت منه وهي تُشيد بمجهوداته العظيمة :
-وأنت كمان طلعت عبقـري وأشطر بيزنيس مان في الدنيا .. وأنا واثقة فيگ أنك ادها ونص كمان .
ختم جملتـه وهو يشد تلك الشريطة الحريرية الملتفة حول سترتها ويجذبها نحوه عنـوة مع شهقـة مكتومة منها يملأها الخجـل والارتجاف كي تتملص من سيطرته عليـها في غرة عين ؛ لتعبر عن مخاوفها محذرة :
-تميم بس نوران يا تميم .. !
رد متجاهلًا لمخاوفها التي لم تفارقها أبدًا كل ما يقترب منها .. باتت تحت قبضة يديه وعينيه التي تمطر نجومًا .. وسألها :
-صداع ليلة امبارح خف ؟ عايز اطمن بس ؟!
أجابته بصوت خفيض وهي تتملص من قبضته عليها :
-والسـؤال ده ماينفعش تقوله من بعيد يعني ؟ لازم تجرجرني لعندك كده ..
رد مصرًا :
-أعمل أيـه ؟! أنتِ مش بتيجي غير بالطريقـة دي .. وبعدين هو في أحلى من الجرجرة ؟!
تنهدت بنفاذ صبـر :
-تميم .. نور لو دخلت علينـا وأحنا كده هيبقى شكلنـا وحش أوي .
رد مساومًا :
-طيب ارمي بياضك الأول .
انفجرت معبرة وهي تحاول أن تستوعب عرضه الواضح :
-لا .. تميم مش هينفع ، عيب بجد والله .. بتكسف بطل الحركات دي بقا .
ثم عقدت حاجبيهـا بدهشة بعد ما استوعبت حقيقة طلبـه ، هامسة بفزعٍ :
-يانهار أبيض ؟!! تمـيم الميتنج بتاعك ، أنت نسيت ولا أيه ؟!
أصدر صوتًا نافيـاً :
-تؤ عندي حاجات أهم افتكرتها حالًا ..
ردت ببراءة :
-حاجات أي ؟؟
ابتسم بمكـرٍ :
-هعمل اتفاق مع الصداع ، هو يستفرد بيكي بالليل وأنا الصبح ..
ردت مسايسة وهي تكتم صوت ضحكها :
-طيب خلاص قول بسرعة عايز أيه عشان نخلص من أم الجنان ده .
عقد حاجبيـه مفتعل الضجر وهي يتفقد لون شفاهها الخوخية :
-أيـه ده ؟! فين الفراولة الـ بحبـها ؟! كده مش هينفع .. مين قال لك تلعبي في العداد ، كده السيستيم كله وقع ، الله يسامحك يا شيخـة .
أخيرًا نجحت أن تفر من قبضته عليها وهي تمازحه :
-على فكرة السوق والبزنيس غيروا أخلاقك خالص وبقيت مصطلحاتك غريبة .. لو سمحت ارجع تميم الـ حبيته ..
هندم ملابسـه مرة أخرى وقال بخبث :
-و أنتِ كمان اتغيرتي أوي على فكرة !
تركت الصحن من يدها بتعجب :
-أنا ؟! خالص ، اتغيرت ازاي بقا .. فهمني .
غمز بطرف عينه وهو يساعدها في فتح عُلبة الجبن :
-لما أرجع بالليل هقول لك ..
توسلت إليه :
-تميـم بجد ، قول اتغيرت ازاي وبلاش اسلوبك ده .
خفض نبرة صوته :
-نوران تسمعنا وشكلنا يبقى وحش أوي .. ميصحش أخلاق البنت !!
زفرت بنفاذ صبر مع ابتسامة حائرة :
-تميم بقا !!! والله أنت تلاقيك بتقول أي كلام وو
بادر بجذبها إليه مرة أخرى فابتعدت عنه صارخـة فدخلت نوران على صوتهم المرتفع فتلون وجه الثنائي بدماء الخجل وكل منهما ينشغل بأي شيء يقابله .. رمقتهما نوران بنظرات تحمل الاعتذار والحرج بآن واحد ثم قالت مبررة سبب مجيئها :
-كنت عايزة ميـه ..
تبادلت النظرات بين تميم وشمس التي تحمل نوعًا من العتاب حيث رد الاول قائلًا ليكسر حاجز الموقف :
-النتيجة أمتى ؟
ردت نوران بعدم اهتمام :
-بيقولوا النهاردة .. او بكرة بالكتيـر .
-يالا بقا عايزك تبقي حليفتي في الملاعب ، وأشوفك أشطر مهندسـة ..
قفلت الثلاجة وتقدمت نحوه بوجـه عابث :
-تميم ، أنت مردتش عليا في حوار الشغل .. أنتَ لو رفضت أنا هضطر اشتغل عند أي حد ..
انكمشت ملامح شمس بضيق :
-الموضوع ده مش وقته يا نوران .. شغل ايه ده وأنتِ لسه ١٨ سنه .
ردت مدافعة عن وجهة نظرها :
-وفيها أيه ؟!! أنتِ نفسك اشتغلتي وأنت أصغر من كده بكتير ..
زفرت شمس باختناق :
-الظروف وقتها كانت بتحكم .. وأنا كنت بنزل عشان مكنش حد هيدينا نصرف وأحنا قاعدين في بيتنا ..
أجابتها بدون رقابة على كلماتها :
-بالظبط ، وأنا مش عايزة أخد المصروف من جوز أختي وأنا قاعدة ..
صرخت الكبري بأختها :
-نوران؟!!!
تدخل تميم في الحال ليهدأ الأمر بينهم :
-ممكن تهدوا طيب ونتكلم بالعقل .. أنتوا الاتنين صح ، ومحدش فيكم غلطان ، بس ممكن يا نوران نستنى النتيجة عشان نعرف المجال اللي هتختاريه ومنه أعينك في الشركة !!
ردت بتمرد :
-أنا خلاص عرفت ، هدرس جرافيك ديزين .. وهدخل معهد التمثيل .
أغمضت شمس عينيها بجزع :
-شوفت دماغها راحت فين ؟!!! دي يا حبيبتي حاجة تدريسيها ترفييه جمب مجال دراستك الأساسية ، أما الدلع ده أنا مفهموش .. أنت متخيلة عايزة أيه ؟!! اتنين ملهمش علاقة ببعض أصلاً !
تميم :
-شمس ممكن تهدي ؟!
ردت الأخيرة بإصرار :
-شوفي يا نوران ، أنت لو مدخلتيش هندسـة زي ما تيتا الله يرحمها كان نفسـها ، انسي حوار الشغل عند تميم ده خالص .. فاهمة ..
انفجرت نوران باختها :
-لا مش فاهمة وهدرس الحاجة الـ بحبها يا شمس ، وأنتِ مش من حقك تجبريني على حاجة ، ولو مشتغلتش في الشركة عند تميم ، هنزل اشتغل عند الغريب عشان أنا زهقت واتخنقت من التحكمات دي …..
رمت جمر كلماتها والتراكمات المدفونة بصدرها إثر الوحدة القاتلة التي تعاني منها ، تغير فئة أصدقائها ، وعزلتها التامة بغرفـة مكونة من أربعة جدران ، انشغال كريم عنها بسبب فترة اختبارته وشغله الخاص الذي ابتدأه بأمريكا .. حلقة مفرغة من العناء طوقت قلب تلك المراهقة التي تبحث عن أي شيء يسد فجوة فراغها .. نظرت شمس لتميم بعجزٍ :
-شايف بتتكلم أزاي ؟!
ربت على كتفها وقال :
-معلش يا حبيبتي ، كل البنات في سنها بتكون دي طريقتهم ، استحملي وقربي منها وسيبيها تختار ، عشان أنتِ ملكيش حق تجبريها ..
اشتعل وجه شمس بالضيق :
-دي عايزة تدرس تمثيل ؟!! تمثيل أيه ده الـ هتدخله ؟! هي دي وصية ماما وتيتا !!
ثم صرخت متعمدة أن يصل الصوت لأذان أختهـا :
-والله يا نوران لو ما فوقتي من الجنان ده لأربيكي من أول وجديد …
دخلت نوران غرفتها وقفلت بابها بقوة لتنفرد بهمومها ووحدانيتها التي باتت كالشبح المرعب الذي خيم على زهرة عمرها ، أخذت تتجول ذاهبـًا وأيابًا حتى مسكت هاتفها معلنـة الحرب على أختها التي تعاني من تحكماتها الزائدة عليها التي ترجمتها لفرض سيطرة ولسيت خوف … فتشت بعشوائية بشاشة هاتفها وقالت :
-طيب يا شمس ، أنا هوريكي كلام مين فينا الـ هيمشي .
••••••••
” عودة للغـردقـة ”
-صباح الخيـر يا رسيـل .. عاصي نزل ؟!
وطت صوت التلفـاز لتُجيب على سؤال أخيها وقالت باهتمام :
-نزل من ساعتين ، وبعت رسالة قال لي لما تصحى روح له على المينـا .. اااه الفطـار عندك افطر قبل ما تنزل .. متنزلش كده .
تناول كوب المـاء من أمامها وارتشـف رشفـة ثم وضعه بمكانه متحمسًا :
-ادعي لنا كده يا رسيل عشان الصفقة دي لو ظبطت يبقى جوزك مسك السوق كله بين أيديـه .
دارت جهة أخيها وقالت :
-رشيـد ، في بنات كتيـر بتشتغل معاكم ..؟
-طبيعي يكون في بنات كتيـر معانا .
تسرب الشك إلى رأسها واكتفت بإصدار إيماءة خافتـة ثم غيرت مجرى الحديث قائلة بصوت خفيض :
-رشيـد أنتَ متأكد أنك عايز تتجوز فريال بنت عمنا ؟!
وثب قائمًا دونّ أبداء أي اهتمام :
-وألا مكنتش خطبتها .. وبعدين مش كل يوم هنتكلم في نفس الموضـوع يا رسيـل ! أنا زهقت ؟!
وقفت أمام أخيـها ووبخته بتحذير :
-يا رشيد كفاية الـ عمله فريد معانا ، نديها قريشين وابعدها عن طريقنا .. أنا مش مرتاحة لوجودها هنا .. فكر عشان خاطري .
نظر لأخته نظرات تدني :
-رسيـل أنتِ شكل قعدة البيت لحست دماغك !! لو مش واخدة بالك دي تبقى بنت عمنا وملهاش غيرنا .. نسيبها في الشارع يعني ؟!
تأفف رشيد باختناق لعدم تقبله للأسلوب الذي تحدثت به أخته عن خطيبته :
-لو مضايقك وجودها أنا ممكن آجرلها أي شقة لحد ما شقتي تخلص .. معلش متقلين عليكِ في بيتك يابنت أمي وأبويا
تمسكت بساعده بقوة لتبرر كلامها الخارج من بين فكيها المنطبقين :
-أنت أيه الهبل الـ بتقوله ده !! لا طبعًا ، بس أنا بحذرك للمرة المليون .. فتح عينيك الاتنين فريال وراها حاجة يا رشيد خلي بالك .
ربت على كتفها قاذفًا قنبلة موقوتـه بقلبها لم يقصدها أبدًا :
-خلي بس أنتِ بالك من جوزك وبناتـه ، ومتشليش همي ..
تصلبت تعابيـر وجههـا بدهشـة :
-قصدك أيه !! رشيد أنت تعرف حاجة عن عاصي ؟
زفر باختناق :
-أنتِ دماغك راحت لفين بس ؟!! أنا ماشي يا رسيل .
اشتعلت قناديل الشك برأسها حول جملة أخيها الأخيـرة وقالت لنفسها وهي تعض على أناملها :
-يا ترى وراك أيه يا عاصي !!!!
•••••••••
-عاصي بيـه ، كل المعدات وصلت المصنع .. وشحنة السمك دخلت التلاجات .. وفي حاجة كمان ….
على ضفة البحر الأحمـر حيث يطاير الهواء ملابسـه واقفًا ليستمع آخر الأخبار من مساعدته الشخصيـة التي تدعى ” ريـم ” .. فنظـر إليهـا مهتمًا إثر آخر جملة قائلًا :
-في أيه يا ريم ؟!
ردت بأسف وخيـم :
-بخصـوص المطعم العائم الـ في الشرق ، النهاردة في مركبة كمان غرقت ، ومعنى كده أن الموضـوع مؤامـرة مش مجرد صدفة .
انعقد حاجبيه بغضب يكاد ينفجر منه وجهه :
-يعني أيه دي تالت مركبة تغرق في نفس الأسبـوع .. مين مسؤول عن صيانة المراكب دي ؟!!!
دنت ريم خطوة منه وقالت بنبـرة يخالطها هواء البحر :
-فكـرة مجموعة مطاعم عايمة في وسط البحر و كل ترابيزة على لانش خاص بيها بالتنسيق الخرافي ده فكرة قلبت الغردقـة كلها ، وكسرت الدنيا .. وأحنا عندنا أعداء كتير يا عاصي بيـه ، كلهم يتمنوا المشروع ما ينجحش .
هز رأسـه متفهمًا :
-حد حصله حاجة النهاردة ؟! .
ردت برسميـة :
-لا ، فريق الإنقاذ لحقهم في الوقت المناسب وإدارة المطعم قدمت تعويض للعرسان عن الـ حصل والموضوع اتلجم قبـل ما يوصل للصحافة .
زفر باختناق وهو يخرج لفافة التبغ من جيبه ويقوم بإشعالهـا :
-طيب روحي شوفي شغلك أنتِ .. وابعتي لي كمال ..
هزت رأسه ملبيـة لأوامره ولكنها ختمت حديثها قائلة :
-في ميتنج مع إدارة المشروعات كمان ساعتين .
-طيب يا ريم .
جاء إليـه رشيـد متحمسًا وهو يسقف :
-ده اسمه مَعلمـه يا أبو نسب .. أيه العظمة دي .. الشغل والطلبات علينـا زي الرز ، أيه مش هنعمل حفلة ترُج الغردقـة !
هز رأسه بثقة رجل لا يليق به إلا النجاح :
-هنعمل بس مش دلوقتِ ، رشيـد عايزك تشوف لي حوار المراكب الـ بتغرق دي .. تروح الفرع دلوقتي وتدخل كل اللانشات صيانة مكثفة وتراجع الكاميـرات وتشوف مين الـ عايز يوقعنا .
-لسـه كنت جاي أقولك .. همشي من هنـا واطلع على هناك ، متشلش هم أنتَ بس .
عاصي بغضب وهو يتحرك إلى مقر شركته الكائنة على البحر :
-لو وصلت لحاجة بلغني ..
انحدر رشيد عن مساره بعجلٍ :
-اعتبره حصـل .
وصل إلى مكتبه وشرع بنزع سترته السوداء وعلقها فوق الشماعـة ثـم تناول هاتفه فاتحًا شاشة محادثـته مع رسيل وسجل إليها رسالة صوتية :
-“”حيـاة اعملي حسابك الليلة عشان هنتعشى أنا وأنتِ بره ، حابب نسهر سوا “”
آنذاك جاء كمال إليه بعد ما أخذ الاذن بالدخول وسأله :
-ريم قالت لي إنك عايزني يا بص ..
قفل شاشة هاتفه ونظر إليه باهتمام:
-مفيش أخبار عن يسري؟!
هز كمال رأسه بأسف :
-الأرض انشقت وبلعته ، ملهوش أثر في القاهره كلها ..
مد له ورقة :
-طيب عايزك تدور عليـه في المكان ده عشان لازم يظهر..
أخذ كمال الورقة منه بعد ما قرأ العنوان :
-الشـرقية ؟!!! هو يسري ده عمل أيه يا بص !
-بعدين ، بعدين يا كمال .. بس هو يظهر ، اتحرك بنفسك على هناك .
-تمام يا باشا .. مش هرجع إلا بخبره .
••••••••
” عودة إلى القاهرة ”
مع مغيـب الشمس وصلت عاليـة إلى مقر مكتب مراد وهي ترتدي فستانًا طويلًا بكمامٍ طويلة وواسعة والفت على عنقها وشاحًا من الحرير ، وصلت إلى مساعده وسألته :
-البشمهندس مراد في مكتبه ؟!
وقف الرجل في استقبالها :
-هو بس نزل الموقع وهيرجع تحبي أكلمه ؟!
ابتسمت بلطفٍ :
-هستناه في مكتبـه ..
-تحبي تشربي حاجة ؟!
ردت بهدوء :
-لمـا مراد يجي ..
بسيارتـه التي صفت تحت مبني الشركة وقعت عينيـه على البطاقة التعريفيـة لتلـك الفتاة التي طاردت صباحه ، أخذ يقرأ ما بالبطاقة مرارًا وتكرارًا حتى زفر بحيرة :
-وتطلع مين دي كمان ووراها ؟!
ترك ” الكارت ” بصندوق سيارته قبل أن يهبط منها ويعطي المفتاح لسايس ، اتجه نحو بوابـة شركته وهو كل ما يدور برأسه عن موعد الأمس .. هل يذهب ليرضى فضوله ؟! أم يتجاهل إلى أن تضح الرؤيـة أمامه ؟! جمة من الاسئلة طُرحت برأسه ولكنها كانت جميعها عقيم لا ينسـل منه جوابًا واحدًا يُرضيه ويرضي حيره .. فُتح باب المصعد أمام الطابق المخصص لمكتبـه فوقف الموظف في استقباله وأخره بوجود المهندسة ” عالية ” بمكتبـه ، أسرع الخُطى متقدمًا إلى مكتبـه متبعًا مسارًا إضافيًا للفضول ، ما فتح باب مكتبه تمتم مندهشـًا :
-عالية ؟!
وثب قائمة لتستقبله بابتسامة عريضة:
-أيه رأيك في المُفاجأة دي ؟!
قفل الباب خلفه ، ثم اقترب منها طارحًا جملة الاسئلة :
-في حاجـة حصلت؟! طنط كويسة ؟! أنتِ كويسه ؟
اقتربت منه أكثر حتى باتت خطوة واحدة تفصلهم عن بعضهم :
-كل الحكاية يا بيشمهندس نزلت الصبح من غير ما تصبح عليا !!
هز رأسه بسخرية مع انعقاد طفيف لحاجبيه :
-قصدك نزلت من غير ما نتخانق ..
زارت شفتيها نسيم الضحكة وهي تلكمه في كتفه برفق :
-عادي على فكرة .. الحامل تعمل كل الـ هي عايزاه .
-وأنا أي ذنبي أعيش في النكد ده كله لوحدي ؟!
داعبت وجهه ممازحة :
-خلاص بقا يا مراميرو ميبقاش قلبك أسود ، وبعدين زي ما أنت عارف من وقت خبر وفاة عبلة وأنا مش أحسن حاجة .. المهم .
ربت على كتفيها بحنو :
-طيب تعالي نقعد أحنا واقفين ليـه ..
جلس الاثنان على الأريكة وهي تتمسك بيده بقوة ثم قالت :
-تعالى نروح سوا عند الدكتورة النهاردة .
-ليـه ، وطنط سوزان !
حدجته معاتبة :
-أيه يا مراد ، أنتَ كمان مش عايز تيجي معايا تطمن على ابننا ؟!!
-مش قصدي آكيد بس كل مرة طنط سوزان هي الـ بتصمم لازم تروح معاكي .
أجابته بدلالٍ :
-بس النهاردة حابـة نروح سوا ، أنا وأنت وبس .. و كمان هتعزمني على العشـا عشان وحشني نقعد لوحدنا .
مال نحوها حتى أصبحت أنفاسه مطرًا متساقطًا على ملامحها وهو يهمس معبرًا عن مدى اشتياقه إليهـا :
-أنتِ كلك على بعضك وحشتيني وو
ما أن امتلأت رئتيها برائحته وبات وجهها مقصده لفض شرارة مشاعره المدفون لمدة شهرين .. أصاب الدوار رأسها وانتاب الغثيان جوفها فأمسكت ببطنها ورقدت نحو المرحاض لتتقيء عطره الذي يزعج معدتها كثيرًا :
-لا يا مراد مش قادرة ..
أطلق زفيـرًا قويًا من شدة اختناقه وهو ينزع ساعة يده ويرميها جنبًا بعشوائية :
-دي مش عيشة دي .
•••••••
في تمام الساعة السابعـة مساءً بعد مغيب شمس اليوم الأول من شهـر آغسطس.. وبعد مرور ساعات مشحونـة بالقلق والتوتر بين الأختيـن ، تجلس شمس أمام التلفـاز وتقلب القنوات بفتـورٍ شديد حتى سمعت صوت فتح باب غُرفة أختهـا التي أقبلت عليها بملامح منزوعة من أي فرحة أو حماس ، تركت الهاتف على الطاولة أمام أختها وقالت بملل :
-٨٥ % ..
بلهفـة أم تستقبل خبر نجاح ابنتها البكرية رمت ” الريموت كنترول ” من يدها وتناولت الهاتف بفرحة ورعشه قلب وهي تطلع على نتائج أختها بالمرحلة الثانويـة بـ قسـم ” علمي رياضة ” فانعقد حاجبي شمس بتمرد :
-وليه مش ٩٩ ؟!!
زفرت نوران بزهق من تمادي أختها معها ، فانفجرت قائلة :
-الأرقام دي على أيامكم أنتوا ، وبعدين مش كنتي عايزة هندسه ؟!! دول يدخلوني هندسة مستريح .. فكك مني بقا يا شمس .
وثبت شمس وحضنت أختها بفرحة عارمة :
-خلاص مش مهم .. المهم هتحققي حلم تيتا وتبقى أحلى مهندسـة في الدنيـا ..
ضمت أختها بحب ، حيث تلقت الثانية عناق أختها بفتور لانها كانت تدعي ربها بألا يرزقها بالنتيجة التي تجبرها على الانسياق لكلية لا تريدها خاصة بعد اهتماماتها الأخيـرة بمجال التمثيـل والمسرح .. طبعت وسام الفرحة بوجنتي اختها ثم تفوهت بحماس :
-هكلم تميـم ..
سبقها رنين هاتفه فقالت بسعادة :
-أهو جيه على السيرة ..
ثم أجابته سريعًا وهي تستأذنه بلهفه :
-تميم هشغل المايك عشان تبارك لنوران ..
ضبط السماعة البلوتوثية بأذنه وهو يدور مقود السيارة ويهتف بفرحة :
-حليفتي في الملاعب بقا ، الف مبروك يا هندسة .
ردت بجمود :
-الله يبارك فيك .
ثم أكمل بنفس النبرة المتحمسة :
-أعملي حسابك بكرة تنزلي تختاري أحلى عربية عشان نستغل فترة الأجازة وتتعلمي السواقة…
هللت بمرح وفرحة غطت على ظهور نتيجتها :
-بجد يا تيمووو ، هتعلمني السواقة !! أنت أجدع حد شفته في حياتي ..
صاحت شمس بذهول :
-سواقة أيه ؟! أحنا متفقناش على كده ..
قهقهه تميم بإصرارٍ :
-لا ده اتفاق قديم كده بيني وبين شمس .. المهم أنا نص ساعة وهكون عندكم ، أجهزوا عشان ننزل نحتفل سوا ..
قفزت نوران بفرحة وحماس :
-حالًا …
شمس معترضة :
-على فكرة أنت الـ بوظت دماغ نوران …
صف سيارته بهدوء إثـر احتشاد مجموعـة من الناس بمنتصف الطريق وهو يرد على شمس بدون اهتمام :
-ياستي سيبيها تدلع .. اسيبك تجهزي ، سلام دلوقتِ .
نزع سماعته وهبط من السيـارة ليكتشف سبب امتلاء الطريق بالمارة .. متجهًا نحو مصدر صياح أنثوي نتيجة اصطدام سيارتها بواسطة أحد الأشخاص وهي تصيح مهددة :
-أنتَ شكلك متعرفش أنا مين وبنت مين ، وبدل ما تعتذر نازل تبجح !!
برر الرجل موقفه :
-يا ستي أنتِ ليـه مش قادرة تفهمي أن الغلط منك .. مفيش حد طبيعي يقف فجأة في نص الطريق .
أخرجت هاتفها وهي تحرك أناملها فوق الشاشة بسرعة :
-أنا هطلب لك البوليس عشان تبجح براحتك ..
تأفف الرجل :
-ياستي هو أي مشاكل وخلاص ؟!! ما تهدي .
تدخل تميم بينهم بعد ما لقط مضمون المشكلة :
-على فكرة الخبطة مش جامدة والموضوع مش مستاهل كل الدوشة دي ..
هبت معترضة دون النظر لوجهه وهي تشير نحو المكان المصاب بالسيارة :
-والله ؟! طالما سيادتك شايفه بسيط كده ، صلحها أنت ؟!
وبخها تميم مذهولًا من وقاحتها :
-أنتِ مالك طايحـة في الكُل كده ، ما الراجل قالك هيصلحها .
ولتّ ” شهد ” إليه بتركز فوجدت نفسهـا أمام شاب أنيق ذو طابع مُلفت ، ليس بالجمال الخارق ولكن يمتلك جاذبية لا يمكن أن تقاومها أي فتاة تقع عينيها عليـه ، فتبدلت نبرة صوتها لنبرة أكثر لينًا محافظة على مظهرها :
-خلاص مفيش داعي ، آكيد مش هقبـل العوض ..
ضرب الجميع كف على كف بتعجب ، حتى نفذ صبر الأغلبيـة وانسحبوا بهدوء من حولها حتي فرغت الدائرة على تميم والجاني وتلك الفتاة التي لن تبعد عينيها عن ذلك الوسيم الذي نزل من سيارته المرسيدس..
تحول صوتها لأكثر نعومة :
-خلاص أنا مسامحة ، بس قول له يركز بعد كده ..
جحظت عيني الرجل :
-أنا الـ اركز ؟!! مش لما تتعلمـوا السواقة الأول ..
تدخل تميم على الفـور ليهدأ الرجل :
-استهدى بالله يا جدع .. حصل خير خلاص ، اتفضل أنت .
انصرف الرجل مجبورًا على أمره وهو يسبها في سره كثيـرًا ، دارت ” شهد” ناحية تميم وقالت محاولة خلق لغة حوار بينهم :
-على فكرة ربنا بيحبه ، لولا وجودك أنا مكنتش هتنازل عن محضر ..
ثم زفرت بضيق :
-الأشكال دي أنا عارفاها كويس ، لازم تدخل القسم عشان تتعلم تحترم بنات الناس زي حضرتك كده ..
هز تميم رأسه ليقفل أبواب الحديث التي تتعمد فتحها بوجهه :
-حصل خير يا مدام ، بعد إذنك ..
اندلعت تلك النيران بوجهها مرة أخرى إثر وصفها بـ ( مدام ) فجهرت بحرقة وهي تندس بداخل سيارتها :
-مدام ؟!! هو ما بيشوفش كمان ؟! أيه قلة الذوق دي .. قفلتني منك ..
ثم أخذت تتفحص ملامحهـا بالمرآة :
-قال مدام قال ؟!! وأنا الـ افتكرته چنتيل مان وبيفهم !!
قطع وصال تغزلها وإعجابها بنفسهـا صوت رنين هاتفهـا باسم أبيهـا :
-” أنتِ فين يا شهـد ؟! ”
أغلقت جفونها بتأفف :
-قولتلك يا بابي بعمل شوبينج وبتعرف على القاهرة ..
-طيب أرجعي يالا ، أمك وأختك هنا محتاسين لوحدهم ..
جزت على فكيها وكأن الأمر لا يروق لها :
-حالًا يا بابي حالًا ..
هبط ” شاهيـن ” من سيارته الحمراء فلمست أقدامـه تراب قصـر دويدار الذي استولى عليـه قبل ساعات قليلة محتجزًا رجلي الأمن المختصين بحراسـته .. لفت أعينه في الفضاء الفسيح حوله وقال لنفسـه :
-بقا كُل الخير ده بتاعك يا خوي وأنا سايبني في الأرض لحد ما قصفت عمري ؟!!
تقدم خطوات معدودة حتى وصل إلى درجات سُلم القصـر ، فظهرت منه زوجته التي تشتعل بنار الانتقام والشماته :
-أنا خدت أوضة الوليـة الـ اسمها عبلة ، أنا دخلت الأوضة ولقيتها فيها شيء وشويات .. أي المجوهرات والدهب ده كله !! الولية المجنونة فاتحة بترينـة جواهري عندها ..
ثم مالت عليه وهي تعرض أمامه أساور يدها متعمدة إحداث صوت مسمـوع بهم :
-شايف شايف .. !! طيب سامع صوتهم !! يا حلاوتهم هياكلوا من أيدي حتة يا شاهين .
هز رأسه بحركة رجل مسن يشغله جمة من المهام غير تلك التفاهات التي تملأ رأس النساء وقال :
-اتبسطي يا سميـرة وخلي بناتك يتبسطـوا ده خيـر أبوهم وعمهم ..
اتبعت خُطاه بفضول مريب :
-أنا قلبي مش مطمن يا شاهيـن ، ولاد أخوك لو شموا خبر مش هيسكتوا ..
حدجها بعنفوان :
-اكتمي .. ولا واحد فيهم يتنسب لأخوي .. الاتنين علاقتهم بشهاب دويدار حبر على ورق ، وأنا هعرف أزاي اخرسـهم ، سكتت لهم كتير يا سميرة ..
ثم ضرب الأرض بمؤخرة عكازه :
-وكفاية عليهم الـ خدوه ..
••••••••
دق ناقوس السـاعة الثانيـة عشر بعد منتصف الليـل .. ومازالت تنتظر قدومه ، تنظر تلك الليلة التي وعدها بها ، تتوق اشتياقًا لتلك اللحظات الهادئة بينهم ..
بفستان أسود يصل لتحت ركبتيها ينحت تفاصيل جسدها الممشوق ويمنحها مظهرًا طاغي الأنوثة ذو أكمام رفيعة جدًا ، تركت طرف سريرها بعد ما هاتفتـه مرارًا وتكرارًا ولكنه مقفولًا ، نفذ صبرها فوثبت قائمة تترنح بخُطى مطوية بالضيق فـ تعرقلت إثر حذائها ذو الكعب المرتفع ، استندت على خزانة الملابس ثم واصلت طريقها ناحيـة مكتبها ، أخرجت دفتـر يومياتها وأمسكت بطرف قلمها .. القلم الذي يعتبر صديقًا لأصحاب الشعور المفرط .. بتنهيدة تشبه شهقة الغريق افتتحت خزانة قلبها كاتبـة بتلك اليـد المهزوزة :
من أصدق ما قاله نجيب محفوظ :
” يا ليت العُمر كتابًا ،فـنرجع للفصل الذي كان يسعـدنا ”
ما قبـل العشق الذي تورطت فيه رغم تحذير جدتي المتواصل وهي تعظ قلبي :
” حبي فالحب ينير وجه الصبية ويُطيل حبال العُمر ، ولا تعشقي فالعشق ناره أن مست القلب لم تتركه إلا رمادًا ”
أما بعد ذلك ..
احتجب عني قمرك لليلة الثالثة والعشرون بتوقيت السماء ، أما بتوقيت قلبي فهناك ضبابة من الألم تحوم فوق رأسي الذي كاد أن ينفجر من تفكيره المستمر بك وطيلة بُعدك عنه ، باتت شوارع روحي منطفأة ، ذات أعمدة إنارة بفوانيس محترقة ، بقيت منطقة حزينة جدًا ومخيفة منذ رحيل ضوء قمرك عني …
ولكن صدقًا لا أعرف ما يجب أن أقوله لوصف تلك الليلة ، كل الليالي الماضيـة كانت خدوشها بسيطة ولكن هذه الليلة انتكاسة روح جديدة ، اشبعني غيابك الليلة حرقة من نوع آخر ، ذلك النوع الذي لا يمكنني وصفـه ولكنه خطير ومؤلم للحد الذي يقتــ.لني ….
أنها الساعة الواحدة من الحنين ، بستون دقيقة من الانتظار ، بألآف من الثوانٍ وأنا هنا أناديك كي تنقذ بئر حبنـا قبل أن يجف من الهجر .. بقلبٍ من الزجاج يقف خائفًا أمام أحجار الغياب يصرخ باسمك برغبة مُلحة أن تأتي لعنده .. كم أحتاجك لاطمئن ! ، كم أحتاجك لأنبض من جديد! ، كم مشتاقة إليك تلك الليلة لحد الذي لا أريد أن أرى سواك ، إمراة تركت الحياة وباتت لا تتمنى غيرك ، فيا ليت وصالك بالتمنى ويا ليت حبي لك يرتوي بحلم أو بقلمٍ .. أنا التي اتنفس بريق عينيك … أرجوك لا تخذلهـا .
جف حبر صبرها هنا فتركت القلم من يدها ووضعت رأسها في حضن دفترها بحزنٍ وخيـم حتى أرهق البكاء عينيها وبقلب انطفأ من وحشة غيابه نامت على سطح مكتبها الخشبي باستسلام تام للوجع الذي يقرض بحواف قلبها ..
مرت الساعات حتى عاد ” عاصي ” منهمكًا إلى بيتـه بهاتف الذي فرغت بطاريته ، صعد السُلم بخطوات ثقيلة وهو يفك أزرار قميصه بكللٍ حتى وصل إلى غُرفته بتردد يحمل هم لقاءها وعتابها وكيف سيصلح ما أفسده هذه الليلة .
فتح الباب بهدوء فأمتد بصـره إلى تلك النائمة بحضن دفاترها ، رمى سترته السوداء بندم يأكل بقلبه الذي انشغل عنها ، تسللت يدها لتحت ركبتيها ليحملها بحنـو أب لصغيرته فتمتمت بين يديه بصوت سكيـر :
-استنيتك كتيـر ..
رد بصوت دافيء ينافس دفئ المطر :
-بجد آسف يا حبيبتي ..
ثم وضعها بمرقدها برفق ونزع حذائها الأنيق من قدميها وتململت من نومتها بهدوء قبل أن تقفل جفونها من جديد .. نزع ملابسه ثم ارتمى بجوار بتعب قرر أن يتخلص منه في لفافة التبغ التي اشعلها ورماها بفمه حتى أصبحت كل متاعبه كالسحابه السوداء المنعقدة فوق رأسـه ..
تدلت أنظاره على تلك النائمة التي امتدت يداه لخصلات شعرها لتغازلـه بحب حتى أكلت متاعبه نص لفافة التبغ التي تقف بين أصبعيـه .. ثنى السيجارة بقلب المطفأة ثم دار متخذًا قرار إفاقتها كي يعتذر لها عما شغله عنها تلك الليلة ، بصوت مدجج بعبير الاعتذار :
-حيـاه ، ممكن تصحى ..
تمادت أنامله في طبع روائح الاعتذار على وجهها حتى تحركت جفونها ببطء وبهدوء عكس المتوقع سألته :
-أكلت ولا أقوم أجيبلك أكل ..
طبع وسام اعتذاره على يدها تارة ثم فوق ثغرها طورًا حتى ابتعد قائلًا :
-قومي يالا !
-ليـه ؟!
-نخلص خناقة النهاردة قبل ما ننـام ، مش عايز أبقى نايم وشايل هم خناقة أول ما أصحى .
تأرجحت عينيها فوق ملامحه المرهقة ، حيث تلاعب بقلبها أمواج الشوق والحنين :
-بس أنـا مش عايزة اتخانق ..
تحركت عينيه بدهشة محاولًا استيعاب هدوئها :
-والهدوء ده في حد ذاتـه يقلق أكتر !! حياة أنا أسف صدقيني غصب عني !! قومي نتكلم .
فاض منها الشوق فأستقبلته بدون وجه للعتاب مستغلة لحظات قربه التي تجاوزت الحدود ، كسرت حواجز المسافات بينهم خاصة إثر أنفاسه التي توقدت بنيران الاشتياق والأسف التي كانت تنادي فلبت النداء ، سبقت كلماته المدجج بالحب بفتح أبواب العشق بوجهه كأنها تعلنها صراحة لقلبهما لم يعد لي في حبك إلا السرقة .. سرقةً النظرات و الهمهمات ولحظات مسروقة من العناق قبل أن يلتفت لنا الزمن وقبل أن تشرق شمس الانثى المتمردة برأسي …. بلطفٍ غير معهود منها أصبحت جزء لا يتجزأ من روحه وكأنها أرادت أن تخبره بطريقة أكثر خطورة دعنـا من العتاب الآن ، لقد تعلمت أن أروي عطشي أولًا قبل ردم البئر …. غمغمت حبًا كأنها تعتذر لعقلها :
– سأتبع جميع الدروب معك ، درب القلب والعقل وجنونهما ، بساحة حبك لم أمارس ألا هواية الطمع ، لا يكفيني إلا كل شيء عنك !
قيـل قديمًا ” أن المشاعر ليس لها صوت لكنها ذات ملامح جميلة ومثيرة ”
ولكن هذا الكلام لا أصدقه ؛ المشاعر لها صوت يشبه صوت العصافيـر ، ولها رائحة تنافس رائحة الخبز أن مسته النار .. و لكنها تحتاج الى شخص شجاع ينطق بها .
” صباحًا ”
تململت يداه تبحث عنها بجواره بأعين منغلقـة فلم يجد إلا فراغًا .. فتح جفونه مناديـًا باسمهـا فلم يلقى ردًا ، انعقد حاجبيه باستغراب :
-النهاردة الجمعة ومفيش مدرسة للبنات ؟!! راحت فين بدري كده ..
نهض بتثاقل ناحية الحمام وأخذ حمامًا دافئًا ظنًا منه بأنهـا تجلس بالأسفل مع أخوتها وما أن فرغ من حمامه هبط للطابق الأرضي وهي يجر في خطواته جرًا ، فألتقى بيونس متسائلًا :
-رسيـل لسـه نايمة ؟!! مش بعادتها !! صحيها يا عمنـا هنموت من الجوع .
أجابه باستغراب :
-هي مش تحت ؟!
-لا ، دي حتى محضرتش فطار .. مش بعادتها يعني ؟!
وقف بمنتصف الدرجة مفكرًا :
-ممكن تكون نايمة مع البنات ؟!! هروح اشوفها ..
صعقه يونس بجملته الأخيرة :
-البنات بيلعبوا في الجنينة يا عاصي ؟!!
عاصي بقلقٍ :
-أيه ؟!! هتكون راحت فين الساعة دي ؟!!!!

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية غوى بعصيانه قلبي)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى