رواية حبيسة قلبه المظلم الفصل الأول 1 بقلم سارة علي
رواية حبيسة قلبه المظلم الجزء الأول
رواية حبيسة قلبه المظلم البارت الأول
رواية حبيسة قلبه المظلم الحلقة الأولى
المقدمة
يقف أمام مرآته يعدل ربطة عنقه وشعور السعادة يسيطر عليه بالكامل ..
إنتهى من تعديل ربطة عنقه ليحمل عطره المفضل ويرش الكثير منه قبل أن يتجه نحو السرير حيث يحمل سترته ويرتديها لينظر للمرة الأخيرة الى هندامه الأنيق والذي يليق به كونه العريس هذه الليلة ..
اليوم هو أهم أيام حياته حيث سيرتبط رسميا بحب عمره بعد سنوات من العشق والهيام ..
اليوم سيتوج عشقهما بخاتم خطبة يوثق كل لحظات حبهما الذي بدأ من الطفولة حيث كانت هي مجرد طفلة صغيرة جذبت إنتباهه بشعرها الأشقر الطويل وإبتسامتها الرائعة لتكبر أمامه تدريجيا ويكبر هو معها ويزداد هيامه به حتى اكتشف إن مشاعره متبادلة وإن عشقه لم يكن من طرف واحد بل كان عشقه متبادلا من طرفها أيضا فإجتمعت القلوب أخيرا بإخلاص وحب يتوج اليوم بعد سنين انتظار …
سمع صوت طرقات على باب الغرفة يتبعها دخول والدته وهي تهتف بسعادة :-
” بني كل شيء جاهز والجميع ينتظركما ..”
ثم تقدمت نحوه تتأمله بعينين فرحتين وهي تردد :-
” ماشاءالله يا بني .. ليحمي الله شبابك ووسامتك يا روح والدتك ..”
مازحها بخفة :-
” لا تبالغي يا صباح هانم …”
ثم انحنى نحوها مقبلا جبينها لتربت على كتفه بحنو وفرحة مرددة :-
” عروسك جاهزة يا بني … اذهب إليها حتى تهبطان سويا الى الأسفل كي يبدأ الحفل ..”
أغلق بعضا من أزرار سترته ثم اتجه نحو باقة الورد وحملها معه ليخرج من غرفته متجها إليها ..
………………………………………………………………..
وقف أمامها يتأملها مقطوع الأنفاس من ذلك الجمال الخالص الذي كان وسيظل ملكا له وحده ..
بدأت عيناه تتأمل شعرها الطويل المصفف بعناية منسدلا على جانبي وجهها بخصلات شقراء مموجة رائعة ثم مقلتيها الفريدتين بذلك العسل الخالص الذي يملأهما ويشع بريقا يشبهها…
وجهها المنحوت بملامحه المرسومة بدقة خالصة تجعله لا يرى سواها وتلك الإبتسامة الخجولة المشوبة بفرحة خالصة ..
فستانها المميز بقماشة من الدانتيل الأبيض والذي يليق بشده على بشرتها ناصعة البياض ..
تقدم منها مأخوذا بذلك الجمال الأوروبي والملامح الثمينة مقدما لها باقة زهور التوليب التي تعشقها بشدة ..
حملت الباقة وهي تمنحه إبتسامة رقيقة وصوتها يخرج مبحوحا :-
” شكرا …”
ابتسم بهدوء عاشق ربح جائزة عشقه أخيرا ليهتف وعيناه تتأملان وجهها الصبوح بشغف :-
” لو تعلمين مدى سعادتي اليوم .. ”
قاطعته بصوت شاعري :-
” ليس بمقدار سعادتي يا نديم ..”
ثم أردفت وهي تقبض على كفه بينما كفها الأخرى ممسكة بالزهور خاصتها :-
” ألن تقول شيئا عن إطلالتي اليوم ..؟!”
عاد يتأملها بنفس الشغف لينطق لسانه بما يعتمل داخل قلبه :-
” الليل ياليلى يعاتبني … ويقول لي سلم على ليلى
الحب لاتحلو نسائمه … إلا إذا غنى الهوى ليلى ”
ثم عاد يكرر وإبتسامتها تتسع والدموع تترقرق داخل عينيها :-
” الحب لاتحلو نسائمه … إلا إذا غنى الهوى”
” أحبك ..”
وتلك الكلمة كانت جوابا كافيا ليرد عليها بقبلة طويلة يبثها من خلاله عشقه وشغفه ..
…………………………………………………………..
وقف عمار أمام النافذة يتأمل الشوارع المظلمة بأنوارها الخافتة بملامح جامدة لا يتحرك بها شيئا ..
شعر بيد تلمس كتفه بينما صاحبتها تسأل :-
” ألن تذهب الى خطبة شقيقك يا عمار …؟!”
إلتفتت نحوها بعينين إشتعل بهما وميضا ناريا يعبر عما يدور داخله .. وميضا سرعان ما اختفى وهو يرد :-
” سأذهب بالطبع .. هل يعقل ألا أحضر خطبة أخي الوحيد ..؟!”
خرجت جملته الأخيرة بتهكم أدركته فزفرت نفسها وهي تخبره :-
” أنت لن تفتعل أي مشكلة هناك .. أليس كذلك ..؟!”
رمقها بنظرات حادة جعلتها تشعر بالرهبة لتسمعه يقول بحزم :-
” لست ذو عقلٍ صغير لأقوم بشيء كهذا ..”
ثم تركها واتجه نحو غرفته ليرتدي ملابس مناسبة للذهاب الى ذلك الحفل وفي داخله رغبة عميقه بعدم الذهاب إلا إنه مضطر لذلك ..
……………………………………………………………..
في منتصف الحديقة التي يقام بها الحفل ..
كان نديم يقف وذراعه تحيط بليلى يستقبلان التهاني من الموجودين بحبور بالغ ..
تقدم شاب وسيم الطلعة منهما يردد ببهجة صادقة :-
” مبارك لكما الخطبة أحبائي ..”
ضحك نديم رابتا على ذراعه وهو يرد :-
” شكرا يا أكرم .. العقبى لك …”
” اللهم آمين ..”
قالها أكرم وهو ينظر بعينيه إتجاه مريم أخت ليلى الصغرى التي تقف بجانب إحدى ضيفات الحفل ليغمز له نديم بخفة فيهمس له أكرم :-
” العقبى لي وأصبح صهرا لك ..”
آمن نديم على دعائه بينما استأذن أكرم متجها نحو مجموعة من رفاقه لتتقدم مريم بعد مدة منهما وهي تسألها بسرور :-
” هل تحتاجان شيئا ما ..؟!”
ثم أكملت بسعادة وحب :-
” تبدوان قمة في الروعة والجمال …”
توقفت عن حديثها وهي تنتبه الى إختفاء إبتسامة نديم وتوتر ملامح ليلى لتلتفت نحو الخلف فتجد عمار يقترب منهما وهو يرسم على وجهه إبتسامة وديعة …
نظرت إليه وهو يمد يده نحو أخيه الأصغر مرددا :-
” مبارك لك الخطبة يا نديم …”
رد نديم وهو يلتقط كفه بصلابة :-
” شكرا يا عمار .. العقبى لك ..”
” مبارك لكِ أيضا عزيزتي ليلى …”
قالها بنفس الدماثة لتبتسم ليلى وهي تجيبه برقة :-
” شكرا يا عمار .. العقبى لك ان شاءالله ..”
ابتسم بعدم اكتراث قبل أن ينظر نحو مريم ويحييها بتكلف ثم ينسحب متجها الى احد أركان الحفلة متأملا الجميع بجمود قبل أن تتقدم نحوه أخته الصغرى غالية بسعادة فيمنحها إبتسامة مشدودة بينما تحتضنه هي بحب فيحيط جسدها بذراعيه بصعوبة لتبتعد عنه بعد لحظات وهي تسأله عن أحواله بإهتمام صادق
………………………………………………………………
في صباح اليوم التالي …
هبط نديم درجات السلم بحماس ليجد والدته أمام تأمره :-
” لا خروج قبل تناول طعام الإفطار …”
قال بجدية :-
” لقد تأخرت على الصيدلية … أعدكِ إنني سأتناول إفطاري هناك ..”
” ولكن ..”
” لا يوجد لكن صباح هانم .. أراكِ مساءا ..”
قالها بعدما قاطعها بقبلة على وجنتها ليخرج مسرعا من الفيلا متجها نحو الكراج الملحق بها ..
ركب سيارته الحديثه وقادها خارج الفيلا ليتوقف عند الباب محييا البواب :-
” أسعد الله صباحك يا عم فاضل ..”
رد فاضل بسعادة :-
” وصباحك يا بني .. مبارك خطبتك بني … ”
” أشكرك يا عم .. ”
قالها نديم بسماحة ثم أدار مقوده نحو الطريق الخارجي متجها نحو صيدليته …
وصل بعد مدة الى هناك ليجد سيارة الشرطة تقف بجانب الصيدلية وشرطيين يقفان أمام الباب فتتغضن ملامحه بحيرة وقلق وهو يركن سيارته جانبه ويخرج منها ..
تقدم نحويهما يسألهما بعدما ألقى التحية :-
” ماذا يحدث هنا ..؟!”
سألهما بدهشة ليسأله احد الضباط :-
” أنتَ نديم الخولي …؟!”
اومأ نديم برأسه ليسمع صوت الضابط الذي خرج من داخل الصيدلية مع احد العاملين :-
” سيد نديم لدينا أمر بالقبض عليك …”
” لماذا …؟! ماذا يحدث بالضبط ..؟!”
سأله بعدم إستيعاب ليرد الضابط بما صدمه :-
“أنت متهم ببيع أدوية مخدرة ضارة بلا رخصة …”
………………………………………………………………
صرخت صباح بعدم تصديق بعدما سمعت حديث أحد أصدقاء نديم الذي جاء يخبرها بما حدث …
ركضت غالية نحوها مسرعة تحاول معرفة ما يحدث لتخبرها صباح ببكاء :-
” إعتقلوا أخاكِ .. إعتقلوه يا غالية ..”
” لماذا ..؟! ماذا فعل ..؟!”
قالتها وهي تستدير نحو صديقه تسأله ليجيب :-
” يقولون إنه يبيع أدوية مخدرة بلا رخصة ..”
صاحت غالية بإنكار :-
” مستحيل .. نديم لا يفعل شيئا كهذا … أخي لا يفعل هذا أبدا … مستحيل …”
أيدها صديقه قائلا :-
” بالطبع نديم لا يفعل شيئا كهذا لكن علينا أن نتصرف الآن ونجد محامي جيد ..”
ركضت غالية نحو غرفتها تجلب هاتفها وهي تردد :-
” عمار .. يجب أن يعلم بما حدث ..”
ثم رنت عليه ليجيبها بصوت ناعس :-
” ماذا هناك يا غالية ..؟! لماذا تتصلين باكرا هكذا ..؟!”
صرخت غالية باكية :-
” إعتقلوا نديم يا عمار .. الشرطة إعتقلته…”
سمعت صوته يقول بسرعة :-
” انا قادم حالا يا غالية …”
أغلقت الهاتف وعادت تبكي قبل أن تخرج مسرعة نحو والدتها تخبرها بقدوم عمار رغم معارضة الأخيرة لذلك فهي لا ترغب بأي مساعدة منه ..
……………………………………………………………..
في احدى المناطق الشعبية وتحديدا في بيت صغير قديم للغاية متهالك نوعا ما ..
عندما تدلف الى داخله تجد المكان بسيطا لكنه دافئ ومليء بالهدوء والسلام ..
في تلك الأثناء كانت حياة تجلس على المكتب الخشبي الموضوع في أحد أركان غرفتها الصغيرة حيث تذاكر آخر مادة لها في الإمتحانات النهائية ..
سمعت صوت باب المنزل يفتح فأدركت إن والدها عاد أخيرا من عمله ..
نهضت مسرعة تستقبله بسعادة كعادتها مساء كل يوم ..
إرتمت بين أحضانه بفرحة فيشدد هو من إحتضانها براحة تنعم بقلبه الذي ما زال يقلق عليها لبقائها وحيدة طوال اليوم ..
” كيف كان يومك صغيرتي ..؟!”
سألها والدها بحنو شديد لتبتعد عنه وهي تخبره بثرثرة معتادة :-
” جيدا للغاية .. لقد أنهيت المادة وبدأت في مراجعتها …”
ثم بدأت تخبره عن سهولة الفصول الأخيرة من المادة وكيف أكملتها في سويعات قليلة ..
كانت تتحدث بحماس شديد قبل أن تنهي حديثها وهي تقول :-
” سأعد لك طعام العشاء حالا ..!”
عارضها والدها وهو يقول :-
” لا تتعبي نفسك صغيرتي .. سأعده أنا .. أما أنتِ فعودي الى مذاكرتك او إرتاحي قليلا .. ”
إلا إنها رفضت بشدة :-
” لست متعبة أبدا يا أبي .. دعني من فضلك أعد لك طعامك .. ”
وقبل أن يعترض من جديد كانت تركض نحو المطبخ لتجهيز الطعام له ..
عادت بعد مدة وهي تحمل صينية متوسطة الحجم موضوع عليها بعض الأطعمة ..
وضعت الصينية على الطاولة أمام الكنبة التي يجلس عليها ليبدأ والدها بتناول طعامه بصمت ..
” لقد وضعت الشاي على النار .. ”
كان والدها يحب شرب الشاي من يدها مساءا بعدما ينهي تناول عشاءه ..
شعرت حياة بتغير والدها وحزنه من شيء ما فسألته بقلق :-
” تبدو ضائقا من شيء ما يا أبي .. ماذا هناك ..؟!”
نظر إليها وهو يجيب :-
” نديم بك ..”
سألته بقلق :-
” ماذا به ..؟!”
رد وهو يتوقف عن تناول طعامه وقد سيطر الحزن على ملامحه :-
” لقد قبضت الشرطة صباح اليوم عليه ..”
” ماذا ..؟! ”
صاحت بدهشة ثم أردفت متسائلة :-
” لماذا ..؟! ماذا فعل ..؟!”
رد والدها بضيق :-
” لا أعلم ما سبب ذلك بالضبط لكنهم يقولون إنه يبيع في صيدليته أدوية غير مرخصة او شيء من هذا القبيل ..”
” هل يعقل أن يفعل نديم بك شيئا كهذا يا أبي ..؟!”
سألته بعدم تصديق ليجيب والدها مدافعا بشدة :-
” مستحيل .. نديم بك لا يفعل شيئا كهذا .. أنا أعرفه جيدا … أعرفه منذ أن كان طفلا صغيرا وكبر يوما بعد يوم أمام عيني .. إنه رجل ذو أخلاق عالية لا يمكن أن يقوم بتصرف كهذا ..”
كانت حياة تعلم ذلك أيضا بناء على حديث والدها الذي دوما ما كان يذكر نديم الخولي بحسن التربية والأخلاق لذا شعرت بالإستغراب عندما أخبرها بسبب إعتقاله ..
” يبدو إن هناك من يريد الإيقاع به ..”
قالتها حياة بجدية ليومأ والدها برأسه وهو يهتف بدوره :-
” بالطبع يا ابنتي .. كان الله في عونه وعون والدته وبقية عائلته ..”
سألته حياة بإهتمام :-
” وماذا سيفعلون عائلته يا أبي ..؟! ألن يتصرفوا ويحاولوا أن يبحثوا عن الشخص المتسبب بهذا ..؟!”
رد والدها بتأكيد :-
” بالطبع سيفعلون … اتمنى أن يساعدهم ثرائهم ونفوذهم في إثبات براءته ..”
تنهدت حياة وهو تؤمن على دعائه :-
” ان شاءالله يتم الإفراج عنه بأقرب وقت ..”
ابتسم والدها بحزن بينما نهضت هي من مكانه واقتربت منه تحتضنه وتواسيه :-
” لا تحزن يا أبي .. بإذن الله سيخرج في أقرب وقت .. أعلم مدى حبك لعائلة الخولي وخاصة السيد نديم .. ”
اومأ والدها وهو يرد :-
” أنا حزين لإنه لا يستحق أن يمر بهذا ..”
ابتسمت حياة وهي تخبره :-
” سيفرج الله عنه بإذن الله …”
” آمين ..”
قالها والده بأمل بينما إبتعدت عنه قليلا وهي تقول :-
” سأذهب لأتفقد الشاي .. ”
ثم سارت مبتعدة نحو المطبخ تاركة والدها يفكر في وضع نديم ومصيره بعد إتهامه بتهمة كهذه ..
……………………………………………………..
بعد مرور مدة من الزمن ..
في قاعة المحكمة ..
وقف الجميع احتراما للقاضي الذي سيقول حكمة في القضية بعد لحظات …
إلتفتت ليلى نحو نديم تتأمله بعينين لم تتوقفان عن البكاء لحظة واحدة منذ ما حدث بينما نديم ينقل بصره بينها وبينها القاضي وقلبه يرجو الله أن ينصره رغم إدراكه إن كافة المؤشرات ضده حتى بعد محاولات المحامي المستميته لأجل إثبات براءته ..
كانت صباح تضع يدها على صدرها بوجع بجانبها تسندها ابنتها غالية يتبعها عمار الذي يقف بجموده المعتاد ينتظر حكم القاضي …
” حكمت المحكمة حضوريا على المتهم نديم حسين الخولي بالحبس لمدة خمسة أعوام مع الأشغال الشاقة مع منعه من ممارسة مهنته بسبب عدم الإلتزام بأخلاقياتها ..”
ما إن أنهى القاضي حكمه خرجت صرخة والدته عالية بينما فقدت ليلى وعيها في نفس اللحظة …
انتهت المقدمة ..
بعد عدة أعوام ..
” تبقى يومين وتخرج من هنا …”
قالها صديقه وهو ينظر إلى ملامحه التي سيطر عليها التجهم بشدة ..
” ماذا حدث ..؟! ملأ الضيق ملامحك فجأة ..؟!”
نظر إليه نديم وأجاب :-
” تبقى يومين يا مجد.. يومان وأخرج من هنا وأنا أعلم جيدا ما ينتظرني في الخارج ..”
أردف وعيناه تنظران الى الأفق البعيد :-
” هل تعلم ..؟! أحيانا أتمنى ألا أخرج من هنا … ادعو الله أن يأخذ أمانته قبل الخروج .. لم أخشَ يوما من شيء إلا إنني الآن أخشى وبشدة من المواجهة .. ”
تغضن جبينه برفض :-
” أخشى من مواجهة المجتمع ، الأهل والأصحاب .. أعلم إنه ينتظرني الأسوء في الخارج ولكن ليست هنا المشكلة .. بل المشكلة تكمن في عدم قدرتي على المواجهة … ”
منحه مجد نظرة متعاطفة وهو يهتف به :-
” لا تحمل نفسك فوق طاقتها يا نديم .. أعلم إن ما مررت به حتى الآن أصعب ما يكون ولكن ..”
صمت قليلا ينتقي كلماته بعناية قبل أن يكمل :-
” تذكر إنك بريء ولا ذنب لك فيما حدث ..”
رسم نديم إبتسامة باهتة وهو يردد بمرارة :-
” وهل من حولي يعلم او حتى سيصدق هذا ..؟!”
” الله يعلم يا نديم .. وهذا وحده يكفي …”
قالها مجد بثقة ليتأمله نديم بصمت وفي داخله أفكار متداخلة ومشاعر مختلطة يسيطر عليها اليأس والعذاب ..
………………………………………………………………..
كانت تتأمل والدها وهو يتناول دواءه بقلق .. لقد تفاقم المرض عليه وحالته تزداد سوءا يوما بعد يوم ولا يوجد بيدها شيئا تفعله له ..
أخذت علبة الدواء منه وهي تدعو له بالشفاء ثم عادت ووضعت صينية الطعام أمامه تخبره بحنو :-
” تناول طعامك يا أبي ..”
أخذ الأب ملعقة صغيرة من طبق الحساء الساخن وتناوله ثم سألها بإهتمام :-
” متى ستذهبين الى السيدة صباح يا حياة ..؟!”
أجابت وهي تجلس قباله :-
” سأذهب صباح الغد يا أبي .. ”
ثم أكملت تطمأنه :-
” لا تقلق أبدا .. لقد تحدثت معها وتفهمت سبب غيابك بل إنها أخبرتني أيضا أن أذهب وأستلم منها راتبك الشهري كاملا …”
تنهد فاضل وهو يهمس بضعف :-
” كم هي سيدة أصيلة .. رغم غيابي طوال الأسبوع الماضي إلا إنها لم تخصم من راتبي بقدر ما غبت كالعادة …”
” بارك الله فيها ورزقها المزيد يا أبي ..”
آمن على دعائها وهو يكمل :-
” وفرج عن إبنها وحيدها بأقرب وقت ..”
آمنت على دعائه وهي تنهض مكانها ثم تخبره :-
” يجب أن أذهب الآن يا أبي .. سيبدأ موعد عملي في الصيدلية .. انتبه على نفسك وإذا إحتجت أي شيء إتصل بي فورا .. ”
ثم طبعت قبلة على وجنته وخرجت متجهة الى عملها وشعور القلق على والدها لم يتركها لحظة واحدة فأخذت تعد الدقائق حتى ينتهي عملها وتعود إليه …
………………………………………………………………
جلس مجد بجانب نديم يسأله :-
” لماذا لا تتناول طعامك ..؟!”
أجاب نديم وهو يتطلع أمامه :-
” لا شهية لدي لتناول أي شيء …”
شرد في أفكاره من جديد .. يفكر بها كعادته في كل يوم يقضيه هنا .. كم يشتاق إليها وكم يلعن نفسه لهذا الشوق الذي يعصف بكيانه ..
أطلق تنهيدة حارة خرجت من أعماق صدره ليسمع مجد يقول وهو يربت على كتفه :-
” هون على نفسك يا أخي .. كل شيء سيكون بخير بإذن الله …”
” اللهم آمين …”
قالها وهو يمسح على وجهه بإرهاق بينما قال مجد بصوت كئيب :-
” سأشتاق إليك حقا يا نديم .. الأيام القادمة ستكون سيئة للغاية بدونك ..”
حدثه نديم بصديق :-
” هل تظن إنني سأتركك حقا دون زيارة ..؟! سأزورك بإستمرار ..”
ثم نظر الإثنان الى ذلك السجين الجديد والذي يجلس منفردا بصمت منذ أن جاء الى هنا فيتسائل نديم بصوت خافت :-
” لم يتواصل مع أحد حتى الآن ، أليس كذلك ..؟!”
اومأ مجد وهو يهتف :-
” لدي فضول شديد للتعرف عليه وعن سبب دخوله هنا ..”
ابتسم نديم بخفة وقال :-
” ستتعرف عليه لا تقلق وتعرف عنه كل شيء .. ألا تتذكر عند دخولي هنا لأول مرة ..؟! كنت منعزلا مثله تماما رافضا التواصل مع أحد .. لكنني تجاوزت صدمتي في النهاية .. هذا حال جميع من يدخل هنا .. ”
أحاطه مجد من كتفيه مرددا بإبتسامة :-
” كانت صحبتك رائعة يا نديم .. ”
رد نديم موافقا :-
” وصحبتك يا مجد .. كنت خير رفيق لي في أيامي المظلمة ..”
أردف بجدية :-
” وسوف تستمر صحبتنا بإذن الله بعد خروجي وخروجك أنتَ بعدي … ”
” بإذن الله …”
قالها مجد بملامح عاد يكسوها الضيق رغما عنه لتوديعه صديقه بعد يومين وعودته وحيدا بدونه ..
……………………………………………………………….
في صباح اليوم التالي ..
في كلية الصيدلة ..
جلست حياة بجانب صديقتها مي التي هتفت بها :-
” تأخرتِ اليوم يا حياة وفاتتك المحاضرة الأولى … ليس من عادتك التأخير وتفويت محاضرة …”
ردت حياة وهي تبتسم بحزن :-
” انتظرت والدي حتى إستيقظ من نومه وتناول دوائه وإفطاره .. لم أشأ أن أوقظه مبكرا فهو بحاجة للراحة والنوم طويلا …”
سألتها مي بإهتمام :-
” وكيف أصبح الآن ..؟! هل تحسن وضعه ..؟!”
تنهدت حياة وهي تجيب :-
” كلا يا مي ، ما زال وضعه كما هو وانا قلقة للغاية بشأنه ..”
نظرت إليها بشفقة من ذلك الحزن والخوف الذي يسيطران عليها منذ مرض والدها ..
تعرف كم تحب صديقتها والدها وكم إنها تخشى فقدانه فهي لا يوجد لديها غيره في الحياة ..
” لا بأس حبيبتي .. سيصبح وضعه أفضل بإذن الله ..”
” يارب ..”
قالتها حياة بتمني ثم انتبهت الى الإستاذ الذي دلف ملقيا تحية الصباح عليهم ..
ردت تحيته بخفوت وهي تفتح دفترها وتمسك قلمها كي تدون معه الملاحظات المهمة في الموضوع ..
إنتهت المحاضرة بعد ساعتين فنهضت حياة من مكانها ومعها مي التي همست لها :-
” لقد سألني عنكِ الدكتور ثامر قبل يومين بسبب تغيبك .. كان يبدو قلقا عليكِ يا حياة .. تحدثي معه .. ”
رمقتها حياة بنظراتها صمتا بينما وقعت أنظار ثامر عليها الذي نادى عليها فشعرت بالإرتباك يغزوها وهي تسير نحوه تحت أنظار مي الفرحة لما يحدث …
وقفت حياة أمامه فسألها بقلق ظهر بوضوح في نبرة صوته :-
” حياة .. هل أنتِ بخير ..؟! لقد تغيبت يومين كاملين وهذا ليس من عادتك ..”
بالرغم من سعادتها بإهتمامه وقلقه الواضح إلا إن خجلها منه سيطر عليها بشدة فردت بصوت خافت مرتبك :-
” انا بخير دكتور ثامر … والدي كان مريضا ويحتاجني بجواره ولم أستطع تركه لوحده أبدا ..”
” وكيف أصبح وضعه الآن ..؟! ان شاءالله تحسن وأصبح أفضل …”
نظرت إليه وردت :-
” ما زال وضعه كما هو لكن أتأمل بإذن الله أن يتحسن في الأيام القادمة …”
” إن شاءالله .. لا أرغب بالتدخل ولكن ممَ يعاني والدك يا حياة ..؟!”
سألها بجدية ليظهر الحزن في نبرتها وهي تجيب :-
” يعاني من الربو المزمن ومشاكل تنفسية عديدة .. رئتاه متعبتان للغاية ..”
نظر إليها بشفقة سرعان ما تحولت إلى إبتسامة يخبرها متفائلا :-
” سيتحسن في أقرب وقت إن شاءالله ..”
أكمل بعدها بإهتمام صريح :-
” إذا إحتجت لأي شيء لا تترددي لحظة واحدة في التواصل معي .. أتحدث بشكل جدي وأتمنى أن تأخذي حديثي على نحو جدي يا حياة ..”
منحته حياة إبتسامة خجولة وهي تومأ برأسها وترد بصوت خافت :-
” إن شاءالله .. اسمح لي بالمغادرة فمحاضرتي ستبدأ بعد قليل ..”
” تفضلي يا حياة..”
قالها وهو يمنحها إبتسامة خاصة ثم إتبعها بنظراته وهي ترحل نحو صديقتها التي إستقبلتها بسعادة :-
” ماذا حدث ..؟! ماذا قال لكِ ..؟!”
” إصمتي الآن يا مي .. لقد شعرت بالإحراج الشديد منه …”
ثم أكملت تخبرها بما قال لتهتف مي وهي تسير بجانبها تلف ذراعها حول ذراع حياة :-
” إنه مغرم بك .. الأمر لا يحتاج الى تفكير ..”
صمتت حياة ولم ترد لتكمل مي بتساؤل فضولي :-
” لماذا لا تقولين شيئا ..؟! أخبريني .. ألا تشعرين بذلك ..؟! وماذا عنكِ ..؟! ألا تشعرين بالإعجاب نحوه ..؟!”
ردت حياة بعفوية :-
” بالطبع أشعر ..”
إبتسمت مي وهي تردد برجاء :-
” جعله الله من نصيبك يا حياة …”
وعندما وجدتها صامتة نهرتها :-
” قولي آمين ..”
” آمين ..”
قالتها حياة ضاحكة ثم أكملت بعجلة :-
” دعينا نذهب الى المحاضرة الآن .. لدي مشوار مهم بعد الإنتهاء منه ..”
سارت الفتاتان مسرعتان نحو قاعة المحاضرات إستعدادا للمحاضرة التي ستبدأ بعد قليل ..
……………………….،……………………………………
بعد إنتهاء المحاضرة ودعت حياة صديقتها ثم إستقلت احدى الحافلات متجهة الى المنطقة التي يقع بها منزل عائلة الخولي …
هبطت حياة من الحافلة في منطقة قريبة من منطقتهم فأخذت تسير مشيا على الأقدام نحو منطقتهم حتى شعرت بالتعب شديد من طول الطريق فإضطرت أن تستأجر سيارة توصلها إلى منزلهم ..
توقفت سيارة الأجرة أمام الفيلا لتهبط منها حياة بعدما أعطت السائق أجرته ..
تأملت حياة الفيلا للحظات ثم خطت الى الداخل حيث سألها الحارس عن هويتها فأخبرته إنها إبنة فاضل الذي يشاركه عمله ..
رحب الحارس بها بشدة وهو يسألها عن أحوال والدها ويتمنى له الشفاء العاجل ..
قادها الى الداخل حيث فتحت لها الخادمة الباب والتي رحبت بها بدورها عندما أدركت هويتها …
سارت حياة مع الخادمة نحو صالة الجلوس لتجلس على الكنبة بينما تخبرها الخادمة إنها ستنادي صباح حالا حيث الأخيرة بدورها تنتظرها ..
تأملت حياة الصالة الأنيقة بإعجاب شديد .. كانت المرة الأولى التي تزور فيها فيلا عائلة الخولي … كانت الفيلا تليق بثرائهم المعروف في الأوساط الراقية …
سارت ببصرها نحو المكان عندما وقعت عيناها على مجموعة من الصور الموضوعة على طاولة عالية موجوده في ركن الغرفة ومن بين الصور العائلية تركزت عيناها على صورته بملامحه شديدة الوسامة والجاذبية ..
نهضت من مكانها وسارت نحو الصورة بعدم إنتباه لما تفعله عندما مسكت الصورة تنظر إليه عن قرب ..
تأملت ملامحه بتركيز شديد للحظات انتهت بنبضة غريبة بعثرت روحها ولم تدرك إن ملامحه تلك حُفِرت في قلبها قبل عقلها …
كادت أن تعيد الصورة الى مكانها حينما صدح صوتا أنثويا حادا يصيح بها :-
” ماذا تفعلين هنا ..؟!”
ودون إرادة منها إنزلقت الصورة من بين يديها وسقطت أرضا ليتحطم الزجاج المحيط بها إلى أجزاء بينما ركضت السيدة نحو الصورة تحملها بكفها غير آبهة بذلك الزجاج المبعثر عليها والذي قد يجرح كفها ..
” أنا آسفة .. أعتذر بشدة ..”
قالتها حياة بفزع مما حدث وهي تلعن فضولها الذي جعلها تتصرف هكذا ..
بينما نظرت ليلى إليها بحدة سيطرت على ملامحها الحسناء و حياة تنظر إليها بخجل لتخبرها بفظاظة:-
” ماذا كنتِ تفعلين بالصورة ومن أنتِ أساسا ..؟!”
إبتلعت حياة ريقها بصعوبة وهي ترد بحرج وعينين ترقرقت الدموع فيهما :-
” أنا آسفة … والله لم أقصد ما ..”
قاطعتها بنزق :-
” حسنا يكفي .. لا أريد سماع المزيد …”
ثم نظرت الى الصورة بلهفة غير آلهة بجرح يدها الذي إنتبهت له حياة فهتفت بسرعة :-
” يدكِ ُجرحت يا هانم .. إنها تنزف ..”
نظرت ليلى إلى يدها بلا إهتمام بينما صدح صوت صباح تهتف بعدما دخلت إليهم :-
” ماذا يحدث هنا ..؟!”
ثم ألقت نظرة عابرة على ليلى قبل أن تلتفت نحو حياة ترحب بها :-
” أنت حياة إذا .. أهلا بكِ إبنتي ..”
رسمت حياة إبتسامة مرتعشة على شفتيها وردت بينما ليلى تنظر إلى الصورة بتركيز :-
” أهلا يا هانم .. أعتذر على إزعاجك ولكن ..”
قاطعتها صباح بإبتسامة صادقة :-
” أي إزعاج يا ابنتي ..؟! لا يوجد إزعاج .. تفضلي وإجلسي ..”
ثم نظرت الى الزجاج المنثور على أرضية الغرفة بإستغراب ..
إلتفتت نحو ليلى تنوي نهرها لتسبقها حياة وهي تقول :
” أعتذر لما حدث … لقد سقطت الصورة مني سهوا .. ”
كانت حياة تتمنى أن تنشق الأرض وتبتلعها في تلك اللحظة بينما إبتسمت صباح بخفة وهي تخبرها :-
” لا عليكِ يا إبنتي .. لم يحدث شيئا يستحق الإعتذار ..”
ثم نادت على الخادمة كي تلملم الزجاج وإلتفتت نحو ليلى تقول :-
” هاتي الصورة من فضلك ..”
إعترضت ليلى :-
” إتركيها معي ..”
نظرت لها صباح بحدة قابلتها ليلى بنظرات مترجية لتشيح صباح بوجهها وهي تشير إلى حياة :-
” تفضلي يا ابنتي .. إجلسي وأخبريني كيف أصبح والدك ..”
سارت حياة أمامها نحو الكنبة بينما خرجت ليلى مسرعة ومعها صورته ..
…………………………………………………………………..
دلفت ليلى الى غرفتها وهي تحمل صورته معها …
فتحت باب الخزانة وأخرجت صندوقا ذهبيا يخصها ثم فتحته لتنظر إلى تلك الأشياء الموجوده بها الخاصة جدا إليها بألم لا ينتهي..
نظرت الى الصورة لتمسح عليها بكفها بشوق جارف قبل أن تضعها داخل الصورة وهي تكتم دموعها بقوة …
وضعت الصندوق داخل الخزانة من جديد ثم اتجهت نحو الحمام تغسل كفها النازف …
جففت كفيها واتجهت نحو السرير تتمدد بجسدها عليه تغمض عينيها وتتخيله من جديد …
كيف مرت السنوات بدونه ..؟! سنوات مريرة لم ينتهِ بها يوما دون وصلة من البكاء عليه .. لم تشعر ولو لحظة بسعادة فأي سعادة تلك تشعرها في غيابه ..؟!
سيخرج ، سيخرج غدا وهو لا يعلم إنها أكثر من يتلهف لرؤيته .. سيخرج وربما في خروجه ستبدأ وصلة عذاب جديدة ومختلفة ..
سالت دموعها بغزارة وعادت الى المرة الوحيدة التي زارته فيها هناك في السجن بعد شهرين من محاكمته …
كانت تجلس في المكان تنتظره بعينين مشتاقتين ولوعة تزداد كل يوم في غيابه ..
دلف أخيرا إليها بوجه شديد الذبول وعينين شديدتين الإحمرار … ملامحه منهكة وقد فقد الكثير من وزنه …
انتفضت من مكانها تسير نحوه تحتضنه بشدة بينما هو يقف في مكانه يداه منخفضتان نحو الأسفل رغم نبضات قلبه التي وصلت ذروتها بإقترابها منه ..
إبتعدت عنه ودموعها تسيل على خديها بغزارة بينما لسانها يهتف :-
” إشتقت إليك يا نديم ..إشتقت إليك يا حبيبي ..”
ثم عادت تضمه نحوها وهي تشدد من إحتضانه تستنشق رائحته بشوق شديد …
بعد مدة إبتعدت عنه تسأله بعينين مترجيتين :-
“لماذا لا تتحدث يا حبيبي …؟! تحدث.. قل اي شيء ..”
وعندما لم تجد سوى الصمت بكت وهي تناجيه :-
” أجبني يا نديم.. قل شيئا أرجوك … أتحمل أي شيء إلا صمتك هذا ..”
نطق أخيرا ببرود :-
” لماذا جئتِ ..؟!”
اتسعت عيناها الباكيتان وهي تردد بعدم تصديق :-
” ألا تريد مني زيارتك يا نديم ..؟! ألا ترغب برؤيتي ..؟!”
قاطعها بقسوة :-
” كلا لا أريد ولا أرغب بأي شيء …”
عادت تبكي وهي تتوسله :-
” لا تفعل هذا أرجوك.. أعرف كم معاناتك ولكنني بجانبك وسأبقى معك …”
” اخرجي من هنا حالا يا ليلى ولا تعودي …”
قالها بإباء وعينين جامدتين رغم ذلك الوجع الذي ينحر روحه بسبب دموعها وبسبب ما يخبرها به مجبرا ..
هزت رأسها نفيا تعانده بشده :-
” لن أفعل .. سأزورك بإستمرار حتى تخرج من هنا ..”
ثم أكملت وهي تحيط وجهه بكفيها :-
” أنا أحبك يا نديم ولا يمكنني الإبتعاد عنك ..”
قبض على كفيها يبعدهما عنه بعنف ثم يقبض على ذراعيها يخبرها بصوت عصبي عالي قليلا :-
” ألا تفهمين ما أقوله ..؟! اخرجي من هنا ولا تأتي أبدا … انا لا أريدك .. لا أرغب برؤيتك .. اخرجي واتركيني لعذابي يا ليلى ..”
كان يهزها بعنف ولا وعي بينما دموعها تغرق وجنتيها لتندفع بجسدها نحو أحضانه تخبره بنحيب :-
” لا أستطيع .. لا أستطيع يا نديم ..”
ثم إبتعدت عنه بعدما توقفت عن نحيبها تصيح به وهي تنظر الى وجهه :-
” لا أستطيع .. لا أستطيع.. كم مرة سأقولها .. ؟! ألا تفهم …؟! ”
عادت تبكي بصوت مرتفع لينظر الى الجانب بمشاعر ثائرة حاول تهدئتها لكنه فشل ..
عاد ينظرها إليها يخبرها بضعف :-
” لقد إنتهيت يا ليلى .. نديم إنتهي .. تدمر … فقد كل شيء ولم يبقَ له سوى أشباحه التي تحيط به من كل جانب ..”
أردف وهو يراها تتوقف عن البكاء أخيرا وتنظر إليه بعدم تصديق :-
” إنتهى كل شيء يا ليلى … ”
هزت رأسها نفيا والدموع الحارة تهطل من جديد ليكمل :-
” لم يعد لدي مستقبل يا ليلى .. مستقبلي تدمر وحياتي بأكملها تدمرت كليا … كل شيء جميل اختفى وحل محله الظلام والعذاب ..”
كانت تستمع إليه وهي تهز رأسها نفيا عدة مرات بقوة بينما أغمض هو عينيه بألم قبل أن يفتحهما من جديد ويهتف أخيرا :-
” انسيني يا ليلى .. فأنا لا أنفعك ..”
سمعا صوت الحارس يخبرهما بإنتهاء الزيارة لينظر إليها بوهن فتخبره بعدما مسحت وجهها بكفيها :-
” أنا لا أقوى على الحياة بدونك يا نديم ..؟! أنت كل شي بالنسبة لي .. حياتي بدونك فارغة لا شيء بها .. سأنتظرك يا نديم .. سأنتظرك حتى آخر العمر يا حبيبي …”
ثم منحته إبتسامة عاشقة لطالما خصته بها ورحلت …
رحلت تحمل قلبه معها كالعادة …
أفاقت من ذكرياتها تبكي بعنف استمر طويلا حتى تعبت من البكاء فإعتدلت في جلستها تنظر الى كفها الذي غرق بالدماء من جديد …
نهضت تسير نحو الحمام بتثاقل تغسل كفها قبل أن تقرر الهبوط الى الأسفل كي تربط جرحها جيدا فيتوقف نزيفه ..
……………………………………………………………….
دلفت غالية الى المطبخ لتتفاجئ بليلى هناك وهي تربط يدها جيدا بعدما وضعت لاصقة الجروح على مكان الإصابة …
اقتربت منها تسألها بقلق :-
” ما بها يدكِ يا ليلى ..؟! مالذي أصابها ..؟!”
ابتسمت ليلى بضعف وهي تجيب :-
” لقد جرحت .. جرحا خفيفا لا تقلقي …”
أكملت برسمية :-
” أشكرك على إهتمامك …”
نظرت إليها غالية بحزن على حالهما وما وصلا إليهما بعد صداقتهما بل إخوتهما التي بدأت منذ الطفولة …
ألم تكن هي السبب في هذا ..؟! ألم تبدأ هي أولًا في هذا الأسلوب ..؟! لمَ يحزنها هذا الآن بعدما إتبعت الإسلوب الرسمي والجاف معها أولا .؟!
رفعت ليلى بصرها نحوها بعينين مقهورتين لتشيح غالية بوجهها بعيدا عنها …
ما زالت تحمل جرحا داخلها مما فعلته .. ما زالت غير قادرة على تقبل تخليها عنه … كيف لها أن تنسى كل هذا ..؟! كانت تعاني مثلها .. تعاني من فقدان أخ تحتاجه أكثر من أي شيء .. تعاني من فقدان صديقة تشتاق إليها بشدة … في تلك الأعوام السابقة خسرت غالية الكثير ولم تعد قادرة على المزيد من الخسارة ..
ترقرقت الدموع داخل عينيها فأخذت تمسح عينيها بخفة لتنتبه ليلى عليها فتسألها بقلق وإضطراب :-
” غالية ..!! هل أنتِ بخير ..؟!”
هزت غالية رأسها دون رد ثم إستدارت نحوها بعدما سيطرت على دموعها :-
” لا يوجد شيء … ”
ثم نظرت الى كفها :-
” هل عالجتِ الجرح جيدا ..؟! ألا تحتاجين الى زيارة طبيب …؟!”
ردت ليلى وقد تسرب الأمل إليها من عودة المياه الى مجاريها بينهما :-
” أنا بخير يا غالية لا تقلقي ..”
ثم قبضت على كف غالية فجأة تخبرها برقة :-
” أشكرك على إهتمامك حقا ..”
وقبل أن ترد غالية كان صوت والدتها يصدح عاليا :-
” غالية ..!! ماذا تفعلين في المطبخ …؟!”
إستدارت غالية نحوها تخبرها بتردد :-
” كنت أرغب بتناول الماء فقط .. ”
ثم إتجهت نحو الثلاجة تفتحها وتخرج منها الماء …
نظرت صباح نحو ليلى بقسوة وإنخفضت أنظارها لا أراديا نحو كفها لتشيح وجهها بعيدا عنها بضيق …
امتلأت عينا ليلى بالدموع من قسوة صباح ومدى كرهها لها لتخرج مسرعة من المطبخ بينما اتجهت صباح نحو غالية تسألها بغضب :-
” ماذا كنتِ تفعلين هنا ..؟! هل كنتِ تتحدثين معها ..؟!”
وضعت غالية القدح جانبا ثم أخبرت والدتها :-
” كنت أطمئن عليها فقط .. يدها مجروحة يا أمي ..”
قاطعتها صباح بنزق :-
” وما شأنك بها ..؟! لا تتحدثي معها ابدا يا غالية ..”
” ما هذا الكلام يا أمي ..؟! أقول لكِ إن يدها مصابة … ”
أردفت وهي تنهد بصوت مسموع :
” يكفي يا أمي حقا .. يكفي ما تفعلينه .. لقد تعبت من كل هذا .. لا تنسي إن ليلى صديقتي المقربة وكانت بمثابة أختي .. ليس من السهل تخطي ما كان يجمعنا …”
” وليس من السهل نسيان ما فعلته بأخيكِ يا غالية .. أم إنكِ نسيت بالفعل ..؟!”
قالتها صباح بقوة وهي تذكرها بالماضي لتهز غالية رأسها نفيا وهي ترد :-
” لم أنسَ أبدا يا أمي و لن أنسى .. لكن أشعر إننا بالغنا في قسوتنا عليها ..”
تأملت والدتها وأكملت :-
” لم أعهدكِ يوما قاسية الى هذا الحد يا أمي …”
هتفت صباح بألم ظهر على وجهها وفي نبرة صوتها :-
” هل تظنين إن هذا سهلا علي يا غالية ..؟! ليس من السهل أبدا أن أتصرف هكذا مع ليلى .. ليلى التي كانت بمثابة ابنتي .. ليلى التي تربت على يدي وكبرت أمام عيني .. لكنه ابني .. وحيدي .. ابني الذي لا أستطيع تحمل أن يصيبه أي مكروه أو ألم مهما كان بسيطا وما فعلته هي لم يكن بسيطا أبدا ..”
هتفت غالية بصوت مبحوح ودموع حبيسة :-
” إشتقت إليه كثيرا يا أمي ..”
ترقرقت الدموع داخل عيني والدتها أيضا لتقول :-
” سيخرج غدا يا غالية .. سيخرج أخيرا .. أنا فرحة للغاية يا ابنتي لكنني خائفة .. خائفة مما سأجده عليه ومما سيجده هو ..”
احتضنتها غالية بقوة وهي تنظر نحو الأمام بعينين مدمعتين وداخلها ترجو الله أن يخفف على أخيها ويسدد خطاه ..
…………………………………………………………..
خرج أخيرا …
خرج من سجنه الذي دام لسنوات …
خرج من سجنه الى سجنٍ آخر … سجن الحياة التي تغيرت كثيرا بعدما حدث ..
الحياة التي بات يراها مظلمة تشبه ظلام روحه الأبدي …
خرج وفي داخله رهبة غريبة كأنه يرى النور لأول مرة …
كم فكر في هذه اللحظة وكم تخيلها ولكنه لم يتمنها يوما ..!!
كيف يتمناها وهو يدرك إن الخارج يحمل له الكثير ..؟!
الكثير مما لا يرغب به ..؟! مالذي ينتظره الآن ..؟!
نظرات شفقة أم كره وشماتة ..؟! نظرات تخفف عنه أم تثقل كاهله أكثر ..؟!
ينتظره مستقبل ضائع ومجهول وظلام من نوع آخر …
أغمض عيناه للحظة إستنشق فيها الهواء مقررا ترك كل هذا جانبا والتمتع بشعور الحرية للحظة واحدة فقط وسيعود بعدها الى أفكاره المعتمة من جديد ..!!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حبيسة قلبه المظلم)