رواية حان الوصال الفصل السادس 6 بقلم أمل نصر
رواية حان الوصال الجزء السادس
رواية حان الوصال البارت السادس
رواية حان الوصال الحلقة السادسة
أنهى تمرينه الصباحي، واتجه الى غرفة طفله، حيث الموعد اليومي لإيقاظه، من قبل والدته التي لا تمل من تدليله:
– عموري يا قلب ماما، اصحى يا قلبي، اصحى يا روحي.
– قلبك وروحك، وجوزك الغلبان سيبتيله ايه يا ست رباب؟
تمتم بالكلمات وهو يدلف اليهما لداخل الغرفة، لتعقب هي بابتسامة مشاكسة:
– وانت هتعوز ايه تاني؟ ما انت معاك رباب بحالها
مال برأسه يضيق عينيه بحركة فكاهية اضحكت الصغير الذي كان يفتح عينيه في التو، ليتلقفه هو يرفعه اليه مهللا:
– شايفة يا ست رباب، بقالك ساعه تدلعي وتهنني وفي الاخر مصحيش غير على صوت باباه.
– ايوة يا سيدي، عيشها انت بقى عليا، بعد ما جات فرصتك ، كدة برضو يا عموري!
قالت الأخيرة بعتاب نحو الصغير الذي ارتمى بثقله عليها، كمبادرة صلح معها، تقبلتها بصدر رحب ، لتمطره بالعديد من القبل، تشدد عليه بضمتها.
– يا قلب مامي انت، بحبك اوي اوي .
يبدوا ان فعلها لم يعجب كارم ، فقد تجهم فجأة، ليباغتها بالنداء على المربية:
– دادة نعمات، خدي البيه الصغير وحضريه لحضانته.
اما هي فقد عبرت عن ذهولها فور خروجهما:
– كارم هو انت خطفت الولد مني ليه؟ انا كنت هحميه واجهزه بنفسي.
– عشان شايف ان دلعك بقى أوفر يا قلبي، انتي كدة بتفسدي الولد، ودا اللي انا لا يمكن اسمح بيه.
تمتمت بصدمة من خلفه:
– انا بفسده! معقول يا كارم، بقى انا والدته افسده؟!
زفر يقترب منها ملطفًا:
– يا قلبي افهمي، انا مش بتكلم عن حنانك ولا حتى الدلع العادي، انا بتكلم عن الافورة، مش عايز اتعامل مع ابني عسكري زي ما كان بيحصل معايا من بابا، بس كمان مش عايزه يبقى مريء ولا دلوع، انا ابني لازم يكون عضمه شديد وقوي، يبقى ناجح اكتر مني انا كمان، والفرص اللي معرفتش اوصلها انا يوصلها هو .
أومات ببعض الطاعة، وقد بدا انها فهمت على وجهة نظره، ليعبر لها عن فرحته بإقناعها، بضمة كبيرة منه لها:
– حبيبتي المطيعة، بحبك اوي يا قلب كارم.
التقط ثغرها بقبلة جامحة شغوفة كعادته، استجابت تبادله ، حتى تطور الامر باللمسات الجريئة التي تعرفها، فعبرت عن تأففهها:
– كارم انت كلك عرق، دا مش ميعاد حمامك برضو؟
استفاق من نشوته ليستدرك على حالته بالفعل ، فتبسم يرخي ذراعيه عنها ؛
– انا فعلا مخدتش بالي، بس اعملك ايه بقى؟ ما انا معاكي بنسى نفسي.
قال الاَخيرة يقرص على وجنتها ، ليتابع بعد ذلك بعملية حينما انتبه على ساعة الحائط:
– دا انا كمان متأخر على شغلي وشغل رياض في الشركة اللي كلمني انوب عنه فيه.
هم ان يذهب ولكن زوجته لم تقوى على كبت سؤالها الملح:
– دا صاحبك قريب مصطفى عزام مش كدة، لكن دا ايه ظروفه بالظبط، متجوز ولا خاطب، انا عمري ما شوفته مع واحدة ست.
– ولا انا.
قالها زوجها بابتسامة متسعة يستطرد بدهشة وهو يخرج من الغرفة ويسحبها معه:
– من ساعة ما اتعرفت بيه ، وهو كل حياتة شغل في شغل، ماشي تمام اوي ودا اللي عاجبني فيه، بس بستغرب اوي عنه الموضوع ده، اصله كمان مش مقضيها نسوان في الخفا على حسب ما بعرف، ولا يمكن في وهو حريص زيادة.
– او يمكن بيحب.
خمنت بها ليمط شفتاه بعدم معرفة:
– يمكن بس هو انسان غامض اوي، متعرفيش دماغه بتفكر في ايه؟ عكس ابن خالته عدي ، كان واضح اوي معايا، ولا يمكن حكاية والده واللي حصل مع والدته مأثرين فيه.
– هو ايه اللي حصل معاهم؟
سألته بانتباه شديد حتى توقف بها في وسط الردهة، ليداعب ذقنها :
– بعدين يا شاطرة ابقى احكيلك حكايتهم، وابعدي دلوقتي بقى من سكتي خليني اطلع اخد شاور واشوف اللي ورايا.
همت ان تتشبت بقميصه المتعرق وهي تخاطبه برجاء:
– طب دقيقتين بس احكيلي عنه نبذة مختصرة حتى.
ابتعد بجسده عنها مغمغمًا بتسلية:
-،اوعي كدة عني، مش انتي مكنتيش طايقة ريحة عرقي من شوية، خلي الفضول ياكلك بقى.
قالها وتحرك مهرولا يصعد الدرج بخطوات مسرعة، لتغمغم في اثره بغيظ:
– ماشي يا كارم، والله ما هسيبك.
❈-❈-❈
اعتدلت بجذعها عن جلستها بإجفال لا تصدق ما وصل لإسماعها عبر الهاتف:
– كااارم، كااارم مين اللي يمسك الشغل عنك يا رياض؟ وانت هتروح فين بالظبط؟
وصلها صوته الحاد:
– انا بكلمك في الشغل يا لورا ، يبقى تكلميني بصفة رسمية، بقولك شريكي كارم هو اللي هينوب عني النهاردة ، يبقى افهمي بقى من نفسك دا المطلوب منك ومن غير تعطيل.
انتفضت واقفة لتستطرد في محاولة للاستيعاب:
– حضرتك انا مش عايز اعطلك اكيد، انا بس بستفسر، دي مش عوايدك، وانت اهم حاجة عندك الشغل .
هذه المرة خفف من حدته:
– وحد قالك اني ههمل في شغلي؟ انا هوصل الست الوالدة للدكتور وبعد ما اطمن عليها هروح ان شاء الله ع الشغل وامارس نشاطي.
اومأت ببعض التفهم:
– تمام زي ما تحب ، بس معنى كدة بقى ان الدادة نبوية خفت وهي اللي هتروح معاك تراعيها؟
– لأ مخفتش لسة، واللي رايحة معانا بهجة .
– بهجة! بهجة مين؟ طب ما كنت انا روحت معاكم بدل الزفتة دي، ولا هي فاكراها فسحة دي كمان.
هتفت بها بانفعال لم تقوى على كتمانه، ليوقفها هو بصرامة:
– انتبهي لكلامك يا لورا، انا بلغتك بأمر الشغل، يبقى تنفذي المطلوب منك وانتي ساكتة ، وبس كدة.
ختم بجملته ينهي المكالمة بفظاظة، لتطالع هي الشاشة بصدمة، هذه اول مرة يعنفها غير أبهًا بصلة القرابة بينهم ، دائمًا ما كان يحترمها في العمل وغير العمل، تعلم انها بالغت في رد فعلها حينما أتت سيرة هذه الفتاة، ولكنها ايضا لا تحتمل كلمة عنها….
❈-❈-❈
دلفت تسحبها لداخل غرفة الطبيب المختص بحالتها، وقد تقدمهم هو اليه ، ليتلاقاه الاخر بالترحاب والتهليل :
– رياض باشا بنفسه في عيادتي المتواضعة، لا دي حاجة ولا في الخيال بقى.
– سجل بقى عشان تبقى للتاريخ.
قهقه المذكور يتبادل معه المزاح، قبل ان يدخل في صلب الموضوع؛
– يللا يا سيدي اهي الست الوالدة قدامك، عايزين نطمن ونعرف اخر التطورات في حالتها .
ذهبت عيني الطبيب نحو ما اشار ، ولكنه لم ينتبه للمريضة، وقد انصبت ابصاره على من ترافقها:
– مين الأمورة.
صدرت منه كسؤال عادي وإعجاب لم يخفيه، ليأتيه الرد بحدة غير متوقعة من الاخر:
– امورة مين؟ انا بكلمك عن المريضة، خليك في المريضة يا هشام .
بدا واضحا اجفال الطبيب من طريقته الفظة عكس المزاح والحديث الودي منذ قليل، ليتحمحم ويجلي حلقه ، متحدثًا بجدية:
– خلاص يا رياض، انا بس كنت بهزر مع اني كنت عايز اعرف يعني هي تقربلكو ايه؟
– الجليسة بتاعتها يا دكتور.
خرجت منها سريعًا في رد له:
– اه تمام ، خلاص هاتيها قعديها هنا قصادي نرغي شوية الاول.
تقدمت بها نحو ما اشار على الكرسي المقابل له، تجلسها امامه، ليقابلها الطبيب بابتسامته المشرقة:
– مدام نجوان القمر، عاملة ايه النهاردة ؟
❈-❈-❈
بعد قليل خرج الاثنان بها، من غرفة الفحص، دون معرفة حقيقية لما وصلت اليه حالتها، هذا السكون المبالغ فيه والوداعة، يجعلانه دائما في حالة ترقب لها،
حديث الطبيب معه في ان يزيد من قربه لها كي تعطيه الامان وتتصالح معه بعد سنوات الجفاء بينهم، ربما يؤثر في حالتها النفسية ويجعلها تستجيب للتعافي الكامل، ولكن ماذا بيده اكثر من ذلك؟
هي من تجعله ينفعل عليها بأفعالها، حتى كلما حاول كسب ودها صدمته برد فعلها وكأنها لم تعد ترى فيه الا صورة زوجها الخائن الراحل، ونست انه ابنها .
– طب انت كدة ممكن تطلبلنا عم علي يوصلنا، وانت تروح شغلك يا فندم.
نطقت بها بهجة تنتشله من شروده، ليعود اليها، محدقًا بها بتركيز شديد، جعلها تتوتر في وقفتها مخاطبة له:
– يا فندم انا بكلمك عن رجوعنا للبيت لو يعني……
– خلاص سمعت…..
تفوه بها مقاطعًا لها بفظاظة لا يعرف سببها، ولا يعلم بسر هذا الضيق الذي يشعر به الاَن تجاهها، حديثها منذ قليل وفصاحتها في مناقشة ما تلمسه من حالة نجوان مع الطبيب الذي برغم رزانته التي اشتهر بها، إلا انه معها كان كرجل اخر، يتباسط معها ويمازحها، حتى كاد ان ينسى المريضة نفسها وابنها بكل هيبته، هذه الفتاة تفاجأه كل يوم باكتشاف جديد عن شخصيتها:
عض على نواجزه، يكبت غضب غير مبرر داخله، ليردف بخشونة وبصيغة الامر؛
– هاتيها وتعالي ورايا ع العربية ، انا اللي هرجعكم بنفسي.
❈-❈-❈
في السيارة التي كانت تقلهم في طريق العودة ، لم تنسى له طريقته الفظة في التحدث معها، واحساس بعدم الراحة يكتنفها، مع كل نظرة يوجهها لها عبر المرأة حيث كانت جالسة في المقعد الخلفي مع والدته، والتي صبت اهتمامها بها، لتتجاهله ولا تعطي له بالا .
ليلفت انتباهها تركيز الآخرى بالنظر نحو الخارج نحو جهة ما، وهذا البائع الذي التفت حوله الأطفال:
– ده بياع غزل البنات، تحبي اجيبلك منه.
حينما قالتها لم تقصد الجدية ولكن بلهفة الأخرى وتطلعها اليها كطفل صغير، تهز رأسها برجاء.
اجفلت هي لهذا الاصرار العجيب من المرأة لتنقل بنظرها نحو الأخر بارتباك، تردد بتلعثم:
– انا ان كان عليا والله انزلك، بس بقى…..
– هنزل اجيبلها انا .
تمتم بها بخشونة، قبل ان يصطف السيارة فجأة، ويترجل منها بهيبته، ثم يشير للرجل البائع والذي هرول اليه على الفور تاركًا مجموعة الأطفال الملتفة حوله:
– ايوة يا سعادة البيه.
لم تتبين بهجة بالحديث الدائر بينه وبين البائع في الخارج، بجلستها هي في الداخل برفقة نجوان، حتى فاجئها هو بمجموعة دفعهم بضيق، حتى امتلأ حجرها هي والأخرى والتي هللت بوجه مشرق كطفل صغير، جعل الابتسامة تنير بوجه بهجة فرحًا لها،
– ياااه للدرجادي غزل البنات فرحك، ياريتني كنت اعرف من زمان كنت جيبتلك على طول .
فتحت نجوان احدى الاكياس تقطم منه قطعة كبيرة بتلذذ، ثم تناولها هي ايضا قطعة كي تشاركها، تلقتها منها بهجة بترحيب:
– حلوة اوي ، كأنك انتي اللي عملاه والله تسلم ايدك .
وبغير قصد منها لعقت الجزء المتبقي على طرف ابهامها، غافلة عمن تجمد محله في مشاهدتها، حتى انه نسي القيادة ونسي ما ينتظره من اعمال في متابعتها، حتى التقت خضرواتيها بدون قصد ببندقيته، لتطرق بحرج، تستدرك خطأها في عفوية لم تتعمدها، ولكنها فعلت به الافاعيل.
ليتحمحم مجليًا حلقه، وينتبه لنفسه، ليدير محرك السيارة ثم يتحرك نحو وجهته والعودة بهما الى المنزل.
❈-❈-❈
عقب عودتهم الى المنزل، كانت المفاجأة بانتظارهم، بوجود لورا الذى لم يتوقعه رياض ليباغتها بسؤاله على الفور:
– في حاجة حصلت يا لورا؟ وانتي هنا من امتى اصلا؟.
صدر ردها بوداعة:
– جاية هنا عشان الشغل طبعا،.
وقبل ان يستفسر منها توجهت نحو نجوان تستقبلها بود شديد:
– طنط نجوان حبيبة قلبي.
اجفلت الاخيرة بضمها من تلك الفتاة، ونثر القبلات على جانبي وجهها، تخاطبها بحنان مبالغ فيه:
– وحشتيني، وحشتيني اوي، سامحيني لو الشغل هو اللي واخدني منك.، انما انا لو عليا اجيلك كل يوم، وماما كمان دي نفسها اوي تشوفك.
– انتي مين؟
تمتمت بها نجوان لتدفعها عنها بضيق ، ومن دون كلمة اخرى ارتدت بقدميها للخلف، نحو بهجة التي التزمت محلها، لتعود اليها وتتشبث بها كطفل صغير، بمشهد اوقد النيران برأس الأخرى،
لتبرق عينيها بحمم تطلقها نحوها، تلك التي استولت على قلب هذه المعتوهة، لتنال ثقتها، دونا عن المئات منن تقدمن لهذا العمل، ويبدو انه قد حان الان الدور عليه هو.
التفت اليه بأنفاس لاهثة ، لا تقوى حتى على تخيل الفكرة.
– لورا انتي ما قولتيش جاية ليه؟
كانت تلك صيحته نحوها، لتنتفض باستدراك سريع، وتتناول عدد من الملفات التي وضعتها على ذراع الأريكة ، ثم تعطيه اياها:
– حضرتك انا جيبالك دول، كارم باشا قام بالواجب وزيادة بس دول مطلوب فيهم امضتك الشخصية.
ألقى بنظرة سريعة بمستوى الاوراق، ليتمتم باستغراب:
– كان ممكن يستنوا على ما اجي الشركة بنفسي، بس يلا مش مهم ، هاخدهم ع المكتب اراجعهم وامضيهم،
تحرك خطوتين متمتمًا لها:
– استنيني هنا ولا خلي حد من الشغالين يعملك حاجة تشربيها.
اومأت بطاعة وابتسامة حلوة:
– اتفضل براحتك، انا مش غريبة .
حينما انصرف نحو وجهته، وتوقفت هي بوسط الردهة تجول بأبصارها هنا وهناك، حتى وجدت غايتها ، وذلك خلف الجدار الزجاجي ، حيث الجهة الاخرى، والحديقة الداخلية للمنزل،
وجلسة تجمع نجوان مع تلك الفتاة على طاولة لهم وحدهم.
ابتسامة غامضة لاحت على ملامحها، قبل ان تتحرك من محلها قاصدة وجهتهما.
❈-❈-❈
كانت نجوان مازالت تحتفظ بابتسامتها الحالمة وهي تتناول من قطع الحلوى التي أتت بها، تتناولها بتمهل وتلذذ بذوبانها داخل فمها، ونظرات شاردة جعلت بهجة المتابعة لها تعلق بتخمين:
– سرحانة ووشك مورد، شكلك كدة كنتي خارباها فسح ع النيل، حلبسة بقى ودرة مشوية وبطاطا ع الفحم……
توقفت فجأة بتردد مغمغمة:
– خايفة أسألك عن ذكرياتك دي كانت مع مين لا اخرب عليكي حالة الصفاء وانا مش واخدة بالي، بس اقولك بقى اهم حاجة تكوني مبسوطة، يعني انا هعوز ايه اكتر من كدة؟
– انتي هنا يا طنط وانا بدور عليكي.
جاء الصوت من خلفها، لتلتف بجذعها بهجة، فتحققت من هذه المتعجرفة، وهي تقترب منها، بهيئتها كعارضات الازياء ، كل شيء بها مرسوم بدقة، مع اهتمام مبالغ فيه، يجعلها قبلة للنظر.
– أخبارك ايه يا بهجة؟
كان هذا السؤال اول ما نطقت به فور أن توقفت امامهم بابتسامة لا تخلو من استخفاف ،فجاء رد بهجة تبادلها بواحدة صفراء:
– الحمد لله يا لورا هانم رضا.
– اممم ، وعلى كدة بقى، انتي مبسوطة هنا؟
لم تعجبها نبرة السؤال :
– انبساط! لا يا هانم، تقدري تقولي بقيت اتعود ، لكن انبساط دي حاجة بعيدة اوي، ربنا يكرمنا بيها.
زمت شفتيها بهذه الابتسامة المستفزة، ثم جلست مخاطبة لها بزوق غريب عنها:
– ماشي يا بهجة، طب ممكن بقى تقولي لحد من الشغالين يحضرلي حاجة اشربها، يعني لو مش هتقل عليكي.
حينما نقلت بهجة بابصارها نحو نجوان التي انكمشت بنظرات الخوف وكأنها طفلة تخشى الغرباء، سارعت تطمئنها:
– ما تخافيش على طنط انا هراعيها بنفسي، هي اول مرة يعني؟ ولا انا غريبة عنها؟
اضطرت بهجة ان تزعن لالحاحها، وتنهض تنفذ طلبها ، تاركة نجوان التي صارت تتابعها بأعين راجية الا تتركها، لتطمئنها قبل ان تستدير عنها وتذهب:
– جيالك على طول متخافيش.
تطلعت لورا في أثرها بنظرات حارقة، لترتخي ملامحها بعد ذلك وتلطف بقولها نحو الأخرى:
– ايه يا طنط، معقول تكوني خايفة مني للدرجادي، هو انا غريبة عنك يعني؟ ولا هتنسي صلة الدم اللي ما بينا؟
حينما جذبت انتباهها اخيرا، واصلت لورا بطريقتها الناعمة:
– انا عارفة انك عاقلة وست العاقلين كمان، بدليل انك منتبهة لكلامي دلوقتي، طب اقولك على حاجة…….
توقفت فجأة تدور ابصارها في الانحاء كافة قبل ان تعود اليها هامسة:
– انا جيالك النهاردة مخصوص عشان احذرك، البنت دي اللي اسمها بهجة، عارفة تبقى قريبة مين؟
دارت مقلتيها مرة اخرى قبل ان تخبرها بهمس يقارب الفحيح؛
– تبقى قريبة ناريمان، فاكرة ناريمان؟
لاحت على ثغرها البسمة ، حينما رأت الزعر الذي اعتلى ملامح الاخرى، لتكمل بانتشاء .
– ايوة هي بعينها يا طنط ناريمان، وجاية تخطف حكيم منك…… شوفتي بقى .
توقفت تراقب تأثير الكلمات عليها، بعدما حطت بيداها على الجرح الخامد، تنخر فيه بأظافرها، لتقلب كيان المرأة بذكريات بشعة وصورة غريمتها التي حلت امامها، تغشي عينيها عن الرؤية، فيعلو صدرها ويهبط بانفاس متسارعة وبصورة انبأت الأخرى بقرب الوصول لهدفها ، فتنسحب من امامها بهدوء، وتبتعد مع مراقبتها بحرص، حتى انتبهت لعودة الأخرى من الجهة الاخرى، لتنهض نجوان من محلها، تحركها الذكرى البائسة، وقد توقف عقلها عند هذه النقطة، ولم يعد يعمل ولا يميز أي شيء
لتندفع بغضبها مسرعة بخطواتها نحوها وكأنها ذاهبة الى الحرب ، فتتلاقها بوسط المسافة عند المسبح، ويحدث ما يحدث !
❈-❈-❈
تتأوه بتعب ، شاعرة بثقل ودوار يلف رأسها وهي تجاهد لالتقاط الوعي، حتى فتحت عينيها للضوء القوي، مستغربة النعومة الشديدة بالفراش، لتتضح الرؤية رويدا رويدا امامها، ولكن…..
هذه ليست غرفتها، ولا هذا فراشها، ولا….
– يا نهار اسود
هتفت بها تعدل جذعها بجزع، حينما انتبهت على ما ترتديه:
– هدومي راحت فين؟ وهدوم مين دي اللي انا لابساها؟
لترفع عنها الغطاء وتنهض عن الفراش رغم دوار رأسها الذي كاد ان يسقطها ارضا، لولا أن لحقت بنفسها، لتستند بيدها على قائم التخت، لكن سرعان ما استقامت لتتحامل على هذا الدوار الشديد، وتخرج من الغرفة الفخمة تبحث بأبصارها يمينا ويسارًا حتى وقعت عينيها عليه ، جالسًا بأحد الاركان على الاَريكة الاثيرة ،
امام حاسوبه الذي كان يعمل عليه بانشغال تام ، حتى اخترقت اسماعه صيحتها، ليجفل، ويهتز كوب القهوة بيده، حتى اسقط كمية كبيرة من المشروب الساخن على قميصه ولوح المفاتيح للحاسوب، كما احرق جزء من بشرته، ليتأوه بصمت وهو يسمع لها:
– انا كنت في الاوضة االي جوا بعمل ايه؟ ومين اللي غير لي هدومي؟ انتوا عملتو فيا ايه بالظبط؟
اشار بيده والأخرى صار يمسح بها بالمحرمة على قميصه ولوح المفاتيح، متمتمًا ببعض الهدوء:
– طب اهدي خليني افهمك.
– تفهموني ايه؟ دا انا هوديكم في داهية،
صرخت بها، تهم بالمتابعة بالسباب، ولكنه اوقفها بحزم وصرامة:.
– اسمعي مني الاول بقى وافهمي، ولا اسيبك على عماكي احسن ……
انهارت ساقطة على الارض، وقد غلبها التعب الجسدي، وجزع داخلها يجعل قلبها ينتفض خوفا، ان يكون حدث معها شيء لا تستطيع العيش معه، شيء تفضل الموت على ان يحدث.
– انا مش عايزة ابقى على عمايا، انا عايزة افهم، ارجوك انا مش فاكرة اي حاجة..
زفر يمسح بكفه على وجهه لينهض ذاهبًا نحوها، يمد يده اليها :
– قومي يا بهجة الاول واستريحي ع الكنبة، بلاش قعدة الارض.
رفضت قاطعة:
– لا انا مش عايزة اقوم، انت اتكلم وانا كدة مستريحه.
امام اصرارها لم يجد بدا من مهادنتها، ليجلس هو على اقرب المقاعد اليها، ثم يستعيد برأسه ما حدث ، ولحظات من اصعب ما مر عليه
((قبل ساعات من الاَن
وقد كان بغرفة مكتبه، منكفئًا على عمله على عدد الملفات التي أتت بهم مساعدته لورا، بتركيز تام ، حتى اجفل على صوت صراخ غير مفهوم، لم يميزه في البداية، حتى دوى الاسم المعروف بذهنه:
– حكييييم، حكييييم.
انتفض على الفور وقد علم ان تلك والدته، ليخرج مهرولا يتبع الصوت الذي ذهب به الى الحديقة، وكانت المفاجأة حينما وجدها بالقرب من المسبح، تنتحب وتنتفض محلها، وقبل ان يتخذ طريقه نحوها، صعق بالأفظع،
وذلك برؤية الجسد البشري وهو يصارع الغرق بداخل المياه، وقد تيقن تماما من ضعف مقاومتها، وانها على وشك ان تستسلم للموت،
ليتخذ القرار على الفور، ويلقي بنفسه داخل المياه فيحملها من ظهرها بذراع والأخر يدفع به داخل المياه حتى خرج بها يلقيها على السطح الرخامي فاقدة للوعي.
فحاول بخبرته القليلة إجراء الاسعافات الاولية لها ، بالضغط بكفيه وقلبها ايضا لإخراج الماء الذي دخل مجري التنفس لها.
– فوقي يا بهجة الله يخليكي فوقي.
– ايه اللي حصل انا كنت جوا بعمل مكالمة تليفون.
كان هذا صوت لورا التي أتت للتو من الداخل، لم يلتفت لها ، وقد كان مشغولا في اسعاف الأخرى، والتي اضطر في الأخير ان يجري لها تنفس صناعي، ليصدر صوت شهقة مفاجأة من لورا التي كادت ان تصاب بأزمة قلبيه، مع استجابه الأخرى، وسعالها في إشارة لعودتها للحياة مرة اخرى، ولكن بنصف وعي ، ليحملها هو ذاهبًا بها الى الداخل.
– انتبهي على ماما على ما ارجعلك يا لورا؟
صرخت به ضاربة الارض بقدميها:
– ودي هتروح بيها على فين؟
– لم يكلف نفسه عناء الإجابة، فواصل طريقة حتى ذهب بها الى احدى الغرف، مناديا على احدى الخادمات ، حتى تخلع عنها ملابسها وتراعيها، حتى يأتي بالطبيب اليها ، ويذهب هو للاطمئنان على والدته.))
– ادي كل اللي حصل يا بهجة، لساكي برضو مش فاكرة؟
كان هذا سؤاله فور ان قص عليها كل شيء، وقد اقتص من الجزء الخاص بإسعافها ذكر التنفس الصناعي، ليختص به لنفسه ، فيكفيه ما يكتنفه الاَن من مشاعر كاسحة، بقبلة الحياة التي لم يتعمدها، ولكنها قلبت كيانه رأسا على عقب ، بالكاد يحاول التوازن امامها ، وصرف افكاره بقدر الامكان .
لينتبه على اجابتها، بعدما نفت بهز رأسها، وقد تغضنت ملامحها بالحزن، لترد بصوت بالكاد خرج:
– دلوقتي بس افتكرت، انا كنت راجعة من المطبخ، بعد ما سيبتها مع لورا، كانت هادية وراسية بشكل فرحني، لدرجة اني لما شوفتها جاية عليا بوشها مقلوب، افتكرتها بتهزر، قبل ما تفاجأني والاقيها بترميني على حوض السباحة، ووقفت قدامي تبص عليا كأنها تمثال ، وانا بصرخ عليها واقولها:
– بتزقيني ليه انا مبعرفش اعوم؟ نادي حد يخرجني، نادي حد يخرجني.
ختمت تمسح دمعات خائنة سقطت منها، متابعة:
– طب هي عملت كدة ليه معايا، دا انا اديتها الامان وافتكرتها بتحبني.
ردد خلفها بتأكيد:
– بس هي فعلا بتحبك يا بهجة، بدليل صريخها عليكي وعشان حد ينقذك.
– امتى؟ دا انا مش فاكرة غير فرجتها عليا .
– وانا بقولك اللي حصل يا بهجة، ماما من ساعة اللي حصل قافلة على نفسها في حالة مشوفتهاش عليها بقالي سنين، اكيد يعني انا مش هكدب عليكي.
اومأت بتفهم، لا تستبعد هذا الفعل منها. فهي كالبحر مرة تخدعها بهدوها وصفاءها، ومرة اخرى تصفعها بأمواجها العاتية.
استدركت فجأة تسأله:
– صحيح انا كنت سيباها مع لورا، راحت فين وسابتها؟
مط شفتيه بعدم معرفة:
– بتقول انها كانت بتعمل مكالمة ساعة اللي حصل، المهم دلوقتي انا كنت عايز اعرف قرارك عن الاستمرار هنا او عدم الاستمرار، وانا في كل الحالات هعوضك عن اللي حصل معاكي، دا حقك عليا، قرارك دلوقتي بقى يا بهجة.
صمتت قليلًا بتفكير، قبل ان يصدر ردها النهائي:
– انا عايزة اشوفها الاول ، قبل ما احدد اي قرار.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حان الوصال)