رواية حان الوصال الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم أمل نصر
رواية حان الوصال الجزء الرابع والعشرون
رواية حان الوصال البارت الرابع والعشرون
رواية حان الوصال الحلقة الرابعة والعشرون
مرار العشق….. ذلك الذي يستنزف روحك في الركض خلف سراب، تُُعطي من قلبك، لتستجدي نظرة رضا من قلب قاسي، تحترق من اجل وصاله…… وهو لا يكترث بشيء.
فما بالك بمن احببته وأحبك، كنت انت وهو كالجسد الواحد، كالنفس الواحد، كنت كل شيء وهو ايضًا كان لك الدنيا وما فيها، لتصطدم الاَن بجفاء هجرانه، وما بينكما اصبح كبُعد المشرق والمغرب، وكأنك لم تكن تعني له شيئًا يومًا ما.
#بنت_الجنوب
فُتح باب المصعد لتخرج هي اولهم منه، وخلفها والدها ووالدتها ورحمة ايضًا، عائدين من إحدى العيادات الطبيبة في رحلة البحث عن العلاج لهذا الداء الذي اصابها.
اصطدمت ابصارها به، وقد كان واقفًا بتحفز خارج باب منزله في انتظارهم على ما يبدو، وكعادتها مؤخرًا ازاحت بعيناها عنه بلا مبالاة زادت من احتراقه، ليتوجه بغضبه نحو والديها اللذان كسى الوجوم وجوههما، فتُلقي زبيدة بالتحية نحوه على حرج بعد موقف ابنتها المُخزي واصرارها على عدم ذهابه معهم الى الطبيب ثم تجاهلها الاَن له:
– مساء الخير يا شادي يا ولدي .
– اهلا يا خالتي زبيدة
خرجت منه فاقدة الحياة، لينتبه الى زوجها الذي اقترب يربت على صدره بدعم ومؤازرة، عله يخفف عنه ولو قليلًا، وخلفه رحمة التي فتحت باب المنزل ترحب بالرجل، بصوت يتخلله التوتر:
– تعالي اتفضل يا عم ابو ليلة..
سمع منها الاَخير ليسحب زوج ابنته معه، قائلا بعشم:
– ماشي يا ست البنات، اعمليلنا بس انتي كوبايتين شاي نظبط بيها الدماغ، ولا انت عايز حاجة مختلفة يا شادي يا ولدي؟
بارتباك يشويه التوجس، نفى بهز رأسه ينقل بأبصاره نحو شقيقته بتساؤول، والتي بدا من امتقاع ملامحها، مدى صعوبة القادم، فيتأكد من صحة ظنونه بعد قليل ، وسماع حديث والد زوجته:
– بتقول ايه يا عم ابو ليلة؟ تسافر ازاي يعني؟
صدر تساؤوله، بحالة من التشتت وعدم الاتزان، ليزيد بانفعاله:
– وهي البلد عندكم فيها دكاترة اصلا؟ دا الناس بتيجي من عندكم للقاهرة عشان تتعالج.
ابتلع الرجل غصته ليرد على قوله بأسف موضحًا:
– يا ولدي مش موضوع دكاترة ولا كشف، مع ان برضك احنا عندنا دكاترة وكفاءات، بس انا بتكلم ع النفسية، البت شابطة تروح معانا البلد، وانا بجول ميضرش لو خدناها وسط اخواتها واهلها تغير جو، يمكن ترجع لطبيعتها وربنا يشفي عنها
صاح به بقلب مذبوح، وكل كلمة تضيف على المزيد من جروحه:
– وانا يا عم ابو ليلة هقعد مستنيها لحد امتى؟ شهر، شهرين ، سنة…… هو انتوا ليه محسسني ان انا سبب مرضها؟ انا عملتها ايه صبا عشان تنفر مني ومتبقاش طايقة حتى تشوفني؟ مرض ايه دا اللي يخلي الزوجة مطيقش جوزها ولا حتى تطيق المكان اللي كان بيجمعها بيه؟
زفر مسعود يضرب بكف يده على ذراع المقعد الجالس عليه يغمغم بقلة حيلة:
– والله ما انا عارف، دا انا جربت اصدج كلام التخريف اللي بتهلفط بيه زبيدة عن الحسد وعيون الناس اللي مش سايباكم،
بصوت بح من فرط ما يجتاحه من الداخل سقط جالسًا يتمتم بقنوط:
– حسد وكلام فاضي ، اهي كلها شمعات بنعلق عليها الحجج بتاعتنا.
تغاضى مسعود عن الرد عليه، شاعرًا بما يؤلمه، لينهض فجأة يستأذن بحرج:
– اسيبك انا يا ولدي تفكر براحتك، وفي الاول وفي الاخر هي مرتك، وكلمتك تمشي عليها.
لم يقوى حتى على الرد عليه، ليتطلع في اثره مغمغمًا بانهزام:
– مرتي ! وكلمتي تمشي عليها! هو انا بقى ليا دور في حياتها اصلا ؟
انتفض ظهره على لمسة حانية من شقيقته التي ضمته اليها بدعم تهون عليه:
– معلش يا حبيبي، قادر ربنا يفك الكرب ويزيح الغمة.
– امتى بس يا رحمة امتى؟ انا طول الوقت بدعي في صلاتي وفي سجودي ، ومع ذلك كل يوم بتسوء اكتر، ليه بيحصل لي كل ده مع الست الوحيد اللي حبيتها وحبتني….. طب يعني معقول ان كل اللي فاتت ده كان سراب او وهم انا عايش فيه لوحدي، ولا هي الدنيا استكترت عليا الفرحة…
توقف غير قادرًا على المواصلة، حتى لا يزيد بخطأه فليحق على الفور باستغفاره. ، وشقيقته التي تتظاهر بالثبات، تلتقط بإبهامها الدموع المتساقطة سريعًا، حتى لا يراها شقيقها وتزيد على همه.
❈-❈-❈
– يا الف هنا، شرفت ونورت يا خطيب بنتي
هتفت بها المرأة ترحيبًا به، بعد مشاورات ومحادثات طالت عبر الهاتف مع ابنتها التي مهدت له الأمر في البداية، بعدما سحبت منه الوعود التي تجعلها توافق على رجل يكبرها في العمر بعشرون عامًا على الاقل،
وقد بدت في شرعها فرصة تلتقطها وتستغلها أتم استغلال، أما عنه فقد اشرق وجهه وكأنه فاز بجائزة اليانصيب، امرأة جميلة بالكاد تتخطى الاربعين ، ولكنها تملك من صفات الجمال ما يجعلها فتنة في عيناه
بشرة بيضاء كالحليب، وخصلات شعر صفراء تظهر من تحت الطرحة التي تكشف بسخاء عن العنق المرمري، وجنتين مكتنزتين وشفاه وردية كحبة الكريز.
شابة في عزها كما يصفها بداخله دائمًا، سوف تعيد له شبابه الذي ضاع بالركض خلف لقمة العيش وادخار النقود من اجل تأمين مستقبل اولاده وزوجته المتسلطة،
وزواج في الخفاء في محافظة أخرى، ومتماشيًا مع رغبته وظروفها التي اضطرتها للتقبل، كم يود القفز من الفرح الاَن، او خطفها في عش السعادة الذي سوف يجمعهما معًا ف الغد، وقد تم الاتفاق على كل شيء فهذه الزيارة الثانية له، بعد جلسة التعارف الاولي
– اااه ياما انتي حلوة اوي صفصف
تفوه بالكلمات فور خروج والدتها من غرفة التي تجمعها معًا .
تبسمت المذكورة تبدي الخجل، في رد فعلها امامه:
– يوه بقى يا خميس متكسفنيش بكلامك الحلو اللي يدوخ ده.
قهقه بببلاهة وقد راقه الامر، ليتابع بزهو:
– وانت لسة شوفت حاجة يا جميل؟ دا انا ناوي اكتب قصايد شعر، اه امال ايه؟ محسوبك كتلة مشاعر واحاسيس محبوسة جوايا ونفسها تطلع، تنفجر وتلعلع، وانتي بجمالك تنطقي الحجر ، طب اسمعي دي وانت تصدقي .
توقف بتفكير متعمق كي يفصح مواهبه المدفونة، ولكن خانه التركيز ليشعر بصعوبة الأمر، بعد صمت دام للحظات، امام ترقبها، وكأن الافكار قد هربت منه، ليتحمحم مردفًا بتقطع
– يالوز مقشر يااا يستاهل المزمزمة……. ااا ومنجة عويسي تستاهل ال ااااا.
– اللغوصة
تمتمت بها بقرف، لتغير دفة الحديث حتى لا تنفعل عليه، فتستعيد مرونتها سريعًا، لتركز على هدفها، وتطلق ضحكة مائعة تزيده اشتعالا بدلالها، قائلة:.
– يا خويا من غير ما تقول ولا تشعر ولا تتتعب نفسك ، كلامك واصلني وحاسة بيه كمان، المهم خلينا في المطلوب ، بكرة تحضر فلوس المهر قدام عم عيد وعم سعيد
– مين عيد سعيد ده؟
– بقولك عم عيد وعم سعيد ، ركز بقى يا خميس الله،
انا مش عايزاهم يفرحو فيا اه ، لازم يتأكدو ان ربنا نصرني بعد ما رفضت كل العرسان اللي جابوهم .
كانت تتحدث بعصبية جعلته يبتلع ريقه بتوتر، ليسارع في طمأنتها:
– حاضر حاضر بس متتعصبيش يا صفصوفتي، انا اساسا جاي وعامل حسابي وواخد الاجازة كمان ، هو انا اقدر برضو ارجع في وعدي معاك يا جميل.
اهتز كتفيها تعود إلى لهجتها في الدلال :
– ايوة بقى قول كدة وطمني، مش كفاية وافقت انك تيجي وتقعد عندي، بدل ما تشتريلي شقة ليا لوحدي.
– ما انتي اللي قولتي عشان ظروفك يا صفاء، لاجل ما تبعديش عن ولادك، دا غير انك خدتي المقابل بالمهر اللي هيتدفع الضعف، بدل مية الف ، ميتين الف.
قالها بحرقة شعرت بها، ولكنها كالعادة استطاعت ترويضه على الفور بعتبها :
– لا تكون مستخصرهم فيا يا خميس، قول يا خويا لو هو كدة، نفضها من اولها……
قاطعها على الفور مرددًا:
– لأ نفضها دا ايه؟ اهدي كدة يا بنت الناس ومتخليش الشيطان يدخل ما بينا، انا بس برد على كلامك، ، انما طبعا موافق على كله، على كله طبعا.
❈-❈-❈
حاملة علبة الحلوى والشوكولاته تدور بها داخل قسم تفصيل الملابس مقرها الاول ، بعدما اعطت لزملائها في المكتب ، تريد الجميع ان يشاركها فرحة افتتاح المحل الجديد، الخطوة الحقيقية في تأمين مصدر رزق حقيقي لها ولأشقائها،
ترافقها الداعم الاول لها صباح والتي توزع معها، وتتكفل بالرد عنها أحيانًا حينما تتكابل عليها الاسئلة الفضولية عن مصدر المال ، وكيف؟ ومتى؟ حتى ضجت منهم، لتنسحب سريعًا قبل ان تفسد فرحتها، ولكن كان هناك من نبت بداخله الامل ليتبعها كي يذكرها بطلبه:
– بهجة استني عندك يا بهجة.
هتف مناديًا يوقفها بوسط الرواق الفاصل بين قسم الملابس والأقسام الأخرى، لتجبر على الالتفاف نحوه، تجيبه بابتسامة يتخللها التردد:
– نعم يا تيم، في حاجة؟
اقترب يلوح امام عيناها بقطعة الحلوى، يردد بعتب رغم ابتسامته:
– انا جاي ابارك بنفسي رغم انك اتجاهلتيني ومخدتش حلاوة الافتتاح منك .
ردت تجامله بابتسامة على حرج:
– معلش بقى، ما انت عارف العدد كبير جوا، اكيد مخدتش بالي، بس انت مش غريب.
راقه اجابتها ليتشجع قائلا:
– انا فعلا مش غريب، ومش هزعل رغم اني كنت اتمناها تيجي منك، بس مش مهم، دا كفاية انها بشرة خير، واهي حاجة تنعش من جوايا الامل من تاني .
– امل في ايه؟
سألته قاطبة بعدم فهم، لتبزع ابتسامة صافية على ملامحه يجيب الكلمات بمغزى واضح:
– الامل في حاجة انتي عارفاها كويس يا بهجة، حاجة بقالي اكتر من سنتين بزن عليها ، وشكلها هتفرج قريب، مدام الحال اتحسن زي ما انا شايف ، ولا ايه؟
بماذا تجيبه؟ جف حلقها في البحث عن شيء تتحايل به ككل مرة ، فلم تجد سوى التهرب:
– ااا على فكرة انا اتأخرت اوي ، وشكل الاستاذ عبد الفضيل المرة دي مش هيعتقني؟ عن اذنك بقى لاخد جزا .
قالتها ولم تنتظر رأيه ، لتحرك قدميها مغادرة على الفور، تصعد الدرج بالركض، حتى لا تعطيه الفرصة في توقيفها ، وما ان انتهت تصل للطابق التالي حتى تفاجأت بتلك المتعجرفة امامها ، تستند على السياج الحديدي للدرج، لتفاجأها بابتسامة غريبة عنها ، تخاطبها بود ليس من طبعها:
– مبروك يا بهجة، بتلفي ع الجميع تعطيهم حلاوة افتتاح الكافيه، وجات عليا انا ووقفت.
– نعم انتي بتكلميني انا؟
تمتمت بهجة بالكلمات بدهشة لتتذكر بلاهتها حينما ضحكت الأخرى تقارعها:
– وهو في حد في المصنع كله اسمه بهجة غيرك.؟
اكملت بضحكتها تزيد من زهولها وغيظها ايضًا، فتقترب منها بالعلبة التي على وشك الانتهاء، تعرض عليها :
– معلش يا ستي العتب ع التركيز، اتفضلي بقى لو حابة.
مدت يدها تتناول منها احدى القطع مرددة:
– طبعًا حابة، امال انا بباركلك ليه؟ دا انا ممكن كمان اجيب صحابي ونيجي نقضي وقتنا فيه، اكيد الخدمة هناك هتكون كويسة.
هذه المرة تبسمت بهجة بمرح تخبرها:
– طبعا الكافيه يزيده شرف بوجودك ، بس مفتكرش انه من مقامك انتي وأصحابك، حكم دا حاجة ع القد وفي بداياته كمان، مش فايف ستارز زي اللي بتدخلوها.
رمقتها بنظرة لم تفهمها، لتعقب على قولها:
– وماله يا بهجة لو في بداياته، المهم انك توصلي، وانتي شاطرة وعرفني تخلقي من العدم ، انا بهنيكي بجد، بس الرك ع اللي يضحك في الاخر، عن اذنك بقى اشوف شغلي،
تحركت خطوتين لتردف ؛
– ومرسي اوي ع الشيكولاتة، رغم انها مش من نوعي المفضل، بس هحتفظ بيها .
وذهبت تطرقع بكعب حذائها الرفيع على الارضية، لتصدر صخبًا يعادل ما يدور برأس بهجة، والتي انتقل اليها شعور بعدم الارتياح للمغزى المبطن من خلف كلماتها .
لتزفر بضيق متمتمة:
– استغفر الله العظيم يارب، حرقت دمي من غير ما اعرف قصدها ايه؟ دا ايه هو ده؟
استدركت فجأة لتتحول ملامحها للمرح تتمتم مع نفسها:
– ياللا بلا لورا بلا زفت، خليني اشوف اللي ورايا والأفتتاح اللي مستنيني،..
هرولت بخطواتها، كفراشة تطير بخفة حتى وصلت الى غرفة مكتبها تستأذن من مديرها المغادرة من أجل هذا السبب الهام، والرجل لم يتأخر ، لتلملم اشياءها نحو وجهتها الى المصعد الذي نزل بها الى الطابق الارضي، لتتخذ طريقها الى الخارج على الفور
في هذه الأثناء، كان هو عائدًا مع شريكه في العمل والذي كان يقود السيارة بنفسه يتحدث بعمليه كعادته، بعد ذهابهم الى احد الاجتماعات الهامة لمديري احدى الشركات:
– شوف يا باشا، الناس دي مكسبها فل، يعني حتى لو اتنازلنا معاهم شوية في البداية ميضرش، عارف ليه؟ لأن اللي هيجي من وراهم كتير اوي، دا كفاية العلاقات، وانت شوفت بنفسك الأسماء اللي بيتعاملوا معاها، واخدلي بالك.
اومأ له بعدم تركيز فقد كانت عيناه منشغلة في التطلع نحو الخارج، وهذه الجميلة التي تغادر عملها الاَن في هذا الوقت المبكر، مما جعل عقله يدور بالظنون، حتى اذا توقفت السيارة ترجل على الفور يستأذن رفيقه:
– معلش يا كارم دقيقة.
قالها ولم ينتظر الرد، فقد تحركت اقدامه بخطوتين مبتعدا عن السيارة ليوقفها بندائه:
– بهجة.
على الفور التفت اليه على النداء قبل ان تصل الى بوابة الخروج من محيط المصنع، لتذعن وتغير اتجاهها نحوه، وقد توقف بجوار سيارته المصطفة من البداية، ليباغتها باستفساره فور ان وصلت اليه:
– خارجة ورايحة على فين بدري كدة؟ دي الساعة مجاتش احداشر حتى؟
انتابها الحرج الشديد، وعيناها تدور يمينًا ويسارًا، نحو الأشخاص التي تتطلع الى المشهد الغريب، بوقوف صاحب المصنع المهيب مع احدى العاملات في مصنعه، الم ينتبه هو ايضًا لصورته؟
يبدو كذلك بالفعل وقد انفعل مكررًا سؤاله:
– بهجة انا بسألك مبتروديش ليه؟
ابتلعت تجيبه بإجفال:
– رايحة على المحل بتاعنا والله، النهاردة افتتاح الكافيه واخواتي التلاتة واصحابهم والدنيا مقلوبة، عايز اروح اساعد معاهم، مينفعش اتأخر
ارتخت ملامحه ولكن بدا عليه الضيق في تعقيبه:
– ولما هو كدة مقولتليش ليه يا بهجة؟
– ويعني لو قولتلك كنت هتيجي؟
صدرت منها بدون تفكير، حتى شعرت بتأثيرها عليه، ليبرر اسفًا:
– حتى لو مش هقدر، ع الاقل ابعتلك بوكيه ورد اباركلك.
تبسمت برقة تلطف قائلة:
– اعتبره وصل.
هل شعر بلمسة من الدلال وهي تنطقها؟ ام هو يتوهم وقد راقه هيئتها بخجلها وارتباكها اللذيذ، انعكاس الشمس على خضار العينين بصفائهم المميز، وهي تحاول تغطيتهم بكفها؟
ماذا يفعل امام هذه الفتنة المتحركة؟ كم ود ان يسير خلف اهوائه الحمقاء ويخطفها الاَن بسيارته، فيبتعد بها بعيدا عن العالم اجمع.
– رياض باشا.
صدر النداء بإسمه كمنبه يفيقه من شروده بها، وقد طال صمته بتأملها، ليتحمحم مجليًا حلقه، يلتف للخلف نحو شريكه المتكئ بجسده على السيارة، متربع الذراعين، والنظارة السوداء تغطي على عينيه، ولمحة من المكر تعلو ملامحه، يراها بوضوح قائلا له:
– ثواني يا كارم حاضر.
ردت هي تعفيه من حرجه:
– خلاص روح شوف البيه شريكك، انا ماشية عايز مني حاجة تاني.
نفى بهز رأسه لتتحرك من امامه ذاهبة للخارج، تتبعها ابصار كارم الخبيث وابصاره هو ايضا، يكتنفه شيء من العجز بتركها لقضاء حاجاتها والسعى في الحياة دون اللجوء اليه، ليس له أدنى دور، حتى شيء رائع كهذا لا يعلم عنه الا بالصدفة.
– رياض يا حبيبي انت هتفضل سرحان كدة كتير؟ البنت مشيت
كان صوت كارم وقد اقترب هذه المرة، يخبره بنبرة متلاعبة يعلمها جيدًا، ليبرر بالكذب كرد له:
– كنت بسأل البنت على حاجة تخص الشغل يا كارم، السرحان كان في حاجة في دماغي ملهاش دعوة بيها.
– اه طبعا يا حبيبي انا واخد بالي وفاهمك.
قالها كارم ليتابع بمكر:
– مش هي دي برضو الجليسة بتاعة طنت نجوان؟
كنم زفرته، ليرد بغيظ شديد:
– انت لساك فاكرها، ذاكرتك قوية اوي يا كارم؟
– وهو الوش دا برضو يتنسي.
قالها متبسمًا بتسلية زادت من حنق الاخر والذي امتقعت ملامحه وأصبح ينفث الدخان من فتحتي منخاره واذنيه، ينهاه بعنف:
– يا كارم انا نبهت عليك المرة فاتت، اني محبش الكلام ده ولا بقبله.
تبسم باتساع ليتحرك ويسبقه مرددًا:
– الله يا عم متدقش بقى وفوت لصاحبك، ويلا بقى عشان نشوف شغلنا.
كان كالقنبلة الموقوتة خلفه، لتتحرك اقدامه ويلحق به، ولولا تذكره لوضعه لكن انفجر به غير عابئًا بشيء، وليحدث ما يحدث بعدها
وفي الاعلى كانت الأخرى لا تقل عنه اشتعالا، وقد راقبت بأم عينيها مشهده وهو يخرج من السيارة كالابله ، يوقف هذه الملعونة ويتحدث معها غير عابئًا بهيئته،
صارت تطرق بمقدمة حذائها ، ودائرة التفكير التي تدور بها مستمرة منذ اكتشافها الأمر، حتى الاَن تلتزم الصمت والهدوء، حتى تصل الى ما تريد دون ان تترك أثر ، لن تكن غبية هذه المرة وتتصرف بعاطفتها التي جعلتها تبدو كالحمقاء امامه، ومكنت هذه الملعونة منه
❈-❈-❈
دلفت اليه بخطوات متلهفة، تلقي التحية وتسترسل بكلماتها السريعة:
– سلام عليكم يا مولانا، انا بقالي يجي اسبوعين دلوقتي اجي وامشي من تاني من غير ما اشوفك، كل مرة مبروكة تنيمني بحجة .
التف اليها بملامح منزعجة، يشير اليها لتجلس على الكرسي المقابل له، كي تتوقف وتذعن لأمره ، فانصاعت على الفور لتصبح امامه ، تلهث بتوتر ووجل اعاد اليه الثقة، ليخاطبها بهدوء:
– براحة يا سامية، مش كل حاجة تيجي افش، اكيد يعني انتي عارفة من الاول اني عندي زباين كتير غيرك،
خففت من لهفتها تبرر:
– بس انا كدة ممكن المصلحة تطير مني يا سيدنا، عايزة اللحق اربطه بيا بقى، قبل ما يشوف واحدة غيري واتحسر انا بقية عمري
رد يقارعها بمكر:
– ما انتي اللي غرتك ثقتك بنفسك يا سامية ومجتيش على طول نكمل اللي بدأناه، انا قولتلك من الاول، ان رباط المحبة يكمل الشغل اللي فات، بس انتي بقى اتأخرتي، اعملك ايه انا؟
ابتلعت ريقها بتوتر لتبرر بأسف:
– سامحني يا مولانا، بس انا برضو مقعدتش كتير ولا طولت عن شهر، لكن مبروكة زودت بتأجيل دخولي عندك، الأكلة استوت وفاضل بس اللمسة الاخيرة، وانت هتساعدني مش كدة .
قالتها برجاء جعله يخرج عن طوره المتماسك، لتصدر منه نظرة غير بريئة ولكن بغبائها لم تنتبه لها ، فما يشغل عقلها الاَن، يلهيها عن اي شيء..
زفر بخفة يعود لوقاره وطمأنتها:
– خلاص يا سامية، مفيش داعي تقلقي نفسك، كل حاجة تحت السيطرة، واللي انتي عايزاه هيتم .
– صحيح يا شيخ؟ يعني هفوز بيه عن قريب؟
تساءلت بها بأمل اشرق بملامحها، ليردف لها بثقة:
– اكيد يا سامية، تخرجي من هنا تستني مبروكة والورقة اللي هتهدالك، تنفذي كل المطلوب اللي فيها، وتيجني يوم الجمعة اعملك الرباط اللي يمكنك تطولي اللي انتي عايزاه
تبسمت باتساع وقد اسعدها بوعوده، ليعيد اليها الاحلام الوردية مرة اخرى ولكنها تذكرت شيئا:
– بس انا اعرف ان يوم الجمعة اجازة
صحح لها على الفور:
– مش في كل الاحيان يا سامية، انا قاصد كدة عشان اخفف من الزحمة في اليوم المبارك ده، فهمتي بقى؟
اومأت بتهز رأسها بطاعة تامة:
– تمام يا مولانا.
❈-❈-❈
داخل المحل الذي كان صاخبًا بالحركة، وقد بدا من معظم اعمار رواده الصغيرة، سبب مجيئهم اليوم الافتتاحي، شباب وشابات اصدقاء جنات في الجامعة ، وشباب كثُر اصدقاء شقيقها ايهاب، والذين توزعوا ما بين الخدمة معه ومساعدته، وما بين الجلوس على الطاولات، اما عائشة فحدث ولا حرج، فقد كانت مثل الفراشة بين اقرانها، تعطي الاوامر في بعض الأحيان ، وباقي الوقت ترقص وتلعب او تأخذ الصورة التذكارية.
راكبالي عربية دلع بنات
ماشية فى الاميرية دلع بنات
عملالي اجنبية دلع بنات
كله دلع بنات دلع بنات
يا شاويش امسكها يا بوليس احبسها
يا ناس يا هوه شوفوا دلع البنات
يا حضرة العمدة الحقني يا شيخ الغفر حوش عني
يا ناس الحقوني من دلع البنات
دلفت الى المطبخ على كلمات الاغنية التي تدوي في الخارج، تحمل على يدها علبة كبيرة مغلفة ، لتلقي التحية بمزاحها:
– ايه اللي عاملينه برا دا مجانين، دا مسموش كافيه، احنا نسميه حاجة تانية بقى نايت كلاب مثلا .
التف اليها ايهاب يفاجأها بيونيفرم العمل الرسمي، والذي تم تصميمه في وقت قياسي للعاملين بالكافيه، وقد طبع على مقدمة الصدر في الاعلى الاسم الذي كانت تظن انه تم الاستقرار عليه ( بالعائلة)
لتفاجأ الاَن بشيء مختلف تماما، فتعبر عن دهشتها:
– ايه ده يا مجانين؟ انتو لحقتو امتى تغيروا الاسم……. ولا انتوا اساسًا عاملينها كدة من الاول وبتفاجأنو يا ولا ال…….
– هااا اوعي احنا من نفس الاب لو تفتكري يعني،.
تمتمت بها جنات قبل ان تُلقي بنفسها داخل احضانها ، تقبلها وتخبرها بفرحة:
– دي اقل حاجة تتعملك، ان المحل يبقى على اسمك يا بهجة.
اقترب ايهاب هو الاخر يأخذ مكانه بضمها اليه قائلا :
– حتى يبقى وشه حلو علينا زيك كدة .
لكزته بقبضتها بخفة توبخه:
– انت اقعد ساكت يا مصيبة، ما هو كل حاجة من ترتيبك، وانا اقول اليافطة متعلقتش لحد دلوقتي ليه، وكنت جاية احاسبك، احتفال ايه ده اللي يبقى من غير يافطة؟
ضحك يسحبها من كفها، يتحرك بها للخارج متمتمًا:
– ما هو كل كان في انتظارك يا جميل، تعالي كدة وشوفي بنفسك.
وصل بها الى الخارج ، ليلوح لها الى الأعلى نحو اصدقائه الذين يظبطون اليافطة ذات الشكل المميز بالاسم المحبب ( بهجة )
غامت عيناها بالدموع وهي لا تجد من الكلمات ما يسعفها في الرد عليهم ، لتردد بما اختلج به صدرها:
– لو كنتوا قولتلولي من قبلها، كنت هرفض واشوفها افورة من غير داعي، لكن دلوقتي وانا شايفة اليافطة…… مش عارفة اعبرلكم باللي حاسة بيه…….
– يا ستي من غير ما تعبري واصلنا
قالها ايهاب وهو يضمها من كتفيها ، ليراقبا الانتهاء من تعليق اليافطة، لتضمها جنات من الناحية الأخرى، فتبقى عائشة التي لم تنتظر الدعوة لتأخذ مكانها ملتصقة بشقيقتها وقد لفت ذراعيها حول خصرها تتابع معهم اللحظة الهامة، فتتدخل بعفويتها التي جعلتهم يضحكون لقولها كالعادة:
– الكافيه الجاي هنسميه عائشة
❈-❈-❈
عاد من عمله بحالة من التشتت، شيء ما يجعله شاعرًا بالذنب او التقصير لا يعلمه، او ربما يحاول اخماده، مراعاة لظروف السرية التي صار عليها العهد، بأي صفة يحق له مشاركتها اول خطوات النجاح لها؟
يعلم انه لا يصح، نعم لا يصح
– رياض
جاء صوتها الحاد ينتشله من أفكاره ليلتف اليها فيجدها بكامل اناقتها ليخرج منه السؤال على الفور:
– ماما انتي لابسة ورايحة على فين؟
ردت ببساطة رافعة رأسها للأعلى:
– رايحة لبهحة.
– نعم !
– بقول رايحة لبهجة، دعتني احضر معاها الافتتاح، ياللا اديني مفتاح عربيتي مش عايزة اعطلك.
قالتها ببساطة كادت ان تصيبه بأزمة قلبية:
– تسوقي فين؟ انتي عايزة تسوقي عربية يا ماما؟ انتي بتتكلمي ازاي؟
رفعت ذقنها للأمام، تضع النظارة على عينيها تذهله بحسمها:
– خلاص اوقف اي عربية أجرة توصلني ، عن اذنك .
تحركت على الفور دون انتظار ليصرخ في اثرها بعدم استيعاب، راكضًا خلفها:
– يا نهار اسود، انتي رايحة فين تعالي هنا.
❈-❈-❈
اما بداخل المحل الذي ازداد صخبًا وازحامًا بالمهنئين، والرواد الذين أتو من اجل الاحتفال أيضآ، صوت السماعات يدوي بأصوات المهرجانات، والعمل رغم قلة الخبرة في التنظيم الا انه كان يسير على اروع ما يكون،
اكتمل عدد الحضور من الأصدقاء ولم يتبقى سوى اقرب المحبين، وذلك ما حدث بحضور شادي رغم الحزن الذي يتخلل روحه، إلا انه لبى الدعوة ليأتي بصحبة شقيقته يشارك ابناء خالهم الفرحة، والتي ازدادت اضعاف بمجيئهم ، وذلك ما ظهر في استقبال الاربعة لهم .
– مبروك يا بهجة، ربنا يجعلها فاتحة خير يا بنت خالي .
– ربنا يبارك فيك يا شادي، والله نورتيني بحضورك انت ورحومة، مجاتش صبا ليه معاكم؟.
سألته بسجيتها لترى تأثير السؤال عليه بملامح وجمت وابتسامة باهتة، اظهرت مزيدا من الحزن لتتكفل رحمة بالرد :
– مراته تعبانة يا بهجة، مرض غريب مسك معدتها ما حدش منا عارفله حل، ادعيلها ربنا يشفي عنها.
– امين يارب، بس دي زي القمر، امتى مسك فيها المرض، دا انتو يدوب متجوزين ملحقتوش .
خرج صوته بصعوبة ممتنا لها:
– متشغليش نفسك انتي يا بهجة، خليكي في احتفالك، قادر ربنا يشفي عنها .
عقبت بفضول:
– طب ما تحكولي طيب هي ايه الاعراض اللي عندها طيب، مرض ماسك المعدة وبس ، مفيش دكتور باطنة يفهمها؟
اسئلتها البريئة تزيد من ثقل ما يشعر به، ليغير دفة الحديث حتى لا يفسد عليها فرحتها:
– بعدين يا بهجة هبقى احكيلك، المهم خلينا في احتفالنا.
تدخلت عائشة بمرحها:
– حظك حلو يا عم شادي، هتحضر معانا تقسيم التورتة .
– تورتة ايه؟
لم يكد ينهي سؤاله حتى تفاجأ بجنات تخرج اليهم بكعكة كبيرة مزينة بقطع الفاكهة والشوكولاته، تهتف بصخب وخلفها صديقاتها بالاطباق، لتضعها على طاولة في الوسط :
– تورتة الاحتفال يا شباب ، مين هيحضر عشان يتصور معانا .
تجمع عدد الأصدقاء على الفور، وسحبت بهجة بيد ابن عمتها وشقيقته ليتجعلهما في المقدمة بجوار عائلتها، وما همت ببدء الاحتفال، حتى ظهرت امامهم تلك الجميلة من مدخل المحل بابتسامتها الخلابة ، لتصرخ عليها عائشة:
– نوجة حبيبتي.
ركضت لتحضنها من خصرها، والاخرى لم تقصر في ضمها اليها بحنان امومي، تقبل اعلى رأسها. فتردد الصغيرة بمشاعرها البريئة:
– انا بحبك اوي يا نوجة.
سمعت منها، لتُكور وجهها بين كفيها تقبل الوجنة:
– وانا بحبك اوي اوي
صرخت عائشة لتزيد من احتضانها مرة اخرى ، لتتقدم بهجة نحوها للترحيب بها، ولكن تجمدت خطواتها فجأة حينما رأته امامها بطلته المهلكة وكأنه ظهر من العدم يحدثها بابتسامة رائقة:
– الف مبروك يا بهجة،
كادت ان تسقط بقدميها التي شعرت بارتخائها فجأة، هل هذا حلم؟ ام هو وهم يدور بخلدها؟
ولكن صوته ثم كفه التي امتدت تصافحها بالتهنئة لتتأكد من لمسه انه حقيقة، لقد جاء يشاركها الاحتفال.
– الله الله يبارك فيك يااا يا رياض باشا…. دا رياض باشا رئيس المصنع اللي شغالة فيه
تلعثمها الواضح في الكلمات ، ثم هتافها، لتقدمه الى الجميع بفخر، لتسحب اهتمامهم نحوه، حتى اكتنفه احساس بالذنب، فلولا التصرف المجنون من والدته، كان تجاهل ولم يأتي .
اجفل من شروده على كف كبيرة امتدت نحوه مخاطبًا بصوت يجمع بين الحدة والبأس:
– شرفت ونورت يا رياض باشا، انا شادي
– ابن خالي اللي شوفته قبل كدة.
رددت بها بهجة تسارع في التوضيح له، ثم تعرفه على باقي اشقائها ورحمة التي تطلعت اليه بانبهار لم ينتبه اليه، فقد اخذه الاهتمام بهذا التواصل البصري الذي كان يحدث بينه وبين هذا المدعو شادي، يرى في اسلوبه شيء لا يريحه
ولكنه تغاضي لينتبه لفقرات الاحتفال التي تبدأ بتقطيع التورتة، ثم التقاط الصور التذكارية، والمعبرة عن مدى سعادة الجميع بهذا الحدث الرائع
❈-❈-❈
خرجت من المطبخ بعدما اعدت وجبة العشاء، وكانت في طريقها للتحضير، ولكنها تذكرت عدم وجود زوجها أكبر فاتح للشهية نظرا لنهمه المتواصل في التهام الطعام، عكس ابناءها، ممكن يفضلون الاكل في الخارج او بدون عشاء كما تفعل سامية ابنتها حتى لا يزيد وزنها، والتي لزمت غرفتها منذ ساعات تتصفح الهاتف ووسائل السوشيال ميديا في متابعة اصحاب المحتوى والاغاني والافلام الهابطة،
لتبحث هي عن ونيسها الوحيد الاَن، ابنها الاوسط والذي اللتزم غرفته هو الاخر على غير عادته ، ان يعود باكرًا، ويختفي بها كل هذا الوقت .
دفعت الباب المفتوح لتجده جالسًا بوجه واجم فهتفت تلفت تلفت انتباهه:
– واد يا سامر، هتيجي تتعشي معايا
تطلع اليها بصمت دام للحظات ليجيبها اخيرا بجمود :
– لأ….. مليش نفس.
– ومالك بتقولها كدة وانت قرفان، انت حر يا اخويا
قالتها درية لترتد بقدميها عائدة للخارج، فتتركه هو لشروده، وحالة من الحسرة تسكنه ، لقد رأى بأم عينيه اليوم الاحتفال بافتتاح محل الكافيه لابناء عمه، لقد تخطوهم ومَن الله عليهم بالنجاح والمال ،
الجميع كان حاضرًا الا هم ، اصدقاء واناس اغراب وشادي وشقيقته وتلك المرأة الجميلة ذات الشعر الاصفر وابنها رئيس العمل لدى بهجة كما علم
لم ينقصهم حضور احد منهم، بل الأصح هم استراحوا منهم ، عمها، وزوجته، والأبناء المزعجين
❈-❈-❈
في صباح اليوم التالي
انتهى من ارتداء ملابسه في استعداد للذهاب إلى عمله المعتاد في هذا الوقت، تنفس بهدوء، يحاول السيطرة على دقات قلبه التي تصرخ بالألم، وكأن في انتظار انتزاع روحه من جسده بسفرها المحدد اليوم مع عائلتها الى الوجه القبلي وبلدتهم.
نظر الى ساعة يده شاعرا بأن الوقت تأخر عن الميعاد الذي ذكره له العم ابوليلة، ومع ذلك لن يتصل او يستعجلهم حتى لو اضطر للغياب من عمله اليوم او حتى فصله، على امل تراجعها والعودة الى عقلها وحبيبها الذي ذابت اعصابه واحترقت خشية عدم رجوعها اليه مرة اخرى، او نسيانه واعتباره صفحة وانطوت من حياتها..
دوى صوت جرس المنزل فجأة يفصله عن شروده، ليبتلع ريقه، ويجسر نفسه بالآيات القرآنية ليتماسك، ثم ينهض كي يفتح الباب، فيصطدم برؤيتها امامه، حتى كاد ان ينبت الامل بداخله، لولا تدخل والدتها تقطعه من البداية:
– صباح الخير يا شادي يا ولدي، احنا جايين نلم حاجة صبا في الشنطة لاجل ما نسافر، معلش لو اتأخرنا عليك.
ابتلع غصته ليومي برأسه ، فينزاح بجسده مشيرا بذراعه للداخل:
– اتفضلي يا خالة زبيدة، انتوا مش محتاجين عزومة، دا بيتك اصلا يا صبا، ولا انتي نسيتي ؟
توجه بالاخيرة بقصد نحوها، ولكنها تجاهلت، وقد بدا من هيئتها عدم اتزانها، لتدفعها والدته فتدخلها بصعوبة داخل عتبة المنزل ، تردد لها بتحفيز:
– اتحركي يا صبا، مش هجعد اليوم كله اتحايل فيكي.
خرج صوتها هذه المرة باهتزاز وارتجاف:
– وتتعبي وتحايلي ليه؟ ما انا جولتلك لمي اللي تلاجيه في الشنطة وخلاص.
حزمت زبيدة لتجذبها من يدها وتسحبها معها للداخل:
– عايزاني اهبش وخلاص في حاجتك والهدوم ، جولتلك مية مرة، محدش هيعرف حاجتك اكتر منك، اتحركي يا غلب السنين اللي مستنيني،
استطاعت بقوتها ان تصل بها لداخل غرفة النوم، فيسقط هو بثقله على الاريكة التي كان جالسًا عليها من البداية، شاعر ببرودة تجمد أعضائه، زوجته الحبيبة تدخل غرفتها مرغمة،
ما الذي حدث لتصل الامور بهم الى هذه الحالة المأساوية؟ وكيف يأتي الامل مرة اخرى برجوعها اليه.
في غمرة شروده، دلفت شقيقته، لتدعمه كالعادة بحزن سكن داخلها من اجله، تمنع دموعها بصعوبة، لتُقبل خده ثم تتحرك الى مكان وجودهم، حتى تراهم وترى زوجة شقيقها قبل السفر .
القت التحية وقد وجدت صبا واقفة على قدميها بتوتر، تشير فقط بإصبعها نحو والدتها التي رصت على الفراش عدد من ملابس ابنتها بكافة الأنواع، وأشياء انثويه تخصها، استعدادًا لوضعهم داخل الحقيبة.
– صباح الخير يا خالتي زبيدة، صباح الخير يا صبا عاملة ايه النهاردة؟
قالت الأخيرة تقترب منها وتضمها اليها بسماحة، رغم ما تحمله من عتب نحوها لحالة شقيقها.
اومأت صبا ترد بصوت خفيض مبحوح، فقد كانت تكتنفها حالة من التوتر غير عادية:
– الحمد لله على كل حال، كويسة.
– ونعم بالله .
تمتمت بها رحمة، قبل ان تلتف نحو زبيدة تعرض عليها:
– تحبي اساعدك في حاجة يا خالتي.
اومأت لها المرأة بموافقة، لتتحرك نحو الزاوية الفاصلة بين خزانة الملابس والجدار ، تسحب السلم الحديدي قائلة:
– حاجة بسيطة خالص يا حبيبتي، عايزاكي بس تمسكيلي السلم اجيب شنطة السفر الكبيرة، من فوق الدولاب .
اقتربت رحمة تعترض:
– لا يا خالتي، خليكي انتي وهطلع انا .
– والله ما يحصل، هو انتي فاكراني كبرت يا بت؟
قالتها زبيدة بإصرار لتصعد دون انتظارها، فتضطر رحمة لتسنده على الفور بذراعيها مرددة:
– يا باي على دماغ الصعايدة، هو انا جيبت اساسا سيرة السن يا ولية انتي؟ ولا عايزة بس تركبيني الغلط؟
ضحكت زبيدة لتشب بجسدها الهزيل، تتناول الحقيبة من فوق سطح خزانة الملابس، فتحاول جذبها اليه حتى لهثت بياس من ثقلها:
– دا انا شكلي كبرت صح، بجى حتة شنطة اغلب فيها يا ناس.
عقبت رحمة بشيء من ثقة:
– ما قولتلك يا ست، انزلي انزلي وانا اطلع اجيبها.
– وانا جولت لاه، اثبتي انا هجرب تاني
رددت بها زبيدة، وقد غلبتها روح العناد لتجدد رفضها وتحاول مرة اخرى، حتى مالت بوقفها وكادت ان تسقط لولا تشبثها بحافة الخزانة، لتصرخ عليها رحمة:
– يا خالتي الله يخليكي، براحة على نفسك بقى انا قلبي خفيف ميتحملش، انزلي بقى، وبطلي عِند.
– سلامة جلبك يا حبيبتي، معلش مش هتعبك تاني ان شاء الله و…
قطعت زبيدة وقد شعرت بشيء ما ملتصقًا بحافة الخزانة، لتركز حتى خلعته من مكانة تتطلع به داخل كفها متمتمة بهلع نحو ذاك الذي اللي كان ملتصقًا بسطح الخزانة. .
– ايه اللي في ايدك ده يا خالتي؟
كان هذا سؤال رحمة التي هالها الجزع الذي ارتسم على ملامح المرأة بوضوح، لتميل اليها تعطيه لها بيدها كي ترى ما عثرت عليه بالصدفة، فتنقل بنظرة متحسرة على ابنتها التي كانت ترتجف والدموع تهطل منها بغزارة،
– خدي وشوفي بنفسك يا بتي.
تناولته رحمة وكان اول رد فعل لها، بأن لطمت بكفها على صدرها، وصرخة زعر تصدر منها:
– يا مصيبتي….. دا عمل.
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حان الوصال)