رواية حان الوصال الفصل الثامن 8 بقلم أمل نصر
رواية حان الوصال الجزء الثامن
رواية حان الوصال البارت الثامن
رواية حان الوصال الحلقة الثامنة
عدة أيام مرت، وشقيقها محتجز في المشفى المتخصص الفاخر، بعدما انزاح عنها هم علاجه المُكلف، بفضل كرم رئيسها في العمل، وقد ثبت بالفعل خطورة الحمى التي تعرض لها، ولولا العلاج المكثف لكان الأمر تطور اكثر من ذلك
ولكن في المقابل كانت مشتتة ما بين متابعة شقيقها، ومراحل تقدمه، في هذا الوضع ، وما بين رعاية نجوان التي تعلقت بها كالأطفال ، وهي لن تخذل رئيسها والذي اغدق عليها بكرمه في اشد الأزمات التى تعرضت لها هذه الفترة .
ولكن الاخرى لا تكف عن الطلب منها معظم الاوقات للذهاب بها الى منزل عائلتها مرة اخرى، كما يحدث الاَن، وهي ترفض تجنبًا لغضب رئيسها:
– مينفعش يا نجوان هانم، والله ما ينفع، مش ناقصة مسؤولية انا .
رغم صمتها الدائم الا انها تستطيع بأفعالها التأثير عليها ، بعبوس الملامح وكلمة واحدة تصر تكررها عند الحاجة.
– عائشة
– يقطع……
هتخليني ادعي على اختى يا مدام نجوان، بس هي السبب بعمايلها ولعبها معاكي، خليتك تتعلقي بيها .
زفرت بتعب لتسقط ، ممسكة رأسها الذي كان على وشك الانفجار، حتى أتى هو بهيبته يتدخل في الحديث معهم:
– ايه في ايه؟ ليه النرفزة والعصبية ما ببنكم؟
انكمشت نجوان كعادتها، ليحدجها بضجر قبل ان يتجه نحو بهجة التي ردت بحالة من الاجهاد:
– مفيش حاجة حضرتك، انا بس تعبت من اصرارها على انها عايزة تروح معايا البيت، وانا بقولها مينفعش.
قطب بعدم استيعاب، يستعيد بذهنه الجملة مرة اخرى:
– بتصر ازاي يعني؟ هي بتتكلم اساسًا؟
– كلمة واحدة بس؟
– كلمة ايه؟
– عائشة.
– عائشة مين؟
تنهدت تخبره:
– دي تبقى اختي يا فندم، بس هي صغيرة اوي، يدوب حداشر سنة، بس المرة اللي فاتت اندمجت معاها في اللعب والهزار.
مط بشفتيه، وابتسامة مليحة اعتلت ملامحه:
– يا سلام، يعني حتة عيلة صغيرة، عملت اللي محدش فينا عرف يعمله، وعلقتها بيها.
نقل بأبصاره نحو والدته ، يخاطبها بعتاب ممازحًا:
– اجيبها تعيش معاكي هنا…..
– لأ، الله يخليك بلاش تقول كدة لتمسك فيها بجد.
صدرت منها بمقاطعة يشوبها الرجاء ، ليتوقف هو محدقًا بها، لا يمل ابدًا من حفظ تفاصيلها، وهي رغم الخجل الذي يصيبها، لكن سرعان ما تتمالك، فهي لا تقتنع ابدا بإعجابه بها وتعتبرها نظرات عادية بالنسبة لطبيعته الباردة:
– مكنتش اعرف ان ماما تأثيرها جامد كدة عندك، ع العموم تمام .
ختم بتنهيدة، ليفاجئها بقوله:
– خلاص يا بهجة خديها معاكي مدام بتفرح، وخلي واحد من الحراس يروح معاكم للأمان .
ظهرت بوادر الفرح على وجه والدته، مما جعله يرتد بأثره على بهجة، التي وبرغم المسؤولية التي سوف تلقى على عاتقها، إلا انها فرحت بفرحها:
– شكلها انبسطت بالفعل، بس انا رايحة المستشفى دلوقتي، خليها وقت تاني يا نجوان يا هانم.
اصدرت جملتها الاخيرة بوضوح تام نحو نجوان التي حركت رأسها بتشنج دليل على رفضها، ليأتي الحل منه هو:
– خلااص يا بهجة، انا هاخدكم ع المستشفى، تخلصوا مشواركم وبعدها تروح معاكي بيتكم ، ساعة ولا ساعتين كدة وتيجو مع عم علي، واهي تغير جو،
جهزوا نفسكم.
قالها وتحرك ذاهبًا من امامها بهدوءه المعتاد، لتتصلب هي محلها تطالع اثره حتى اختفى بصعوده الدرج، هذا الرجل يذهلها بأفعاله الغير متوقعة، ولكن لما الاستغراب ؟ فهو يفعل مع نبوية اكثر من ذلك بحكم العشرة التي تجمع بينهم، والتضحيات التي تبذلها في رعاية والدته، اذن فلا يجب ان تشطح بأفكار غبية.
❈-❈-❈
خرجت من المصعد، عائدة من الخارج بصحبة والدتها ، تحمل عددا من المشتريات النسائية وذلك لقرب ميعاد زفافها ، لتقع عينيها عليه، يغلق باب منزله، وحالة من غضب قلص تعابير وجهه، مع الترديد دون توقف بالاستغفار:
– استغفر الله العظيم يارب، استغفر الله العظيم، استغفر الله العظيم.
القت بالتحية والدتها، رغم استغرابها هي الأخرى من هيئته،:
– مساء الخير يا شادي يا ولدي.
رد موجهًا التحية نحوها ونحو خطيبته المندهشة لحاله المتغير بعجالة متوجها نحو المصعد:
– مساء الخير يا خالتي، مساء الخير يا صبا.
سمعت الاخيرة لتترك ما بيدها لوالدتها ، لتعود عن طريقها وتوقفه:
– رايح فين يا شادي؟ وايه اللي معصبك بالشكل ده؟
زفر طاردًا دفعة من الهواء المشبع بقلة حيلته:
– والله قرفان يا صبا، ومخنوق، حاسس اني قليل اصل واستاهل الضرب على نفوخي، بعدين اما ارجع بقى من مشواري هبقى احكيلك.
– وانا لسة هستنى على ما تيجى؟
امام تشبثها قرر تغيير طريقه من المصعد، ليهبط الدرج على اقدامه برفقتها، كي يعبر لها عما يعتريه من ضيق:
– ولاد خالي اليتامى يا صبا، النهاردة بس عرفت بمرض الولد الوحيد فيهم، وحجزه في مستشفى، بقالوا اكتر من أسبوع، أسبوع وانا نايم على وداني ومعرفش، بتقصيري في السؤال عنهم، بعد ما ولاد درية قطعوا رجلي من عندهم بالكلام الزفت بتاعهم.
ذوت ما بين حاجبيها بضيق وعصبية:
– ليه يعني؟ مش عيال خالك دول يتامى، هيضرهم ايه ولاد الست المفترية دي لما تسأل عنيهم.
تنهد يحرك رأسه بانفاس يجتاحها الغيظ:
– انتي قولتي بنفسك مفترية، وعيالها ورثو التناحة والاستعباط، واحد كان كاتب كتابه علي بنت خالى الكبيرة واتفسخت خطوبته بيها قبل الفرح، واتجوز وشاف حاله ولسة برضو فارض نفسه وعنده امل والتاني عايز دور اخوه.
توقف يتابع لها بانفعال، حتى غفل عن تبعاته:
– يا مؤمنة، دول منعوني ما اروح عندهم ولا اسأل عليهم ، بحجة انهم بنات وميصحش ادخل بيت مفيهوش راجل كبير، انا دمي بيغلي يا صبا، ما هو لولا عمايلهم دي مكنتش ابدا سيبت بهجة ولا اخواتها من غير ما اقف جمبهم.
استرسل تأخذه الجالالة، متوقعًا انفعالا منها هي الأخرى، لتفاجأه بردها:
– هي بهجة دي حلوة جوي للدرجادي؟
بحالة من عدم الاستيعاب، صار يتطلع لها، وقد توقف عقله عن التفكير، عاجز عن فهم عقل الانثى، والذي ترك جميع ما سبق ليركز على معلومة تافهة مثل هذه، ليقرر منهيًا الجدال من اوله:
– صبا يا حبيبتي، اطلعي لامك اللي سبتيها فوق، وانا لما ارجع من مشواري، نبقى نشوف الموضوع المهم ده، سلام.
ما كاد ان يتمها حتى وجدته يسرع بالهبوط من أمامها، لتتمتم هي من خلفه بتصميم، عازمة على الذهاب معه:
– وانا بعد اللي جولته ده هسيبك تروحلها لوحدك، والله ما هسيبك ، استني يا شادي.
❈-❈-❈
خارج الغرفة المحتجز داخلها شقيقها، وقد اطمأنت عليه بعد زوال الخطر، ولم يعد يتبقى على خروجه الا القليل ، وقفت تلتقط انفاسها بحضوره، متمتمة بالإمتنان:
– الف حمد وشكر ليك يا رب، اني اطمنت عليه، ياريت كمان الدكاترة تستعجل بخروجه، عشان يحصل اللي فات من دروسه.
تبسم برزانة واضعًا كفيه بجيبي بنطال حلته، بهيبة تليق به، يخاطبها:
– مش وقت دروس ومذاكرة يا بهجة، المهم التعافي بالكامل عشان يبقى المخ مستعد لحشو المعلومات وفهمها.
– ايوة والله عارفة، بس دا حلمه الطب، والتقصير اكتر من كدة هيأثر عليه.
– لو ممتاز هيلحق اللي ناقصه يا بهجة، ولو محصلش، الدنيا موقفتش يعني ع الطب وبس ، الناجح ناجح في اي مجال.
– لا ان شاء الله يحصل ويدخل طب، يارب يارب، تحقق له امنيته يارب.
صدرت منها بلهفة وعفوية، جعلته يضحك ممسكًا جبهته بيأس منها:
– لا انتي مفيش منك فايدة ابدا، انا هروح اشوف مدير المستشفى، وبعدها اعدي عليكم قبل ما امشي، خلي بالك بقى منها.
قال الاخيرة بإشارة نحو والدته؛ والتي كانت واقفة خلف مدخل باب الغرفة ، تلوح كفها ببرائة نحو ايهاب الراقد في سريره، وهو يبادلها بابتسامة متسعة وكأنه على معرفة بها منذ زمن،
لتعقب بهجة بدهشة:
– سبحان من يوفق القلوب مع بعضها، وانتي يا نجوان ولا اكنك على معرفة بإيهاب من سنين، ربنا يهديكي بقى ومتعمليش حركة غدر ، انا مش قدها ابدا والله.
التفت عنها لتفاجأ بابن عمتها يقترب بهلع نحوها:
– ازيك يا بهجة، وازاي اخوكي ايهاب، اخبار صحته ايه؟
اومات تطمئنه برقتها المعتادة:
– كويس والله يا شادي، متقلقش، ازمة وعدت على خير الحمد لله.
– مقلقش ازاي بس؟
تمتم بها بأسف من حاله، ليتدارك بعد ذلك وجود صبا، فيعرفها به:
– دي صبا خطيبتي يا بهجة، انا كان نفسى من زمان والله اعرفك بيها بس النصيب.
تبسمت بسماحة ترحب بها:
– زي القمر، ربنا يخليهالك، ازيك يا صبا.
ابتلعت الاَخيرة ريقها ، تصافحها بيد باردة ترد تحيتها ، ومن داخلها تردد بصدمة:
– يا لهوي عليكي يا صبا، دي طلعت حلوة جوي.
❈-❈-❈
وفي مدخل المشفى،
تقدم سمير نحو موظف الاستقبال، يسأله عن غرفة ابن عمه ايهاب، تاركًا شقيقته تجول بأبصارها في الأجواء بأعين يملأؤها الانبهار، والحقد ايضًا، لتأخذه التساؤلات عن مصدر الاموال والتكلفة ومن اين؟
– انت هتفضلي واقفة في مكانك يا سامية؟ ما تيلا يا بنتي .
كان هذا صوت شقيقها والذى توقف عن تقدمه من اجلها، لتتحرك بخطواتها السريعة نحوه متسائلة:
– سمير، عيال عمك جابو منين حق المستشفى الاَلاجة دي؟ اسبوع بحاله بأيامه ولياليه، وابن عمك محجوز فيها، دا اكيد كلفتهم بالالافات.
خلط رده بضحكة ساخرة، انتي بتقولي فيها، دي الليلة هنا اقل حاجة تكلف عشر تلاف، هموت واعرف قدروا عليها ازاي؟ دا ابوكي اللي معاه الفلوس بجد، عنده استعداد يموت على أبواب المستشفى الحكومي ، ولا انه يزيد بجنيه واحد لمستشفى زي دي.
– عشان حظنا فقر ، وقعنا في راجل بخيل زيه، انما برضوا انا هتجنن لو معرفتش، دفعو تمن القعاد في المستشفي دي ازاي.
عاد بصحكته الساخرة قائلا :
– يبقى اتجنني احسن، عيال عمك ايد واحدة مع بعض، مفيش حد هيغلط ويريحك ابدا، دي المزغودة عيشة ممكن تقيم عليكي الحد لو بس فتحتي معاها كلام .
اكمل بضحكة زادت من سخطها، ليدلفا داخل المصعد، كي يصل بهم الى الطابق الثاني، ومنه الى غرفة ايهاب، والتي ما ان حطت اقدامهم بداخل الطرقة المؤدية اليها، حتى جحظت ابصارهم، بوجود شادي برفقة بهجة يتحادث معها في جانب قريب من الغرفة، لتصدر زمجرة غاضبة من سمير:
– شوفي الزفت بيستغل الموقف، وقاعد يتمحلسلها، وياخد ويدي معاها ، دا مش بعيد يكون هو اللي دافع حق المستشفى، ما انا عارفه، مقتدر بحكم وظيفته، والنعمة ما انا ساكتله.
قالها وتحرك بأقدامه مسرعًا، مبيت النية على الصدام .
لتمصمص هي في اثره بغيظ، وتسرع باللحاق به:
– يعملها ما انا عارفاه، فالح بس يكشر في وشي ع الفاضية وع المليانة، لا وجايب خطيبته الهبلة معاه صورة، استنى يا سمير.
وصل اليهم المذكور، يلقي التحية بتهكم واضح:
– عاملة ايه يا بهجة يا بنت عمي، شكل شادي ابن خالك قايم بالواجب وزيادة .
امتقع وجه الاخير بغضب يحاول السيطرة عليه، ليأتي الرد من بهجة:
– وما يعمل الواجب ولا ميعملش حتى، انت مالك ؟ متعصب ليه يا سمير؟
– بصورة تفضح ما بداخله خرج صوته الغاضب:
– طبعا يا ست بهجة وانا هتعصب ليه؟ خلي الراجل يقوم بواجبه ويزود اكتر ، ما احنا عارفين اللي فيها.
قال الاخيرة بنظرة مقصودة نحو صبا التي كانت جالسة على مقاعد الانتظار بجوار نجوان الملتزمة بجسلتها الهادئة، لتضيف سامية مباشرة نحوها:
– قصده يعني على شهامته، اصله بيقوم بالواجب وزيادة، بالذات مع بهجة……… مش بنت خاله بقى.
مطت شفتيها بالاخيرة قاصدة اشعال الغيرة بقلب هذه العاشقة، حتى تقلصت ملامحها بغضب، ولكنها التزمت الصمت تكتم داخلها، مع احتداد النقاش بينه وبين هذا الأخرق ابن خاله:
– احترم نفسك يا سمير، انت في مستشفى محترمة، الحركات العبيطة دي لا مكانها ولا وقتها، انت جاي ليه اصلا ؟
سمع منه الاخير، يصيح مهللا بصفاقة:
– لا اطردني احسن يا شادي، اصل انا قاعد في بيتك ، في مستشفى وليها وضعها، ما تتكلمي يا بنت عمي، ياللى عاجبك الوضع.
صدر ردها بقوة كي تلجمه:
– وضع في عينك، احترم نفسك يا سمير ، ولا لمها احسن وروح، وكتر الف خيرك يا سيدي.
– لا يا شيخة، دا انتي كمان عايزة تمنعيني من ابن عمي وزيارته، اخص عليكي يا بهجة ، دا احنا لو عدوينك مش هتعملي معانا كدة.
تدخلت سامية هي الأخرى بأسلوبها الملتوي:
– هدي اعصابك يا اخويا، شادي ابن خالي اكيد ميقصدش حاجة وحشة، ما هي برضو بنت خاله، وحقه يطمن عليها .
ضغطت بالاخيرة، ليهدر شقيقها بغضب وبدون تقدير :
– ايوة بقى قولي كدة، يعني واخد اخوها حجة، طب ما تقولها صراحة يا شادي.
عند الاخيرة لم يتمالك شادي قبضته، والتي ارتفعت بدون تفكير لتسقط بثقلها على جانب فكه الايمن، حتى كادت ان تطير صف اسنانه، يرافقها سبته:
– دي عشان تتعلم الادب.
شهقت الفتيات بهلع، لتصدح صرخة سمير الذي ارتمى على الارض كالخرقة، بإهانة لم يتقبلها، لتصدر صرخاته التي ضجت في قلب المشفى، وهو ينهض في محاولة للهجوم عليه ، وقد تلقفه شادي ليلف ذراعه خلف ظهره، يحاول السيطرة على هياجه، ويأمره بالتوقف امام صدمة الفتيات:
– اهدى بقى وبطل فضايح، الناس بتبص علينا.
وكأنه طلب العكس، زاد صراخ الاخر مع تجمع البشر من حوله حتى أتت صيحة قوية:
– ايه التهريج ده؟ ايه اللي بيحصل هنا.؟
ليطل بجسده الضخم، يوزع بنظراته القوية على المتشاجرين، ثم تتوقف عليها بتساؤل ، فيحاصرها بأعين تلونت بالإحمرار، وتتسمر هي محلها بحرج يكتسحها، ولسان يعجز عن ايجاد التعبير المناسب لما يحدث الاَن، اتخبره ان المشاجرة التي واقعة امامه الاَن بسببها !
❈-❈-❈
– اتنين، اتنين رجالة يا بهجة بيتخانقو عليكي.
هي نص ساعة بس اللي غيبتها ، امال لو اتأخرت شوية كمان ، كان هيحصل ايه؟
قابلت صيحته بغصة مؤلمة مررت حلقها، فجعلت كلماتها تخرج بنبرة يكسوها الحرج:
– مكانتش خناقة بالمعنى المعروف، هو بس الزفت ابن عمي اللي زودها وكان داخل بشراره وناره، مش ناوي على خير ، انما شادي ابن خالي فدا راجل محترم …..
– شادي مين يا بهجة؟ متحرقيش دمي ولا تجيبي سيرة أي زفت منهم.
للمرة الثانية تخرجه عن طوره الهاديء، كلما حاول التماسك والعودة لطبيعته، يحدث العكس مرة اخرى، لقد كان على وشك ارتكاب جريمة منذ دقائق بسببها.
اما عنها فقد كانت تتمنى ان تنشق الارض وتبتلعها من امامه، لذلك لم تجد بدا من الاسف والانسحاب:
– ع العموم يا فندم انا اسفة لو سببتلك أي حرج، انا مستعدة حتى مجيش هنا تاني غير بعد ما اخويا ينكتبله على خروج.
قالتها والتفت تتحرك ذاهبة من امامه، ولكنها لم تكد تكمل خطوتين، حتى مالت بسيرها فكادت ان تقع ، لولا ذراعيه التي تلقفتها، لترتطم بصدره وقد لاح عليها الضعف بقوة، ايه مالك يا بهجة؟ حاسة بحاجة تعباكي؟
رفرفرت بأهدابها لبرهة من الوقت، تتمالك ذاتها من الدوار الذي لفها منذ لحظات قليلة، لتعي على نفسها بحضنه وهذا القرب منه ، فقد كان وجهه لا يفصله عنها سوى انشات قليلة، يخاطبها بقلق واضح، ولكن الوضع لم يكن مريحًا بالمرة، لتستحضر على الفور ارادتها ، فتنتصب، ثم تدفعه عنها بخفة ، ولكنها، وما كادت ان تقف جيدا حتى سقطت مرة اخرى بين رحاب ذراعيه، ولكن هذه المرة فاقدة للوعي تماما، مما اضطره ان يدنو ثم يرفعها من اسفل ركبتيها، فيحملها اليه،
وجهها الملائكي بصورة تختلف تمامًا عما تدعيه من قوة ، عظامها اللينة برقة ألهبت مشاعر قد كبتها منذ زمن ، لتعود الاَن وبشدة، هو بالكاد حاول تخطي قبلة الحياة التي فعلها مجبرًا من أجل افاقتها من الغرق،
ماذا بها هذه الفتاة لتجعل هذا الخافق بين ضلوعه، ينتفض كعصفور بللته امطار الشتاء القارص، بمشاعر امتزجت بالقلق واشياء اخرى لا يعرف تفسيرًا لها.
زفر بنفض رأسه من كل ما يعتريها من افكار ، ليتحرك بها نحو افاقتها.
❈-❈-❈
بداخل السيارة التي كانت تقلهم للعودة، وهو يقودها ينقل بنظراته كل لحظة نحوها، متابعًا صمتها المستمر منذ خروجهم من المشفى، وردودها المقتضبة، على عكس طبيعتها المشاكسة معه، ليخرج عن صمته فجأة موجها حديثه اليها بانفعال:
– لا بقى، كتر السكوت دا بقى يقلق، لتكوني صدقتي يا صبا كلام العيل الأهبل ده؟ انتي تعرفي عني الاخلاق دي؟
خرج ردها بحدة بعدما اجبرها على الألتفاف اليه:
– ما هو مش بكلام العيل الأهبل يا شادي، افعاله متدلش غير على حاجة واحدة، وهي ان عنده اسباب، حتى برغم تفاهته ورغم كل عمايله، لكن الحرقة اللي بيتكلم بيها ناحيتك مش هتيجي من فراغ…..
يعلم انها شديدة الذكاء، ومدامت قد وصلت به لهذه النقطة، هو ابدا لن يبخل عليها بالحقيقة، وليحدث ما يحدث:
– ماشي يا صبا، انا هجيبلك من الآخر عشان تبقي على بينة، وارجو تحترمي شجاعتي وما تحمليش الامور اكبر مما تحتمل.
يبدو ان القادم ليس جيدًا ولكنها لن ترضى الا بالمعرفة، لتوميء له بتوجس:
– اتفضل يا شادي اتكلم.
صمت قليلًا يستحضر الذكريات ، ليأتي بالاهم مباشرةً:
– سمير بيغل مني عشان انا اللي وقفتله في موضوع طلاقه من بهجة، هو مكانش عايز يطلق ولا يحلها من جوازه منها ، وهي بعد ما نزل من نظرها في موضوع ورث ابوها من الوكالة، كانت بتفضل الموت على انها ترتبط بيه؟ وانا مقدرتش اقف متكتف، ساعدتها بالمحامي اللي يخلص، وجمعت كبار المنطقة حكموا حكمهم بعدم جبر اليتيمة على شيء هي مش عايزاه، ومن يومها وهو مش شايلني من دماغه، حتى بعد ما خطبتك، برضو المتخلف اللي في دماغه في دماغه.
– حاولت تتقدملها عشان تتجوزها انت يا شادي؟
سؤالها المباشر اصابه بالتشتت، ليحيد ببصره عن الطريق والتف اليها بفاه منفرج، ونظرة فهمتها على الفور، ليصحح موضحًا لها:
– مش عشان اللي في دماغك والله يا صبا، انا كنت عايز اضلل عليهم هي واخواتها، واحميهم من جبروت خالي خميس ومراته وعياله، بس هي فاجأتني برفضها، والاعتماد على نفسها ، وسبحان الله بعد ما كانت ضعيفة وتاكل عشاها القطة، ربت لها ضوافر وقدرت بعزة نفسها تفرض شخصيتها على الكل، انا مقدرش امنع نفسي من احترامها، ولا اقدر امنع نفسي عن حبك، اقسم بالله انا ما دق قلبي ولا عرف العشق إلا ليكي يا صبا.
استطاع بصدقه ان يصل بها الى بر الامان الذي تتنعم فيه بعشقه، حتى ارتخت ملامحها في إشارة لبدء اقتناغها، لكن سرعان ما انقلبت فجأة بتذكرها:
– بس بصراحة هي طلعت حلوة جوي يا شادي، ازاي يعني عجلي ما يشتش ولا برج من نفوخي يطير.
ضحك يرفع كفها اليه ، ثم يقبل ظهرها تعبيرا عن حبه، مرددًا بغزل واقرار:
– وانتي والله قمر واحلي من القمر نفسه، دا اللي عجبني فيكي ثقتك بنفسك يا صبا، يعني مهما كان جمال بهجة، هيجي ايه جمب جمالك وانتي متربعة في قلب حبيبك، ربنا ما يحرمني منك يا قلب شادي انتي.
❈-❈-❈
استعادت وعيها اخيرًا لتفتح اجفانها للنور والحياة، فوقعت ابصارها اولا على السقف الابيض والانارة الخفيفة، ثم نزلت نحو المحلول المعلق بيدها، لتنتبه على دفء بكفها الاخر، وتفاجأ بنجوان تحاوطها بكفيها الاثنين ، مشهد بقدر ما اثار ذهولها، بقدر ما اثر ليلمس نياط قلبها، ونظرة الحنان التي تطل من عينيها، لتسخر متسائلة:
– ليكون دخلت الجنة من غير ما اعرف ولا انا بحلم ولا ايه بالظبط.
جاءها الصوت الرخيم من جهة النافذ الكبيرة والستائر البيضاء، معلقًا:
– عشان تعرفي بس خوفها عليكي، اهي ع الحال ده من ساعة ما انتي تعبتي، حتى والدكاترة بيسعفوكي برضو ماسابتش ايدك ابدا.
استدركت لحالها الاَن، وما اردف به، لتتسائل بقلق:
– هو ايه اللي حصل؟ انا اغمي عليا مش كدة؟ طب ليه المحاليل والحاجات دي؟
اقترب قائلا بمطة صغيرة من شفتيه :
– انتي فقدتى الوعي خالص يا بهجة، والدكتور فحص حالتك واقر انك ضعيفة ومحتاجة تغذية، دا غير طبعا الاجهاد والإرهاق، كلهم اتجمعوا عليكي.
– يعني حاجة عادية الحمد لله، دا انا افتكرت حاجة خطيرة، اقوم بقى اشوف اللي ورايا.
تمتمت بها بتقليل، ليتفاجأ بنزع ابرة المحلول من يدها، بصورة جعلته يتسائل بجذع:
– بتعملي ايه يا مجنونة انتي؟ مش تستنى الاول رأى الدكتور.
نقلت بنظرة سريعة نحو نجوان ، لتلف حول رأسها الحجاب قائلة:
– واستنى ليه تاني؟ مدام المحلول جاب فايدته والحمد لله ورفع عني شوية، اروح بقى اطمن على اخويا، قبل ما اروح، زمان اخواتي البنات رجعوا من دراستهم.
وقبل ان يصدر اعتراضه، وجد والدته تقوم باللازم، في التشبث بها، لتصدح ضحكته:
– انتي اللي بتجيبيه لنفسك، اهي مش هتسيبك حتى وانتي تعبانة، ارجعي لسريرك احسن يا بهجة، خليكي عاقلة.
وعلى عكس ما توقع من اعتراض منها لحالة الوهن بها، رحبت بسماحة تذهله:
– وماله خليها تيجي، ع الاقل يراعوها معايا شوية، مدام بتفرح بلقاهم، انا عمرى ما هقولها لا.
❈-❈-❈
انتهت جولة اخرى من المحاكمة المستمرة طوال اشهر في الشد والجذب من اجل تحديد مصيره، ليعلن القاضي تأجيلها كالسابق، ولكن هذه المرة هناك بارقة امل، بعد مرافعة المحامي الجديد، وقد اثبت انه داهية ويستحق رزمة النقود الكبيرة والتي تحصل عليها من والدته، بعدما شكك في شهادة الشقيقتان واتهمهم بتلفيق تهمة قتل ابيهم من اجل الاتتقام منه، فكرة شيطانية فاجأه بها، مع مجموعة من الحجج والقصص المؤلفة عن صحة خطف شهد من الأساس ، وانه مجرد خلاف عادي تطور لتشابك بالأيدي، ومنه اتجهت الفتيات لتلفيق التهم اليه.
– بشرة خير يا ابراهيم، شكل المحامي عقر وهيجيب البراءة المرة دي.
كان هذا صوت والدته، والتي هرولت اليه خارج قضبان القفص المحبوس به، عقب قول القضاة ليفتر فاهه بالابتسام بتردد:
– اما اشوف ياما ، هتكمل على كدة ولا هتتقلب من تاني.
أتت الإجابة من المحامي المحنك، يحدثه منتفش الريش بزهو:
– متقلقش يا ابراهيم، انا ياما عدى عليا قضايا من النوع ده وانيل مية مرة، تجار مخدرات وسلاح وقتل وجميع الجرايم، كلهم طلعوا بفضل مهارتي، واظن والدتك حكتلك عن سمعتي .
– حكتلي يا متر، بس انا برضو مليش غير النتايج، غير كدة متقوليش.
– ان شاء الله هتظهر النتايج قريب ، بس انت متفولش.
قالها الرجل ليسحب حقيبته ويذهب من جوارهم، فتعلق سميرة من خلفه:
– حار ونار في جتته، خد مني فلوس بالهبل، بس معلش اهم حاجة يطلعك براءة ، والنعمة لو ما نفذ بوعده، لاكون فضحاه ومجرساه في كل الدنيا.
– قلبك ابيض ياما.
تمتم بها بضحكات متقطعة، ليصدر السؤال منه بعدها:
– الا خالتي مجاتش ليه معاكي؟ ولا اي واحدة من مضاريب الدم بناتها:
عوجت شفتيها يمينا ويسارًا، مرددة بغيظ:
– يتفلقوا، عنهم ما جم خالص، بيجهزو لفرح الزفتة امنية، انهاردة حنتها بقى ، وبكرة تتزفت على النيلة الظابط خطيبها.
سمع منها وتحولت ملامحه من الابتسام الى التجهم بشده، انفاس حارقة كالدخان ، يخرج من أذنيه وفتحتي انفه، ليقبض على قضبان المحبس الحديدية بقوة ابيضت لها مفاصله، حتى انتفضت والدته بالزعر تخفف عنه:
– متزعلش نفسك انت يا حبيبي، بكرة تتجوز ست ستها، واللي احلى منها كمان.
ظل على وضعه، فصار صوت انفاسه الخشنة فقط مع هزهزة اسلاك القضبان بغضب وعنف وهي تهون عليه، حتى سحبه رجل الأمن من امامها، يدخل به داخل الممر المؤدي الى الردهة الداخلية، ويجمعه مع مجموعة السجناء من زملائه، قبل العودة بهم الى محبسهم الاساسي، فلم يخرج عن صمته سوى بعدما وقعت عينيه على غريمه، يخرج من إحدى الغرف بصحبة عدد من زملائه الضباط:
– يا عصام باشا، انت يا عصام باشا.
صوته العالي جعل الاخير يلتف اليه، مع انتباه الجميع له، ليهدر بالرد عليه غاضبًا:
– عايز ايه يا ابني انت، وبتنده عليا ليه بصوتك العالي؟ انت اتجننت.
جاء قوله بلهفة:
– لا يا باشا متجننتش، انا بس عايز اكلمك في موضوع ضروري، انا ابراهيم لو مش عارفني، ابن خالة خطيبتك، واللي كنت خطيبها قبلك.
برقت عيني الاخير على الفور بإجفال وغضب، وقد توقفت جميع الاصوات، والجميع مصوبا ابصاره نحوهما ، بعد هذا التصريح الغبي منه،
فاتجه نحوه يقبض على ياقتي قميصه معنفًا له، وقبل ان يتمكن من ضربه او سبه، اردف ابراهيم مصححًا:
– اسف يا باشا، والله ما قصدي حاجة، انا بس عايزك في كلمتين.
على صوته يزجره:
– وانت تكلمني بصفة ايه؟ ولا يكونش فاكر نفسك قريبي صح.
صدر رد ابراهيم بصوت يتخلله المسكنة:
– مش بأي صفة والله، هما بس كلمتين محشورين في زوري ونفسي اقولهم.
❈-❈-❈
بإحدى الصيدليات، وبعد أن تم الانتهاء من تضميد الجروح، بالمعقمات، وتناول المسكن لهذا الالم الرهيب بفكه، ليتمكن من توجيه شقيقته بحدة:
– انتي يا بت ، اياكي تبلغي حد باللي حصل النهاردة، لاشرب من دمك .
شهقة غاضبة صدرت منها لتعقب بتهكم:
– تشرب من دمي كمان، لهو انت مقدرتش ع الحمار هتتشطر ع البردعة.
هدر بها يحذرها بعنف:
– لمي نفسك يا سامية انا على اخري، مش ناقصك انتي كمان .
اشفقت تتراجع عن سخريتها بعد شعورها بنبرة الحزن التي تغلف صوته، لتلطف قائلة:
– انا مش قصدي اشمت فيك ولا اتريق ، انا بس اضايقت من كلامك الناشف وتهديدك ليا.
– عشان عارف بقك اللي ميتبلش فيه فوله يا سامبة، وانا بقى على اخري ومش قابل نص كلمة من حد .
اومأت بتفهم ، فهي الاعلم برد فعل والدتها لو علمت ولا غضب اسراء او شماتة سامر، ثم سخرية والدها ومعايرته.
– خلاص يا سمير انا مش هتكلم وان حد سألتي عن اللي في وشك، هقول دي خناقة في الشارع.
– جدعة .
تمتم بها ليغمغم بحسرة من داخله:
– مهما عدت السنين ولا شوفت في حياتي نسوان، ما في واحدة هتحل مكانك يا بهجة، وبرضوا مش هسيبك.
❈-❈-❈
خرج من وكالته، يرفع عيناه للأعلى نحو شرفة منزل شقيقه، يمني نفسه برؤية القمر كما حدث منذ ايام، وقد توقف عقله عند هذه اللحظة حينما رأى المرأة الجميلة، ذات الشعر الاصفر كسلاسل الذهب والبشرة البيضاء البهية، بصحبة ابنة شقيقه، تتطلع في الحارة وابتسامة تذهب بالعقل مرتسمة على ملامحها الفاتنة.
لقد رأى شبيهات لها على التلفاز وفي مسلسلات الدراما التركية كما وصفها ابنه، لكن على الحقيقة ، لم يصادف ابدا كهذه الفتنة المتحركة، يجزم بأن الاعجاب متبادل، فقد التقت عيناها بخاصتيه وتبسمت باتساع، لقد طار عقله وقتها حتى كاد ان يتخلى عن رزانته، ويصعد اليها بشقة شقيقه الراحل، ولكن منعه الحرج من بهجة واشقائها، فقد انقطعت الصلة بينهم منذ وقت طويل، بعد مشاكل الميراث، من أين يجد الحجة اذن ليفعل؟
ليتعلق قلبه بالأمل في عودتها، لربما وجد الفرصة وقتها في لقاءها وحدها بعيدا عن الحوش من أبناءه وابناء شقيقه ، والملعونة درية .
– ااااه
تأوه داخله بلوعة، يتمنى ان يبتسم الحظ له ،ويعوض ما فاته بالزواج من امرأة مثلها، تضيء بالظلام، ليست كدرية التي لا يقدر عليها سوى الله.
فهو رجل مقتدر، يملك اموالا لا حصر لها ، جزء في التجارة على العلن، واضعاف في الخفاء، لا يعلم عددها الا هو ، وان كان ينقصه بعض النحافة بذلك البطن الممتد امامه ( كرش) رغم رشاقة معظم الجسد، ثم زرع كمية من الشعر بوسط الرأس التي تلمع من نعومتها بتلك الصلعة الكبيرة بوسطها، اما عن الطول فمنذ متى كان فارقًا له.
لابد من الاهتمام بنفسه، ويدللها بعد الشقاء، فما فائدة ما حصده طوال هذه السنوات ، ان يتركه من خلفه، كي يرثه أبناءه الحمقى وزوجته المتسلطة .
شهقة صدحت بداخله، فور ان تفاجأ بدخول السيارة المذكورة تلج الى المنطقة وكأنها لبت نداء قلبه الضعيف،
ابنة شقيقه الراحل، جالسة في الخلف، بجوار تلك الحورية، ما أجملها من امرأة.
– اااه.
خرجت هذه المرة بتنهيدة مسهدة، لتتحرك قدميه ويتبعهم ، حتى اذا توقفت السيارة امام البناية خاصتهم، اقترب يستقبلهما:
– يا أهلا بالضيوف اللي معاكي يا بنت اخويا
قطبت الاخيرة بدهشة وهي تترجل من السيارة، وتسحب خلفها نجوان التي توقفت هي الأخرى بإجفال، تطالع الرجل المتوسط الطول، بجسده الصغير، ذلك الذي يميزه البطن الكبير، عكس باقي أعضاء الجسد، وكأنه ياكل ويخزن داخل احشاءه فقط ، ثم هذه الابتسامة المتوسعة، والشارب الرفيع بشدة ، يحدق بها بصورة فجة جعلتها تعود برأسها للخلف بجزع منه، لتتصدر بهجة امامها، قائلة:
– نعم يا عمي في حاجة؟
صار يشب برأسه موجها الحديث نحو الأخرى:
– حاجة ايه بس يا بنتي؟ انا بتكلم على ضيوفك، الناس الالافرنكة دي، مش واجب برضو نتعرف بيهم وياخدو الواجب، انا عمها يا هانم.
في الاخيرة امتدت كفه نحوها يريد المصافحة، ليزداد رعب الأخرى، بظن منها انه سوف يؤذيها، لتهب بهجة بنجدتها ، بأن ابتعدت بها عنه قائلة:
– معلش يا عمي، بس الهانم مبتقبلش تسلم ولا حتى تتعرف بحد غريب، عن اذنك.
قالتها وتحركت بها سريعًا تتخطاه، ليقف هو متطلعًا باثرهما، وبكفه التي مازالت ممتدة ليعلق بصدمة:
– الله، طب وهو السلام في ايه يعني؟ هو انا جربة مثلا؟
❈-❈-❈
كان منغمسًا بشروده ، يهزهز بمقعده للخلف كالأرجوحة، معطيا ظهره بعكس الجلسة خلف مكتبه.
حتى لم ينتبه على دخول رئيسه اليه، ولا حينما توقف خلفه، ليجفله فجأة بالصوت المزعج للملفات التي القى بها على سطح المكتب دفعة واحدة:
– ايه يا غالي، قاعد سرحان وسايب شغلك متكوم فوق بعضه، ما تعمل بقى بلقمتك في الكام الساعة دي، قبل ما تاخد الاجازة وتغرق في العسل .
ابتسامة ضعيفة صدرت منه كاستجابة لمزحته، ليرد بمرح مصطنع:
– معلش بقى لازم تعذرني، اي حد في مكاني هيبقى مش بعقله.
انتبه امين على تغيره ، وهذه النبرة لم تريحه، ليميل نحوه قاطبًا بقلق:
– ايه مالك يا عصام؟ انت في حاجة مضايقاك؟
زاد بتصنع الابتسام وادعاء عدم الفهم:
– بتقول كدة ليه بس يا باشا، هو انا حد قدي النهاردة مثلا عشان اضايق.
زم شفتيه الاخر، مضيقًا عينيه بريبة يعقب:
– مش عارف، حاسس حاجة فيك متغيرة، مش مطمني شكلك كدة، اصل انت بالذات مفضوح قدامي، وانا عارف كنت هتموت ع الجواز ازاي والفرح.
– طب وايه اللي حصل يعني؟ ما انا لسة برضو هموت ع الجواز والفرح.
يرافق كلماته الاخيرة ضحكة مكشوفة اكدت لأمين صدق ظنه، ليخاطبه بنصح:
– ماشي يا عصام انا مش هضيق عليك، بس عايزك تعرف كويس اوي، ان انا تحت امرك في اي وقت، سواء في الفرح او في الشدة ، انت اخويا الصغير ياض، وفرحتي بيك ولا فرحتي بابني اللي لسة مشوفتوش.
جذبه في الاَخيرة اليه ، ليعانقه عناقًا رجولي، يربت بكفيه على ظهره، متمتمًا بالتهنئة:
– ربنا يتمم فرحتك على خير يا حبيبي.
تقبل عناقه بامتنان حقيقي معبرا عنه:
– والله وانت كمان يا امين باشا، ربنا العالم باللي شايله في قلبي ناحيتك، انت اخويا الكبير فعلا حتى لو مش بالدم .
عاد يربت على ظهره، ثم بدأ يمازحه بجرأة كعادته وهو يحاول ان يجاريه، حتى اذا تركه وخرج.
سقط بثقله على كرسيه بإرهاق، عائدًا لجموده، وهذه الكلمات التي تدوي برأسه من وقت لقاءه بهذا الفاسد ابراهيم.
في وقت سابق،
وبعد أن استجاب لمطلبه، ليدخل به احدى غرف الامن ، وينفرد باللقاء معه:
(( – اتفضل يا زفت، قول عايزني في ايه؟ خلصني.
تمتم بكلماته ليجلس واضغًا قدما فوق الاخرى، بصورة ازعجت ابراهيم الواقف امامه، والاصفاد بيده، ليزيد الحقد بقلبه، على من لفظته كخرقة بالية، والاَن تكافأ بهذا المتعجرف، الذي يبدو امامه كالوضيع :
لتبزغ ابتسامة قميئة على محياه قائلًا:
– وليه العصبية دي بس يا باشا؟ دا احنا حتى في صفة مشتركة بتربط ما بينا…… امنية.
انتفض عصام بجلسته بعد سماع اسمها ليعتدل هادرًا به:
– احترم نفسك يا زفت انت، واياك تنطق اسمها تاني على لسانك، واوعى تفتكر ان اللي عملته برا هعديهولك ، انا بس مسكت نفسي عشان اجيب اخرك، اخلص قول انت عايز ايه؟
ردد بفحيح الافاعي وابتسامة الحرباء :
– خلاص يا باشا، بلاش اقول اسمها…….. بس اشيل الذكريات الحلوة بقى من دماغي ازاي بقى؟ طعم الشفايف اللي تعبت من كتر ااا…….
توقف ينتشي برد فعل الاخر، والذي فاجأته الصدمة لتبرق عينيه بذهول فتابع يضع كفه على موضع القلب يردف بوقاحة ودناءة:
– ولا الشامة اللي هنا في الحتة دي، اكيد انت عرفتها ولا يمكن لسة موصلتلهاش، دي حتى جامدة اوي، ساعة ما تمسك فيها ، تبقى ولا العيل الصغير بتشبط ومش عايز تسيبها……..
قطع في الاخيرة، وقد انقض عليه كالأسد الجريح يكيل له بالضربات في كل ما تقع عليه يده:
– يا حيوان يا سافل يا منحط، انا هخلص عليك النهاردة.
ورغم قوة الضربات لم يكتفي ابراهيم، فظل يواصل رغم الالم المبرح:
– يا باشا بقولك ذكريات، انت زعلان ليه بس؟ اه ..
…… بكرة تعرف كلامي من نفسك….. ولا اقولك اسألها وهي تجاوبك عن مغامرات المخزن…. بس بصراحة….. اااه،….. كنا بنعمل كل حاجة الا الاخيرة اللي انت عارفها دي….. عشان البقف اللي هيشيل بعدي…..
ختم بضحكاته الماجنة ترافق صرخاته التي دوت بقوة للخارج، حتى ارغمت رجال الامن لاقتحام الغرفة عليهم، ثم سحبه من بين يديه، مستندا على الاكتاف لا يستطيع الوفوف على قدميه، بعدما ابعدوه عنه بصعوبة وقد كان على وشك قتله،
يلهث كدب مفترس، بعد ان قيده الرجال بصعوبة، للخروج بالاخر، يتجاهل الرد على التساؤلات والتفسيرات التي توجه له منهم ، عيناه لا تفارق هذا الفاسق، والذي لم يكف عن الابتسام له، بوجهه الذي اصبح خريطة تزينها البقع الزرقاء والحمراء والتورمات المنتشرة بها.
يصارع بكل قوته للإفلات منهم والفتك به، والرجال لا يكفون:
– بس لو تفهمنا يا باشا الواد ده عمل ايه واحنا نأدبهولك. ))
عاد من شروده بعروق منتفضة، وقبضة ابيضت مفاصلها، تناديه للعودة للاكتفاء بقتله، ولكن ان نفذ وفعل، اين موضعها هي من الاعراب،
هي من سلمت وتساهلت معه، هي من جعلت وضيع كهذا يحتفظ في سجل رأسه بذكريات سافرة عنها وعن جسدها…
كز على اسنانه يخرج زفيرا كغليل الحمم، يعدد الفرق الشاسع بخطبتها به، حتى وبرغم عقد القران، ابدا لم يحاول ان يفعل مثل باقي الرجال وينال منها ولو قبلة صغيرة، كل ملامساته لم تتعدى مسك الايدي، وبعض الكلام الجريء في الاونة الاخيرة انما بحرص، وذلك لتهيء نفسها للقادم في عالمهم الجديد الذي يجمعهما.
لماذا يحدث هكذا معه؟ وهو الملتزم دوما، والذي لم يفعل ابدا مثل باقي الشباب الذين يتلاعبون بعقول الفتيات؟
دوي صوت الهاتف من جواره على سطح المكتب ، يتطلع لهذا اللقب الجديد الذي سجل به رقمها (( زوجتي ❤))
ليزفر انفاسًا مهتاجة، متجاهلا الرد عليها، ليعود لأفكاره القاتمة. يدمي شفته السفلى بالعض عليها من الغيظ.
❈-❈-❈
كانت مضجعة على اريكتها ، تتابع الحديث الشيق بين شقيقتها ونجوان التي كانت تضحك بملء فمها، على اقل مزحة تردف بها الصغيرة والتي لا تكف عن سرد ما يحدث معها في المدرسة ومغامراتها في صد الفتيات طويلات اللسان معها ، وكيف تفحمهم بردودها الحادة، لتفرض شخصيتها القوية عليهم .
– سبحان من بيجمع القلوب صحيح.
عقبت بها بهجة ، يسعدها هذا الاندماج بين الغريبتين، وقد توافقت شخصياتهم رغم كل الفروق الشاسعة بينهم .
ليصدح هاتفها بنمرته، فردت برسميه كعادتها معه
– الوو….. افندم يا رياض باشا .
وصلها الرد بنبرته الرخيمة الهادئة:
– الوو يا بهجة عاملة ايه؟
ابتلعت ريقها ترد بكلمات منتقاة؛
– الحمد لله كويسة حضرتك، لو بتتصل عشان الست الوالدة، فهي مبسوطة دلوقتي مع عائشة شوية كدة و…
قاطعها بقوله:
– انا مطمن عليها وهي معاكي يا بهجة.
صمتت لا تجد من الكلمات بما يسعفها بالرد عليه، ليردف هو :
– اتا كنت بسأل على صحتك، لسة برضو حاسة بالضعف ولا دايخة ؟
اومأت بارتباك تهز رأسها وكأنه واقف امامها، لتجيبه برقة لم تتصنعها:
– ما انا قولتلك كويسة يا فندم ، انا احسن بكتير دلوقتي، دا غير ان اختي جنات قايمة بالواجب من ساعة ما رجعت من الكلية وعرفت، عصاير بقى واكل بتعمله بنفسها.
– كويس اوي يا بهجة… خلي بالك من نفسك.
كانت تلك كلماته الاخيرة قبل ان ينهي معها المكالمة يتركها بحالة من التشتت والارتباك تلفها، وتفسيرات تدحضها بعقلها برفض تام لها.
حتى شعرت بالدوار بالفعل، لتتمتم بحديث نفسها:
– انا مالي دوخت بجد ليه بقى؟ ما كنت قايلاله اني خفيت من شوية!
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية حان الوصال)