روايات

رواية جعفر البلطجي الجزء الثالث الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم بيسو وليد

موقع كتابك في سطور

رواية جعفر البلطجي الجزء الثالث الفصل الثامن والثلاثون 38 بقلم بيسو وليد

رواية جعفر البلطجي الجزء الثالث الجزء الثامن والثلاثون

رواية جعفر البلطجي الجزء الثالث البارت الثامن والثلاثون

جعفر البلطجي الجزء الثالث
جعفر البلطجي الجزء الثالث

رواية جعفر البلطجي الجزء الثالث الحلقة الثامنة والثلاثون

“الفصل الثامن والثلاثون”
_الحا’كمة الصغيرة_
___________________
ياربّ عُدت إلى رحابكَ تائباً
مُستسلماً مُستمسكاً بــِعُراكَ
أدعوكَ ياربّي لتَغفرَ ذلّتي
وتُعينَني وتُمدّني بهُداكَ
فاقبل دعائي واستجب لرجاوَتي
ما خابَ يوماً من دَعا ورجاكَ.
_نصر الدين طوبار.
_______________________
في بعض الأحيان تر’فض الحياة إعطاءنا ما نوَّد..
وما بين الحين والآخر يشعر المرء حينها أنه فاشـ ـلٌ لا يستطيع تحـ ـقيق أي شيءٍ وإن كان تحـ ـقيقه بالخـ ـطأ، قيو’دٌ تُفرَ’ض على المرء وسيطـ ـرة المـ ـتكبر على مَن حوله ليست بالشيء المعقول، يسعد المرء دومًا حينما يتحـ ـكم بمَن حوله ويرى الجميع يُطـ ـيعه وينسىٰ ما كان عليه قبل أن يُصبح اليوم متحـ ـكمًا بخلق الله..
وما بين هذا وذاك والصر’اع القا’ئم بين الجميع يكون هُناكَ شخصٌ واحدٌ ير’فض هذه السخا’فات وينفر’د بنفسه على الصدارة، هذا الذي لا يقبل أية تحكما’ت أو فر’ض أراء عليه، يُحب أن يكون دومًا عزيز النفـ ـس يتحـ ـكم بقـ ـراراته كيفما يشاء هو ليأتي الصرا’ع ما بين الإثنين، فواحدٍ يريد حُـ ـكم الجميع وإنسا’ب لقب الحا’كم إليهِ وهو في الأ’صل غير مرغوبٍ بهِ، وآ’خرًا يُريد أن يكون حُـ ـر نفسه لا أحد يفر’ض حـ ـكمه عليه حتى وإن كان أقرب الأقربين إليه لتُصبح الحـ ـربُ المشتعـ ـلة قائمةٌ بين الطر’فين في أنتظار الفائز في نها’ية تلك المعر’كة، فإما عزيز النفـ ـس … أو المتـ ـكبر عد’يم الفائدة.
<“خيلٌ حُر يرفض القيود، وتجبر الخيَّال على خيله.”>
إن كُنْت خيَّا’لًا ماهرًا وتعلم خيلك الحُـ ـر فستعلم كيف تتعامل معهُ في أشـ ـد لحظاته جـ ـنونًا وتعلم كيف تقوم بترويضه وفر’ض حصا’رك عليه، أما عن هذه اللحظة التي تنـ ـفلت الأمور مِن بين أيدينا فعليكَ أن تُحاول أن تلُـ ـذ ها’ربًا فإن وصل إليك فلَن ينفـ ـعكَ شيئًا سوى البكاء على اللبن المسكو’ب والتحصـ ـر على ما أوصلت نفسك إليه، وهذا الخيل الحُـ ـر يقف أمام خيَّا’له الآن ير’فض الخضو’ع إليه والأستسلا’م فإما الوصول إلى غا’يتهِ والعيش حُـ ـرًا أو المو’ت حـ ـيًا وفي الحالتين ستكون الضـ ـحية هذا الخيَّا’ل العنيـ ـد.
ألتفت مجددًا يُعطيها ظهره مُربعًا ذراعيه أمام صد’ره قائلًا بنبرةٍ با’ردة:
_متفتكريش إنك كدا بتلو’ي دراعي، ومتفتكريش إنك بالكلمتين دول هتخليني أخا’ف وأنفـ ـذ كلامك، أنا مش هبقى زي “محمود” مهما حصل ومش هقبل إني أسيبـ ـه بالمنظر المؤ’لم دا كتير أنتِ لحد دلوقتي سـ ـبب المصا’يب اللي بتحصل فالبيت دا أولهم جواز أخويا مِن البـ ـت الجبـ ـروت دي وبعديها تعا’سة أبويا واللمعة اللي أتطـ ـفت فعنيه بسـ ـببك وبعدين مشا’كلك مع مرات عمي “راضـي” وخنا’قك مع مرات عمي التانية طنط “شـاهي” ومر’ازيتك فيها وغيـ ـظك ليها طول السنين اللي فا’تت دي عشان عيالها مكانوش معاها وجوزها ما’ت ودلوقتي “يـوسف” وتو’اقحك معاه وجر’حك لِيه ولمشاعره وأخرتها إيه بتخـ ـتميها بيا وعايزة تجوزيني اللي على مزاجك صح؟ بس لا لو على جثـ ـتي يحصل أنا بحب “أمل” ومش هسيبها ولا هفر’ط فيها حتى لو كلكم أجتمعتوا على تفر’قتنا.
نظرت إليه “زيـنات” مذ’هولة لا تصدق ما تسمعه ويقوله و’لدها البكـ ـري الذي يقف الآن أمامها مُعا’ندًا إياها النـ ـد بالنـ ـد ير’فض الر’ضوخ إليها مهما حد’ث وهي ما عليها سوى المعا’ندة والوقوف في وجهه صا’رخةً بهِ حتى يعود إلى سيطـ ـرتها مِن جديد قائلة بعنا’دٍ وغضـ ـبٍ أشـ ـد:
_لا واللهِ؟ أنا دلوقتي اللي بقيت شيـ ـطانة وكلكم ملا’ك بر’يء مبتغـ ـلطوش؟ ومعاملتك لـ “يـوسف” اللي حضرتك بتد’افع عنه أوي بحُر’قة دي إيه، تجنبك لِيه دا إيه يا حبيبي ولا فا’لح بس تقطـ ـم فيا، وبعدين أنا بر’دّلها اللي عملته فيا زمان أيام ما أبوك أتجوزني الأول وقعدت سنتين مبخلفش جَت هي دخلت بعدي بسنة وفظرف ٣ شهور كانت حا’مل فشهرين، ولمَ خلفت مكانتش بترضى تخليني أشيـ ـل الو’اد ولا حتى ألاعبه وكأنها بتعا’يرني باللي مش عندي عشان كدا الأيام دارت ودوقتها مِن نفس الكاس اللي دوقتني مِنُه.
قا’طعها صوت “عـماد” القو’ي الذي وقف أمامها النـ ـد بالنـ ـد ينظر إليها محـ ـتقرًا إياها والنفو’ر باديًا على تقا’سيم وجهه إليها فيما كانت هي تنظر إليه منتظرةً ما سيقوله بعدما أر’دع قولها لتُصبح المواجهة مشـ ـتعلة ومُلتهـ ـبة بينهما و “عامر” هو حلقة الو’صل بينهما في هذه اللحظات، تحدث موضحًا الأمر بصورتهِ الصحيحة بعدما قامت هي بتز’ييف الأمر وإخفا’ء الحـ ـقيقة عن ولدها قائلًا:
_حتى كلامك كله كذ’ب وتقـ ـليل مِن السـ ـت اللي عُمرها ما عاملتك بطريقة و’حشة ولا قدرت تأ’ذي مشاعرك بالعكس أنتِ اللي مر’يضة يا “زيـنات” بتحبي الحاجة تكون ليكِ لوحدك وبس وبتحبي نفسك وبس وبتهتمي بنفسك وبس وبتراعي مشاعرك أنتِ وبس أما إحنا فنو’لع بجا’ز عادي إحنا شوية بني أدمين أنتِ بس متجوزاني عشان فلوسي صح؟ طمعا’نة فاللي معايا عشان كدا مستحمـ ـلة بس لا أزاي، طب أحب أقولك إنك مش هتطو’لي ولا قر’ش مِن حاجتي حتى لو كان رُبع جنيه، كل اللي ليا هيروح لو’لادي “عامر” و “محمود” الأتنين بالنص دا مبدئيًا ومش عايز مقا’طعة وأنا بتكلم.
رد’ع فعلها حينما رآها ستتحدث وتُعا’رضه وتصر’خ بهِ لير’مقها نظراتٍ حا’دة ويبدو أنه لن يصمـ ـت إليها بعد الآن خصيصًا حينما رأى حالة و’لده الأصغر تسو’ء يومًا بعد يوم وهي لا تُبالي بذلك، أكمل حديثه قائلًا:
_نيجي لـ “شـاهي” بقى اللي ولا كأنها ضُـ ـرتك، السـ ـت اللي بتعمليلها مشا’كل وهي فحالها دي تبقى مرات أخويا الله يرحمه وموصيني عليها وأنا ميخلـ ـصنيش أخـ ـلف بوصية أخويا لمراته وعياله عشان خاطر واحدة مر’يضة زيك بتحاول تأذ’يها وتخر’جها بره البيت، هما ليهم نصـ ـيب فالبيت دا زي ما أنا و “راضى” و “جابر” لينا فيه يعني أملا’ك “عدنان” رايحة لعياله الأتنين والوصية اللي بتحا’ربي عشان توصليلها فصدقيني مش هتعرفي مكانها لو بتمو’تي قدامي، طبعًا الكل عارف تر’كة “عدنان” الله يرحمه وعشان كدا هيروحوا لـ “يـوسف” و “مـها” دي فلوس عيال أيتا’م متخصنيش وربنا سبحانه وتعالى قال وأما اليتيم فلا تقهـ.ـر … يا متعلمة يا خريجة يا مثقفة يا اللي دارسة وفاهمة، عايزاني أكل حـ ـق أخويا اللي سايبه لو’لاده؟ أنتِ جـ ـنس مِلـ ـتك إيه يا شيخة!.
أنهـ ـى حديثه صا’رخًا بها بعدما أخر’ج ما يكمُن بداخلهِ إليها في لحظةٍ يمتاز الشيـ ـطان باللعب في المرء وتحريكه ليترك هو نفسه جاعلًا الأمو’اج تعـ ـصف بهِ كيفما تشاء فهي مَن أغضـ ـبته وهو تحـ ـمل كثيرًا والآن حان وقت إظهار الحقا’ئق ووضع النقاط على الأحرف حتى يعلم كل واحدٍ مِنهم حد’وده في هذا البيت العتيق، أما عنها فكانت مصد’ومة وبشـ ـدة مِن حديثه وهجو’مه عليها بهذا الشكل ولأول مرة لتفقد هي النطق في هذه اللحظة أسفل نظرات “عامر” الذي كان يتابع الأمر متشـ ـفيًا في والدته التي باتت تبـ ـخ سـ ـمومها تجاه ابن عمه الذي حاول معهُ في هـ ـد’م العا’زل بينهما وهو حينها ر’فض ذالك وأخـ ـجله أمام الجميع.
قا’طع “عامر” هذه الأجواء المشحو’نة بين والديه وهو يقف بجوار أبيه يضع كفه أ’على كتفه قائلًا بنبرةٍ هادئة:
_أهـ ـدى يا بابا عشان متتعبـ ـش يا حبيبي، تعالى معايا محتاج نتكلم سوى سيبها يلا وأتحرك معايا.
خضـ ـع إليه “عـماد” وهو ير’مق الآخرى نظرةٍ نا’قمة وتحرك مع و’لده البكـ ـري مبتعـ ـدًا عنها تاركًا إياها في صد’متها فقد خرج ولدها عن طوعيتها والآن يقـ ـف زوجها بوجهها النـ ـد بالنـ ـد معا’ندًا إياها لتشعر وكأن العالم أجمع أتحـ ـد ضـ ـدها، تها’وى جسـ ـدها على المقعد الخـ ـشبي وهي تشعر أن أنفا’سها تنسـ ـلب مِنها وقد ز’اغ بصرها محاولةً تما’لُك نفسها قدر المستطاع حتى تستطيع أن تُفكر ماذا ستفعل معهما وفر’ض سطـ ـوتها مِن جديد عليهما.
________________________
<“عد’م الردّ ليس عد’م إحترامٌ مِنا قدر ما هو تقـ ـليلًا مِنكم.”>
كان يجلس في غرفتهِ يرتدي حذاءه ليسمع صوت هاتفه يعلـ ـو بجواره يعلنه عن أتصالٍ هاتفي، نقل بصره إليه ليرى أخيه الصغير يُهاتفه ليتجا’هله مكملًا ما يفعله ليستيقم في وقفتهِ يُتمم على مظهرهِ الأخير قبل أن يتحرك مِن موقعهِ، عاود رنين هاتفه يعلـ ـو مِن جديد ليزفـ ـر بحـ ـنقٍ ثم يتجا’هله مرةٍ أخرى، أخذه وأخذ مفتاح سيارته وأغراضه وخرج مِن غرفتهِ متجهًا إلى الخارج، ولَكِنّ أوقفهُ صوت والدته “فاتن” التي كانت تجلس على الأريكة تنظر إليه..
زفـ ـر مِن جديد وهو يُتمتم بعِدة عباراتٍ غير مفهومة ليلتفت إليها ينظر لها ليسمعها تقول بنبرةٍ با’ردة:
_هو مش أخوك عمال يتصل بيك؟ مبتردّش عليه ليه؟.
_كيفي مردّش عليه، بعد اللي عمله معايا آخر مرة وأنا حالف ما أردّ عليه ولا أكلمه، دا مش عد’م إحترام مِني بالعكس … دا تقـ ـليل مِنُه بطريقة غير مباشرة عشان يعرف يتكلم معايا حلو بعد كدا ويحترم إني أخوه الكبير مش عيل صغير معاه وبعد إذنك متد’خليش بيني وبينه، ولو حضرتك فشـ ـلتي فتربيته فهعـ ـيد أنا تربيته مِن جديد عشان الوضع دا مش عاجبني.
ردّ عليها بنبرةٍ صا’رمة ير’دع أفكارها وما تريد كذلك أن تفعله، يكفي ما رآه مِنهُ ويكفي تو’اقحهِ مع إخوته حينما رآهم أول مرة فإن إستطاع حينها ضر’به لكان فعلها في الحال ولَكِنّ ما كان يمنـ ـعه هو أبيه، ر’حل الأمس وترك نسختهِ المصغرة تعيـ ـش بينهم وكأنه لَم ير’حل بعد، كبر’ياءه وأسلوب تفكيره وحُبّه للنسا’ء والعيش حُـ ـرًا دون قيو’دٍ وجـ ـشعهِ، ور’ث مِنهُ كل شيءٍ ولَم يترك شيئًا متعهـ ـدًا إكمال درب أبيه..
نهضت “فاتن” مِن جلستها وأقتربت مِنهُ بخطى هادئة دون أن تتحدث تنظر في عينيه والجمو’د يُغـ ـلفها لتقف قبالتهِ تواجهه، أما عنهُ فقد ألتز’م الصمت كذلك متعهـ ـدًا على فعل ما يريد رغم أنـ ـف الجميع، كـ ـسرت هذا الصمت بينهما حينما قالت بنبرةٍ جا’مدة:
_أنتَ سامع نفسك بتقول إيه ولمين؟ وا’عي ولا شا’رب حاجة عشان تقف فو’شي وتقولي أنا الكلام دا، إيه كأني نسيت أر’بيك مثلًا ولا عشان خلاص كبرت وبقيت را’جل هتكبـ ـر عليا لا لو دا تفكيرك فتحتفظ بيه لنفسك وكلمتي أنا اللي هتمشـ ـي وغصـ ـب عنك، وبخصوص التربية فأنا مربياكم أحسن تربية بس الظاهر مِن بعد مو’ت أبوكم خلاص فلـ ـتم وهتشوفوا نفسكم بس لا أنا لسه عا’يشة ممو’تش يعني تبقى زي الألف … صـ ـنم تنفـ ـذ اللي أقول عليه أنا وبس وإياك يا “نادر” أسمعك بتقـ ـل مِن تربيتي ولا مِن أخوك وتتصل بيه تكلمه تشوفه محتاج إيه … يا كبير.
أنهـ ـت حديثها وهي تضـ ـغط على أحرف كلمتها الأخيرة وهي تنظر إليه ليرى قسو’ة أبيه في عينيها نعم إنهُ ر’حل ولَكِنّ أ’ثره مازال عا’لقًا بينهم لَم ير’حل، مازال يرى الظُـ ـلمُ والجمو’د في أعينهم لَم يتحسن شيئًا حتى هذا اليوم، أبتـ ـلع غصتهِ وألتز’م بثبا’ته وقال بنبرةٍ با’ردة:
_أنتِ أُمي على عـ ـيني وعلى راسي وكل حاجة بس دي حياتي أنا وأنا حُـ ـر فيها أعمل اللي أنا عايزُه مش اللي أنتِ عايزاه دا كدا تحـ ـكم عايزة تحسي إنك مسيـ ـطرة على اللي حواليكِ وتسمعي مِنهم الطا’عة وبس إنما مشاعرنا متهمكيش، عمومًا أنتِ قولتيها بعضـ ـمة لسا’نك أنا را’جل يعني مش عيل صغير هتقوليله أعمل دا ودا لا أنا أولى بمصلحـ ـتي وعارف أنا عايز إيه كويس الدور والباقي تتحكـ ـمي فالبيه التاني اللي فا’ضحني فكل مكان بقـ ـلة أد’به وبجا’حته دي، اللي عايز تر’بية هو مش أنا واللي أنا بعمله دا هو الصح ومش ند’مان بالعكس أنا بحاول أعمل اللي أنتِ مش عارفة تعمليه لحد دلوقتي…
_”نـادر!”.
_لا متز’عقليش … أنا مبقتش العيل الصغير اللي تشخـ ـطي فيه وتبر’قيله هيسكوت خلاص دا كان زمان وجَبَـ ـر أنا بقيت كبير وعارف كويس إيه اللي المفروض يتعمل وإيه لا، كفاية إنه خد طبا’ع أبويا المـ ـنيلة وكل شوية سهر هنا وهنا وخروجات بالكو’م وسفريات وبنا’ت ودراسته ومستقبله مأ’هملهم، حبـ ـستي لِيه دي تعيد تر’بيته مِن أول وجديد، تعلمه الر’جولة مش شغل العيال اللي هو فيه دا وعلى فكرة بقى سـ ـبب اللي هو فيه دا أنتِ د’لعك فيه ليل ونهار وقبولك لكل حاجة بيعملها مش كويسة يعني لو عمل مـ ـصيبة هتكوني أنتِ المسؤولة قدامي.
ها’جمها في الحديث وألـ ـقى اللو’م عليها وحـ ـملها المسؤولية كاملة وأ’خلى يديه مِمَّ هو مُقبلٌ عليهم، أما عنها فكانت مصد’ومة مِن ما تراه وتسمعه فلا تصدق أن هذا هو و’لدها البكـ ـري الذي كان أسفـ ـل طو’عيتها وجنا’حها، اليوم خرج الطير مِن فـ ـرد الحصا’ر ذاكَ الذي دام سنواتٍ عِدة ينعم بالحُر’ية والعيش حُـ ـرًا دون أية قيو’دٍ تُحـ ـكم أجنـ ـحتهُ مِن الطير والتحـ ـليق بعـ ـيدًا، شعرت بالجـ ـنون وعن الكو’ارث التي ستحدث إليهم لتقوم بر’فع كفها عا’ليًا إستعدادًا للسقو’ط على وجهه لير’دع فعلها ذاك سريعًا حينما قبـ ـض بكفه على رسغها وهو ير’شقها بنظراته الحا’دة كحِد’ة السـ ـيف اللا’مع في أول ظهوره على سا’حة المعر’كة.
هذه المرة كان مصد’ومًا مِنها لا يُصدق ما كانت تنتوي عليه فعله، كان ينظر إليها مجحـ ـظ العينين لا يستوعب ما كان سيحدث ليرى الحـ ـقد والقسو’ة يزداد تو’هجهما داخل عينيها بو’ميضٍ لا’مع، أبعـ ـد كفها بعـ ـيدًا عنهُ بعنـ ـفٍ وهو ينظر لها ليبتعـ ـد عنها بخطى هادئة إلى الخـ ـلف وهو مازال ينظر إليها ليوليها ظهره مبتعـ ـدًا عنها متوجهًا إلى غرفتهِ مِن جديد عا’زمًا على فعل ما جال في خاطرهِ.
أخر’ج حقيبة ملابسه الكبيرة ووضعها على الفراش ثم توجه إلى الخزانة يُخرج ملابسه يضعها بداخلها وقد تعا’لت وتيرة أنفا’سه بشكلٍ ملحوظ متعـ ـهدًا على فعل ما يُريد، أخذ هاتفه وأغـ ـلقه تمامًا وأكمل ما يفعله حتى أنهـ ـى مغـ ـلقًا الحقيبة ثم وضعها على الأرض وسـ ـحبها خـ ـلفه تاركًا غرفتهِ، توَّجه إلى باب الشقة وقبل أن يخطو خطوة واحدة إلى الخارج أوقفه صوت والدته التي قالت بنبرةٍ جا’دة:
_إيه الشنطة دي؟ ورايح على فين مِن غير ما تقولي؟.
ألتفت إليها بر’أسه ينظر لها نظرةٍ خا’ليةٍ مِن المشاعر والحُبّ إليها قائلًا بنبرةٍ آ’لية وكأن عقـ ـله قد تم برمجته مؤخرًا:
_رايح فستـ ـين دا’هية تاخدني ياكش متلا’قونيش خالص عشان ترتاحوا وتعملوا اللي ير’يحكم، عندك أبـ ـنك الدلوع أشبـ ـعي بيه بس متجيش بعد كده تعيطي وتعُـ ـضي صوابعك مِن الند’م وتستنـ ـجدي بيا … دا لو عرفتي توصليلي أصلًا.
أنهـ ـى حديثه ثم تركها وخر’ج مسر’عًا وكأنه يُسابق الر’ياح أو ثمة و’حشٌ كبيرٌ يقوم بمطا’ردته، أما عنها فقد كانت مصد’ومة وبشـ ـدة لا تُصدق ما سمعته ورأته، خرجت خلـ ـفه تُحاول إيقافه ورد’ع فعله ذاك بشتى الطرق الممكنة لترى الجمو’د عنوانه واللامبالاة منهجًا في حياته، أبعـ ـد يدها بعيـ ـدًا عنها وقال بنبرةٍ حا’دة:
_مش هرجع خلصت خلاص، شوفوا حياتكم بعـ ـيد عنّي طالما نظامي المنظم مش عاجبكم ولا جاي على هو’اكم، وأنا ربنا يتو’لاني بقى.
أنهـ ـى حديثه وأستلق سيارته أسـ ـفل أنظارها المصد’ومة والغير مصد’قة لِمَ رأته منذ قليلٍ، فيما تحرك هو مسر’عًا بسيارته والضيـ ـق هو عنوانه، شعر وكأن هُناك شيءٍ يقوم بتقـ ـييده يمـ ـنع عنه الحراك بحـ ـرية كيفما يشاء وحينما أبتعـ ـد عن محـ ـيط المكان بأكمله وأصبح على الدرب شعر بالحُـ ـرية عادت إليه وكأنه أصبح طيرٍ حُـ ـر الآن قد عـ ـفى عنهُ صاحبهِ أخيرًا وتركه ينال ما يُريد.
كان صد’ره يعلـ ـو ويهـ ـبط بعنـ ـفٍ ونظره مثـ ـبتًا على الدرب أمامه يشعر بالحز’ن الشـ ـديد يحو’م حوله يفر’ض عليه حصا’ره المز’عوم وكأنه رفيقًا إليه يأبى لعد’م تركه وحـ ـيدًا، أغـ ـلق جفنيه بقو’ةٍ محاولًا تما’لُك نفسه والسيـ ـطرة على وتيرة أنفا’سه العنيـ ـفة تلك، ولَكِنّ كانت محاولته تفشـ ـل لأول مرة فهذه المرة لَم يستطع التحمُـ ـل فقد تحـ ـمل بما فيه الكفاية لا يستطيع إكمال الدرب وحده بهذا النهـ ـج الذي يؤدي بهِ إلى منحد’ر الهلا’ك.
يُفكر أين سيذهب الآن؟ لا يمـ ـلُك مكانًا يذهب إليه الآن فلَم يترك والده أية شيءٍ إليه فبعد أن تو’فى توَّ’لت والدته كل شيء وأصبحت أملا’كه أسفـ ـل يديها وحينما تذكر ذلك شعر بالضـ ـيق أكثر، ظل يسير ويسير لوقتٍ طو’يل حتى رأى مكينة بنكية بالقربِ مِنهُ ولذلك صف سيارته على إحدى الأر’صف وترجل مِنها بهدوءٍ متجهًا إليها.
وضع الكارت الخاص التابع لذاك البنك بمكانه وطلب بسحـ ـب مبلغًا نقديًا ليرى المكينة تر’فض إخر’اج النقود، عقد ما بين حاجبيه وأعاد المحاولة مرةٍ أخرى لتكون النتيجة كسابقتها ولذلك زفـ ـر بقو’ةٍ بعدما عَلِمَ أنها قامت بإيقا’فها حتى تجعله يشعر بالعجـ ـز ويعود إليها ناد’مًا وتعود هي لفر’ض سطـ ـوتها عليهِ، ولَكِنّ في أحلامها فلَن يرضـ ـخ إليها مهما كلفه الأمر حتى وإن أضطـ ـر للمبيت في الشوارع.
عاد إلى سيارتهِ مرةٍ أخرى سا’حبًا خلفه أذيا’ل الخـ ـيبةِ والأمل، تحرك مِن جديد وهو يُفكر ماذا عليه أن يفعل فمهما حد’ث لَن ير’ضخ إليها، فكر لعديدٍ وعديدٍ مِن المرات أين سيذهب الآن فهو أصبح في موقفٍ لا يُحـ ـسد عليه ولذلك جال بخا’طرهِ شخصٌ واحدٌ فقط قد يذهب إليه الآن ويدعو بداخله ألا يُخيـ ـب ظنونه بهِ.
__________________________
<“إن لَم نجتمع في الفِكر فالقـ ـلبُ خيرُ د’ليلٍ.”>
كان “يـوسف” جالسًا في الشرفة شارد الذهن يشعر بنسمات الهواء البا’ردة ويرى السماء مُلبدة بالغيو’م تُنذ’ر بتسا’قط الأمطار في أي وقتٍ، ولجت إليه “شـاهي” وهي تقوم بلـ ـف الوشاح الثقيـ ـل حولها تُمسك بكوبين مِن الشاي السا’خن لترافقهُ في مجلسهِ تنظر إليه مبتسمة الوجه، نظر إليها وأبتسم ليأخذ الكوب مِنها ويبتسم لها، نظرت إليه مبتسمة الوجه لتقول:
_إيه اللي واخد بالك أوي كدا؟ سرحان وشكلك محلو أوي تكونش شايفلك شوفة تانية؟.
أنهـ ـت حديثها وهي تر’شقه بنظراتها الخـ ـبيثة ليضحك هو في المقابل وينظر لها مبتسم الوجه ليقول:
_شوفة تانية إيه بس، د’ماغي سرحت لوحدها مصد’ع ومصدقت أقعد شوية مِن غير تفكير ود’وشة كتير، جيتي فوقتك أقعدي معايا شوية.
_أنا جاية أقعد وكمان أتكلم، وكويس إنك رايق عشان محتاجة أتكلم معاك فحاجات كتير أوي محبتش أتكلم فأغـ ـلبها قدام “مـها” عشان متز’علش.
عقد “يـوسف” ما بين حاجبيه وهو ينظر لها متعجبًا ليقول بنبرةٍ هادئة:
_حاجات إيه واشمعنى محبتيش تتكلمي قدام “مـها”؟ هي حاجة تخصها يعني وخو’فتي على مشاعرها؟.
حركت رأسها برفقٍ تؤ’كد على حديثه لتُضيف هي بنبرةٍ هادئة تُكمل حديثه:
_آه، بس بلاش نسبق الأحد’اث وخلينا ناخدها واحدة واحدة ونبدأ بيك الأول، قولي بقى إيه اللي حصل بينك وبين مراتك شـ ـديتوا قصاد بعض ليه هي قالتلك حاجة ز’علتك؟.
أخذ نفـ ـسًا عمـ ـيقًا داخل صد’ره ثم زفـ ـره بهدوءٍ وقد أشا’ح برأسه بعيـ ـدًا عن مرمى والدته وقال بنبرةٍ هادئة تحـ ـمل بعض الضـ ـيق:
_عادي أي أتنين بييجي عليهم وقت ويتنشـ ـنوا مع بعض، مسألة وقت مش أكتر.
_أفهم مِن كدا إنك مش عايز تحكيلي؟ دا أنتوا شوية وكنتوا هتمـ ـسكوا فبعض إيه اللي يوصلكم تشـ ـدوا قصاد بعض وخصوصًا عصبـ ـيتك الشـ ـديد عليها وهجو’مك المفا’جئ دا … قولي متخا’فش أنا أُمك فالنها’ية مش حد غريب هيروح يقول بره.
نظر إليها حينها وقال بنبرةٍ هادئة ير’دع فكرها ذاك:
_الحكاية مش كدا خالص يا أُمي أنتِ فهمتيني غـ ـلط ليه أنا مش خا’يف مِنك بالعكـ ـس … كل ما في الموضوع إن هي جالها فرصة شغل لناس كبار وعرضوا مبلغ و’همي ليها وجَت قالتلي وأنا ر’فضت.
_وتر’فض ليه يا حبيبي مش شغلها وحاجة بتحبها وأهي بتدخلها فلوس إيه اللي يخليك تر’فض بقى؟
زفـ ـر مجددًا بضـ ـيقٍ با’ئنٍ بعدما سَمِعَ ردّ أُمه الذي تو’قعه ليقول مفسرًا سـ ـبب ر’فضهِ الشـ ـديد:
_الموضوع كله إني مش عايزها تروح وتر’فض، أنا مش مرتاح يا أُمي للناس دي وبعدين “بيلا” بتروح لوحدها لستا’ت ما بالك برجا’لة بقى أنا أولًا مش فا’ضي أديكِ شايفة أنا عامل أزاي ثانيًا مضـ ـمنش الشخص دا نيته إيه ودي واحدة لوحدها ثالثًا محدش هيفضالها كل شوية عشان يروح معاها ولو حد هيروح يبقى حد مِن أخواتها الصبيا’ن وبرضوا ليهم حياتهم مش هنحـ ـكم الناس على مزاجنا ودول بالذات أنا مقـ ـلق مِنهم في حاجة مش صح فالموضوع دا أنا مش عارف أشوفها لحد دلوقتي بس دا إحسا’سي … مدتنيش فرصة أشر’ح ولذلك قالتلي إني غير’ان مِنها ودي حاجة جـ ـننتني عليها وخلّتني أشخـ ـط وأز’عق فيها بالمنظر دا عشان أنا مش كدا ولا عُمري كُنْت كدا معاها بالعكس مِن يومها وأنا شايف نفسي فيها اللي أنا معملتهوش فحياتي مهما كان هي عملته وشجعتها وسا’ندتها حتى فأصـ ـعب حالاتي الما’دية اللي كان بييجي عليا لحظة مبيبقاش معايا الجنيه أتحـ ـملت عشانها وأشتغلت مليون شغلانة مع بعض عشان خاطر تكمل تعليمها ومجيش أنا اللي لا روحت ولا جيت أقعدها بعد دا كله وفالأخر دا كان جـ ـزاتي.
دام الصمـ ـت بينهما قليلًا كانت تنظر إليه مشـ ـفقةٌ عليه ولا تعلم ماذا تقول فيما كان هو غا’ضبًا وقد عاد الغضـ ـب يُسـ ـيطر عليه مِن جديد بعد أن حاول تما’لُك نفسه قد’ر المستطا’ع ولَكِنّ ما كان باليد حيـ ـلة، أبتـ ـلعت غصتها بهدوءٍ ثم تحدثت بنبرةٍ هادئة وهي تنظر لهُ قائلة:
_طب أهـ ـدى وصلِّ على النبي كدا ووحد الله فقلبك وأخز’ي الشيـ ـطان، اللي حصل ما بينكم دا كانت ساعة شيـ ـطان وراحت خلاص خلينا فاللي جاي، أنا متفهمة موقفك وشعورك ولذلك أنا هتكلم معاك بالعقـ ـل، مبدئيًا الغـ ـلط مِن الطر’فين وأولهم كان أنتَ لأنكَ لمَ ر’فضت موضحتش على طول السـ ـبب سيبتلها فرصة إن د’ماغها تودي وتجيب وتروح وتيجي وتوصلها للتفكير دا وعشان كدا لمَ لقت الإ’صرار مِنك عانـ ـدت معاك وأنتَ روحت عانـ ـد وشـ ـديتوا قصاد بعض، لازم لمَ تر’فض توضح سببك مع الرفض على طول عشان محدش يفهمك غلط يا حبيبي زي ما حصل ما بينكم كدا، والغـ ـلط برضوا عندها عشان مفكرتش فكلامها بس هقولك ساعة الغضـ ـب بنقول كلام مبنكونش حاسين بيه آه ساعات بيكون مِن القـ ـلب ودي بتكون ليها حالات بس “بيلا” كان أكيد غصـ ـب عنها متقصدش تضا’يقك أو تجر’ح مشاعرك هي بتحبك ومقدرة ظروفك ورغم دا كله ردّ’تلك الجِميل وشا’لتك على راسها طول السنين دي وكانت وفية وعُمرها ما كانت طما’عة ولا عنيها زا’يغة ولا قلـ ـيلة الأ’صل مع جوزها.
_”يـوسف” يا حبيبي أنا مش عايزاكم تشيـ ـلوا مِن بعض أوي كدا ولو على اللي قالتهولك هي مستعدة تعتذ’رلك أنا قعدت معاها وغـ ـلطتها برضوا وهي أعترفت إنها غـ ـلطت وقالت إنها متقصدش تضا’يقك، قالت كلام كتير أوي حلو فحـ ـقك بصراحة وقالتلي أنتَ عملت إيه عشانها وياما وقفت جنبها وحافظت عليها وفد’يت برو’حك عشانها، هي لو و’حشة بجد مكانتش مدحت فيك ولا قالت كل الكلام دا قلبها أبـ ـيض وأنتَ طيب ومش هتفضل شا’يل مِنها كتير أنتوا بتحبوا بعض متخلوش الشيـ ـطان يلعب دوره ما بينكم يا حبيبي الشيـ ـطان شاطر والناس و’حشة ما هتصدق تتكلم، عشان خاطري يا حبيبي أهـ ـدى وأسمع مِنها هي هتطَـ ـيب بخاطرك وتعتذرلك وأنتَ فهمها براحة وهي هتتفهم إن شاء الله وهتسمع الكلام بس بالهدوء والعقـ ـل شوية يا حبيبي وبلاش عصبـ ـية كتير عشان جر’حك ميفـ ـتحش ها مش هـ ـنبه عليك تاني.
أنهـ ـت حديثها الرزين والمتـ ـعقل مـ ـختتمةً إياه بتحذ’يراتها لهُ وهي تنظر إليه نظرةٍ حذ’رة لينظر هو إليها برهةً مِن الوقت ثم أبتسم لها بسمةٌ هادئة وحرك رأسه برفقٍ موافقًا على حديثها بعد أن خضـ ـع لها أخيرًا في نها’ية المطا’ف لتبتسم هي إليهِ ثم مدَّت يدها نحوه وربتت على يدهِ برفقٍ وتركته وولجت إلى الداخل تدعو لهما بالهداية، فيما شرد هو مِن جديد يُفكر في حديثها إليهِ بتعـ ـقلٍ وحكمةٍ.
شاور عـ ـقله فرآه يفـ ـرض سطـ ـوته عليهِ ويُخبرهُ على ما يُريد والقلب يقف أمامه النـ ـد بالنـ ـد ير’فض ذلك مُخبرًا إياه بالسير خلف مشاعره لها وحُبه إليها، رأى القلب يُريد رفيقه بجواره ويرى العـ ـقلُ كما العا’ئق في طريقه ليقوم هو بوضع رأسه على السو’ر الحـ ـديدي مغمض العينين عا’زمًا على الهر’ب مِنهما، وحينما أغـ ـلق جفنيه ودام ذاكَ لمدة خمسة عشر دقيقة رأى أبيه يأتي إليه مبتسم الوجه بشوشًا ينظر إليه دون أن يتحدث، فيما كان هو يقف أمامه ينظر إليهِ لا يُصدق أنه رآه أخيرًا مثلما كان يريد ويتمنى.
تواصلت المُقلُ مع بعضها البعض في حديثٍ صامتٍ جمعت حينها أحاديث القلب ولهفتهِ فرحًا برؤيتهِ، أقترب “عدنان” الخطى الفا’صلةُ بينهما ليقف أمام و’لده مباشرةً وقد مدَّ كفه إليه يضعهُ على موضع قـ ـلب “يـوسف” الذي أقشـ ـعر بدنه حينما لا’مسه كف أبيه لتهـ ـتز نظرته وهو ينظر إلى أبيه الذي كان مازال محتـ ـفظًا ببسمتهِ والذي كذلك بدوره تحدث بنبرةٍ هادئة قائلًا:
_مالك يا “يـوسف”؟ تا’يه ليه يا حبيبي ومش عارف تفكر، مش لاقي نفسك ليه إيه اللي مخليك تلف حوالين نفسك كدا ومش على بعضك.
حينها زا’غت نظرات الو’لد وأصا’به التشـ ـتت والحيـ ـرة والقليل مِن الخو’ف لينظر إلى والده الذي كان ينظر إليه مبتسمًا ليشعر بالخو’ف عاد يُلازمهُ مِن جديد ليقول بنبرةٍ مضطـ ـربة:
_خا’يف يا بابا، خا’يف ومبقتش حِمـ ـل اللي بيحصلي دا أنا شا’يل كتير أوي وحِمـ ـل فوق حِـ ـملي لحد ما ضهري أتشر’خ، تـ ـعبان وخا’يف ومش مر’تاح وبالي مشغو’ل ومحدش سا’يبني فحالي … تـ ـعبان أوي يا بابا أقسم بالله تـ ـعبان وساكت بس بقيت ما قا’در خلاص، هـ ـدوني بدري وأنا لسه فعز شبابي.
_لا يا حبيبي متتحسبش كدا، دي دُنيا فا’نية لازملها مُعا’فرة هي كدا دايمًا، متيأسش مِن ر’حمة ربنا ليك يا حبيبي بس شوية كمان وربنا يراضيك شوية كمان بس ربنا هيعوضك عوض كبيـ ـر أوي، أوعى تستسلم وكمل اللي حواليك نفسهم يشوفوك وا’قع بس لا أوعى تديهم اللي بيعا’فروا عشانه يا ابـ ـني، كمل لحد آخر نفـ ـس فيك وصدقني هيعوضك عوض مكُنْتش تتخيله.
نظر إليه حينها “يـوسف” يا’ئسًا ومنهـ ـزمًا ليقول بقـ ـلة حيـ ـلة:
_أعمل إيه طيب، الخيل حُـ ـر آه وعزيز النـ ـفس، بس أنا عندي التانية ومعنديش الأولى، أنا عُمري ما حسيت إني حُـ ـر يا بابا دايمًا في حاجة مقـ ـيداني وحا’كمة حركتي، أنا مر’بوط وبتعـ ـذب فصمت محدش حاسس باللي جوايا أنا لو خرجت نبذة بسيطة عن اللي جوايا صدقني محدش هيستحمـ ـل اللي هيسمعه، أنا عايز أحس إني خيل حُـ ـر في الميدان، أنا عـ ـنيد وعزيز النـ ـفس ومبعرفش أسكوت عن حـ ـقي الشارع علمني كدا وأنا كُنْت واثق إني مكُنْتش هبقى كدا لو كُنْت أتربيت معاكم، مو’تك وقتها وتشر’يدي أنا وأختي الصغيرة فالشارع زي العيال الشحا’تة اللي فقـ ـدت أملها فالحياة وآخر حبـ ـل أتمسكت فيه د’اب وأتقـ ـطع، أنا آه أبن را’جل كـ ـبير ولِيه إسم فالسوق، بس أبنه تربية شوارع كان شـ ـريد طول الـ ٣٢ سنة دول مِنهم ٦ سنين ضا’عوا وأتمـ ـسحوا مِن ذ’اكرتي بأستيكة مش فاكر مِنهم حاجة حتى شكلك مش عارفُه، أبنك ضهره أتقسـ ـم نُصـ ـين خلاص أنا شـ ـيلت كتير أوي والشيـ ـلة تقـ ـلت عليا أوي وخلاص طاقتي خلصت ورو’حي تـ ـعبت، اللي عايشُه دا تقدر تقول عليه حلا’وة رو’ح بس مش أكتر، مبقتش عارف أسمع لمين وأمشي ورا مين بقيت عامل زي العيل الصغير التا’يه وسط قطـ ـيع وحو’ش بينهـ ـشوا فلـ ـحم بعض غد’ر وأنا بينهم بدوَّر على حُضن دا’في وأ’من أتر’مي فيه مش لاقيه.
أنهـ ـى حديثه ومعها تسا’قطت عبراته على صفحة وجهه، عبراتٌ حز’ينة تلطـ ـخت بالأ’لم والقهـ ـر والحز’ن واليُـ ـتم، ما حدث إليهِ كان كالضر’بة القو’ية التي قسـ ـمت ظهر البعيـ ـر جر’حه مازال غا’ئرًا والحز’ن أ’كله حـ ـيًا، سقـ ـطت العبرات بغـ ـزارة بقـ ـلة حيـ ـلة وضُعـ ـفٌ تملّك مِنهُ وبشـ ـدة ليشعر بوالده الذي ضمه إلى أحضانهِ يمـ ـسح على ظهره مو’اسيًا إياه والحز’ن يحـ ـتل معالم وجهه.
أما عن “يـوسف” فقد غا’ب في أحضان والدهِ وتا’ه باحثًا عن الأ’مان بداخلهِ، ضمه وشـ ـدد مِن عناقهِ إليهِ بشـ ـدة وكأنه كان يبحث عن بـ ـر الأ’مان في حر’بٍ طا’حنة كانت تتعا’رك بها قبـ ـيلتين إحداهما صا’حبة الأرض تُحا’رب لأجل إستعا’دة حـ ـقها ونشر الأ’مان لأهلها مِن جديد، أراد الشعور بذلك الأ’مان وشعور لذة هذا العناق ليتذوقه أخيرًا وينعم بلذتهِ.
أبتعـ ـد “عدنان” عن و’لده بعد القليل مِن الوقت لينظر في وجه و’لده الذي كان يغر’قه العبرات الكثيرة التي لطـ ـخت وجههِ برهةً مِن الوقت قبل أن يضع كفه على موضع قـ ـلبه النا’بض بعنـ ـفٍ مستشعرًا نبضا’ته القو’ية والسريعة ليمسح عليهِ برفقٍ ثم نظر إليهِ وأبتسم لهُ قائلًا:
_أسمع قلبك وأمشي وراه دايمًا يا “يـوسف”، قلبك د’ليلك وعُمره ما يخو’نك ولا يغد’ر بيك خليك وراه عشان بيكون صح دايمًا، عقلك ممكن يخو’نك ويبو’ظلك حياتك خليك ورا القلب عشان هو خيرُ د’ليلٍ دلوقتي وبكرا ولأخر العُمر … أمشي وراه وهترتاح بعد كدا.
أنهـ ـى حديثه مبتسم الوجه وهو ينظر إليه فيما نظر إليه “يـوسف” بوجهٍ باكِ يتفر’س معالم وجهه دون أن يتحدث، شيءٌ واحدٌ أضافه “عدنان” قبل ر’حيله وتركه وحيـ ـدًا، شيءٌ واحدٌ سيخلد بذهنهِ حتى يوم مما’ته حينما سَمِعَ والده يقول مبتسم الوجه بنبرةٍ هادئة:
_{فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}.
أنتهـ ـى الحُلم وغا’در “عدنان” تاركًا و’لده وحيـ ـدًا في الظلا’م يواجه مصـ ـيرهُ المحتو’م وحيـ ـدًا كما حا’رب طوال عُمره وحيـ ـدًا، لَم يستفق إلا على صوت والدته التي كانت تُحاول إفا’قتهِ مِن نومتهِ حينما ولجت إليه ورأتهُ يبكي أثناء غفوته عبراته تتسا’قط على صفحة وجهه، نهض فجأ’ةً فز’عًا وهو ينظر حوله إلى حيثُ يجلس ليرى أنهُ في منزلهِ مازال على وضعيتهِ مثلما تركته والدته.
_بسم الله الرحمن الرحيم، مالك يا حبيبي إيه اللي حصل وبتعيط كدا ليه أنتَ كويس؟.
سألته فز’عًا حينما رأت عينيه الحمـ ـراوتين ووتيرة أنفا’سه العا’لية والسريعة بشكلٍ أر’عبها وجعلتها تر’تعب عليهِ، جلست بجواره وضمتهُ إلى أحضانها تربت على كتفه وتُمسّد بالأخرى على خصلاتهِ علّهُ يهـ ـدأ قليلًا مِمَّ أصا’به، أما عنهُ فقد د’فن رأسه في عنقـ ـها وأكمل بكاءه بد’اخل أحضانها فهذه تُعتبر مرتهِ الأولى التي يرى بها أبيهِ أمامه وتكون في أحلامه، نعم حُرِ’مَ مِن رؤيتهِ في الحياة ولَكِنّ قام بزيارتهِ في أحلامه يواسيه ويشـ ـد بأزرهِ.
بدأت تتلو عليه آياتٍ مِن الذِكر الحكيم وهي تمسـ ـح بكفها على رأسهِ وقلبها المكلوم يُتـ ـعبها عليهِ فلا تتحمـ ـل أن تراه هو وشقيقتهِ يتأ’لمان ولو دقيقةٍ واحدة، شعرت بهِ يضمها مشـ ـددًا مِن عناقهِ إليها وكأنه يحـ ـتمي بها مِن شيءٍ ما تجـ ـهله هي، زفـ ـرت بقـ ـلة حيـ ـلة مستغفرةً ربها فهذه أول مرة ترى بها و’لدها بهذه الحالة التي أر’عبتها وأثا’رت حفيظتها.
________________________
<“بعض الحقا’ئق تكون ز’ائفة، وتلك الحـ ـقيقة كانت بمثابة رصا’صة طا’ئشة أصا’بت هدفها ببراعة.”>
ذهب إلى مشفى الأمر’اض النفـ ـسية بعدما قاموا بالإتصال بهِ هو خصيصًا وأخبروه أن أخيه يُريد رؤيتهِ وها هو يجلس أمامه الآن يواجهه يرى إلى أي مرحلةٍ وصل إليها أخيه، لا يُنـ ـكر أنهُ تأ’لم كثيرًا حينما رآه وصل إلى تلك المرحلة فقد تغيَّرت معالم وجهه وأصبح أخرًا لا يعلمه هو، آ’لمه قلبه وشعر بقشعريرة تسري في أنحاء جـ ـسده ليبتـ ـلع غصتهِ محاولًا خـ ـلق الحديث بينهما حينما رأى نظراته المصو’بة نحوه والتي كانت غير مفهومة بالنسبة إليه حتى الآن، با’در في الحديث قائلًا بنبرةٍ هادئة متر’قبة:
_خير يا “حليم”؟ كلموني وقالولي إنك محتاج تشوفني ضـ ـروري في إيه؟ … أنتَ كويس؟.
نظر إليه “حليم” نظرةٍ هادئة يتمعن في معالم وجه أخيه التي أشتا’ق إليها بالطبع فقد حُرِ’مَ وخَسِرَ كل شيء بما فيهم أخيه بالطبع فقد كانت هز’يمتهُ أشـ ـد قسو’ة أمام الجميع وقد ألقـ ـوا حينها اللو’م عليهِ ولا يعلمون أنه ضحـ ـيةٌ مثلهم في تلك اللُعبة القذ’رة.
_أنا لا كويس ولا هبقى كويس يا “صلاح” … أنا أنتهـ ـيت خلاص وبقيت كارت محرو’ق للكل وجودي بقى زي عد’مه، لا أقدر أتحـ ـمل ولا أعا’فر خلاص أنا خـ ـلصت ومِن كل حاجة، صحة وعقـ ـل وكله، أنا جيبتك عشان أقولك حاجة مهمة أوي أوي خبيتها عنكم كلكم وجه وقتها عشان تنكشـ ـف وتظهر للكل، تـ ـعبت مِن دور الظا’لم الجبـ ـروت دا خلاص وفا’ض بيا.
عقد “صلاح” ما بين حاجبيه وهو ينظر إليه لا يفهم مغزى حديثه الذي كان مليئًا بالألغا’ز بالنسبةِ إليه، يشعر بالر’يبة والخو’ف مِمَّ هو قادمٌ إليهِ، أبتـ ـلع غصتهِ بتروٍ وهو ينظر إليهِ ليقول بنبرةٍ حذ’رة:
_وضحلي براحة في إيه ور’سيني، دور إيه وحاجة إيه اللي مـ ـخبيها دي يا “حليم” وليه طلبت تقول دلوقتي؟.
_هقولك كل حاجة وأتمنى نظرتك ليا تتغيَّر بعدها وتشوفني على إني مـ ـجني عليه مش جا’ني، إني ضحـ ـية مش قا’تل، إني مظـ ـلوم مش ظا’لم، تعرف يا خويا، مِن زمان وأنا بعتبرك أبويا قبل ما تبقى أخويا، صاحبي وضِـ ـلي وبـ ـير أسراري، أنا مجـ ـني عليه مش جا’ني، أنا مظـ ـلوم يا “صلاح”، الجا’ني الو’حيد على الليلة دي كلها أبوك، الحج “عبد المعز” … أبويا وأبوك يا “صلاح”، الر’اجل العا’قل الكبير اللي نقول كله يغـ ـلط وهو لا، كله يمشي عو’ج وهو زي الألف، أبوك وأبويا يا حبيبي طـ ـعنا كلنا مِن ضهرنا، خلانا نعـ ـض فبعض ونقا’تل بعض وهي مش مستا’هلة دا كله صدقني.
أعتدل حينها “صلاح” في جلستهِ وهو ير’شقهُ بنظراته الحا’دة بعدما أنتـ ـبهت حواسه إلى ما قاله أخيهِ الذي كان ينظر إليه ثابتًا وكأنه مازال وا’عيًا ويُدرك ما يحدث حوله على العكـ ـس مِن هذا الهو’جائي الذي أتهـ ـموه حينها بالجـ ـنون وألقـ ـوه في تلك المشفى ينعـ ـتوه _بالمجـ ـنون_ وكأنهم وحدهم مَن يمتلـ ـكون رزا’نة العقـ ـل والحكمة، أنتظر سماع المزيد وهو ينظر إليه ليبدأ “حليم” يسرد عليه ما حدث قائلًا:
_أبوك هو اللي مدخلني هنا وهو قاصدها كمان والكبيرة يا حبيبي إنه بيحطلي حبو’ب هلو’سة فالأكل والشرب ومع الوقت بتأ’ثر على مخـ ـي بالسلـ ـبي وبتوديني فطريق تاني غير طريقي، أبوك قاصد يخليني مجـ ـنون وأنا لسه شا’ب صغير فكامل قو’اي العـ ـقلية، الر’اجل دا يا حبيبي سـ ـبب المصا’يب اللي حصلت دي كلها هو اللي سَخَـ ـن عمي “فارس” الله يرحمه ولعب فعـ ـقله إن “كايلا” مش أخت “بيلا” وإن عمتي “هناء” كانت حا’مل فواحد بس مش أتنين وهي كانت تعرف وعمي “فارس” لحد ما عمتي ولدت مكانش يعرف إنه جاله توأم وعشان كدا بابا لعب فد’ماغه وقاله إنها مش بـ ـنته بس وقتها أتدخلت العيلة وقالوا لا وحوارات وعمي أقتنع وبابا فشـ ـل إنه يشـ ـككه فيها لحد ما كبرت وبقت ٧ سنين وحصلت حا’دثة “كايلا” اللي دخلتها فغـ ـيبوبة طو’يلة سر’قت مِنها عُمرها، جدي كان يعرف إن بابا هو السـ ـبب الأول واستغـ ـل عمي “فارس” اللي خـ ـفى “كايلا” خالص وأقنع الكل إنها ما’تت فحا’دثة، جدي الو’حيد اللي كان قا’در يحكي لـ “بيلا” بس عمي “فارس” وقتها منـ ـعه وهـ ـدده وجدي تو’فى بدون ما يقول السر ليها ومحدش وقتها كان يعرف السر دا غيري أنا مِن بعد جدي عشان حكالي ساعتها مِن غير ما حد يعرف، ووصاني إني مطلـ ـعش السر دا غير فالوقت المناسب ولمَ طا’لني الأذىٰ أنا كمان قولت لا أنا لازم أحكي كل اللي أعرفه عشان أكون أرتحت وريَّحت.
كان “صلاح” مصد’ومًا وبشـ ـدة مِمَّ يسمعه ويتلقاه فقد كان أشبه بالذي قد تم ضر’به بعـ ـصا حـ ـديدية على رأسه أفقـ ـدته النطق والإد’راك، لا يُصدق تلك الحقائق الكا’رثية التي قد سقـ ـطت على رأسه دون سا’بق إنذ’ار، أما عن “حليم” فلَم يكتفي بذلك وحسب بل أكمل ما بدأه حينما قال بنبرةٍ مليئةٍ بالأ’لم:
_و “جـعفر” كان ضحـ ـية برضوا على فكرة مكانش ذ’نبه إنه يتعامل بالشكل المُهـ ـين دا عشان خاطر أتجوز “بيلا” هو يستحـ ـقها على فكرة، يستحـ ـقها أكتر مِني أنا مكُنْتش هعرف أعمل نُص اللي هو عمله دا هما الأتنين بيكملوا بعض أنا أ’داة أبوك حطها فطريقهم وبوَّ’ظ بيها الدنيا كلها، أنا كُنْت لعـ ـبة فإيده سهل يحركها زي ما هو عايز وهو معملش كدا غير بالأدوية دي كلها على فكرة جر’عة مع التانية مع التالتة والعقـ ـل طا’ر ومبقتش وا’عي لأي حاجة غير إني اللي بيتقالي بنفـ ـذه كأنه نيمني مغنا’طيسيًا، أنا مكُنْتش قاصد أسقـ ـطها ولا أقتـ ـل “جـعفر” ولا كل اللي حصل مِني دا، أنا ضحـ ـية زي الكل وأدي نها’يتي … ر’ماني فمستشفى أمر’اض نفـ ـسية وضر’ب ورقتين مز’ورين بيثبت بيها إني مختـ ـل عـ ـقليًا ووجودي بره إطا’ر المستشفى خطـ ـر على الكل، شوفت نها’ية **** مِن دي يا خويا؟.
خرج الأمر عن نطا’ق الحد’ود وأصبح العقـ ـلُ مشو’شًا والقلبُ متأ’لمًا، حـ ـقيقة كانت بمثابة رصا’صة طا’ئشة أصا’بت هدفها ببراعةٍ شـ ـديدة، أصا’به مِن الأ’لمِ ما يكفي وحان الوقت ليثأ’روا لأنفـ ـسهم جميعًا فها هي ضحـ ـية جديدة تنضم إليهم اليوم وكانت نها’يته المأسا’وية تلك الغرفة التي كانت سـ ـجنًا محـ ـصنًا بالنسبةِ إليه، أخر’ج المخبوء وأفصح عن الحـ ـقيقة كاملة وترك الأقواس مفتو’حة علّ يكون هُناك حـ ـقيقة أخرى مخبوءة وسيحين موعد ظهورها.
كان لا يُصدق ما تسمعه أذناه وما يراه بأ’م عينه فالأعينِ لا تكذُ’ب والرو’ح وما يؤ’لمها تبوح بهِ علنًا، كان مصد’ومًا كثيرًا في والدهِ الذي كان يرتدي قناعًا لا يُناسبهُ كان _قناع المسؤول المُحبّ_ قناعًا لا يلبأ إليه بل يُناسبه قناع الغد’ر والحقا’رة، ولج في حالةٍ مِن الصمت دامت بينهما لوقتٍ غير معلوم حتى يأ’س هو ورأى أنه بالحـ ـق ضحـ ـيةٌ مثلهم، نهض معانقًا أخيه الصغير إلى د’فئ أحضانه يحتويه بين ذراعيه مواسيًا إياه فقد كان يعلمه منذ الصغر ويعلم أنها أول فتا’ةٌ يقع في حُبّها ولَكِنّ لَم يُحالفهُ الحظ وكانت لأخرٍ غيره وقد تذكر هذا اليوم بعدما حضرا عقد قرآنها ورحلا إلى المنزل مِن جديد ليسمع “حليم” يُنـ ـهي هذا الحديث بقوله:
_”صلاح” أقفـ ـل على الموضوع دا أرجوك هي خلاص مش بتاعتي دلوقتي راحت لصاحب النصيب وأنا مش ز’علان، هتمنالها السعادة أنا برضوا مش هقبل أفر’ض نفسي عليها وأنا غير مرغوب فيا مش هقبلها فحـ ـقي، الموضوع أنتـ ـهى وأنا هلاقي بنـ ـت الحلا’ل سواء دلوقتي أو بعدين مش هتفرق جايز هو أحسن مِني فحاجات كتير.
حينها أبتسم إليهِ وشعر بالفخرِ تجاهه ولذلك عانقهُ متمنيًا إليهِ السعادة وراحة البال، تذكر أشياءٌ صغيرة لَم تخطـ ـر على مخيلتهِ قبل ولذلك تأ’كد أن حديث أخيهِ كان صحيحًا مئة بالمئة ولذلك ربت على ظهرهِ برفقٍ وقال متعهـ ـدًا إليه بنبرةٍ حا’دة:
_واللي خـ.ـلق الخـ.ـلق ليرجعلك حـ ـقك غصـ ـب عن عين التخـ ـين وما هيهـ ـدالي بال يا خويا غير وأنا شايفك مَر’ضي ومرتاح فحياتك، حـ ـقك عليا قبل أي حاجة ووعد مِني ليك ما هخرج مِن هنا غير وأنتَ فإيدي ترجع بيتك وسطنا تاني، مش عايزك تقلـ ـق أنا مش هسيبك مهما حصل أنا مش مستعد أخسـ ـرك يا خويا مهما حصل أنتَ اللي ليا فالدنيا دي.
عانقهُ “حليم” مشددًا مِن عناقهِ إليهِ وهو يعلم تمام العلم أن أخيه سيوفي بوعده إليهِ وإن تبدلت الأحوال مِن حولهم في غمـ ـضة عينٍ فهو يعلم أن أخيهِ لا يتها’ون في إسترداد الحـ ـقوق لأصحابها، شعر بالراحةِ حينما رأى خو’ف الآخر عليهِ ليضع رأسه على كتفه قليلًا علّه يهـ ـدأ، فيما شرد “صلاح” وهو يُفكر ماذا عليهِ أن يفعل في مثل هذه المواقف وبمَن يستوجب عليهِ أن يستعين بهِ.
__________________________
<“وداعًا للماضي ومرحبًا بأولى أسطر القصة الجديدة.”>
في منتصف اليوم.
كان “يـوسف” يجلس رفقة “محمود” على سطـ ـح البِنْاية الذي قد تم تجهيزه منذ وقتٍ للجلوس بهِ ليلًا بهدوءٍ وراحة، كان كمجلس العرب في تصميمه فمنذ صغره وهو يعشـ ـق مجالس العرب وملابسهم ومنهج حياتهم بالكامل، وتمنى أن يكون لديهِ مجلسٍ مثله وحينما رزقه الله قام بتجهيزه رويدًا رويدًا حتى أنها’ه في الآخير وقد شعر بالرضا بداخلهِ فلَم ينسىٰ فضل زوجتهِ في إضافة بعض لمسا’تها الخاصة والتي كانت كالستائر البيـ ـضاء والأضواء الذهبية الفرعية وبعض الأكواب الفخارية التي كان يُحبها منذ طفولتهِ وكانت هي سـ ـيدة هذا التصميم المذهل الذي راق إليهِ كثيرًا..
أرتشف القـ ـليل مِن القهوة السا’خنة ثم نظر إلى ابن عمهِ وقال بنبرةٍ هادئة:
_نوَّرتني يا “محمود” واللهِ، مصدقتش لمَ أُمي قالتلي إنك جاي تقعد معايا قولت الحمد لله مطـ ـلعش زي أخوه.
أبتسم “محمود” إليهِ وقال بنبرةٍ هادئة:
_البيت منوَّر بناسه دايمًا يا ابن عمي، وحكاية أخويا دي يعني معقـ ـدة حبتين هو طيب واللهِ بس طبعه صعـ ـب شوية.
_أنا حـ ـقيقي مش عارف أوصفه بإيه بس عادي مش هتقف عليه ما كله محصل بعضه، طمني عليك عايزك ترغي.
أتسـ ـعت أبتسامة “محمود” أكثر وحرك رأسه بقلـ ـة حيلـ ـة وهو لا يُصدق ليقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا بخير الحمد لله، قولت أجي أفصـ ـل عندك قعدوا يقولولي قعدته حلوة وحاجات مِن دي قولت أجي أشوف بنفسي الأول.
_لا مِن الناحية دي فمتقلـ ـقش أنا معلم فالحاجات دي، بس قولي الأول شكلك كدا مش على بعضك أنتَ كويس بأ’مانة؟.
تعجب حينها “محمود” مِن حديثه لينظر إليه وهو يعقد ما بين حاجبيهِ قائلًا:
_أشمعنى بتسأل السؤال دا يعني؟.
_حاسك مش مظبو’ط، مضا’يق أو مخنو’ق … أنتَ شكلك دا’بب خنا’قة صح؟.
تفا’جئ “محمود” مِن حديثه لينهض مِن مجلسهِ ينظر إليهِ قائلًا:
_أنتَ عرفت منين الكلام دا؟.
نظر إليه “يـوسف” حينها وأبتسم أبتسامة هادئة وأجابهُ بنبرةٍ أكثر هدوءًا حينما قال:
_أقعد طيب وأهـ ـدى يا عم مش كدا، براحة على نفسك شوية مش كل حاجة تاخدها على أعصا’بك كدا هتتـ ـعب ومراتك محتاجالك.
سَخِرَ مِن حديثهِ حينها وأبتسم متهكمًا ليجلس مِن جديد قائلًا:
_مراتي أنا محتاجالي؟ يا را’جل قول كلام غير دا.
_أنا عارف إن في ما بينكم مشا’كل وعلى حسب ما فهمت يعني إنك ناوي تطـ ـلق.
نظر إليه حينها “محمود” برهةٍ مِن الوقت دون أن يتحدث ليُقرر قطـ ـع هذا الصمت حينما قال بقـ ـلة حيـ ـلة:
_أتمناها واللهِ لاحسن تـ ـعبت أوي وفا’ض بيا، كانت جوازة سو’دة.
_شكلها عاملة زي أمك “و’يلات” ما هو الأشكال دي مبتولفش غير على اللي شبهة مع أحترامي ليك بس أُمك دي و’لية عايزة الحَ ـرق بصراحة أنا مش عارف عمي مستحـ ـملها ليه لحد دلوقتي، بُص يا ابن الحلا’ل هقولك نصيحة مِن أخوك عايز تاخد بيها خُد مش عايز دي حاجة بتاعتك أنتَ … الجزء اللي يتعـ ـبك أقطـ ـعه وسيَّـ ـح عر’قه ور’يَّح، هتعـ ـيش مبسوط بعد كدا وعا’ل العا’ل وتكون لحـ ـقت الباقي السلـ ـيم تحافظ عليه لحد ما ربك يكرم.
زفـ ـر “محمود” بهدوءٍ وبادله أطر’اف الحديث قائلًا بنبرةٍ متـ ـعبة:
_تـ ـعبت أوي يا ابن عمي وفا’ض بيا، مبقتش قا’در عليها خلاص وأنا جبت أخري معاها، الموضوع خصو’صي بس أنتَ نبيه ما شاء الله وبتفهم مِن غير ما أوضح، هي مش بتعمل واجبتها كزوجة مأ’هملاني وكأنها حُـ ـرة نفسها مش شايفة غير نفسها وشكلها قدام الناس والفلوس أما أنا كـ “محمود” مش فحساباتها، تـ ـعبت سكت كتير أوي بس مش شايف تحـ ـسُن فعلا’قتنا مع بعض بالعكـ ـس دي كل يوم أسو’أ مِن اللي قبله وأنا فعلًا متخا’نق معاها الصبح قبل ما أجيلك.
أعتدل “يـوسف” في جلستهِ وهو ينظر إليه مبتسمًا بعدما تأ’كد مِن ما كان يجول في خاطرهِ ليقول بنبرةٍ هادئة:
_أنا فاهم كل حاجة حتى لو متكلمتش أو خـ ـبيت أنا عارف كل حاجة، بُص أنتَ زي “جـاد” بالظبط بعتبره أخويا الصغير وصاحبي وأنتَ كمان أخويا الصغير وواجب عليا أنصحك، اللي زي أُمك ومراتك دول صعـ ـب أوي تطـ ـلع مِن نقاش معاهم وأنتَ كسبان، وطالما الأتنين شبه بعض يبقى يغو’روا مع بعض مِن الد’اهية اللي جُم مِنها، أنا عارف علا’قة عمي بيها عاملة أزاي وشايف تعا’سته قدام عيني كل يوم وبنصحه واللهِ بالطلا’ق مش بهدف هـ ـد’م البيوت بالعكس هي أساسها مهد’وم محتاجة إيه تاني؟ وأنتَ نفس النظام بتعا’فر مع واحدة متستا’هلش أبسط حاجة يا ابن الحلال الطلا’ق وتر’يَّح نفسك مِن القر’ف دا كله ومتعملش غير اللي أنتَ شايفُه فمصلحتك جوازة زي دي جابتك الأر’ض أختيار شريك الحياة دا بتاعك أنتَ مش بتاع غيرك متسيبش حد يختارلك العروسة بحجة إنه شايفها حلوة وهتعمـ ـر والكلام اللي مبيأ’كلش عيش دا دي حياتك حُـ ـر فيها تختار اللي قلبك عايزها وبس … لسه عندك فرصة تصلَّح الغـ ـلطة دي وتدي نفسك فرصة تعيـ ـش مِن غير تحـ ـكمات وفر’ض آراء جّرب مش هتخـ ـسر أكتر ما خسـ ـرت دلوقتي.
كان “محمود” يستمع إليهِ بإنصاتٍ شـ ـديدٍ ويُفكر فيما يقوله، فحتى الآن لَم يقُل شيئًا خا’طئًا بل كان حديثه صحيحًا مئة بالمئة فهو سار خلف نهـ ـج خطاها ولَم يتخذ سوى الآ’لم والعذ’اب مِنها وهي تعيش حياتها كما يحلو لها ورأى أنه على حـ ـق، ولذلك أقتنع وبشـ ـدة بحديثه ليبتسم إليهِ فهو للحـ ـق عبقريٌ ويصعُـ ـب خدا’عه وتخـ ـبئة شيءٍ عليهِ كما قالوا، وقبل أن يتحدث ويؤيد حديثه أتاهما صوت “عامر” مِن القرب مِنهما حينما قال بنبرةٍ هادئة:
_كلامك كله صح مفيهوش غـ ـلطة.
ألتفتا سويًا إليه ليرى “محمود” أخيه الكبير ويرى “يـوسف” ابن العم الآخر الذي كان دومًا يبتعـ ـد عنهُ ويتجنبهُ حتى تعجب هو مِن معاملتهِ تلك وقـ ـرر تركه يفعل ما يحلو لهُ، فيما كان “عامر” ينظر إليهما سويًا بمعالم وجهٍ هادئة ولأول مرةٍ يتفق مع ابن عمه في شيءٍ ليجعل “يـوسف” يتعجب مِن أمرهِ كثيرًا هذه المرة.
_وما كان للشتا’تين أن يجتمعا…
ولَكِنّها كانت صدفةٌ وليدة.
________________________

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية جعفر البلطجي الجزء الثالث)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى