رواية جحر الشيطان الفصل السابع عشر 17 بقلم ندى ممدوح
رواية جحر الشيطان الجزء السابع عشر
رواية جحر الشيطان البارت السابع عشر
رواية جحر الشيطان الحلقة السابعة عشر
” مجنونة وستصيبني بالجنون “
ظلت في مكتب ذاك الظابط الذي ساقها من بيتها بتلك التهمة اللعينة، مصدُمة، مبهوتة، لا تنفك مُقلتيها من البكاء، رغم أنها على يقين انها لن تمكث في هذا المكان كثيرًا فأن وعد جدتها نافذ لا محالة، لا تصدق أن تلك الفتاة قد اتهمتها بتلك التهمة باوراق مزورة أنها فقدت عذريتها، تقسم أنها لن تساعد احد مرة اخرى، ندمت .. أشد ندم على قرارها بمساعدتها في الاساس، كان يجب ان تتركها هكذا فمالها ومالهن هي…
هذا العالم مُخيف للغاية ليس كما كانت تعتقد وتعلمت و علِمت أنها وسط ذئابٌ بشرية ، لقد ظنت ان الجميع طيب ذو روحًا نقية لكنها نست إن صوابع اليد غير متساوية و هذا هو حال البشر، منهم من يتلونٌ بـ مائة وجه، منهم الخبيثٌ والماكر الذين يجيدون تمثيل الطيبة .. حسنًا لقد اخطئت ولن تتكرر مرةٌ اخرى، هي جدٌ اسفة لنفسها كثيرًا.
فُتح الباب بحركة عنيفة لتنتفض ملتفتها برأسها تستطلع الطارق فما كان إلا أخيها، حبيبها، سندها، وثبت واقفة تبكي بحرقة ليغلق معاذ الباب راكضًا إليها حابسًا إياها بين ذراعيه يجاهد على تهدائتها بكلماتٍ مُطمئنة وكفه يمسح على خمارها الطويل في خزى من نفسه، يشعر إنه غير جدير ان يكون أخاها، كان يجب ان يهتم بها اكثر، ويعلم ما يجري في حياتها وتعانيه وتحياه.
اخته الرقيقة، الطيبة، ذات الروح النقية لا تدرك من خبث البشر شيء، لذا وجب عليه ان يكون حذرًا، مراقبًا لها، يشاركها يومها بكل ما تعانيه.
غمغم معاذ وهو يقبل هامتها :
– اهدائي يا لمياء انا جنبك يا حبيبتي، والله ما هخلي اللي عمل كدا يتهنى ولا يدوق الفرح في حياته، هدفعه التمن يا غالية بس انتِ اهدي.
لم تبتعد عن حضنه، ولم تذيدها كلماته إلا بكاءًا وتشبثًا فيهِ، رفعت رأسها تنظر في عينيه برؤيةٌ مشوشة من إثر الدموع، و قالت :
– انا معملتش حاجة يا معاذ صدقني والله ما عملت حاجة، خرجني من هنا يا معاذ انا خايفة.
عادت تدفن رأسها في صدره فشدد من ضمها أكثر جازًا على أسنانه في سُورةٍ من الغضب يستشعر رهبة قلبها من كل ما حولها، وتمتم في نبرة حاول جعلها هادئة قدر الإمكان :
– حبيبتي انا عارف إنك مستحيل تعملي كدا، بابا وماما وتيتا العيلة كلها جنبك مش هنسيبك، محدش مننا هيسيبك وأنتِ عارفه كدا.. و دلوقتي…
رفع وجهها في وجهه وتابع في صلابة بمسحة من حنان :
– قوليلي كل اللي حصل معاكِ عشان أقدر اطلعك.
فغرت فاه لوهلة مفكرة، مترددة، تخبره ام لا تخبره، هو سر لأحدى طلباتها فهل تبوح به ؟
عمَّ تفكر هي الآن، أليس من الأجدر ان تفكر في نفسها!
أومأت برأسها مع زمجرة معاذ لها وهو يقول صاكًا على اسنانه :
– بتفكري في إيه أنتِ! ولا حابة تتحبسي!
هزت رأسها رفضًا وهي تقص عليه جُل ما حدث آنفًا معها، وفي منتهى الغضب صاح فيها معاذ معنفًا :
– أنــــــــــتِ غبية ولا معندكيش عقل خالص إزاي تتصلي وتقوليلهم كدا على طول من غير أي تفكير وإزاي تخبي عليّ كل ده؟
انتحبت لمياء وهي تتمخط في منديلًا ورقي جذبته من جيبه وقالت بصوتٍ متهدج :
– أنا خوفت على البنت عشان كدا اتصرفت كدا.
ثُم قالت منفعلة وهي تنفجر باكية بصوتٍ عال :
– وبعدين انت بتلومني على إيه اصلًا.
– على خيبتك يا اختي…
قالها معاذ نافثًا عن غضبه وهو يوليها ظهره يستدعي كل هدوئه، بينما جلست هي منتحبة، دام صمته وعلى بغتة جلس على الطاولة امامها يميل بوجهه على وجهها وهو يضمه بكفيه هامسًا :
– قلبك الطيب ده مينفعش في الزمن دا يا لمياء يا حبيبتي، اللي عملتيه حلو، بس اهوو شوفي البنت عملت فيكِ إيه واتهمتك بـ إيه هي وعمها، بس ولا تشيلي هم أنا جنبك وهطلعك من هنا وهدفعهم التمن غالي على كل دمعة نزلت من عينك، قوليلي بقا إسمه وعنوانهم وكل اللي عرفتيه عنهم.
باحت له لمياء بكل ما تعرف.. وقد سكن وجيف فؤادها، وغزاها الإطمئنان، الجميع معها هي لست وحيدة، ثمة من يشاركها مصائبها بل وسيساعدها ايضًا، فبات الحمل خفيفًا .. وكيف لا يكون وهي تمتلك مثل هذه العائلة والألفة.
غادرها معاذ على وعد اللقاء مجددًا ببُشرِة خروجها، فلم تجد نفسها إلا ان تستأذن من الظابط لتتوضأ وتصلي وقد كانت بمفردها في المكتب بعد ما تركه لها .. وقد سخر لها الله من يرأف بحالها. ويثق في برائتها، فـ ماذا لو كان ظابط اخر غير هذا ؟
تُرى كيف كانت ستكون؟
تكاد تجزم إنه إذ كان غيره لكانت الآن بين قضبان إحدى الزنزانات، أو في جلسة إستجواب، يا الله كم هو رحيم بها، فحق لها أن تلجأ إليه وتبثُ إليه شكواها، تشكيهُ مرارةُ قلبها فيجبره، هي على يقين انها ستُجبر، فمن ذا الذي طرق بابه ولم يُفتح له؟
من راح إليه مهمومًا و لم يعد مجبورًا؟
دائماً باب الرحمن لا يُغلق بوجه أحد، نحن من نزل انفسنا بلجؤنا لغير الله عز وجل..
🥀 سُبحان الله 🥀
صعد معاذ سيارته في سورةٌ من الغضب، في قلبه نيرانٌ مندلعة ويخشى أن تندلع في وجه احدٌ غير صاحبها، كاد ان يقود لكن باغته فتح بيبان السيارة ودخول الشباب جملةٌ واحد، فجال ببصره عليهم وما هم ان يصرخ فيهم، حتى قال خالد رابتًا على كتفه بنبرة صارمة :
– إطلع يا عم…
– عايز ابقى لوحدي شوية، لو سمحتوا انزلوا!
قالها معاذ مغتاظًا، فـ وكزه حمزة من الخلف مغمغمًا :
– بتقول إيه أنتَ مش سامع، عيد كِدا يا حبيبي.
ثُم بانفعال قال :
– إطلع يلا، بلا كلام فاضي، من امتى وإحنا بنسيب حد فينا لوحده.
كاد معاذ ان يجيب لولا مالك الذي صاح :
– ما تطلع يا بني أنت مستنى إيه، دا اللي ياكل لوحده يزور.
قاد معاذ في سُرعة هائلة، وعلى مقربة من منزل نرمين ركن السيارة وترجلوا منها منتشرين حول البيت في إنتظار فريستهم لتخرج من عرينها، انقضت الساعات دون فائدة تذكر، فما كان في جوف الليل إذ شق السكون صرخة ملتاعة نبأتهم بأن امرٌ جلل قد تم، وما هي إلا دقائق قلائل وكان والد نرمين يهبط الدرج في تعجل حاملًا أبنته التي قطعت شرايين كِلا معصميها ومن وراءه امراة بدا لهم انها والدتها فقد كانت منهارة، منهارة تمامًا..
غمز حمزة لـ مالك ففهم بيسر مغزاها، فأسرع إلى السيارة و وقف امامهما عارضًا عليهم ان يوصلهم إلى المشفى ولم يجد اي اعتراض حتى انهم لم يتفوهوا بحرفًا فقد صعدوا دون صوت إلا من بكاء الأم الحارق وتهدج انفاس الأب.
تربص الشباب وإذ ما ظهر عم ” نرمين” خارجًا من المنزل متحدثًا في الهاتف حتى اعترض “معاذ” طريقة بثغرٌ باسم .. بسمةٌ خبيثة ويميل وجهه لليمين قليلًا ملوحًا له بكفه، وردد في نبرة مرحة :
– السلام عليكم يا حبيب قلبي اخيرًا ظهرت؟
اتسعت عينا عم “نرمين” صدمة، فاغرٌ فاه وقد تجلى الخوف على قسمات وجهه وكان يعلم ماهية الواقف امامه أخ لمُدرسة إبنة اخيه والذي اتهمها زورًا آنفًا واودعها في السجن، غير آسفٌ على ما فعله فقد عمل ما رأه مناسب وهو ان يزجها في السجن ويظهرها بصورة بشعة حتى لا احد يصدقها وخاصةً اخيه، ماذا يفعل هو في شهوته وقد احلوت أبنه اخية في عينيه، لا يريد ان يعلم اخيه .. لا يريد ان يخسره، وفي آن لا يستطع كبح شهوته كـ البهائم هو لا يفرق بين قريبٌ وغريب وقد وقع مع الأشخاص الخطأ، إذن ليذوق ثمار ما جناه …
تقهقر خطوةٌ للخلف وهو يستدير ناويًا الفرار من ” معاذ”، لكن تسمرت خطواته في محله ما أن وقع بصره على “حمزة” واقفًا بتعابير متهجمة، والغضب يطل من شرفة عينيه، باسطًا كفه الأيسر مكورًا كفه الإيمن يضرب بقبضته. مرارًا وتكرارًا في كفه المنبسط، هم أن يركض يمينًا فغمز له خالد بعينين تشع بالنيران بثت الرعب في فؤاده، مع من اوقع نفسه هو بحق الله!
أنَّى يهرب الآن من براثنهم.
لم يهملوه التفكير في الفرار، إذ هجم عليه “معاذ” دون أن يمهلوه حتى تدارك من أين تأتيه اللكمات، فقد جذب ياقة تشرته بكف والآخر طفق يصدد به اللكمات في وجهه دون هوادة. وهو يصيح بنبرة هادئة تقطر غضبًا رغم ذلك :
– دي عشان كل دمعة نزلت من اختي يا ابن ال*****، ودي عشان فكرت بس تأزيها … ودي بقا عشان انت ازيتها فعلًا… ام دي فـ عشان اعلمك الرجولة وإزاي تبقي عم بحق … ودي عشان تعرف يا كلب أنت مع مين وقعت نفسك عارف إحنا مين يلا.؟!
إحنا من عيلة الشرقاوي أسئل عنها، عشان شكلك كدا مسألتش، دي عشان تعرف أن اللي يرشنا بالمياة نرشه بالدم.
دفعه على حمزة لـ يسطرد أنفاسه اللاهثة، فلم يتوان حمزة وهو يتلقفه وابرحه ضربًا، برز صوت “خالد” مغمغمًا في حزنٍ مصتنع :
– اللي ياكل لوحده يزور يا جدعان سبولي حته، اللاه.
غمز له “حمزة” هاتفًا من بين لهاثه وهو يثبت الرجل :
– نفسك في حتة، من عيوني انت تأمر يا خالد باشا.
وتابع وهو يدفع الرجل نحوه :
– خد يا بني خد نصيبك ومتنساش سيبلي الورك.
ضحك معاذ قسرًا متسائلًا في غُلب :
– دا وقت مزاحك يا حمزة، هو فرخة هنفرقه؟
علا صوت خالد فجأة في حزن وهو يقلب في وجه الرجل الذي غطت الدماء ملامحه :
– إيه دا والله هزعل وهجيب ناس تزعل دا شلفطوك يا جدع عملوا منك خريطة مصر، دا كساح عدى عليك مش لكمات من حد دي لأ، تصدق زعلت عليك بجد، بجد تستاهل…
ثُم ناوله لكمة سقط على إثرها، فنفض خالد كفيه وهو يغمغم ضاحكًا بإنطلاق :
– تمت المهمة، وشفينا غليلنا.
بعد ساعة ، سُكب عليه ماءٌ هائل أفاق فزغًا على إثره، نفض رأسه تلقائيًا يستعب أين هو، أنَّى قد يكون ؟!
فجابت عينيه على الشباب المصطفين أمامه في شموخٍ مهيب، فـ استيقن إنه هالك لا مُحالة، النجاة من إيديهم مستحيلة، وقد سقط في عرينهم ولا فرار منه، ومع ذلك رفع أنفه محاولًا تهديدهم الذي لم يهز شعرة واحده من أي منهم :
– والله ما هسيبكم بعد اللي عملتوا فيا ده، هدفعكم التمن غالي وهتشوفوا.
رمقه حالد بنظرةً سخرية، وقال في تهكم :
-يا جدع! طب قوم يلا ورينا هتعمل إي قوم يلا؟
نهض الرجل سرعان ما سقط مترنحًا في مكانه وهو يهدر ثائرًا :
– بتتكاتروا عليَّ والله لهرفع فيكم قضية تجيبكم الأرض.
علت قهقهات حمزة ضاربًا كفًا بكف، وقال :
– دا انت بجد بقا متعرفش إحنا مين؟
نظر له الرجل في هجوم، وقال في اضطراب لم يُخفَ عليهم :
– هتكونوا مين يعني! إيه هتقتلوني، قّتلوني يلا مستتيين إيه؟
تناهى لآذانهم جميعًا وقع خطوات اعقبها ظهور مالك عابسًا وهو يردد ونظره على الرجل :
– أنا مخدتش نايبي على فكرة وده ميرضيش ربنا يا ظلمه.
كاد يهجم على الرجل لكن خالد حال بين ذلك وهو يسد طريقه، وقال وهو يدفعه بكفيه :
– بس يا عم كفياه كدا خد نصيبه واكتر .
نظر مالك للشباب محركًا رأسه في حزنٍ مُصتنع وتراجع للخلف.
بينما دنا معاذ من الرجل محذرًا بسبابته وفي لهجة حادة رغم هدوءها قال وهو يميل عليه :
– هنسيبك تمشي إحنا مش قُتلين قُتلة وأختي هتطلع فـ زي الشاطر كدا تطلع من هنا تسحب دعوتك انت وبنت اخوك وقد أحذر من انذر، والبادي اظلم.
ثُم استقام فجاة كما مال فجأة موليًا الرجل ظهره صارخًا فيه :
– امشي من هنا يلا بدل ما ارجع في كلامي.
أشرق وجه الرجل وكأنه توًا رُدت فيه الحياة وهرع من أمامهم كمن يخفق بحناحية لا يُصدق إنه قد نُجي وتركوه بعد ما ظن إنه لا موئلًا منهم
عبس مالك بوجهه وهو يتساءل في تهجم :
– دا إي دا بقا، إزاي تسيبوه يمشي كدا، انتوا بتفكرو في إيه يا احفاد الشرقاوي بالظبط رسوني، مش معقول بعد كل اللي عملناه تسيبوه كدا بسهولة….
بتر كلامه مع وضع كف حمزة على منكبه موضحًا له في هدوء :
– متقلقش كل حاجة متخطط لها، اصبر بس واتفرج…
🥀 الحمد لله 🥀
لا شيء بدا عاديًا، يسيرًا، سهلًا، كأنه على وشك دخول حرب ستسفك الدماء سفكًا، وستصبح الأرض بركةٌ من الدماء، هذا ما كان يجول في خلد الأمير ” براء ” منذُ أن أغمى على خادمة أُخته، وكلماتها تتواتر في روعهِ كـ سكاكين تنهشُ فيهِ، سار أمام الجناح الذي يأوى ” دارين ” شاعرًا بالذنب حيالها، فما جرى لها هو السبب فيهِ، كان يجب عليه أن يُصدقها، ولكن ما حدث قد حدث وحُسمَ الأمر.
أقبل ” صُهيب ” نحوه بخطوات حادة، وملامح مكفهرة وَ وقف أمامهُ، قائلًا وهو ينحني برأسه :
-مولاي أنا جاهز، وكُن متيقنًا إني لن أطأ أرض المملكة غير ومعي الأميرة ميليا وخبر ما حصل مهما كلفني ذلك.
تبسم ” البراء” رابطًا على منكبهُ في فخر، وبنبرة واثقة أردف :
– هذه ثقتي فيكَ يا صُهيب وَ اعلم إنك لن تخذلها أبدًا، في أمان الله يا حبيب.
أومأ صُهيب مسبلًا أجفانه وتراجع خطوة واحدة وهو يحييه وما هم ان يوليه ظهره حتى صاح ” البراء ” يستوقفه في لهفة :
– على رُسلك يا صُهيب، هلُم معي.
تخطاه ومشى صُهيب في إثره، حتى دلفا إلى غرفته الملكية، وقبل أن يستفسر صُهيب وقد ران على ملامحه الدهشة والتساؤل، حتى ضيق الأمير عينيه وهمس في نبرة هادئة مبهمة:
– لا يجب لـ أحد أن يعلم أين أنتَ ذاهب، كُن حذر، وعد بخير فأن حصل لك شيء لا اتحمل، أريدك أن تدخل بينهم دون أن يشك أحدًا فيك وتأتيني بأخبارهم.
وقبل ان ينبس صُهيب ببنت شفه، كان يبتعد فاتحًا دلفتي خذانته ذات الإطار المذهب بفصوص لامعة من اللون الأبيض، وألتقط خنجر أسود اللون يتلألأ بلمعانة وناوله لهُ وهو يردف في حذر :
– ضع هذا معك سيعينك.
نفى صُهيب وهو يتقهقر للخلف، مستنكرًا :
– ما هذا يا أمير معي سيفي ويكفي.
– أعلم هذا ولكن في حين كنت بمأزق هذا سيفيدك، تعلم كيف تستخدمه، أليس كذلك؟
اومأ صُهيب وما كاد يرفض حتى أمره الأمير بأخذه فـ أخذه ثُم نزع ” البراء ” تاجه المرصع بالزبرجد وفتح ذراعيه له، ليضمه صُهيب في ود وهمس في اذنه :
-كُن بخير يا رفيقي فـ أنا لا أملك غيرك.
– لا تقلق يا أمير.
أنصرف ” صُهيب ” وشيعه الأمير بنظراته حتى غاب، ثُم خطى إلى الشرفة وهو يضع تاجه متابعًا ” صُهيب ” وهو يعتلي صهوة فرسه في قفزة ماهرة ثُم شد لجامه وأنطلق ينهب الأرض نهابًا مخلفًا سورة من التراب وراءه كأنها تودعه، فتنهد الأمير مطبقًا جفنيه داعيًا ان تكون أُخته على ما يرام، وتعود لهُ سالمة، زمجر فجأة جازًا على أسنانه، كاشفًا عن أنيابه وهو يتذكر وصيتها الغامضة التي أوقدت نيران الغضب في فؤاده، وكور قبضته ضاربًا الحائط بجواره.
– لقد فاقت الفتاة الغريبة يا أمير.
قالتها فتاة من خلفه مطأطأت الرأس في نبرة حانية، فـ أشار لها بكفه ان تنصرف دون ان يلتفت وغمغم في نفسه :
– لماذا جائتي إيتها الغريبة؟ في هذا الوقت بالتحديد .. وقت الحرب.. وما حكايتك.
وعلى بغتة كانت ملامحه تتحلى بالصرامة وهو يخرج مبتغيًا جناحها، يسير في وِ قار وكأنه عاصفة تهلُ فجأة محدثة دمار، التهم المكان الفاصل بينهما في خطوات سريعة، حادة، وقورة، وحين دخوله تناهى له جملتها وهي تصيح :
– أريد ان اخرج من هنا يا آجار، اخرجني.
فـ رد هو بالنيابة عن آجار قاطعًا حديثهم، مختطفًا نظراتهم المحتدة :
– لا خروج لكما من هُنا دون أمري يا صغيرة.
قفزت فجأة في طرفة عين واقفة أمامه تحذره بسبابتها بشكل جعله يضيق عينيه متعجبًا، وقالت في غضبٍ جم:
– من أنت يا هذا لتقول ليّ أذهب او لا أذهب، لقد كدت أموت توًا بسببك فماذا تريد، ما دخلك فيمَ يخصنا يا هذا ؟
رماها ” البراء ” بنظرة حادة، وكظم غيظة وهو يجيبها في هدوء يُعاكس غضبه الذي تفاقهم بداخله :
– سأعتبر هذا الكلام من جهلك لشخصي ولن أجيبك.
فدفع ” آجار ” ” دارين ” واقفًا هو في مواجهته صائحًا فيهِ بإنفعال :
-ماذا تقول يا هذا؟ من أنتَ لتمنعنا بحق الله. سنخرج من هُنا وسترى.
لاح لهما شبح إبتسامة خبيثة طافتْ على ثغره وهو يهز رأسه في تؤدة واضعًا ذراعيه خلف ظهره، وقال وهو يرمقهما بنظره متهكمة :
– أنتم من أتيتم لمملكتي لم أأتي بكما بنفسي، أنتم هنا تحت سقفي أنا، لذلك خرج بدون أذني لن ينفعكما على العكس سيدينكما.
حدجه ” آجار ” بنظرة غاضبة، وقد ران عليهم السكون حتى خطى الأمير نحو إبريق الماء وصب منه في كأس وتجرعه جرعة واحدة، وقال وهو يتقدم منهما :
– هل لكما فكرة كيف ستخرجون من هُنا؟
لم يعطي أيً منهم فرصة الرد ورد هو على نفسه وهو يكتف ذراعيه :
– بالتأكيد لا، فـ أنتم غرباء عن مملكتي، ولا أظن أنكم تابعون لاحدى الممالك المجاورة، إذًا الخروج من هذه الأرض يحتاج لدليل.
حاد ببصره إلى ” دارين” ولانت نبرته وهو يسترسل :
– لقد صدقتك واعتذر عما بدر مني، ولذلك سأساعدكم في الخروج من هُنا وهذا وعد.
تبدلت ” دارين ” مع ” آجار ” النظرات المذهولة، بينما أولاهم ” البراء ” ظهره وقبل أن ينصرف قال :
– وحتى اصل لحل و وصيلة رجاءً أعتبروا هذا المكان مكانكم، والقصر قصركم، اتمنى أن تعجبكما الإقامة لدينا، إلى اللقاء.
زمَّت ” دارين ” فمها وهي تهز منكبيها قائلة :
– بدات احب الراجل ده انا، شكله يخطف القلب والله، و إظاهر إنه طيب يلا ربنا يكرمه بقا.
إلتفتت لتجلس تحت نظرات ” آجار ” المتهكمة، تربعت فوق الفراش الكبير ذات الالوان الخلابة وتلامسته وهي تقول في هيام :
– يااااه الواحد عمره ما شاف سرير ذي كدا ابدًا، اخيرًا هنام.
كادت ان تتمدد لكنها انتفضت جالسة وهي تصيح :
– بطني ياااختي أنا جعانة هموت، إيه الأمير البخيل ده معندهمش اكل، امال امير إزاي يا ختي ده.. إيه يا ربي البخل ده ده مسألنيش حتى جعانة ولا لا، اكلت ولا مأكلتش، اعمل إيه أنا دلوقتي.
وقع بصرها على ” آجار ” الناظر إليها في صدمة بيَّنه، وتابعت وهي تلوي فمها في سخط :
– والأخ المقرف ده كمان ماله واقف كدا ليه معندوش دم يطلع هيبقي لا اكل ولا نوم، إيه القرف ده بس كان مستخبيلي فين كل ده، منك لله يا آجار الفقر يعني كان لازم اصتبح بوشك في المطار.
صك ” آجار على أسنانه وهو يخطو نحوها لكنها في قفزة واحدة كانت تنهض وهي تقول :
-هو انا هقعد كدا ولا ايه لما اروح اشوف حاجة اكلها بلا قرف هو مش قال القصر قصرك يبقى قصري.
– أنتِ مجنونة يا بنتي مين اللي مقر……..
لم يتابع عبارته إذ إنها اختفت من امامه في لمح البصر وعلى ما يبدوا إنها لم تسمع ولم تدرك بعد إنه يفهم ما تقوله، بل ويتحدث المصرية ايضًا بطلاقة.
ضرب كفه في وجهه وهو يقول على مضض :
– يا رب دي هتجنني أكيد، يا رب متعملش مصيبة سترك يا الله.
🥀 الله أكبر 🥀
ليلةٌ.. ليلة واحدة لا غير قضتها في المكتب، ليزف إليها خبر برائتها بعد ذلك، فقد تبتل الشباب لهذا الأمر حتى أثبتوا برائتها تبريئًا تامًا، والحق قد ظهر، والمجرم سيأخذ حقه لا محالة، كانت خطة ناجحة من الشباب فبعد ضرب عم ” نرمين ” ذهب للمشفى وكذب على أخيه أنه تجادل مع السائق الذي اوصله بسبب الأجرة، وقد كان تم إسعاف ” نرمين ” وأنقاذها إذ كانت الجروح سطحية وغير مقلقة، يبدوا من خوفها لم تستطع قطع شراينها قطعًا جازمًا.
وما أن فاقت واطمئن عليها والدها وأمها لكنها لم تجيب إيًا منهم بأي إجابة لفعلتها تلك، خرج والدها ليتحدث مع الطبيب، وذهبت امها لتجلب لها عصائر وقد وصت عمها ان يظل معها. فجأته الفرصة على طبقٍ من ذهب لتفريغ غضبه فيها، وطل برأسه من الباب لتنفزع وتدور عينيها في كل اتجاه كمن سيغشى عليه من الفزع، ودنا منها مغلقًا الباب وراءه، هُنالك تجمعت العبرات في مقلتيها، مال هو قليلًا عليها لتتراجع برأسها، وبنبرة مخيفة مقيتةٌ، قال :
– بسببك أنا أضربت واتمسح بيا تراب الأرض، شايفة اللي جرالي، شايفة.
هزها من كتفيها بعنف ودون رحمة بتعبها البيَّن، وصاح :
– شايفة ولا مش شايفة انطقي.
سالت عباراتها وهي تومأ برأسها، مردفة بنبرة متهدجة :
– شـ .. شايفة انا شايفة.
فدفعها ليرتط ظهرها في ظهر الفراش، وتابع في اعيُن يطل منها الإجرام :
– بتحاولي تقتلي نفسك عشان أخويا يعرف الحقيقة مش كدا؟
دا أنا هشرب من دمك بس بعد ما البت الأستاذة دي اضمن أنها هتأخد مؤبد بإذن الله.
تبسم بسمة خبيثة، وقال :
– عشان تحكي لحد تاني؟ إنتِ السبب في اللي هيجرالها وادي جزات اللي يعمل خير لحد، اكيد كرهتك دلوقتي.
تعال بكاء ” نرمين ” يقطع نياط القلب، في حين قال هو وهو يتحسس جسدها بجراءة :
– يا بت دا أنا عمك هتستخسري فيا الجسم الملبن ده دا حتى عيب عليكِ، عيب اوي يعني.
ثُم أبتعد خوفًا من دخول احد إلى الغرفة، ونبرة جائعة قال وهو يبلل شفتيه بلسانه :
– امسحي دموعك إياكِ حد يحس إنك بتبكِ نخلص بس وأفضالك
ثم غمز لها.. فشهقت في قهر وهي تشعر بالعرى أمام نظراته الملتهمة لجسدها، عاجزة عن التفوه بحرف، شعور مؤلم أن يصبح من هو أمانك سر خوفك، وسندك هو الحفرة التي لا نجاة منها..
أصابها فجأة الصراخ مع فكرة العودة إلى البيت والبقاء معه في مكان واحد، فراحت تصراخ وتبكي وتتشنج بهيئة تمزق نياط القلب فاتسعت عينيه وهو يكمم فمها لكنها صارت متوحشة تخربشة وتدفعه بقوتها الوهنة، ولا رحمة لمن لا يرحم.
إندفع الباب مصدرًا صوتًا عال وتجمهر الناس حول الغرفة، بينما انطلق عاصم كالسهم قابضًا على عمها وصدد له لكمة سقط على أثرها فهدأ صراخها كأن قلبها قد أُثلج وهي تنظر في أستنجاد إلى عاصم الذي رفع عمها فاقد الوعي وقال لاهثًا :
-حقك وحق لمياء رجع، ولا رحمة لمن لا يرحم، ولا حياة لمن لا يستحي، الرحمة تجوز على الميتين بس كمان والأحياء.
وسدد لكمة اخرى للرجل ليترنح ساقطًا ارضًا، ومن بين الحشد كان والد نرمين يحاول الوصول للغرفة بإستماتة، حتى وصل وهُلع وهو يهرع لأخيه يتفقده فصاح عاصم في غيظ :
– مش فاهم انا انت إزاي أب.
اندفع والد نرمين وكاد ان يمسك فيه وهو يهتف بكلمات غير مفهومة، فأمسك عاصم بذراعاه وثناههما خلف ظهره وهمس جوار أذنه :
– أنت عارف انا مين عشان تفكر بس تمد ايدك عليَّ، اكيد مش عارف وهقولك، انا المقدم عاصم رحيم يلا، اصل عيب على الرجالة لو اعتبرتك راجل.
ثُم دفعه ليسقط ارضًا من شدة الدفعه، وإلفت صائحًا في الحشد ان يتفرق، ومد كفه لشاب يحمل حاسوب تلقفه منه ببهجة وبضغطة واحدة كان يصدح صوت وصورة لعم نرمين وما حدث آنفًا من أول دخولة لحجرتها حتى أصابتها تلك الحالة ودخولة، شاهده والدها والصدمة تحتل كل قسماته، و ود لو تنشق الأرض وتبتلعه في الحال.
كيف للعم أن يفكر حتى مجرد تفكير ان يفعل هكذا مع بنت أخيه؟
لولا انه رأى بعينة ما كان صدق.
تنهد عاصم وهو يغلق الحاسوب، وأشفق لوهلة على الرجل الذي ظن إنه شاب فجأة، نظر لـ أبنته التي انكمشت اكثر على نفسها، ثُم راح يصفع نفسه محملًا نفسه الذنب، لكن عاصم حال بين هذا قائلًا بشفقة :
– اهدئ يا أبو نرمين بنتك بخير بفضل ربنا، وأخوك بقا فأنساه عشان من دلوقتي خلاص هو اذى حد مني يعني مهيشوفش النور تاني، احمد ربنا بقا.
ظل الرجل واجمًا صامتًا، حتى قال في هم :
– أخويا بيشرب…
فضحك عاصم قائلًا :
– يا أهلًا والله فرحتني.
بدا إنه لم يسمعه إذ تابع :
– كنت عارف إنه بيشرب السم الهاري ده وسكت مكنش بإيدي حاجة اصلًا مكنتش أعرف إنه هيوصل لكده، يبص لبنت اخوه، اللي هي زي بنته، يا رتني عملت اي حاجة ومنعته من الشرب يا رتني عالجته، مكنش كدا ابدًا مكنش كان قريب منها اكتر مني دي كانت بتخاف مني وتتحامى فيه، مكنتش عارف ان الحشيش والمخدرات هتوصله لكده يبقي متوحش وينهش في لحمة
لانت ملامح عاصم ناظرًا بأسى للرجل، يعلم ذاك الشعور جيدًا، ولكنه يحمله الخطأ لماذا لم يُسرع وينقذ اخيه من هذا المستنقع الذي يجعل الإنسان كالحيوان؟
أشار عاصم للعساكر بأخذ عم نرمين، وقال وهو يتنهد ناظرًا لـ نرمين بأسف:
– لمياء مكنتش تتوقع منك الغدر، كانت مستعدة تساعدك وتعمل عشانك إي حاجة، مش تسجنيها.
انتحبت نرمين وهي تستتر عنه تححب وجهها في كفيها، فنهض والدها قائلًا بقهر :
– إحنا أسفين للأستاذة لمياء ويا ريت تسامحنا.
رمقه عاصم بنظرة مشمئزة وهم ان يخرج لكنه وقف لدا الباب وقال دون ان يلتفت :
– يا ريت تودوا نرمين لطبيب نفسي عشان ميسببش معاها عقدة في المستقبل، لمياء مش بتشيل من حد، لو نرمين حابها تشوفها وعلى العكس هتساعدها تخرج من اللي هي فيه.
🥀 لا حول ولا قوة إلا بالله 🥀
هاج القصر فجأة بمن فيه، الجميع في حالة زهول وصدمة، حيارى من تلك الفتاة الغريبة التي تعتلي رخامة المطبخ وأمامها كل الأواني التي تحوى الأكل، كالمفجوعة تلتهم الأكل بكلتا يديها من آنية على قدميها، وتلوح لهم في بلاهة وغمغمت بصوت متحشرج من الأكل الممتلأ في فمها وتضحك :
– تعالوا، تعالوا كلوا معايا متتفرجوش.
ابتلعت ما بفمها سرعان ما القت غيره وهي تقول :
-يااااه إيه الأكل الحلو ده اول مرة ادوق اكل طعم كِده جميل اووي.
طفقت ” دارين ” تأكل في إستمتاع غير مبالية بالهمز واللمز الصادر من المتفجرين من حُراس وخدم وغيره، دوى صوت الأمير الغاضب وهو يقف في آخر الممر وخلفه حارسان على ما يبدو إنهما من اخبرُه بما يجرى :
– ما الذي يحدث هُنا، فصل للجميع على تلك المهزلة التي تجرى هذا هو عقابكم.
هاج الجمع وهما ينصرفوا منتشرين هُنا وهُناك يكادوا يصتطدموا في بعضهما البعض، بينما تابع هو طريقه و وقف مشدوهًا ممتقع الوجه على أسكفة المطبح، ينظر إلى ” دارين” وما تفعله في دهشة جمة تملكته، وقال :
– أوه، يا إلهي ما هذا؟ ألم تأكل آنفًا هذه؟ ما الذي تفعله.
استل نفسه من صدمته وهو يأمر الحراس بالأبتعاد وخطى للداخل واقفًا بنبرة صارخة :
– ماذا تفعلين يا هذه، كيف أستطعتي قلب مطبخي هكذا.
أُجفلت ” دارين ” وقفزت واقفة مما أدى لوقوع أغلب الآنية من حركتها العنيفة ليتناثر الطعام على ملابسه، فأغمض عينيه وهو يجز على أسنانه ويكور قبضته يكبح غضبه كلا ينفجر فيها، وقال بلهجة قوية صارمة وهو يفتح جفنية مشيرًا لها :
– أنزلي إلى هُنا.
نفت ” دارين ” و هي على شفا حفرة من البكاء :
– لا لن انزل.
وضع ” البراء ” كفه على وجهه مكدودًا يحاول التحكم في اعصابه، فقالت ” دارين ” وهي تضرب بقدمها :
– تريد حبسي مجددًا ومعاقبتي، صحيح؟
هز “البراء” رأسه قائلًا في غُلب جلي :
– لا لن احبسك فقط أنزلي لنتحدث في هدوء.
هم ان يجذبها إلا أنها صارت تركض منه مغمعمة :
– أنت عبيط يعني ولا إيه مفكر اني هصدق، انا عارفك هتحبسني تاني.
تشنجت ملامحه بعدم فهم وهو يتساءل :
– ماذا ؟
شوحت ” دارين ” بكفها، قائلة :
– يا عم غور بقا انا ناقصه أترجم لك كمان.
برز فجأة صوت ” آجار ” المصدوم :
– يا الله ماذا فعلتِ، يا لكِ من فتاة أنك مصيبة متنقلة.
تصنعت ” دارين ” أنها تبصق عليه وأجابة :
– إنتَ معي ام لا يا هذا انقذني افعل شيئًا.
نفى ” آجار ” مبتسمًا في ظفر وهو يضم ذراعيه ويرتكن بكتفه على الحائط ملاعبًا حاجبيه في مشاكسة :
– هذا تخليص حق يا حبيبتي تستحقين كل ما يجري.
على غرة صدح صوت البراء صارخًا في إنفعال وعصبية :
– لك سحـــــــقًا لكما أخرجا من هُنا الآن .
نظراته فجأة بدت مرعبة مما جعل دارين تتخشب في مكانها ليكتم آجار ضحكته وهو يردد :
– سأخلصك منها يا رجل لا تتعصب.
في حركة مباغته هاج الأمير وراح يلقي كل ما في المطبخ على الأرض وهو يصيح :
– يكفـــــــــــــــي يكفــــــــــــــــي اتركوني وشاءني يكفي ما بيّ.
رمش آجار مدهوشًا وحمل دارين على كتفه مغادرًا بها وهو يرغي ويذبد، في حين قالت دارين في حزن :
– ماله المجنون ده يا ربي هو حد عمله حاجة؟ ده غبي ده ولا إيه؟
ألقاها آجار فجأة بعنف على الفراش لتصيح وما كادت بتعنيفه حتى مال هو عليها يحذرها بنبرة مخيفة :
– لا اريد ان أسمع صوتك يا دارين وإلا ؟
– وإلا، ماذا ستفعل.
أشار آجار بأبهامة على عنقه بمعنى الذبح وظن أنها سترتعب إلا انها ضحكت ضاربة كفًا بكف :
– استغفر الله العظيم، إيه اللي وقعني بس وسط المجانين دول ربنا ينجيني منهم من غير ما اتجن يا رب.
رفع ” آجار ” كفه عاليًا وقبل ان تهبط على وجنتها كانت ترمقه برفع حاجب فكور قبضته ضاربًا الفراش وهو يغادر مغمغمًا في حسرة:
– يبدوا أنه ذنب وستخلصه تلك المعتوهة.
ثُم سئل نفسه حائرًا :
– تُرى إي ذنب منهم؟
وأنصرف خارج القصر مبتغي التحدث مع الجنود عن هذا المكان الغريب.
🥀 لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم 🥀
خرجتْ ” لمياء ” مِن بابِ المركز غير مُصدِقة، والبناتُ يُحيطوُن بِها من كُلُ جانِب، تضمُها ” خديجة ” لِصدرِها، رأت ” مُعاذ ” يستنِد على السيارة يُرمقها بِجمود، كانت اوِل مرة تلقاهُ بعدُ المواجِهة التي تمت في المكتب، فسال دمعِها وهي تنظُر له، وهمت بالكلام، ترددت فيه قليلًا او كثيراً، بالنهاية باحت قائلة :
– مُعاذ أنا أسفة، أنا.. أنا مش مصدقة أني طلعت، انا مش هخبي عليك حاجة تاني.
من غيره يكون مؤئِلًا إذ صعب بها المسير، وضاقت السبل، من غيره يذود عنها، ضمها في صدره مشددًا على أحضانه، يكتم بكاءها او ربما يحمله عنها في قلبه هو، غير عابئ أين هم؟ ولا الزمان ولا المكان ولا بالمتواجدين حولهم، هو أخيها وهذا واجبه وكفى.
هو السند الذي لا يميل ولن يميل مهما اتكأت وأن كان حملها كالجبال.
ضم وجهها في كفيه، وهم أن يتحدث، لكن سبقه يوسف وهو يظهر فجاة بجانب لمار قائلًا باسف :
– اخرتها بقيتي رد سجون يا لمياء.
إلتفتت له لمياء وما كادت بتوبيخه حتى قال هو بإشمئزاز :
– بعد كده انا مستحيل أقعد مع وحدة رد سجون.
ثُم تلاعب بحاحبيهِ مُغنيًا وهو يخرج لسانة:
-يا رد سجون، يا رد سجون. أيه رايك في السجن حلو.
صاحت فيه لمياء :
– يا يوسف هموتك.
ركض يوسف وهي خلفه، يختبئ تارة في خديجة التي تكاد تموت من الضحك، وتارة في اروى، او ملك او معاذ…
حتى مسكته فضمها لصدره مربتًا على ظهرها وهو يقول في نبرة تخلو من المزاح :
– متزعليش يا لمياء انا جنبك اهوو ولما اكبر هموتهم ليكِ بس متبكيش تاني أنا جنبك اهوو ومش هخلي حد يقرب منك.
دارت لمياء وجهها في حضنه، كادت تميل لتمسك اذنه لكنه جذبها محتضنًا إياها كأنه شابٌ كبير.
– مِس لمياء؟
نهضت لمياء وحدجة نرمين المستندة على والدتها في حزن وفي لحظة كانت تصعد السيارة موصدة بابها في عنف، ليقول معاذ في تزمر :
– وسيارتي إيه ذنبها بس .
صعدن البنات جوار بعضهما وحتى تكفيهم السيارة، جلست ملك ويوسف في المقعد المجاور له وخديجة ولمياء وأروى في الخلف وقبل أن ينطلق سألهم :
– إيه رايكم نروح إي مطعم ناكل حاجة ونغير جوا.
لم تهمل لمياء إي احد بالموافقة إذ قالت في تعجل :
– لا لا وديني البيت يا معاذ عشان خاطري.
قاد معاذ وهو يرفض رفضًا تام قائلًا :
– مفيش لا انا هنا اللي اقرر وطالما قُلت هنروح يبقى هنروح.
ناولها الهاتف حين اضاء بإسم والدته وقال :
– خدي طمني ماما عليكِ، اكيد بابا قال لها انك طلعتِ وعرفيها اننا خرجين.
🥀 سبحان الله وبحمده 🥀
جلسن الفتيات حول الطاولة يتسامرون، بينما أتخذ مُعاذ مقعدًا جوار لمياء وإلى جواره يوسف يتجادلون، مجادلة محببة لقلبيهما، ذهبت أروى لدورة المياة، ولم تلبث أن جاءت بملامح غير الملامح سرعان ما اخفت توترها وهي تنخرط معهن في الحديث، وإذ فجأة عُلق بصر لمياء على أحدٍ ما، وتبسمت؛ كان جان يجلس على طاولة قريبة منهم، ومعه فئة من الشباب والفتيات، لم يلاحظ وجودها فلم تتمكن من ردع بصرها عنه الذي راح من الحين للأخر يختلس النظرات إليه..
سحب ” مالك ” مقعدًا وجلس جوار ” يوسف ” مُلقيًا السلام، ولم تسلم ” لمياء ” مِن هزاره الذي تؤلفه.
وقع بصر ” مالك ” على ” جان ” فـ دقق النظر فيه حتى عرفه، وتذكره، فوخز ” معاذ” الذي رفع بصره إليه مستنكرًا فعلته :
– إيــــــــه يا عم.
فقاطعه ” مالك” مشيرًا له بعينه :
– بص هناك كدا؟ مش ده نفس الواد اللي كان مع لمياء؟
اومأ ” معاذ” برأسه مؤيدًا كلامه ونظره عالق على ” جان “:
– آه هو فعلًا.
إلتفت إلى” لمياء ” فتنبه لنظراتها نحو جان، فـ أشار لـ مالك قائلًا وهو ينهض :
– قوم نسلم عليه.
نفى مالك متذمرًا :
– لا يا عم ولا اسلم ولا يسلم انا جعان ومستني اكل وامشي.
فجذبه مُعاذ من ذراعه وهو ينهره :
– قوم يلا أنت عيل، قوم كدا معايا، يلا.
نفخ مالك متبرمًا، في حين قال معاذ وهو يميل على أذن لمياء :
– لمياء الواد اللي ساعدك هناك اهوو هنروح نسلم عليه، عيب علينا بردوا نشوفه ومنسلمش خاصةً إننا مشكرنهوش حلو على مساعدته.
إرتبكت ” لمياء ” وهي تومأ في إضطراب، وغابت بفكرها، وعقلها، وربما قلبها معهم، تراه ينهض والبسمة تعلو ثغره، ويصافحهم في بهجة، فما راتهم ينظرن إليها ويتحدثا علمت ان الموضوع يدور حولها. فتوترت وذاغ بصرها وهي تخلق كلمات مبهمة تتحدث بها إلى الفتيات.
صُدمت وتخشبت حين قال معاذ :
– لمياء جان جاي يسلم عليكِ.
رفعت رأسها تلقائيًا تنظر إليه وضحكت في بلاهة وقد ساد الصمت وجميع الأنظار نحو جان الذي تنحنح قائلًا :
– لمياء، كيف حالك ؟
رمشت بعينيها وهي تنهض، وردت في ثبات تُحسد نفسها عليه :
– بخير الحمد لله، وأنت كيف حالك يا جان؟
رد جان بنبرة تفيضُ حنانًا:
– بخير، أنتِ لا تبدين بخير، هل حدث شيء، هل تعرض لكِ ذاك الرجل مرة أخرى؟
نفت لمياء برأسها وهي تجيب :
– لا أنا بخير لا تقلق لم يحدث شيء؟
باغتهما يوسف قائلًا :
– يا الله لمياء هو انتِ تعرفي أجانب ومخبية، اسئليه كدا معاه اخوات بنات قدي.
رمقه جان في تعجب، ونظر في تساؤل لـ لمياء، التي بدت كالبلهاء تمامًا ببسمتها السخيفة، فنزل جان على ركبةٌ واحدة وقال لـ يوسف :
– ما إسمك يا صديق؟
رد يوسف في زهو :
– يوسف الشرقاوي، وإنتَ؟
بسط جان كفه ورد في رتابة :
– تشرفت بمعرفتك يا يوسف، وانا جان.
صافحه يوسف وغمز له قائلًا :
– هل معك اخوات بنات مثلك يكونون في سني.
إنفجر جان ضاحكًا في حين جذب مالك يوسف وهو يغمغم في ضيق :
– يا ابني تعال هنا، بنات إيه بس؟ دا أنا وانا في سنك كنت بخاف من خديجة.
تدارك كلمته فنظر إلى خديجة، وقال :
– آسف يا ماما خديجة يا حبيبتي متخديش على خاطرك.
نظر جان إلي لمياء وقال باسمًا :
– أتمنى أن تكوني بخير لأن لا يبدو عليكِ ذلك، ربما هذا اخر لقاء لنا لكنه لقاء ترك أثرًا في قلبي، لن أنساه مهما مر من العمر.
ربط معاذ على كتفه حين طال صمت اخته ورد نيابةً عنها :
– للحق يا جان ونحن ايضًا لن ننساك يا فتى، فـ أنت شخصًا لا تنسى، ومن يدري ربما لنا لقاء مجددًا، فكما جمعتنا الصدف من قال أنها ستفرقنا.
إلتفت جان له وقال وهو يصافحه :
– معك حق كل الحق ربما نلتقى من يدري ما يخبئه القدر لنا، لكن ميعاد طائرتي غدًا صباحًا وسررت إني ألتقيت بكما قبل ذهابي.
عانقه معاذ وهمس :
– سررنا بلقاءك يا جان، أنت من اللحظة اخًا لنا لذلك حين تأتي إلى القاهرة لا تنسى أن لك اخوة وجب عليك رؤيتهم.
طار قلب جان فرحًا من كلمات معاذ، و ودعة ولوح لـ لمياء التي غشاها الحزن لوهلة، وطاف بصره لا أراديًا على وجوه الفتيات لا يدرك سر ذاك الحنين الذي فاض في قلبه وتمنى بداخله ان يبقى معهم، لذا حين عرض عليه معاذ ان يشاركهم في تناول الطعام لم يرفض بل رحب في سرور وجلس جوار مالك الذي أفسح له من قلبه مكانًا رحيبًا في تلك الدقائق القليلة.
إرتاب من نظرات أروى الحارقة وهي تنظر في ساعة هاتفها وتحدجه بكره بيَّن، فجأة هل حمزة واقترب من جان الذي نظر له في تعجب يشوبه الإرتياب.
ضرب حمزة على الطاولة أمام جان وهو يهتف :
– قوم يلا، انهض هيا.
اتسعت اعين معاذ مستنكرًا مايحدث وهو يدفع حمزة :
– في إيه يا حمزة عيب كدا.
حذرة حمزة بسبابته :
– دا شغلي اطلع برا منها يا معاذ، وابن الـ*** دا هيتحجز لحد ما اعرف جاي مصر يخرب إي.
وقف مالك حائلًا بينهما :
– استهدوا بالله كدا، عيب يا حمزة اللي بتعمله ده.
هاج حمزة قائلًا :
– انتوا مش عارفين دا مين؟ ولا جاي ليه، ولا عاوز إيه وسعوا…
اقترب جان منه وتساءل في هدوء :
– لا ادري ما الذي يجري، من انت؟
ضحك حمزة مستخفًا، وقال :
– من أنا؟ إنك بارع في التمثيل يا سيد آجار.
نقل جان بصره على الشباب في عدم فهم :
– من آجار هذا!
– هتعرف دلوقتي تعال بس معايا.
سحبه حمزة ولم يبدي جان إي اعتراض وهو يرافقه حتى سيارته.
فتبسمت أروى في ظفر بينما صاحت لمياء فيها :
– مفيش غيرك اللي قولتِ لحمزة طالما شوفت النظرة دي، ليه كدا يا اروى جان عمل لك إيه؟ انتوا محانين اكيد.
أمسكت أروى بكتفيها وقالت موضحة :
– ده مش جان يا لمياء دا إسمه آجار زعيم مافيا دا كان هيقتلني ويقتل حمزة، كمان انتِ مش فاهمة إذا هو هنا امال فين دارين، اراس قال ان دارين مع آجار وطالما آجار هنا ودارين ملهاش أثر يبقى هو لوحده يعرف هي فين، حسيت إنه بيمثل علينا.
همت لمياء بالكلام، فسبقها معاذ :
– إيه الكلام ده! يعني الشخص ده يعرف فين دارين؟
اومأت اروى في هدوء وأضافت :
– ايوه زي ما بقول كدا، دارين مع آجار وآجار هنا يبقي فين دارين، فعشان دارين ترجع كان لازم دا يحصل ويتحقق معاه وحمزة هيعرف فين دارين وعملوا فيها إيه.
صاحت لمياء وهي تنهض غير مصدقة ما تسمع :
– مستحيل اصدقكم إيه اللي بتقولُه ده، جان مغني وكان جاي عشان حفلة هنا انتوا مجانين، انا لازم اساعده زي ما سعدني.
قبض معاذ قبل ان تخطو على معصمها مرددًا :
– اصبري بس نعرف إيه الحكاية.
قصت اروى لهم مقابلتها مع آجار وما حدث وما قاله أراس عن تواجد دارين معه.
فنفنخ مالك بضيق:
– يعني كان بيستغفلنا!
– لا مأظنش.
قالتها خديجة بعد تفكير طويل، وسكتت لهنيهة وتابعت:
– حاسة في حاجة مش مفهومة.
– والله متأكدين مش متأكدين انا متأكدة إن في حاجة غلط وزي ما وقف جنبي هقف جنبه وهساعده.
قالتها لمياء فـ أيدها معاذ :
– وانا بردوا مش هتخلى عنه لو مظلوم هكون نصفته لو ظالم هياخد حقه.. يلا بينا عشان نمشي…
🥀 سبحان الله العظيم 🥀
وقفت ” دارين” تشاهد ” البراء” من شرفة جناحها، لا تنكر الأعجاب الذي غمر فؤادها به، ولكن يبقى سؤال واحد يحيرها وينغص حياتها ” تُرى هل هي في حلم؟ ام واقع حقًا؟ وإذ واقع أنَّى هي يا ترى؟ ”
الآن كانت تحتد قسمات وجهه يبدو إنه يصرخ في ذاك الحارس المنحني مرتعشًا تجزم إنه يكاد يبلل سرواله.
مالت برأسها حين أنصراف الحارس وراح هو يروح ويجيء، لماذا يبدو حزينًا، كئيبًا، لهذه الدرجة؟
فكرت .. فكرت طويلًا أن تنزل وتحادثه، ترددت، لكن في النهاية عزمت على الذهاب إليه.
أقبلت نحوه في تردد وإرتباك، و وقفت ما بين الخطوة والاخرى تنوي الرحيل لكنها تتراجع في آخر لحظة وتتقدم حتى وقفت على مقربة منه، وظهر إنه لم ينتبه لها إذ ظل على حالة.
فتنحنحت وهي تتصنع التلهي عنه حين سكن ناظرًا لها.
تبسم لها، بسمة اربكتها، بسمة مشرقة كأنه لم يحزن يومًا، وقال في هدوء بعد صمت طويل :
– كيف حالك يا غريبة؟
ضحكت فجأة متحمسة وقد لمعة عينيها، فـ على ما يبدو إنه قد زال غضبه تجاهها، وصاحت وهي تصفق … صفقة اجفلته إذ صدرت بغتة :
– هل زال الغضب عنك!
– ما رأيك بأن تتجولي في حديقة القصر قليلًا ستنال إعجابك حتمًا!
هل ترافقيني ويمكنك إعتباره هذا اعتذار عما بدر مني! ما قولك؟
كان ينتظر إجابة، مترقبًا، أما ما بدر منها أدهشة فقد اتسعت عينيها وتجلى فيهما الصدمة وقالت بنبرة ناعمة متجمدة :
– هل تدرك ما تتفوه به أنت أم إن بك شيئًا!
فهز كتفيه مجيبًا في حيرة :
– ليس بيّ شيء، لِمَ تقولين ذلك؟ يمكنك الرفض بكل بساطة.
قفزت بصيحة متحمسة وهي تتعلق بذراعه وتهتف :
– أرفض ماذا هيا بنا فقد مللت.
أبعد ذراعه عنها مدهوشًا من تصرفاتها الغير طبيعية بالنسبة له، وأشار لها بالسير بجواره فسارت متذمرة وهو إلى جوارها مشبكًا كفيه خلف ظهره، وراح يُريها كل ما تقع عينهما عليه، وهي مبهورة متسعة العينين، سعيدة كطفلة صغيرة، تركض امامه من الحين للآخر وربما دارت حوله راكضة وهي فاتحةً ذراعيه، فيتبسم من قلبه، قلبه الذي لم يتبسم يومًا هكذا، وربما هي بسمته الغائبة. أو ضحكته المفقودة، أو دنياه التائهة، ماذا دهاه فيمَ يفكر، وفيمَ يسرح، فهذه الغريبة سترحل يومًا إنها عابرة .. لكن عبورها كان عبور غير اي عبور، عبور مر على شغاف قلبه فترك فيهِ أثرٌ، وروحًا حلوة، وضحكة جميلة، وذكرى ستحييه من بعدها.
كادت ان تقطف وردة، وردةٌ حمراء لامعة كأن عيناها لم ترى الورد يومًا، فقد خطفت الورة عينيها، فراحت تقطفها لولا كفه الذي قبض على معصمها حائلًا، وهتف فيها بخشونة :
-على رسلك يا فتاة ستُجرحين اصابعك.
زمت ” دارين ” شفتيها بوجهًا عابس، فلانت ملامحه القاسية رويدًا رويدًا وبزغت بسمةٌ لطيفة أنارت وجهه المستتر نصفه في لحية سوداء جذابه، وقال :
– لا عليكِ فهي لكِ.
طرقع بأصابعه فحضر فورًا الحارس منحنيًا، فـ بإشار من رأسه كانت كافية ليقتطفها دون كلمة ويناولها له، وبإشارة اخرى كان ينصرف عنهما، فمد يده لها فصاحت في حبور وهي تختطفها من كفه تتشمم اوراقها في نفسٌ عميق تغلل في رائتيها.
وبينما هي على حالها، إذ سئل هو بغتة :
– هل أنتِ جائعة، انا لم أأكل شيئا ما رأيك ان تشاركيني.
ودت لو تقبله الآن فهي بالحق جائعة، فقالت حالمة :
– لا تسألني إذ كنت جائعة فـ الأكل هو متعتي، إذ جائعة ام لا فـ أنا أأكل فلا تسألني ذاك السؤال مجددًا.
كتم ” البراء ” ضحكة كادت ان تفلت منه، وقال :
– إذًا هي إيتها الجائعة دائمًا لنأكل.
كاد أن يسبقها إلى القصر، لكنه توقف وقد غزته الدهشة واستول عليه التعجب، حين قالت من خلفه :
– لديكم مخلل.
إلتفت متنغض الوجه، يرمقها شزرًا، وهتف قاطب الجبين :
– ما هذا؟
اقتربت منه ” دارين ” شبه راكضة وهي تكاد تصرخ فيه لكنها صاحت مصدومة بصوتٍ عال :
– إنها جريمة يعاقب عليها القانون من لا يعرف المخلل؟ ام انك تستغفلني، ألا تحب المخلل، الخيار والجذر والزيتون…
قالت عبارتها سارحة كأنها تتخيل ما قالت، فهز رأسه متعجبًا وقال في غلظه :
– تريدين زيتون، قولي هذا منذ البداية لِمَ هذه المراوغة، إلحقي بيّ.
انفجرت أساريرها وهي تلحق به، تكاد تسبقه لسرعة خطواته الحادة الرتيبة، واصطحبها إلى حجرة كبيرة الحجم، بل كبيرة جدًا، يتوسطها طاولة لم تأتي بأولها او اخرها مقعدها من اللون الذهبي ذات نقوش تبهر الأبصار، وخيل إليها ان هذا الرجل عاشق للون الذهبي الذي بدأ يروق لها جلست إلى جواره، و سئلت حائرة وعينيها تتفحص المكان بتدقيق شديد:
– هل سنأكل بمفردنا ؟
أومأ دون أن ينبس ظنًا إنها رأت إيماءته لكنها لم تفعل فـ إلتفتت صائحةً فيه :
– لماذا لا تجيبيني هل أكلم نفسي!
رفع حاجبه للحظة، يحدجها في صمت دام لوقت، ولسان حاله يُردد بداخله ” مجنونة وستصيبني بالجنون”
وضِع الطعام أمامهما والزيتون كما امرت، فبتلهف أخذت الطبق ونظراته الخانقة الغير راضية على فعلها سهام مصوبة عليها، لم يقرب الطعام كان ساكن تمامًا يشاهدها، بينما رمت هي حبة زيتونة وما كادت ان تمضغها حتى بصقتها فوق ذراعه الممتد على الطاولة، ونهضت تتفل وهي تغمغم في إشمئزاز :
– يع يع يع جيبلي إيه أنت، الله يسامحك ابقي شوف مين هياكل معاك تاني، جيبلي زيتون ني وكمان مُر.
استدارت له على وشك البكاء وضربة الأرض بقدمها وهي تهدر فيه غير مستوعبة ملامحهُ المتهجمة ونظراته المشتعلة العالقة على ذراعه جازًا على اسنانه مكورًا قبضته :
– كنت قولي مش عاوزك تاكلي ليه تعمل كدا؟ ليه فهمني؟ أنت مبتفهمش يعني؟
فما ان ادركت أنه لا يفهم اي مما تقول حتى تراجعت حين نهض ضاربًا الطاولة دافعًا ما عليها، وتابعت صارخة :
– أنت يا هذا مجنون حسنًا مجنون وأنا مخطئة لأتياني لك الاعتذار لا تستحق ذلك مني لن اكل من هنل مجددًا.
فرت من امامه بعد عبارتها بينما كاد يتبعها مبتغيًا ضربها إذ طالها لكن صوت بكاء عال سمرهما هما الاثنيين و…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية جحر الشيطان)