رواية جحر الشيطان الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم ندى ممدوح

رواية جحر الشيطان الفصل الخامس والثلاثون 35 بقلم ندى ممدوح

رواية جحر الشيطان الجزء الخامس والثلاثون

رواية جحر الشيطان البارت الخامس والثلاثون

رواية جحر الشيطان الحلقة الخامسة والثلاثون

إهداء إلى حبيبة القلب، ورفيقة الدرب، وعزيزة الروح، وضياء سماءي ( أسماء) اهدي لكِ هذا الفصل يا شريكة الفردوس الأعلى قراءة ممتعة.
على الرغم من إن الظلام الحالك يلفها برداء حالك السواد، والطريق معتم لا ترى حتى يديها، وجروحٌ طفيفةٌ انتشرت في جسدها بأكمله؛ جراء الزروع المشوكة التي لم تلاحظها، كانت خديجة تسير على غير هوادة ..
غير دراية ..
كانت تدرك لا ريب إنها ربما تقطع الطريق الخطأ.
وربما تواجه ما لا تستطع عليه صبرًا ..
وربما هو طريق بلا عودة ..
بلى أمل ..
بلى نجاة ..
رغم كل هذا كانت تسير في هدوء مثير للعجب، وخفيف ساقيها كان يرعد فؤادها برعدة قوية، ولسانها يردد في هدوء عكس جم ما يجوس من أعماقها، من قلق ليس على نفسها، بل على البنات :
_ لا إله إلا الله.
بيقين تام، وثقة، وحسن ظن في الخالق، كانت ترددها بكل راحة.
أوليس بذكر الله تطمئن القلوب، وتسكن؟
وهي كانت مطمئنة القلب، واثقة الإيمان.
فجأة! قفزت في ذهنها أنشودة من اللا مكان .. أنشودة عن الحبيب محمدٍ ﷺ وراح عقلها يرددها
“فيا حبٌ فيا وجد واشتياقٌ لا يحدُ
يا رسول الله قلبي لم يزل باسمك يشدو
أنت للعالم رحمة جئت تمحو كل ظلمة
نحن يا خير رسول بك صرنا خير امة
حبك الساكن فيا لم يزل يهمي عليا
بهجة في الروح فاضت وسلاما ابديا
صل يا رب عليه واسقنا من راحتيه
ذابت الروح وتاقت وبكت شوقا اليه
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
أيها المبعوث فينا جئت بالأمر المطاع
جئت شرفت المدينة مرحبا يا خير داع”
وبغتة انفجرت باكية، وهي ترددها كأن قلبها قد وجد ضالته، واستندت إلى جذع الشجرة وانهارت على ركبتيها، وهي تنظر حولها في خوفٍ وبعد إن شق عليها هذا الظلام الحالك، رفعت عينيها إلى صفحة السماء التي غطت بالنجوم الساهرة كأنها تخبرها همسًا “ألا بأس نحنُ معكِ، لا ضير من البكاء، ففي الدموع راحة”
ودارت ببصرها إلى القمر المنير، المكتمل، فبدا جميلُ الطلة، مريحٌ للنفس، يرمقها في حنان، قائلًا خلسة “هأنذا أنير طريقك، فلما البكاء؟”
كان بداخلها اشتياق غريب طفى في فؤادها دون سابق إنذار إلى حبيبها المصطفى، فجرى الدمع منهمرًا من مآقيها، وانتحبت وهي تنقل بصرها إلى القمر، والنجوم، وقالت بنبرة متحشرجة كأنما تخاطب رفقاءها، منصتون إليها، مهتمون :
_ هو أنا خلاص هموت هنا؟ ولا هخرج؟ أنا مش خايفة من الموت أبدًا، عشان لما اموت هشوف حبيبي محمد وحشني أوي واشتقت ليه جدًا.
صمتت لهنيهة، مسحت خلالها أدمعها، وشردت كأن روحها، وقلبها، رفرفا محلقين، وتألقتا مقلتيها بلمعة تضوي، ورددت بصوت يقطر شوقًا، وحنانًا، و وجدًا :
_ لقد كان رسول الله ﷺ متوسط القامة، لا طويلٌ ولا قصير، ذا وجهٌ مستدير إذا تبسم استنار وجهه كالقمر، أكحل العينين، كث اللحية، شديد سواد الشعر، كان طيبُ الرائحة، عريضُ الصدر.
بِحُبك يا رسول الله رق قلبي وطاب، بحُبك يا رسولي اطمئن، وبذكرك استنار دربي، حُبك ملأ الحنايا شوقًا، وفاض القلب حنينًا لمرآك يا سراجُ نفسي، فاسقني يا رب من راحتيه الشرفتين فهذا كل ما أرجوه.
لا مرية في أن خديجة لم تدرك كم مر عليها، وهي في تلك الحالة من الوعي واللا وعي، فمن غير الممكن أن يكون المرء وحيدًا في مكان نائي عن البشر ..
عن العالم ..
ويظل بهذا الثبات، بهذا اليقين، بهذا الهدوء.
لكننا لا نتحدث عن أي أحد، إننا نتحدث عن خديجة.
خديجة ذات الإيمان القوي، والعزيمة الشديدة.
فقوتها تكمن في حسن ظنها بالله.
وإرادتها تنبعث من إن ( لا إله إلا الله)
حين ضاق بها المقام، نهضت، وتلفتت حولها مرة أخيرة، قبل أن تتحرك دون هدف محدد، أو سبيل معين، لقد تركت لقدميها دفة المسير وتوكل قلبها على الحي القيوم، سيعينها عما هي فيه، وإن شاء لها النجاة فستنجو ولا قوة ستقدر على ردع ما هو مكتوب.
وبينما هي تسير، وفي غمرة حيرتها، وتخبطها، انزلقت قدميها في بحيرة عميقة سحبتها في سرعة إلى أعماقها، ومع صراخها الذي انكتم إثر اندفاع جسدها للأسفل، تحركت ذراعيها، وقدميها، ليضربا الماء وتسبح لأعلى وهي تختنق ..
وتختنق ..
وتختنق ..
حنى ظنت إنها النهاية، وفجأة شهقت .. شهقت الحياة وهي تلهث ما إن وصلت إلى سطح البحيرة، واستنشقت الهواء لتملأ به رئتيها.
يا الله هل في الهواء حياة؟
فقد أحست إنها عادت للحياة ما أن تسلل الهواء إلى رئتيها.
كم نعمك لا تحصى يا رحمن؟ فسبحانك.
كان نقابها مبتل، بل يغرق في الماء ويُصب منه صبًا وأحست بالاختناق.
في نفس اللحظة التي سقطت فيها، كانت هناك على مقربه منها عينان شرستين، متوحشتين، تتألقان في جذل ظافر، وهما يشاهدانها وردد الصوت مهللًا :
_ ستموتين يا خديجة الآن، أنا لم أفعل كل هذا، وآتيت بكل تلك الوحوش حتى أخسر؟ حتمًا لن تخرجوا جميعكم أحياء.
لكن ما أن طفت خديجة على سطح البحيرة، ورآها كيف عامت وها هي ذا أمامه تلتقط أنفاسها، حتى جز على أسنانه، مغمغمًا في مقت :
_ مما مصنعون أحفاد لمار هؤلاء؟
لكن سرعان ما تلاشى مقته، وحل محله بسمة تشف عن أن خديجة هالكة لا محالة، وردد :
_ لن تنجي يا خديجة، فأنا لم ادفع كل ما دفعت لتنجي، ستكونين وجبة دسمة يا فتاة.
وانطلقت ضحكته، خافتة، شامتة.
وعند خديجة أحست فجأة بشيءٍ ما، شيء يتحرك في سرعة رهيبة نحوها، وفي بطء كانت تستدير وما كادت تفعل إذ ترآى لها تمساح يقبل نحوها وما كاد يقترب ..
ويقترب ..
ويقترب ..
والمسافة تنزوي أكثر، وأكثر، وأكثر إذ فتح التمساح فكيه على آخرهما، واتسعت عينا خديجة في هلع، وزعر، و هزت رأسها، وراودها خاطر أن تعوم مبتعدة لكن ..
آهٍ من لكن تلك!
آهٍ وألف آه!
هل ستضاهي سرعتها سرعة تمساح؟ لا وألف لا.
خفق قلبها في جنون، وانتفض جسدها، وراقبت فكي التمساح أمامها مباشرة، مخيف، رهيب، وسيبتلعها حتمًا، فصرخت من كل أعماقها وهي تغطي وجهها بذراعها وتنظر بعيدًا عن فك التمساح الرهيب …
🌵 استغفر الله 🌵
شعور هائل بالعجز ذاك الذي ملأ قلب خالد، شعورًا لم يشعر به يومًا، ولم يزر حياته قط، بعد أن تفرق مع أراس وأركان في أماكن قريبة جدًا حتى إذ حدث شيئًا ما يتوجب وجودهم ثلاثتهم، وبينما هو يسير إذ على غرة إرتطم فيه جسد ضئيل، جعله يتراجع خطوة، وصوت أنثى مألوفًا يهمس في ألم :
_ فيم أنصدمتِ يا هنا الآن؟ يا إلهي، جبيني تحطم.
ثُم رفعت عينيها إلى خالد الذاهل، وصاحت في انفعال :
_ كالد، أهذا أنت؟ لا أصدق .. أخيرًا وجدت أحد …
قاطع خالد حديثها، قائلًا في استنكار :
_ كالد!! اسمي خالد يا حبيبتي .. وليس كالد هذا.
شوحت هنا بكفها في لا مبالاة، وغمغمت :
_ ماذا تفعل هنا؟
رفع خالد حاجبيه مندهشًا من سؤالها لدقيقة، سرعان ما اخفضهما وهو يجيبها في حنق :
_ أروح عن نفسي يا عزيزتي، ألا ترين؟ هنا مكان ولا في الأحلام ..
واستطرد في عصبية منفعلها، جعلتها تنتفض :
_ ما هذا السؤال أيتها الغبية! في رأيك ماذا أفعل بالتأكيد لم آتِ لأتنزه هنا.
زمت هنا شفتيها في حنق، وغمغمت :
_ ألا تعرف أن تتحدث دون سخرية؟
مرر خالد كفه في شعره، وقال في هدوء :
_ ألم تري أي أحد من البنات؟
هزت هنا رأسها في قلق، وأجابته :
_ لا، ولكن هما ه…
لم تكمل عبارتها، فقد تناهى لهما صدى صوت أخيها أركان بإسم خديجة، وخالد راح يعدو كالمجنون أمامها متتبعًا الصوت، فتلفتت حولها وهي تقول في خوف :
_ لماذا تركني هذا المجنون بمفردي؟
وتحركت تمشي في المكان الذي ركض فيه.
🪴 استغفر الله وأتوب إليه 🪴
خفق قلبها في جنون، وانتفض جسدها، وراقبت فكي التمساح أمامها مباشرة، مخيف، رهيب، وسيبتلعها حتمًا، فصرخت من كل أعماقها وهي تغطي وجهها بذراعها وتنظر بعيدًا عن فك التمساح الرهيب …
لم تدر خديجة ما حدث، فبينما هي تعصر جفنيها، في انتظار أن يبتلعها هذا التمساح، لم تشعر بأي ألم ولكنها سمعت صوت يصرخ بإسمها ثُم الماء يتناثر عليها بشدة، فما إن فتحت عينيها، حتى جحظتا في هلع فـ أمامها كان آراس يصارع التمساح وقد غرس في فكة الخنجر، وذراعه مصاب بشدة و الدم يتنفجر منه تفجيرًا، وشخصًا آخر يعتلي التمساح الذي راح يزمجر في ألم ويضرب بزيله الماء هائجًا، ثائرًا، ولمحت عدت تماسيح تقترب منهم، فصرخت بإسم آراس الذي إلتفت إليها وضم وسطها بذراعه وسبح بها بعيدًا، والتماسيح تلاحقه .. تلاحق رائحة الدماء التي جذبتها لكنه كان سريعًا بحق فقد حمل خديجة وأخرجها من البحيرة وخرج بدوره، وسائلها وهو يلهث في إنهاك :
_ أأنتِ بخير؟ هل أصابك أي أذى؟
آتاه ردها بأن ألقت نفسها في حضنه وهي تبكي بحرقة أدمت قلبه، وقبل أن تنطق بحرف، كان خالد يسأل لاهثًا :
_ خديجة.
أبتعدت خديجة على الفور عن آراس وألتفتت إليه بجانب عينيها، فسأل بغيرة واضحة :
_ أنتِ كويسة صح باين إنك كويسة!
كان آراس يحتويها بكل حنان الدنيا، كأنما يطمئن قلبه إنه وصل في الوقت المناسب، وأنقذها وها هي بين ذراعيه بجانب فؤاده.
صاح خالد فجأة حين لمح آركان في البحيرة يقاتل في استماتة :
_ يا إلهي آركان!
و وثب فورًا في البحيرة ليآزره، أبعد آراس خديجة التي تشبثت به، فهمس في خفوت :
_ سأعود إليكِ يجب أن أساعدهما!
هم بالنهوض حين تعلقت خديجة في ذراعه السليم، وأطل الجزع في عينيها، وتمتمت بنفي :
_ ذراعك مُصاب لا تذهب .
وأخفضت صوتها وهي تهمس في خوف غمر فؤادها :
_ لا تتركني بمفردي .
كان الأمر عسيرًا عليه ، من جهةٌ أخيه ، وأخرى حبيبته التي لم يهوى القلب غيرها ، ومع ذلك أثر على أن يساند أخيه ، فتحاشى النظر إليها كلا يرجع عما نوى وأفلت ذراعه وقفز داخل البحيرة ، ومع قفزته أشهر خنجره ليعتلي ظهر إحدى التماسيح الذي هاج وهو يضرب بزيله من خصمه الذي راح يطعنه دون هوادة في جنبه، وظهره فغاص أسفل الماء وراح يتقاتل معهم في جسارة وآركان وخالد يواجهوا المثل، لكنهما لم يفلحا، فها خالد كاد إحدى التماسيح أن يقضم قدمه ، وآركان يحاول بأستماته النجاة ، لكن آراس كان يصيبهم حتى يتفجر من جروحهم الدماء فيتكابل عليه اخواته ، وخرج من البحيرة لاهثًا وهو يستند بكفيه على الأرضية في أعياء ، والماء يتصبب من جسده صبًا ، وقبل حتى أن يلتقط أنفاسه ، سمع صوت خالد يسأل في تهالك قلق ، وبصوت خافت يقطر بالإجهاد :
_ أين خديجة ، ألم تتركها هنا يا آراس ؟ أم ماذا ؟
أعتدل آراس في الحال رافعًا رأسه إليه في حركة حادة، ولم يلبث إن راح يدير عينيه في المكان .. لكن بالفعل لم يكن هناك أثر لخديجة نهائيًا، فهب واقفًا وراح يدور في المكان وهو يهتف :
_ خديجة، خديجة أين أنتِ؟
تكرر ندائة عدة مرات، قُبال بالهدوء التام وصدى صوته في المكان فقط، فزاغت عينيه كأن بريق الحياة قد خبى فجأة، وروحه قد فارقته، وتلاحقت أنفاسه، وخفق قلبه
لقد فقدها ..
فقدها مجددًا ..
ولن يسامح نفسه أبدًا ..
لقد ترجته ألا يتركها بمفردها وقد فعل ..
فعل دون أن يدرك إنه لم يكن عليه تركها ..
إنه يستحق ذلك ..
لكن السؤال الوحيد الذي يدمي قلبه، أين ذهبت؟
لثاني مرة تنساب من بين يديه ..
لثاني مرة ترحل عنه ..
لكن هذه المرة هل يجدها ..؟
أطلق صرخة مجلجلة بإسمها، صرخة نبعت من فؤاد يبكي.
ربما لم تبك عيناه، وظلت جامدتين، لكن قلبه بكى، والدموع راحت تهوى بداخله كأنها خطاطيفٌ من النار تلهب جسده.
🌴 أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم واتوب إليه 🌴
سقطتت لمياء على وجهها في عنف، كانت تلهث بانفعال، وفؤادها يخفق في خوف كاد يوقف قلبها، وما همت أن تعتدل لتستمر في فرارها لم تجد مناص من الهرب فسرعان ما سقطتت مرة اخرى جالسة، وعيناها تحدقان في عينان الأفعى التي وقفت تتطلع عليها بفحيح دب الرعب في أوصالها، فزحفت للخلف ومع تحركها فتحت الأفعى فمها وسال لعابها ليسقط على قدماي لمياء، فأطلقت لمياء صرخة انشق لها فؤادها، وتزلزلت الأرض من تحتها، ونهضت وهي تنتحب من شدة الخوف، ودموعها تنصب صبًا من مقلتيها، وتسمرت محلها حينما دارت الأفعى في سرعة فائقة ولُفت على جسد لمياء، مرة وراء مراء.
وراء أخرى ..
وأرتفع جسد لمياء عن الأرض، و وجه الأفعى في وجهها تمامًا بينما باقي جسدها ملتف حول جسد لمياء التي شحب وجهها، وجحظت عينيها، وراحت الأفعى تعصر جسدها، ولمياء تختنق وتختنق بلا هوادة ..
وبلا امل في النجاة ..
وفجأة أنقض آجار على الأفعى، غارسًا الخنجر في عنقها فزمجرت في ألم وأفلتت لمياء التي هوى جسدها متخشبًا كأنما أصبح تمثال من الصلب وتلقفه إسلام بين ذراعيه في هلع ..
ورفع وجهها الشاحب، ولطم على وجنتها في جزع وهو يردف في ارتياع :
_ لمياء، حبيبتي، رجاءً أفتحي عينيكِ، أنتِ بخير أليس كذلك؟
أمسك كفيها بين راحتيه وأخذ يفركهما في رفق وهو يردد اسمها في قلق، وفجأة!
شهقت في قوة لتنظر له للحظة في فزع قبل ان تتلفت حولها في هلع وتنفجر باكية، فتنفس إسلام الصعداء، وهو يهمس :
_ أنتِ بخير، أليس كذلك؟ لم تصابي بأذى؟
وانبعث صوت من جانبها الآخر يسألها في قلق :
_ أأنتِ بخير، لا بأس لقد مضى .. لا بأس أنتِ على ما يرام.
سكت عنها البكاء، ومسحت دموعها وهي تنظر إلى إسلام، ثُم دارت رأسها ببطء إلى آجار، وازدردت لعابها في خوف، بقت لدقيقة تنقل بصرها بينهما، وجسدها يرتعش برعدة قوية، وبغتة بكت في حرقة وهي تصرخ ظنًا منها إنهما من الجن، او عفاريت.
فراح لسانها يستعوذ ويبسمل، وقلبها كاد ان يتوقف من فرط الرعب، ونهضت فجأة مبتعدة، فتبادلا الشابان النظر في توتر، و وقفا، واقترب إسلام منها هامسًا في تريث :
_ لمياء، اهدئي يا عزيزتي هذا أنا إسلام.
توقف حينما تقهقرت للخلف عن التقدم نحوها، وراقب رأسها الذي اهتز في جنون رفضًا لكلامه، فغمغم بضيق وهو ينظر إلى آجار :
_ يا إلهي، الفتاة ستموت من فرط الرعب، أفعل شيء يا رجل! لماذا جئت معي بالأساس لم يكن جيدًا أن يدعونا معًا.
لم يعره آجار اهتمامًا، وقال في خفوت للمياء التي ترتجف كمن أصيبت بصاعق كهربائي :
_ هلا توقفتي عن البكاء قليلًا .. رجاءً اهدئي أنا آج
هم أن ينطق باسمه الذي دعاه به ماهر، لكنه في اللحظة الأخيرة، همس في اضطراب :
_ أنا وليد .. أنا وليد .. وليد.
كان يردد اسمه كأنما يخبر قلبه أن اسمه هو هذا ( وليد) ولد من جديد، ليس قاتل، ولم يفعل ما يُشين .
ومع ترديده سكتت لمياء وهي تحدق فيه بعينين متسعتين.
🌳 اللهم اغفر ليّ خطيئتي يوم الدين 🌳
هوى جسد ملك من أعلى المرتفع، لكن تلقائيًا تعلقت بنتوء بارز بكفيها، فكان المنظر، رهيب، مخيف فجسدها يتطاير في الهواء، ولولا إنها تعلقت بذاك النتوء لكانت في خبر كان الآن.
سالت دموعها من شدة العجز وهي تنظر للأسفل فأجتاح رأسها دوار شديد وانتفض قلبها من عمق الأرتفاع الشاهق، وتلك الصخور الصلدة التي ان سقط جسدها عليها فستحطم بدنها تحطيمًا، أصابعها بدأت تنزلق من على النتوء من ثقل جسدها، فشهقت وهي تعصر جفنيها محاولة منها على أن تتماسك وتواجه الموت ببسالة، وأحست بأناملها تنفلت شيئًا فشيئًا وجسدها يهتز.
وأنفلتت أصابعها وهوى جسدها سرعان ما ثبت في الهواء وارتطم بالجدار الصخري، وأصابع قوية، خشنة، من فولاذ كانت تقبض على رسغها، وصوت معاذ خائف، مرتجف، مرتاب، يهمس :
_ مسكت أيدك متخافيش هطلعك، اثبتي.
تلقائيًا ضمت كفها الآخرى على كفيه الممسكين بيمناها، فكان جسدها متعلقًا في الهواء مثير للشفقة.
سحبها معاذ لكن نتوء حاد انغرس في بطنه فجز على أسنانه وكاد يفلت كفها بسبب كفيه اللذان تراخا للحظة، وسمع بكاء ملك الخائف يقطع نياط قلبه، كان جذعه الأول بأكمله مائلًا في الفراغ، وتلاقت عيناها بنظرة متألمة، ورأت الدماء تغرق صدره فدارت بصرها إليه مرة أخرى لترى عيناه ثابتان، ممتلأتين حبًا، وخوفًا من الفراق، وهم بسحبها مرة أخرى وهو يهتف :
_ ساعديني يا ملك، امسكِ ايدي كويس متسبهاش، هتطلعي.
كانت تشعر إنها لن تنجو قط، يستحيل أن لا تهوى، فهزت له رأسها بدموعًا نزلت على قلبه كحمم بركانية وهو يقبض بقوة أكبر على أصابعها التي كانت تنزلق من ثقل جسدها الذي يتدلى، وفي جنون صرخ :
_ هتطلعي قولت، مش هسيبك.
أحست بكف آخر يقبض على اصابعها وصوت مالك يقول :
_ مسكتك، متخافيش.
سحبها الأثنيين لأعلى ومع سحبها تدفق الدم من جرح معاذ أكثر من إثر الضغط، وما إن ارتفع جسد ملك واستقر على الأرضية، حتى احتواها مالك في حضنه بحنان جارف، وهو يحمد الله، بينما بكت هي وهي تستكين في حضنه.
بكل مرار الدنيا، دون أن يشعر حتى بجرحه النازف، كان معاذ يدفن رأسه بين كفيه، ودموع ملك كالجمر تكوي قلبه، ليت له الحق بأن يمسح دموعها.
يضمها إلى صدره ..
ليطمئن قلبه الخافق بين جنبيه على الأقل ..
لقد كان يفقدها، يفقد الوحيدة التي خفق لها الفؤاد.
الحبيبة التي تجعل لحياته معنى ..
ملاكه ذات البسمة التي تشرق قلبه وتمحو كرب الحياة منه.
تنبه لشروده على صوت أروى تقول :
_ معاذ أنت بتنزف.
أحس معاذ بألم في بطنه ورأى الدم الذي ينزف منه، فرمق ملك وهو يجيب في خفوت :
_ مش مهم .. المهم إن ملك بخير .
خلب قلبها الذي ألتفت إليه مع عيناها، فتلاقت نظراتهم، فلم تلبث ان خفضت بصرها في حياء.
تلفتت أروى حولها في اهتمام وهي تسأل :
_ لمياء فين ؟
وهبت واقفة، وهي تصيح في انفعال :
_ لمياء يا ربي.
ركضت وتلاشت في لمح البصر من امامهم فلحق بها معاذ على الفور، فين حين قال مالك مندهشًا :
_ في إيه؟ هي لمياء كانت معاكم؟
لم يتلق ردًا فملك وثبت واقفة لتلحق بـ اروى في خوف على لمياء، فغمغم مالك :
_ في إيه؟ إيه اليوم ده يا ربي؟ لا إله إلا الله.
توقفت أروى في حركة مباغتة، فتوقف معاذ بجوارها وظهر من خلفهما ملك ومالك، وأمامهم رأوا لمياء ترتجف و آجار يقنعها إنه وليد، فما إن رأتهم لم تكد تصدق عينيها، وركضت لتستقبلها اروى في حضنها.
غمغم معاذ في تهالك :
_ هو إيه بيحصل هنا؟
قبل ان يجيبه احد، ابتعدت لمياء وقالت وهي تشير بسبابتها هلى آجار وإسلام :
_ عفاريت يا معاذ، عفاريت كانوا هيكلوني.
صاح معاذ في تعجب :
_ يكلوكي؟ وعفاريت؟ هي العفاريت بتاكل الناس؟
انفجر مالك ضاحكًا وهو يضرب كفيه ببعضهما، بينما رفع آجار حاجبه في دهشة، ولم ينبس إسلام لعدم فهمه لحرف مما قالت.
دبت لمياء الأرض بقدميها وهي تصرخ باكية وتواجه أروى :
_ يا أروى دول عفاريت صدقيني! طب أنتِ شيفاهم.
في غمرة شرود أروى هزت رأسها نفيًا دون أن تدرك إنها ترسخ الفكرة في عقل لمياء، التي صرخت في خوف قائلة وهي تتحرك دون هدف :
_ هتلبس، هيلبسوني هيلبسوني، او هيقتلوني وهكون عفريته، يا رب لا يا رب مش عاوزة اموت على أيد عفريت ..
هزها معاذ فجأة من كتفيها، وغمغم في صرامة ألجمتها :
_ يا بت أهدي بقا عفريت أما يركبك يا شيخه.
ولف وجهها نحو آجار قائلًا :
_ ده وليد وعايش مماتش .. وده إسلام
قالها، وهو يدير رأسها جهة إسلام، ثم ضرب رأسها قائلًا في تهكم :
_ ربنا يكون في عون الطلاب اللي هيطلعوا تحت أيدك.
تفاجئ بعد كل ما قاله بها تقول في تساؤل :
_ إيه ده؟ أنت بتتكلم جد؟!
قلب معاذ كفيه في حنق، وقال في ضيق :
_ صبرني يا رب.
لوح آجار بكفيه مغمغمًا :
_ إنها مجنونة ..
وإلتفت إلى إسلام ضاربًا كتفه قائلًا :
_ كان الله في عونك يا أخي، ولكن نصيحتي لك ما زلت على البر (لم قلبك وجري ومتفكرش ترتبط بيها دي مجنونة)
لم يفهم إسلام عبارته الأخيرة فعقد حاجبيه في سخط، بينما صاحت لمياء تنهره :
_ مين اللي مجنونة يا اض أنت؟ بقا انا مجنونة أنت اهبل.
تجاهلها آجار تمامًا وقال وهو يتحرك :
_ أظن إننا لن نظل في مكاننا هذا، هيا تحركوا يجب أن نبحث عن الباقيين!
كان يتحرك وفجأة أنتابه دوار مفاجئ وكاد يسقط لولا أن أسندته أروى وهي تقول :
_ خلي بالك!
فنظر لها قائلًا بامتنان :
_ أشكرك يا عزيزتي.
تحركوا جميعًا خلفه وجمعهم الدرب بحمزة برفقة دارين الذي ألتقى بها اثناء بحثه، فما إن لمح أروى، حتى احتواها بين ذراعيه وهو يلقي نظرة على لمياء وملك ليطمئن إنهن بخير قبل أن يضمها بقوة مسبلًا جفنيه، وهمس في أذنها برفق، وعاطفة :
_ لقد كاد قلبي أن يتوقف وعاد للحياة حين رآكِ يا رفيقة القلب.
أنهمرت الدموع من عيناي أروى، دموعًا حبيسة أبت أن تتحرر إلا في حضن يحتويها.
مسح حمزة دموعها بسبابته، وهو يهمس بصوت يقطر حنانًا :
_ أنا معاكِ وجنبك وأفديكِ بروحي يا روحي وآه لما نطلع من هنا اول حاجة هنعملها هي الفرح ولا أأقولك بلاش فرح اصلًا أنا بقيت اتشآم.
ضحكت أروى ضحكة كثيرة خافتة، وهمست له خفوت :
_ حمزة أنا تعبت من المشي ومش قادرة أكمل.
لم تستطع قول هذا للشباب، نعم إنهم إخوانها وأحبائها وتربوا معًا لكنها لم تستطع، لم تبين حتى خوفها، ورعبها مما هم فيه لأجل البنات، لكن الآن وحمزة معها، حبيبها، ورفيقها، وزوجها، وشطر قلبها مما قد تخاف؟ أو تستحي؟
فربت حمزة بحنان على ظهر كفها، ونظر للبنات التي بدا عليهم الأرهاق، وقال :
_ خلينا نقعد في اي مكان شوية الفجر قرب بالأساس الشروق يطلع ونكمل.
فوافقه الجميع وجلسن البنات معًا ودارين تقول في شوق :
_ جعفر وحشني أوى يا ترى عامل إيه دلوقتي؟
أغروقتا عينيها بدموع الحنين، فطوقتها اروى بذراعها وهي تقول :
_ جعفر أكيد بخير وبعدين دا مع مامتك عائشة يعني هو في امان متقلقيش.
أسندت دارين رأسها على كتف اروى، وهي تسأل:
_ مين اللي بيعمل فينا كدا؟ وهيكسب إيه؟
لم تحر جوابًا من إي احد ولاذ الجميع بالصمت، حتى أنبلج الشروق، وبينما هم جميعًا بدأوا في التحرك لاح لهم رجال مدججين بالسلاح يتقدمن على بعض منهم، فتقدموا الشباب للأمام وغمغم حمزة :
_ مالك معاذ خدوا البنات وتحركوا.
فنفى مالك بحزم :
_ مستحيل.
ألتفت إليه آجار وقال فجأة:
_قال خدوا البنات وأبعدوا يلا انتوا اصلا مش هتعرفوا تتعاملوا مع الأشكال دي هو ظابط وأنا ..
لم يتمم جملته، لأنه لم يدرك ماذا يقول، لكن فجأة غامت الدنيا أمامه وتقهقر للخلف وهو يمسك رأسها في قوة، ويجز على اسنانه في ألم، ورغوة بيضاء انبثقت من فمه مصحوبة بانتفاضة قوية كصعقة كهربائية أصابته دون سابق إنذار وسقط أرضًا جثه هامدة وقد تخشب جسده، فهرعوا جميعًا إليه حتى الرجال المدججين بالسلاح اقتربوا منه، وسمع صرخة بإسمه لم تكن من الشباب حوله، بل كانت من خالد، الذي وجده بغته جاثيًا بجانبه وهو يصرخ في مالك :
_ ماله حصل إيه؟
صمت مالك كأنما لا يدري ما يقول، او كيف يقول وغمغم في توهان :
_ وليد، وليد متسمم .. وتصاب بشلل، لازم يروح المستشفى.
رفع خالد رأس آجار وهو يحتوي جسده بين ذراعيه مغمغمًا :
_ سم؟! سم إيه ده؟ إزاي مستحيل لا مش هسمح لحاجة تحصل له.
كان آجار يسمع ما يقولون لكنه عاجز عن الرد
عاجز عن الحركة ..
جاحظ العينين ..
وبداخله كان يتسال ( هل هذا هو خالد ذاته الذي لم تمر عليهما إي مواجهة إلا وتجادلا، وتخانقا وضربا بعضهما)
وزاغت عيناه فجأة على وجه اخته دارين، وأراد لو يمد أصابعه ويمسح دمعها ويطمئنها إنه بخير، ثم نقل بصره على أخيه وأروى أخته في الرضاعة، وعلى الجميع وأسبل جفنيه مستسلمًا تمامًا للظلام الذي ابتلعه.

لم يكن الأمر هين على الشباب وهم يرون ( آجار) شبه ميت أمامهم، تلفت ( خالد) حوله كأنما يبحث عن شيء ما، وردد في قلق :
_ لازم ننقله المستشفى فورًا.
لقد أصابه سم الأفعى التي لدغته وهو يبعدها عن (لمياء) لكنه لم يبالي به وها هو ذا بسبب إهماله تكاد روحه تغادر جسدهُ.
نهض (خالد) وهو يسحب جسد آجار بمعاونة الشباب، وهموا أن يتحركوا به لكن باغتهم الرجال إذ رُفعت كل فوهات المدافع الآلية في وجوههم.
دار ( خالد) بصره على وجوه الرجال في غضب، وهو يغمغم :
_ ألن تدعونا نرحل؟
رد عليه أحد الرجال في غلظة :
_بلا سنتركم ترحلون إلى جهنم يا فتى، فلن يخرج أحد منكم حي!
أشار ( خالد) لـ ( إسلام) بأن يسند هو ( آجار) بيده وهو يردد :
_ هكذا؟ إذن لنرى من سيذهب إلى الجحيم قبلًا فأنا لن ادخلها لإنها ليست مكاني، إنها مكان لأمثالكم أيها الأوغاد.
صاح أحد الرجال في خشونة :
_ سنريك من الأوغاد يا هكذا.
_ فليكن يا صاح.
قالها ( خالد) وفي سرعة رهيبة كان يركض كالصاروخ، ويقفز في الهواء مثنيًا ركبتيه ويدور حول نفسه قبل أن يفردهما ويركل الرجل في صدره، فسقط أرضًا وانزلق منه المدفع، ما إن استقرت قدما ( خالد) أرضًا لم يلبث إن وثب على المدفع، مع صيحة أروى الملتاعة :
_ حاسب يا خالد.
ومع قولها أنهمر عليه الرصاص فرمي جسده أرضًا وتدحرج واعتدل وهو يحصد الرجال حصدًا، وشاركه حمزة وأروى اللذان اندفعا مع اندفاعه على الرجال.
تراجعت أروى برأسها متفادية لكمة كادت تصيب وجهها، وصددت لكمة للرجل تلقاها على ساعده ببساطة، فتراجعت لتركله في صدره لكنه قبض على قدمها ودفعها بقوة على الشجرة جعلتها تطلق صرخة متألمة وصلت إلى مسامع ( خالد) الذي تفجر غضب هائل على وجهه وفي لحظة كان يحمل بكفيه الشاب ويرفعه فوق رأسه ويدور به، وألقاه فوق زملاءه ليسقطوا معًا، وانقض على الشاب الذي ضرب أروى ولكمة لكمة ساحقة على أنفه، اعقبها بأخرى على فكه وهو يصيح بلهجة عصبية، غاضبة :
_ هل جرؤت ؟ مستتها؟ كيف تجرؤ يا حقير؟
في ذات اللحظة كان ( حمزة) يدور على عقبيه راكلًا إحداهما كأعصار هائج، مدمر و راح يركل ويلكم في جنون.
عاونوا الفتيات أروى لتقف، فنظر لها خالد برفق، وسألها وهو يلهث من الانفعال :
_ أنتِ كويسة؟
أجابته وهي تدلك جبينها في ألم :
_ ايوة كويسة، متقلقش.
ألقى حمزة نظرة على الرجال الذين تناثروا أرضًا، وركل جسد أحدهم، وهو يقول:
_ البهايم دول أكيد معاهم مواصلة جيين بيها.
رد عليه خالد في اهتمام وهو ينظر على مد بصره :
_ معاك حق، أكيد معاهم عربيات أو حاجة، وأظن إنها قريبة كمان.
دنا مالك منهم، وأردف مقترحًا :
_ همشي قدامك كده أشوف .. وأنتوا اسندوا آجار وتعالوا.
أومأ خالد برأسه، وقال :
_ فكرة كويسة ماشي.
هم مالك أن يتحرك، أوقفه إسلام وهو يلحق به، قائلًا :
_ إلى أين يا رجل؟
أجابه حمزة وهو يربت على كتفه :
_ سيتقدم أمامنا ليرى إية مواصلة تخرجنا من هذا المكان.
_سأذهب معه إذن.
قالها إسلام، ولحق بـ مالك، بينما تعاون خالد وحمزة ومعاذ على حمل آجار، لم يلبثوا جميعًا أن وجدوا ثلث سيارات استقروا بداخلها وانطلق مالك بآجار وخالد ليسعفوه.
🌼 اللهم اجرني من النار 🌼
لم يمض غير قليل على رحيل الشباب بـ آجار، وإذ بوغت الباقيين بقومٌ يحيطون بهم إحاطة السوار بالمعصم، ناهيك عن السيارات التي كانت تقبل، ولم يجد ( حمزة) بُدًا من إراقة الدماء لينجو من معه، وفي لحظةٍ واحدة كان ينزع سلاحًا من أقرب الرجال إليه وقدمه تطيح به بعيدًا، وسحب ذناده وأطلق على الرجال وهو يصرخ في معاذ، مغمعمًا :
_ خد البنات وامشي، اركب العربية وامشي بيهم وأنا هشغلهم عنكم، يلا.
تردد معاذ، واستنكر أن يتركه بمفرده، وأبى ذلك بكل إصرار، لكن حمزة دفعه بقوة إلى السيارة التي كانت البنات استقروا بداخلها وصرخ فيه :
_ قُلت أمشي أنت محتاج اسعاف جرحك بدأ ينزف، وبعدين البنات لازم يخرجوا سالمين وفي امانتك، يلا.
فتح الباب مع عبارته ودفعه بقسوة لم يعتدها منه معاذ على المقعد وأغلق الباب، فحاول معاذ الخروج، لكن حمزة ضرب بقبضته على النافذة المغلقة وهو يصيح :
_ أنا أكبر منك هنا، اسمع الكلام.
أدار معاذ محرك الوقود وابتعد وهو يشيع حمزة ببصره في المرآه.
التفت حمزة إلى السيارات التي كانت تقبل ورفع سلاحه وصدد فوهته نحو الإطارات وأطلق بجسارة، ولم يخطئ هدفه، أصابة إحدى الرصاصات الإطار الأمامي لإحدى السيارات فإذا بها تطلق صرير مزعج وتدور حول نفسها وتفاجئ زملائه بما حدث بغتة فلمْ يتمكنوا من السيطرة على سياراتهم التي راحت ترتطم في اختهم ودوى انفجار مخيف من لدن السيارات التي انصدمت في بعضها بعنف وانقلبت على أعقابها بصرخات الرجال بداخلها، وراقب حمزة النيران التي راحت تعلو بمنظر رهيب، مخيف، عكس توهجها في عينيه وهو يغمغم :
_ من حفر حفرة لأخيه وقع فيها.
ولمح سيارة تقبل عليه بكل سرعتها، وبداخلها كان شابين يقول إحداهما في ثورة من الغضب :
_ هذا الشيطان قضى على رجالي كلهم، أقسم بإنه لن ينجو من قبضتي، سأسحقه سحقًا.
فرد جاره وهو يقود السيارة في غضب هادر :
_ لن ينجو يا زعيم لن ينجو، لن اسمح له بالأساس، سترى كيف سأسحقه سحقًا لأجلك، فلا تعرف أمه كيف تتعرف عليه.
وفي مكانه صوب حمزه سلاحه على الإطار الأمامي للسيارة وضغط على الزناد لكنه تفاجئ بفراغ ذخيرته فمط شفتيه حنقًا.
وقال قائل من السيارة :
_ لقد نفذت ذخيرته، ليرنا الآن كيف سينجو من إطارات سيارتي.
واتسعت عيناه ذهولًا، وانبهارًا حتى كاد يخرجا من محجريهما، وهتف مبهوتًا :
_ يا للشيطان! ماذا يفعل هذا المجنون، ماذا يفعل.
وحق له الذهول، والدهشة، فأمامه مباشرةً لم يتزحزح حمزة من أمام السيارة وقد ظنه سيركض هربًا أمامه وسيلحقه، وقبل أن يصل كان حمزة كالصاروخ ينطلق نحوه ويقفز قفزة بارعة تثير الدهشة ويثني ركبتيه، ويحمي وجهه بذراعيه، ويحطم الزجاج، وأنطلقت قبضته في وجه السائق تحطم فكه تحطيمًا، فاختل توازن السيارة، وصاح الرجل الآخر:
_ لن تفلح، لن تفلح، ان تنتصر عليَّ ابدًا.
لم يبال به حمزة وهو يفتح باب السيارة ليدفع السائق خارجًا ويتولى هو القيادة بعد أن احتل المقعد وبينما هو يسيطر على السيارة التي كادت أن تنقلب انغرس في جنبه نصلٌ حاد جعل الدمع يترقرق في عينيه بحمرة متألمة وهو يكتم تأوهه، وباغته الرجل بطعنه آخر، فالتفت حمزة له ورفع مرفقه ليضرب وجه الرجل عدة مرات، فهجم الرجل عليه وهو يغمغم في غيظ :
_ قُلت لك لن تنجو، قُلت لن أسمح لك بالانتصار، لقد قُتلت جم رجالي يا وغد.
وبينما حمزة يدافع عن نفسه، أُجبر على ترك عجلة القيادة، في نفس اللحظة التي صرخت فيها الإطارات بصرير ينبأ عن عدم استقرارها وانقلبت السيارة على جنبها، ثم على رأسها، يليها جنبها، وبلغت آلام حمزة الذروة، وزحف خارج السيارة، والقى نفسه على ظهره ليلتقط أنفاسه، وأحس بدوار يستحوذ عليه كافحة بإصرار وهو يعتدل جالسًا، ونظر داخل إلى السيارة فوجد الرجل يحاول الخروج إلا أن قدمه قد علقت، فنهض مترنحًا وجرحه ينزف، ومال عليه وراح يحرر قدمه ثم سحبه بعيدًا عن السيارة التي شرع بنزينها يتسرب معلنًا عن إنفجار محتم، سعل الرجل وهو ينظر مشدوهًا إلى حمزة ونهض مترنحًا وهو يضحك بمقت أدهش حمزة، ثم أخذ يقول :
_ ما هذه الشهامة يا فتى؟ صحيحٌ قد سمعت عن شهامة العرب لكن لأول مرة تقابلني، ولقد اخطئت يا رفيقي في مساعدتك ليّ فأنا لست مثلك ولن أضحى بالدولارات التي حصلت عليها …
وقبل أن يستوعب حمزة ما يتفوه به، كان الرجل يدفعه نحو السيارة وهو يضحك في جنون، مستطردًا :
_ قُلت لك لن تنجو وها أنا ذا أنفذ ما أقول، ولن تنجو.
ولوح له وهو يتحرك مبتعدًا،
لم يدري حمزة ماذا يفعل، وجرحه يذاداد ألمًا ونزفًا، ولكنه أستند على كفيه ونهض، ومن بعيد لاح له سيارة تقترب ولمح بداخلها أروى، فتحرك بعيدًا عن السيارة التي لم تلبث إن انفجرت وأحس بنار تلفح ظهره حتى كاد أن يشوى، وشعر بجسده يطير إلى الأمام ثُم يرتطم أرضًا، وجاهد أن لا تُغلق اجفانه وهو يرمش كلا يغلبه الأغماء لكنه كان اقوى وكان آخر ما صك اذنيه صرخة ملتاعة باسمه من فم أروى.
غادرت أروى السيارة، وهي تندفع إلى جسد حمزة، وما كادت أن تبلغه إذ صد طريقها جسدٌ ضخم لرجل تسيلُ الدماء من جرح في جبهته، والذي لم يكن إلا الرجل الذي طعن حمزة، وابتسم في شراهة وهو يلوح بسبابته قائلًا :
_ ليس الآن يا عزيزتي لن اسمح لكِ بالاقتراب منه قبل أن يلفظ آخر نفس لديه.
رمقته أروى بنظرة نارية، وهي تقول بانفعال :
_ ومن ذا الذي سيمنعني؟
كاد الرجل أن يشير إلى نفسه في فخر، وهم بقول شيء لم يلبث ان اطبق شفتيه، حينما استطردت في تهكم :
_ أنت ستمنعني؟ كيف إذن أيها الخنزير الغبي.
تميز الرجل غيظًا، وتفجر الغضب على قسمات وجهه، وهو يهتف :
_ من تنعتين بالخنزير أيتها ال…
أبتلع باقي عبارته ليخرج بدلًا عنها صرخة مزلزلة عندما ركلته أروى بين قدميه ودفعته بكفيها من صدره وهي تقول في حزم :
_ تحرك يا رجل من امامي لم يُخلق بعد من يمنعني عن زوجي.
اندفع جسد أروى نحو حمزة لكن قبضة فولاذية قبضة على كاحلها فاختل توازنها وسقطت على وجهها، لكنها لم تستسلم واعتدلت فورًا لتضرب قدمها الأخرى في وجه الرجل وقفزت واقفه، فنهض الرجل بدوره مشتعلًا، غيظًا، وغضبًا، وحقدًا، وانقض عليها ممسكًا بخمارها وهو يهز رأسه، مغمغمًا في سخط :
_ يا للنساء، لماذا تعاندين بأن تجعليني أسحقكك سحقًا تحت قدمي!
أتفعلين كل هذا .. لأجل رجل؟ سأقتله أمامك يا صغيرة ثم أرسلك إلى الجحيم بعد أن أسومك سوء العذاب.
وأخرج فجأة مسدسه و وجهه على رأس حمزة الفاقد الوعي، وهم أن يطلق عليه وبالفعل اطلق رصاصة لكنها ابدًا لم تصيب حمزة فلقد رفعت أروى كف الرجل لأعلى وبرأسها ضربت رأسه فترنح وكاد يسقط على ظهره، لكن أروى اعادته بأن أمسكت بياقتي سترته وصددت له لكمات على وجهه دون أن يأخذ نفسه وضربت ركبتها في معدته فمال ممسكًا ببطنه في ألم، هنالك .. هوت على عنقه بحافة كفها فهوى متكومًا على نفسه.
والتفتت إلى حمزة وهي تهمس في لهفة :
_ حمزة
اندفعت إليه واحتوته بين ذراعيها، ورفعت رأسه وهي تهمس بأعيُن تترقرق بالدمع :
_ حمزة، رد عليَّ بالله عليك متقلقنيش.
ند عنه همهمه خافته للغاية وهو يرمش بأهدابه وألتقط كفها الذي على وجنته برفق وضمه في راحته، وفتح عيناه ببطء وهو يهمس :
_ أنا، أنا كويس يا حبيبتي.
كان صوته متهدجًا كأنما يأتي من مكانٍ سحيق، فانبعث صوتها وهي تنظر إلى جرحه النازف وتغطيه بكفها الآخر :
_ أنا .. أنا جنبك يا حمزة مش هسيبك وهنمشي من المكان ده دلوقتي.
قاتل حمزة إغماء كاد أن يصيبه وهو يقول بصعوبة :
_ رجعتي ليه؟ ليه رجعتي إزاي معاذ سابك كده!
فهمست تستوقفه عن الإسترسال بخوف :
_اشش اسكت متتكلمش عشان متتعبش اكتر .. حمزة .. حمزة بالله لا متغمضش عينك.
كان قد استسلم لإغماءة قصيرة كانت اقوى منه، فنهضت تتلفت حولها، قبل أن ترفع جذعه بذراعيها وتسحبه عازمة على وضعه داخل السيارة التي جاءت بها وتأخذه وتذهب، لكن قبل ان تدركها، ألتقطت أذنيها صوت محركات لدرجات نارية قادمة، فتملكها الخوف، واسرعت بوضعه داخل السيارة، وأغلقتها، وما كادت تدور حولها لتجلس خلف عجلة القيادة كانت دراجتين تقبلان عليها، فازدردت لعابها في توتر وهي تلقي نظرة على حمزة الغائب، ففكرت بأن يجب أن تبعدهم عنه، لذا ركضت بكل سرعتها مبتعدة عن السيارة، وبالفعل كما توقعت تابعاها الرجلين، وأحدهما يغمغم :
_لن نسمح لهذه الفتاة أن تنجو فقد هزمت زعيمنا!
سنريها ما مصير من يتجرؤ على زعيم من المافيا.
استترت أروى خلف إحدى الصخور التي وجدتها، وفي أثناء حركة الدراجة التي أنخفضتت بسبب الأرض الغير مستقرة، في حذر توقفت وقبل ان تصل الدراجة نحوها كانت تركل الرجل بقدمها من فوقها وهي تغمغم :
_ حذار اللعب بما يفوقك يا فتى.
ارتطم جسد الشاب أرضًا فأمسكت أروى بدبرياج الدراجة كلا تقع وركبتها وهي تنطلق بها، فصاح صاحب الدراجة الأخرى منبهرًا :
_ يا للهول، ما هذه الفتاة، لنرى أن كنتِ تجدين ركوب الدرجات اما لا يا عزيزتي فأنا حائز على عدة جوائز في قيادتها.
وأنطلق وراءها، لكنها ناورته وراحت الدراجتين تتسابقان فتارة تتقدم دراجة اروى، وتارة الشاب، ومرة تأتي عن يمينه واخرى عن شماله، كانت بارعة بحق وهي تفلت منه، فبلغ غضب الشاب الذروة وهو يغمغم في حقد :
_ لا لم يخلق بعد من يتحداني أو ينتصر عليَّ وخاصةً إذا كانت امرأة.
وذاد من سرعة دراجته لأقصى درجة، وجعل أروى تسبقه فجاء من وراءها مباشرة ثم قفز من فوق دراجته، فارتطمت الدراجة بعنف في دراجة اروى من الخلف، فأرتفع إطارها الخلفى وارتفعت أروى وهي تصرخ صرخة مدوية وتنقلب مع الدراجة إلى الأمام.
كان سقوط عنيف، يستحيل أن يخرج المرء منه سالمًا، فما بالك إذ كانت فتاة، خطٌ من الدماء سالت من طرف فم أروى، وعظمها كله يئن في ألم لم تستطع عليه صبرًا، وجبينها من إثر الأرتطام انفجرت منه الدماء، ناهيك عن جروحٌ وخدوش ملئت كل جسدها، ولوهلة أحست إنها أُصيبت بالعجز، كان ثقل الدراجة كله على قدميها وربما طالت جسدها العلوي، وحاولت أن تزحزح الدراجة قليلًا لكنها لم تلق إلا إذدياد الألم أكثر.
فجأة! وجدت الشاب يميل عليها ويقبض على فكها في قوة، ويرفع وجهها وهو يهتف بعينين جذلتين :
_ظفرت بكِ يا إمرأة، فلتعتبرين هذا درسًا كلا تتحدين رجلًا أبدًا.
رمشت أروى بعينيها بوهن، وهي تبذل جهدًا خرافيًا كلا تستسلم للظلام الذي بدأ يغشى عينيها، ورأت الشاب يتراجع للخلف ويستل مسدسًا صغيرًا من جيبه أشهر فوهته بعد أن سحب ذناده على رأسها.
إلى هنا ولم تتمكن من السيطرة على نفسها فأسبلت جفنيها وتراخى جسدها تمامًا وابتلعها الظلام، وضحك الشاب في جذل مستمتع وهو يردف وسبابته تضغط على الزناد :
_ سلام أيتها الفتاة الشجاعة.
ودوى صوت النيران يصم الآذان، لكن لم يكن من مسدس الشاب بل كان من حمزة الواقف خلفه مترنحًا في كلل، وقد أفرغ جم ذخيرته في ظهر الشاب الذي انتفض جسده في عنف، وسقط السلاح من يده، واستدار في بطء إلى الوراء وحدج حمزة بغضب وهو يغمغم بصوت شاحب :
_ لقد، لقد نلت مني!
وسقط كالحجر على وجهه، فقذف حمزة المدفع من كفه، وركض تجاه جسد أروى وهو يهتف :
_ اروى، لا يا اروى لا متسبنيش.
رمق وجهها المضرج بالدماء بأعين دامعة، ورفع من فوق جسدها الدراجة بكل قوته وهو يصرخ :
_ يــــــــــــا رب.
ومع هتافه انقلبت الدراجة إلى الجهة الآخرى، فأحتوى جسدها بين ذراعيه وهو يقول بدموع راحت تتساقط :
_ أروى ردي عليَّ يا حبيبتي أروى.
راحت دموعه تتساقط على وجهها للحظات، قبل أن ينتفض جسده، وهو يصرخ فجأة :
_ لا يا اروى متسبنيش ليه رجعتي ليه؟
صرخ بها، وهو ينهض حاملًا جسدها بين ذراعيه، وضمها في حنان جارف، وقال وهو يلثم وجهها :
_ مش هسمح لك تسبيني.
بدا كأنما يهذي إذ كان غافلًا عن انفاسها التي تتردد في صدرها، عن أصابعها التي تتحرك، وقد كان خوفه من الفقدان مسيطرًا على كل كيانه.
فخوف فقدان الحبيب يجعل المرء حاضرًا، غائب العقل، تائهًا بقلبٌ يناجي الحبيب ألا يرحل وبكى … بكى كطفلًا ضائع يرجوا أمه ألا ترحل فيضيع.
ألا تغيب فيغيب عن نفسه.
ألا تذره كالبيت المنهدم دون أن تشيد بنيانه.
وبدا الطريق أمامه طويل، مخيف لا ينتهى وهو يتحرك جهة السيارة بخطوات متعثره من إثر كل ندوبه التي أثقلت قلبه وجثمت عليه.
🌻 اللهم أني اسألك الفردوس الأعلى 🌻
تحركت لمياء أمام بوابة المستشفى بعصبية واضحة، ولوحت بكفها وهي تقول لدارين في قلق :
_ مكنش لازم نسيب أروى ترجع، أنا قلقانة عليها ومش مطمنة.
رغم القلق الذي كان يملئ نفس دارين أيضًا، إلا إنها ردت عليها في هدوء لا يوحي بما يمور في أعماقها :
_أطمني أروى قوية وهترجع بخير، وبعدين كنا هنعمل إيه يعني ما أنتِ عرفاها عنيدة!
برز فجأة خالد من الداخل، فالتفتت إليه دارين، وسألته في لهفة :
_ وليد كويس دلوقتي ولا إيه؟
طمأنها بإيماءة من رأسه وهو يغمغم ساهم البال والخاطر :
_ بخير متقلقيش أخرجوا السم من جسمه وأحقنوه بالعقار الخاص بيه وشوية وهيفوق.
مرت لحظة صمت بعد قوله، لم يلبث إن قطعته لمياء وهي تسأل في اهتمام :
_هي خديجة لقيتوها عند أراس ولا إيه؟
حل الوجوم على وجه خالد، وأطل الحزن من عينيه يفطر القلب، وظل صامتًا لدقيقة تجلت فيها الهموم على وجهه في أجلآ صورها، ثم دار بصره على لمياء، وهم بقول شيء، لكنه تردد في بادئ الأمر ثم حسم أمره، وغمغم كالحُ الوجه :
_خديجة اختفت بعد ما لقينها تاني!
صاحت لمياء في استنكار منفعل :
_بتقول إيه؟
رد خالد وهو يتحاشى النظر إليها :
_ زي ما سمعتِ.
شملهم قلق مبهم عصف بدواخلهم ولم يظهر منه شيء في الظاهر، ولاذوا ثلاثتهم بصمت ثقيل كأنما يخشى أحدهم قطعه فيقطع افكار الآخر، حضرت عائشة بغتة، وهي تهتف :
_ خالد، إحنا محتاجين العلاج ده ضروري.
تلاشت كل لمحة ألم عن وجه خالد كأنها لم تكن وهو يندفع نحوها ملتقطًا الورقة من يدها، قائلًا:
_دقايق ويكون هنا.
واستطرد في اهتمام :
_ هي عاملة إيه دلوقتي؟
بمنتهى المرارة هزت عائشة رأسها، وقالت :
_ مش عارفه، اصلًا مش عارفه إيه اللي حصل لها، كانت كويسة وفجأة اغمى عليها وجبناها المستشفى، ولكن الدكتور بيقول إنها لازم تعمل العملية في أقرب وقت لأن لأن حالتها بتدهور.
تنهد خالد في أسى، وهمس :
_خير بإذن الله .. هروح أجيب الأدوية.
ألقى نظرة على الورقة وهو يستدير مغادرًا المشفى، وما كاد يرفع عينيه حتى توقف بحركة حادة، وتراجع خطوة للخلف وقد شحب وجهه، وانبعث صوته في همس لا يكاد يُسمع :
_ أر .. أروى.
أُرتج عليه، خفق قلبه وتلاحقت أنفاسه فجأة، وحدق مصدومًا في السيارة التي توقفت أمام مبنى المستشفى، ومع وقوفه الحائر، المباغت هذا؛ رفعت عائشة نظرها تنظر إلى ما يحدق ولم تلبث أن شهقت في صدمة، مع صرخة كادت تفلت منها، وما ند عنها جذب انتباه لمياء ودارين اللآتين رفعتا بصريهما ليترآءى لهما حمزة داخل السيارة ينظر لهما بعينان غائمتان تسبحان في الحزن، وفي المقعد الخلفي لمحتا أروى شبه ميتة لا حياةٌ فيها.
فحدقتا دون حراك على جسد أروى، وألتمع الدمع في عيناي دارين وهي تهز رأسها بينما سال دمع لمياء وحالة حمزة تنبأها بما تهاب حدوثه وتصديقه، راقبا حمزة يغادر السيارة ويدور حولها وهو يتعثر بين الخطوة والآخرى من إثر الدماء التي كانت واضحة جراء جروح غائرة، فتح حمزة باب السيارة ومال بداخلها حاملًا جسد أروى بين ذراعيه وضمها لصدره وهو يعتدل يواجهم، و وقف ثابتًا في مكانه كأن قدميه قد إلتصقتا.
بدتا عينيه كأنهما عينان ميت في انتظار من يسبلهما.
خاويتين، دامعتين، خبا منهما بريق الحياة.
كان الموقف عسيرٌ للغاية، أول من تحرك متخليًا عن سكونه وصدمته كانت لمياء التي انتحبت بصوت مسموع وهي ترتجف باكية، وقالت وهي تندفع إلى حمزة :
_ أروى، أروى جرالك إيه.
مسحت على وجهها الذي غطت ملامحه الدماء، وهي تهمس في وجع :
_ مين، مين عمل فيكِ كده؟
ضربت على وجهها، ثم صرخت :
_ جاوبيني بقولك ساكتة ليه؟
دون كلمة، دون اهتمام تحرك حمزة من أمامها بأروى وقبل أن يبلغ درج المستشفى كانت قواه تخور فسقط على ركبتيه، واندفع إليه خالد ملتقطًا جسد أروى، وحضر باقي الشباب فجأة مع طاقم من التمريض الذين نقلوا جسد حمزة الذي اغشى عليه على الفراش المتحرك وسحبوه للداخل.
في حين انطلق خالد حاملًا أروى في اورقة المستشفى وهو يصرخ في الاطباء الذين فتحوا له باب الغرفة الطبية، و وضع برفق جسد اروى على الفراش الطبي وهو يغمغم في شراهة :
_ وغلاوتك عندي لجبلك حقك ولو على روحي.
أخرجوه الممرضات عنوة من الحجرة، فراح يقطع الرواق ذهابًا وإيابًا كالليث الجريح، وفجأة وقف ضاربًا قبضته في الجدار، وأستدار وهو يلهث إلى البنات الذين لم يكفوا عن البكاء، وغادر المكان في خطوات سريعة
🍁 اللهم إني أعوذ بك من حر جهنم 🍁
على الآريكة كان أراس جالسًا، جامدًا كالتمثال، صامتًا كالأموات، كأنه في دنيا وحده، ينفث دخان سيجارته كأنما ينفث عن غضب لا حدود له بداخله، وبجانبه جلست هنا واركان صامتين كأنما يخشى احدهما أن يند عنه ادنى صوت فتثور ثائرة أراس.
وفجأة ظهر خالد، قادمًا وهو يلتهم الأرض بخطواته، وغمغم في ضيق وهو يضرب الدخان بكفه :
_ ما تلك الحالة يا رجل؟ ألم تجد أختي بعد!
مال نحوه، والغضب يطل من عينيه التي اتقدتين، وقال :
_ أريد هذا الرجل حيًا كان أم ميتًا، فلن اغفر له ما حصل لـ اروى وحمزة و آجار.
على ذكر إسم آجار، انتفض جسد أراس وهب واقفًا في حركة مباغتة، وهو يهتف في جزع :
_ آجار؟ ما به آجار ما الذي حدث له؟!
صمت خالد للحظة قبل أن يقول :
_ لقد تسمم لكنه بخير الآن تخطى مرحلة الخطر.
صاحت هنا في فزع :
_ ماذا؟ تسمم! يا إلهي .. يجب أن أكون معه.
رمقها خالد بنظرة لا مبالية، وأعاد ببصره نحو اراس الذي ألتقط نفسًا عميقًا من سيجارته، ونفث الدخان بعيدًا عن وجه خالد، ثُم أطفاءها واعتدل شادًا قامته، وبقى للحظات صامتًا يتأمل خالد في سكون بدا بتفكير، وقال في هدوء مثير للدهشة :
_ دعني اطمئن على آجار ولأخبرك ماذا سنفعل يا رجل.
عقد خالد ساعديه امام صدره، وقال بنبرة مستنكرة، مستفزة :
_وما الذي سنفعله.
ارتسمت بسمة مخيفة على ركن شفة أراس، قبل أن يقول بنبرة مبهمة :
_ سترى، فالخطة لا تعتمد إلا عليك.
🍀 اللهم أصلح حالي 🍀
تململت بألم حاد يعصف برأسها، إثر ضربة مباغتها تلقتها على غفلة وهي تجلس قرب البحيرة في قلق، كانت تنتظر خروج أخيها وزوجها سالمين، معافين ليطمئن قلبها المرتجف خوفًا، وفجأة؛ تلقت تلك الضربة، مع شعور بالألم في ذراعها جراء سن إبرة أخترقه ثم أحست بـسائل غريب يمتزج في دماءها، وأحست ببؤبؤ عينيها يدور في محجريهما، والظلام يغشى عينيها ورأسها، واستسلمت تمامًا للعتمة التي احاطت بها، لتفيق أخيرًا متأوهةٌ، وببطء فتحت جفنيها لتجد الضوء يخترق عينيها يكاد يصيبها بالعمى فحجبته بذراعها، وبلغها صوت يقول في نبرة شامتة، ظافرة، سعيدة :
_ ها أنتِ ذا تفيقين أخيرًا، لقد مللتُ أنتظارك.
الصوت كان مألوف جعلها تسكن تمامًا وتتنهد في راحة، وتبسمت وهي تفتح عينيها لتنظر إلى نجيب الجالس أمامها ممد الساقين.
لا ريب لقد أنقذها أراس مرة أخرى ..
لكن اين هيا؟
ما هذا المكان الغريب!
ما تلك الأجهزة؟! ..
لماذا تشعر إنها مقيدة، وهمت بالنهوض مع خاطرها الأخير لتجد ذاتها بالفعل مقيدة الذراع الأيسر بقيدٌ من حديد، فأعتدلت في حدة، ونظرت إلى نجيب الذي تأملها لوهلة، ثم جلحلت ضحكته المكان بعبث، وقال من بين ضحكاته :
_ لا تحاولين أنتِ مقيدة يا ..
ضحك مرة أخرى مقهقهًا بأعين مستدمعة، و واصل قائلًا بنشوة :
_ يا زوجة أخي.
قطبت خديجة حاجبيها بدهشة ..
لماذا تبدو غبية لا تفقه شيء؟
ما بال نجيب؟
ما تلك اللهجة؟
ما هذي القسوة في نبرته؟
أين الاحترام الذي كان يعاملها به؟!
أين اراس وكيف تركه يفعل بها هذا؟
دارات برأسها في الحجرة قبل أن تستقر ببصرها عليه، وتسأله :
_أين أراس يا نجيب؟ لماذا لا اراه!
هب نجيب واقفًا في حركة حادة، مباغتة، وقست لهجته وهو يردد في جذل :
_ لا ولن تريه يا سيدة خديجة، يؤسفني ما سوف افعله بكِ لذنوبٌ لم تقترفيها، ولكن .. من يدفع ثمن الحبيب إلا مُحب؟
يا للقسوة! يا للصدمة! يا للحسرة!
أهذا نجيب الذي كان يأتمنه أراس عليها؟
ودت لو تسبر اغواره، تعرف ما في سرائره، أن تصل لقرارة نفسه وتعلم فيمَ يفكر!
نظرت له خديجة في حيرة، وقالت بنبرة تشف عن خوفها السحيق :
_ نجيب ما بالك يا هذا! فك هذا القيد عن معصمي، عما تتحدث لا أفهم شيء مما تقول؟! عن أي ذنوبٍ هذه؟
أرتكز بصره عليها لثوانٍ قليلة، ثُم تحرك بالغرفة والصمت التام رفيقه، وفجأة!
توقف ودنا منها وقال بلهجة لم تعتادها منه قط :
_ إي ذنوب؟ صراحةً ليست ذنوب! هو لم يقترف شيئًا، الواقع إنه أفضل شخص قابلته في حياتي، وأحسنهم؛ لكنني لا أريد الأكتفاء بما أنا عليه.
عقدت خديجة حاجبيها في دهشة، وتجلى في عينيها التساؤل، فتبسم بسمة عابثة، واسترسل حديثه في اغتباط :
_ لا ريب إنك لم تفهمي حرفًا مما تفوهتُ به، ولا تثريب عليكِ في هذا إلبتًا، إليكِ إذن … أنا من خطفكم جميعًا ..
صمت متلذذًا بتلك الصدمة التي احتلت قسامتها، والفزع الذي أطل من عينيها، وضحك بأعيُن متألقةً بسرور عجيب، و استطرد في حبور:
_ لا …لا، تتعجبين أو تنصدمين، نعم أنا من كان السبب في كل ما جرى لكم، تسمم آجار ..
قاطعته خديجة هاتفة في لهفة وهي تتحرك في محاولة لنزع قيدها :
_ آجار، وليد تسمم.
أومأ لها ببساطة وعيناه تذيدان توهجًا سعيدًا، ومكرًا، وتابع:
_ وحمزة وأروى.
هُنا وصرخت خديجة في جزع :
_ أروى!! ماذا فعلت بها يا مجنون، ماذا فعلت؟
تجاهل لوعتها وثروتها وكلامها كأنها لم يسمعها، وأكمل حديثه في تزمر شرس:
_ لا تقاطعيني رجاءً لا أحب أن يقاطعني أحد أثناء حديثي هذا يثير جنوني، إنهم بخير جميعهم بخير رغم كل الخطط التي وضعتها فكلكم بخير، احسدكم حقًا .. صدقبني أحسدكم إنكم كالقطط بسبع ارواح.
وتساءل في جدية وهو يرمقها باهتمام :
_ ألست تقولون هكذا؟ إن القط يمتلك سبعة أرواح؟!
رعب هائل غمر كيانها وهي ترمقه بحذر، حالته غريبة كأنه أصيب بمسٌ من الجن، يهذي ويفعل ما لا يدركه، جالت ببصرها في الحجرة قبل ان تنتبه له حينما بدأ يقول في غلظة :
_ علام تنظرين؟ أنتبهي إليَّ ..
ثم أردف يقول :
_ في جل خططي هذه لم اظفر إلا بكِ والجميع نجا، وقد كنت انتظر موت أغلبكم لكن لم يحصل.
وهز رأسه في أسى، وهو يردف :
_ حقًا أشفق عليكِ يا خديجة مما قد يصيبك ففتاة رقيقة مثلك لن تحتمل شخص دموي مثلي.
ومط شفتيه متصنع الحزن وهو يقول :
_ هل أخبركِ سرًا ؟ أنا من قتلت حبيبة أركان، فقد أهانني في مرة لذلك أنتقمت منه.
صاحت خديجة في ارتياع :
_أنت مجنون يا نجيب مجنون وبحاجة إلي طبيب نفسي.
قهقه نجيب ضاحكًا وهو يجيبها :
_ طبيب نفسي؟! آهٍ يا خديجة كم أنتِ بريئة.
رجعت خديجة برأسها للخلف وسألته في تريث :
_ لماذا تفعل كل هذا؟ ما الذي ستجنيه من كل ما تفعل.
هز نجيب كتفيه ببساطة، وتمتم في استهتار :
_ سأستفيد يا خديجة فحين أنزع أراس من طريقي بعد ما نهى هو على كل أعضاء المافيا لن يكون غيري سأكون الأب الروحي بعد ذاك وسأتحكم انا في عالم الجريمة.
رمقته خديجة بإشمئزاز، وهي تقول في إزدراء :
_ يا لك من حقير، ولماذا تفعل بنا هذا؟ ..
أبتلعت باقي حروفها في حلقها وهي تشهق في انفعال، عندما مال عليها فجأة بحركة حادة وقال بأعيُن تذداد شراسة :
_ لأن هذا ما يريده أبي ..
قاطعته خديجة مرددة في بهت :
_ ماهر .. أنت ابن ماهر.
تراجع نجيب وهو يهز رأسه، قائلًا :
_ أنا ابنه الذي رباه وكبر على يديه .. كنت صلعوكًا وقد أغناني، كنت وحيدًا وبات عائلتي، كنت متشردًا فكان موئلاي.
وقلب كفيه وهو يسألها في حيرة :
_ لذلك يجب أن ارد له الجميل، وأن أنفذ ما يأمُر به، لهذا فكل اسفي لكِ يا خديجة يجب أن تذقين مما ذاقه والدي ماهر.
وفي حركة خافتة، وبينما خديجة متسعت العينين تراقبه في خوف، ضغط زرًا على احد الأجهزة، فأنتفض جسد خديجة وسرت الكهرباء في جسدها، وعلت ضحكته في نشوة.
ألم حاد، رهيب، هائل سرى في جسد خديجة وهي تنتفض، وسالت الدموع من عينيها بغزارة كأنهما شلالين من الماء، وضاق صدرها حتى أحست أن قلبها قد سقط بين قدميها، وراحت تتنفس في صعوبة وكل ما بها ينتفض بهيئة مخيفة.
وفجأة سكن جسدها متراخيًا، متهالكًا، كأنما غادرته الروح، وتدلى رأسها على صدرها، والعرق يتصبب منها صبًا، وتناهت لها ضحكة نجيب، ثم صوته يقول وهو يصفق في مرح عجيب :
_ يا الله، يا الله كم هذا رائع إنه رائع بحق، لا لا إياكِ أن تفقدي وعيك سريعًا ما زالنا في البداية.
بعينان فقدتا بريق الحياة، غائمتان في الدموع نظرت له خديجة وهي تبذل جهدًا على فتح جفنيه، وأعاد هو الضغط على زر الجهاز، وعاد جسد خديجة ينتفض بقوة أشد.
☘️ اللهم ألحقني بالصالحين ☘️
_ يا الله ما الذي حدث؟
نطق آجار بهذه العبارة، وعيناه تدور في الغرفة بحيرة، حتى تأكد من ظنه.
إنه في مشفى ..
لقد عاد للحياة من جديد ..
_حمدًا لله على سلامتك.
تسللت العبارة إلى أذنيها بصوت خالد، فالتفت مصدر الصوت، ودارت عيناه على ملامح خالد لدقيقة، قبل أن يغمض جفنيه ويفتحهما، ورد في هدوء :
_ بخير حمدًا لله.
ثم مسح وجهه بكفه ونظر له بانتباه شديد، وغمغم :
_ لا أصدق يا خالد ما كل الحنان الذي صدر نحوي فجأة يا رجل؟! ألن نتخانق معًا.
تبسم خالد برفق، وهو يسأله بشقاوة:
_ أتريد أن نتخانق؟ لا مشكلة عندي أبدًا، فقط انهض وكن بخير ولنعود لجدالنا.
ضحك آجار في خفوت، وردد في سعادة :
_ إذن أنت لا تكرهني!؟
تأمل خالد ملامحه في حزنٌ عميق.
وراحت الذكريات تغزو عقله ..
كم كان يتجادلان في طفولتهما!
ثم يعادن كأن شيئًا لم يكن!
كم حزن، وبكى لفراقهما هو وإسلام!
والآن قد عادا، عزآه الوحيد إنهما بخير.
كان في كل مرة يؤلمه أن يعاملهم وليد كأنهم غرباء.
يا الله كم كان هذا قاسيًا على قلبه!
جلس على طرف الفراش في هدوء، وقال مبتسمًا :
_ أكرهك! هل تعتقد حقًا هذا؟ أنا أكره غيابك عنا! قسوتك وعداوتك! أكره عماك في ماهر! وأكره ألا نتعانقان يا هذا كأخوة.
اعتدل آجار وتعانقا فجأة بقوة، وخالد يهمس في أذنه :
_ اتدري لم نتغير كثيرًا فعندما كنا صغار كنا كالقط والفأر معًا.
ربت آجار على كتفه وهو يبتعد و ولمح فجأة آراس ساهمًا، شاردًا، يلهث كأنه في سباق وانفاسه تتلاحق وممسك بقلبه وهو يجز على أسنانه كأنه يتألم في صمت، وسأل في لهفة :
_ اراس ما بك يا رجل ما هذه الحالة؟
نظر له أراس بعينان تأهتين، حائرتين، زائغتين كأنما يسأله هل تخاطبني؟
ثم هز رأسه، وقال :
_ لا شيء، أنت بخير؟
هز آجار رأسه، وقال في ثقة :
_ ما الذي تخفيه عني؟!
_ خديجة!
_تخفي خديجة؟
_خديجة ليست بخير، أنها تعاني.
نظر له خالد في انتباه وكذلك آجار ولم ينبسا
🌿 اللهم ارزقني حسن الخاتمة 🌿
_ ما .. الذي .. حصل .. ليّ، لماذا لا أذكر شيئًا؟!
خرج سؤالها مرتعشًا، بكلمات متفرقة، وهي تنظر إلى عائشة في وهن وبوجهٍ شاحب، فهرعت عائشة إليها في لهفة، وهي تقول :
_ منة، أنتِ بخير.
أومأت منة برأسها إلا أن الدوار عاد يهاجم رأسها في شراسة، فسألت بوهن وهي تعاني من شعور بالقيء :
_ ما حدث؟
أجابتها عائشة في حنان وهي تلمس على شعرها برفق :
_ لقد أغمى عليكِ ونحنُ نتحدثان فجئتُ بكِ!
عاجلتها منة في لهفة :
_أين آجار إذن.
ترددت كثيرًا في بادئ الأمر. قبل ان تلتقط عائشة كفها في راحتيها وتقول :
_ إنه في غرفة بجانبك.
في فزع هبت منة وهي تسألها بلوعة :
_ماذا حدث له؟ هل هو بخير، يجب أن اذهب إليه!
قالتها، وهي تنزع عنها الملاءة، وتغادر الفراش وهي تفلت كفاي عائشة عنها في لا مبالاة، لا يوجد قوة تمنعها عن الاطمئنان عليه، حتى هذا المرض اللعين الذي ينهش في جسدها، وما همت ان تخطو خطوة واحدة إذ دارت بها الغرفة، وأحست بالعالم يدور حولها وبأنفاسها تتلاشى، فلم تتمكن من السير خطوة واحدة وهي تلهث في تعب ثم سقطت أرضًا ولحقت بها عائشة لتضمها كي تمنع سقوطها وهي تقول معاتبة :
_ قُلت لكِ لا تغادرين الفراش، ما هذا العناد يا ابنتي؟
أسندت منة رأسها على صدر عائشة، ورددت باكية في عجز :
_ أريد ان أرى آجار قلبي يخبرني إنه ليس بخير، خذيني إليه ارجوكِ.
ترقرق الدمع في عيناي عائشة، وقالت لها بحنان جارف :
_ لقد اخبرتني دارين أنه استعاد وعيه و ..
” وجاء ليراكِ ”
انبعث صوت آجار من لدن الباب، فالتفتت له منة بعينين لامعتين من الفرحة والارتياح لمرآه، فغمغم هو :
_ وهل اعود لوعي ولا أهرع لرؤيتك؟
قالها، واندفع نحوها، ومال ليحملها بين ذراعيه، كانت تتأمله ببسمة متسعة، وعيناي تنبعان بالحنان وهو يضعها على الفراش بحب، ورفق، ثم يجلس بجوارها، ويضم كفها في راحته، ويتحسس وجهها بأصابعه، هامسًا :
_ أشتقت إليكِ كثيرًا ..
بلغه صياح الطبيب من الخارج :
_ هذا لا يجوز ابدًا يا سيد آجار، من سمح لك بمغادرة الفراش؟ لو سمحت تعال معي.
التفت آجار إلى الطبيب الذي دلف إلى الحجرة في استنكار، ولم يعيره اهتمام وهو يعود بقلبه، و وجهه إلى منة، متسائلًا :
_ألن نتمكن من جلسة لطيفة ابدًا يا عزيزتي، آهٍ لو اعرف من هذا الذي وضع عينه في حياتنا.
ضحكت منة في استحياء، وعاد الطبيب ليصيح فاطاعه آجار وذهب معه على مضض وهو يوعد منة بعودة قريبة.
🌾 اللهم إني اسألك حُبك 🌾
خطة هائلة تلك التي وضعها أراس، لم يجد خالد إلا أن أندهش معجبًا بعقله، فها هو الآن نسخة من آجار، وسيذهب ليلتقي بـ ماهر وهناك سيستدرجه ليعرف كل شيء عن مكان خديجة ومعاونه.
صفير اعحاب انبعث فجأة من فم إسلام وهو يهتف في اعجاب :
_ يا الله لو لم أكن اعلم إنك خالد، ولو إنك لم تتنكر أمامي لما صدقت إنك ليست وليد.
التفت له خالد، وقال ساخرًا :
_ بل .. صدق يا رجل.
قال إسلام في اهتمام :
_يا لك من بارع حقًا، قُل ليّ متى سترحل؟
رد عليه خالد وهو يلتقط سترته من على المشجب ويرتديها :
_ فورًا يا رجل لن أضيع ثانية واحدة.
تحرك مغادرًا واستقر خلف مقعد القيادة في السيارة وانطلق حتى وصل إلى المكان المنشود فالقى نظرة على منزل ماهر الذي حرره أراس آنفًا، ثم تحسس جهاز صغير داخل جيبه، وتنهد وهو يترجل من السيارة، وحث الخُطى إلى منزل ماهر.
أطل ماهر من وراء الباب ناظرًا إلى خالد ظنًا إنه آجار، بوجهًا مليء بالندوب، والكدمات، وبجسدٌ مكدود، جعل خالد يكتم ضحكته التي كادت تفلت منه من هيئته المزرية.
رحب به ماهر، قائلًا وهو يفسح له الطريق :
_ آجار يا بُني، أدخل تعال هيا.
دلف خالد وهو يقول متصنعًا الأهتمام :
_ أين كنت يا رجل؟ ما كل هذه الغيبة، ثُم ما كل هذه الكدمات في وجههك من فعل بك هذا؟
أشار له ماهر ليجلس وقال وهو يلوح بكفه :
_ لا أحد إنها مجرد حادث فقط، وهل يستطع احد أن يفعل بيّ هذا.
تبسم خالد وهز رأسه نفيًا وهو يكظم ضحكته، مغمغمًا :
_ هيهات، هيهات لم يخلق بعد من قد يجرؤ عليك.
تجمد ماهر لوهلة وهو ينظر لخالد في امعان دقيق، فتوجس خالد خفية من أن يكون قد شك في هويته، وتنحنح متمتمًا :
_ لمَ تنظر ليّ هكذا؟
رجع ماهر بظهره للخلف واسترخى في مجلسه، وهو يقول :
_ يُخيل ليّ إن صوتك متغيرًا!
ازدرد خالد لعابه في توتر جم، وردد :
_ متغيرًا! هل تهذي يا رجل، أنتَ ليست بخير بك شيءٍ حتمًا.
هدأه ماهر قائلًا في سرعة :
_ اهدأ اهدأ يا بني لا شيء يستدعي هذا الانفعال أنا ذهني مشوش قليلًا أعذرني.
شوح خالد بذراعه متصنع الضيق، فقال ماهر :
_أخبرني إذن!
_بماذا؟
_هل يوجد جديد عن عائلة الشرقاوي.
ابتسم خالد في ظفر، وقال :
_ بالطبع، ألم تصلك الأخبارك؟
هز ماهر رأسه نفيًا، ومال للأمام مشبكًا كفيه أمام وجهه، فتابع خالد :
_ لقد تم خطف جميع حفيداتها ومن ضمنهم أخت أراس هنا.
ارتفع حاجب ماهر، وانخفض في نشوة، وخالد يواصل :
_ ولكن نجوا جميعهم إلا أروى وحمزة ما زالا في المستشفى، بينما خديجة قد أختفت تمامًا ولا أثر لها.
ومال للأمام غامزًا :
_ قُل ليّ هل لك يد في هذا؟
أسند ماهر ظهره على ظهر المقعد مسترخيًا وهو يقول :
_ ومن غيري قد يكون له يد في كل ما يحدث معهم؟!
أطل غضب هائل من عيناي خالد سرعان ما خبى بداخله وقسمات وجهه تشف عن الهدوء، وهو يقول :
_ وكيف فعلت هذا يا رجل لقد اذهلتني حقًا!
رد عليه ماهر بعينان جذلتين :
_ ليس أنا يا فتى ولكن ثمة من فعل لأجلي!
تساءل خالد بضيق :
_ وهل يوجد غيري؟
أومأ ماهر في هدوء، وقال مبتسمًا في ظفر :
_ بالطبع يوجد، سأعرفك عليه قريبًا لكن الآن سأخبرك أمرًا هام إن من هذه اللحظة عائلة الشرقاوي لن أترك فيها أحد إلا وسأذيقه طعم العذاب.
جز خالد على أسنانه وهو يردف :
_ أليس انتقامك مع لمار فقط؟
اعتدل ماهر وهو يقول :
_ وعدتك ألا أمس أحد من اخواتك ولك هذا! فلا تتدخل فيمَ لا يعنيك.
أسقط خالد الهاتف من كفه بطريقة توحي إنه انزلق رغمًا عنه وانحنى ليتلقطه وهو يضع جهازًا صغير أسفل الآريكة التي يحتلها، وتناول الهاتف وهو يقول :
_ إذن فأنتقامك ما زال قائمًا، ولم يكفيك موت لمار؟
أجابه ماهر ببساطة :
_ بالتأكيد، لم يشف صدري قط ولن ينشفى ببساطة، ولكن ما أن ننتهي اعدك بأن أعرفك على شخص ستكونا معًا إخوة، ستكونا ابناءي ويداي.
ابتسم خالد وهو يبذل جهدًا خرافيًا على الهدوء، وقال :
_ كلي شوق لأعرف، وسأنتظر هذا اليوم بفارغ الصبر.
ونهض وهو يستطرد :
_ سأرحل الآن لأن منة في المشفى وسأعود لزيارتك حتمًا، إلى اللقاء.
خرج خالد وجلس في سيارته وهو يراقب هاتفه، لم يلبث أن رن برقم معين جعله يجيب في لهفة، قائلًا :
_ ها
فجاءه صوت يقول :
_ لقد تحدث في الهاتف مع أحد وسيخرج لمقابلته الآن.
أوما خالد في ظفر، قائلًا :
_ أحسنت يا صاح تابع التعقب.
لم يمر وقتٌ طويل، وإذ بسيارة ماهر تمر من أمامه ويلمحه وهو يقودها، فأدار محرك سيارته ولحق به على مسافة بعيدة كافية لتسمح له بتعقب طريق ماهر وعدم كشفه، واثناء الطريق اتصل على أراس ليبلغه، وعلى الفور انطلق اراس بدوره.
توقفت سيارة ماهر أمام إحدى المنازل وغادر سيارته متحركًا في خطوات سريعة وما كاد يدخل المنزل إذا رأى نجيب يهتف فيه بانفعال :
_ ماذا فعلت يا هذا؟ لقد تعقبك آجار إلى هنا كيف لم تنتبه؟
صاح ماهر في هلع :
_ ماذا تقول؟
أجابه نجيب في غضب هادر وهو يضرب كفيه ببعضهما :
_ كما سمعت.
_لا يمكن ليس هو!
هتف نجيب مصدومًا :
_ ألا تصدقني؟ تعال لترى .. أنظر.
أخذه من يده إلى نافذة زوجاجية وتطلع عبرها إلى سيارة آجار وهو بداخلها يتلفت حوله كمن يفحص المكان.
فقال في هدوء وهو يواجه نجيب :
_ حسنًا، ليست مشكلة، دعه يعرفك الآن.
ابتسم نجيب ساخرًا، وقال :
_ لتقوم القيامة علينا ما ان يرى خديجة بالداخل شبه مبتة.
بهت وجه ماهر وهو يقول في اقتناع :
_ معك حق إنها طامة كبرى علينا، ماذا سنفعل.
ألتقط نجيب سلاحًا وهو يقول :
_ سترى.
اتسعت عينا ماهر هلعًا وهو يراقب نجيب يصوب السلاح إلى خالد واطلق، وانغرز سن مخدر في عنق خالد وراقباه وهو يمسك عنقه ثُم يسقط رأسه فاقد الوعي على عجلة القيادة.
هم نجيب بقول شيء قاطعه رنين هاتفه الذي ارتفع فجأة فنظر في شاشته في ضيق وهو يقول لماهر بحنق :
_ إنه أراس.
ثُم رد عليه ولم يلبث أن أغلق بعد ما استمع إليه، وقال :
_ يقول إنه بحاجة إليّ وإنه وجد خديجة وفي طريقه إلى عنوانها، لقد خدعنا آجار، خدعك ببساطة.
صاح ماهر مستنكرًا وهو يهز رأسه :
_ آجار يخدعني؟! لا .. لا، يمكن أبدًا هناك شيء خاطئ بالتأكيد.
كان الغضب يعصف بنجيب إلا إنه دفنه بداخله وهو يؤمر رجاله باخفاء جسد آجار الذي لم يكن إلا خالد، واخفاء العربية أيضًا، وصرخ في ماهر قائلًا :
_ أنت السبب في كل هذا، والآن أسرع وغادر المكان.

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

الرواية  كاملة اضغط على : (رواية جحر الشيطان)