رواية ترويض الشرس (أحفاد الجارحي 5) الفصل السابع والثلاثون 37 بقلم آية محمد
رواية ترويض الشرس (أحفاد الجارحي 5) الجزء السابع والثلاثون
رواية ترويض الشرس (أحفاد الجارحي 5) البارت السابع والثلاثون
رواية ترويض الشرس (أحفاد الجارحي 5) الحلقة السابعة والثلاثون
حالة الهرج والمرج المنتشرة بين جموع العائلة أثارت الريبة لهم، فكان عدي الأسرع بينهم، حينما أغلق باب السيارة وهرع إليهم يتساءل بريبةٍ:
_في أيه؟
انتبهوا لوجود ياسين ويحيى بينهم، فلعق حمزة شفتيه وهو يردد بإرتباكٍ:
_دي خناقة بسيطة متخدش في بالك!
ردد يحيى بصدمة:
_خناقة!
ضيق ياسين عينيه بنظرةٍ حانقة، طالت حمزة الذي يحمل المقعد بين يده، فما أن رأه حتى ناوله لعدي مرددًا برعبٍ:
_أحمد كان هيلقفه لأخوه وأنا أخدته منه وقولتله ميصحش!
واسترسل بحدةٍ:
_الأولاد مبقوش عاملين ليا أي إحترام يا ياسين!
بدت تعابير وجوههم ساخطة على تفسير حمزة الغير منطقي، وبدى الجميع متأهب لما سيفغله، فانفلت عنه انفعالًا لم يسبق له التحلي به:
_هو أنت مش هتعقل أبدًا يا حمزة!
ارتعبت نظراته، فسحب عينيه لعدي مرددًا بحزنٍ مصطنع:
_شوفت أبوك يا عدي خلص حربه معاك ومبقاش قدامه غير حمزة المسكين!
كبت عدي ضحكة ساخرة كادت بالانفلات منه، ومال برأسه إليه وهو يهمس له:
_بصراحة يا عمي محدش بيقدر يخرج ياسين الجارحي عن شعوره غيرك، وده في حد ذاته إنجاز لازم تفتخر بيه.
ارتسمت بسمة فخر على وجهه وردد بفخرٍ:
_قولتلهم كده والله محدش صدقني!
مال إليهما أحمد ليردد بسخريةٍ:
_الفخر ده هيتلاشى أول ما ياسين الجارحي يعطس، ووقتها مش هتلاقي حد ترمي عليه مصايبك يا ولدي العزيز!
قاطع حديثهم خروج آية مرددة ببسمتها المشرقة وهي تقدم صينيتها:
_عملتلكم شوية قطايف إنما أيه.
وطوفتهم بنظرة شاملة، فرددت بقلقٍ:
_هو في أيه؟!
التقط منها يحيى ما تحمله، وتناول الحلوى بنهمٍ، مرددًا وهو يلوكها:
_خسارة فيهم والله يا آية، سبيلي أنا الصينية دي.
وأشار لياسين ببسمةٍ واسعة:
_إدخل رايح أنت يا كبير وسبلي أنا المواضيع التافهة دي متشغلش بالك إنت بيها، أنا هحلها!
منحهم ياسين نظرة ساخطة قبل أن يتجه للداخل برفقة زوجته، بينما اتجه يحيى للطاولة الضخمة التي تتوسط الحديقة، مشيرًا لهم ومازال يتناول الحلوى بتلذذٍ:
_شرفوا هنا قدامي.
وتابع للشباب بمرحٍ:
_متشكرين على مجهودكم المبذول، اطلعوا ريحوا قبل السحور وسيبولي الليلة دي!
*******
إنسحب عدي من بينهم حينما لمع هاتفه برسائل من الاسطورة، يحسه على ضرورة الاستعداد للسفر في التو والحال بعدما أحدثت بعض التطورات العاجلة، وضع هاتفه بجيب جاكيته الأسود وكان بطريقه لجناحه إلى أن تسلل إليه صوتًا مألوفًا بالقرب من الجراج الخاص بالقصر، ضيق عينيه بدهشةٍ زادت حينما اقترب ليجد نور تجلس داخل السيارة التي قام بإهدائها إليها، ومازالت تتحدث بشكلٍ صارم، ظن ببدأ الأمر بأن هنالك أحدٌ بصحبتها، فانتقلت عسليته للمقعد المجاور لها فاندهش حينما وجده فارغًا، فطرق بإصبعيه على النافذة، حتى انتبهت إليه نور ففتحت نافذة السيارة وهي تردد ببسمة ترحاب:
_أهلًا يا وحش.
تغاضى عن ترحابها الساخر، وانحنى بقامته إليها ليعيد نظرة خاطفة للسيارة وحينما تأكد ببقائها المنفرد تساءل:
_كنتِ بتكلمي مين يا نور؟
أشارت بيدها لدريكسون السيارة:
_بكلم بسنت.
رمش بعينيه وهو يجاهد لرسم ابتسامة مصطنعه:
_معلش في السؤال مين بسنت؟
مسدت بيدها على إطار السيارة وهي تجيبه:
_عربيتي!
حك ذقنه النابتة كمحاولة للتحكم بانفعالاته، ومن ثم عاد لثباته وهو يردف:
_عربيتك! أمممم
واستقام بوقفته وهو يحرر بابها مشيرًا بإصبعيه:
_انزلي حالًا.
وهمس بسخطٍ:
_وأنا اللي كنت فاكر عمر بخيل لما رفض يجبلك العربية طلع أعقل مني!
إنصاعت إليه وهبطتت لتقابله، لتطرح نظريتها بتفاخرٍ:
_أنت مش فاهم حاجة ولا عمرك هتفهمني.
كز بأسنانه على شفتيه السفلية بغيظٍ، ومع ذلك تحكم بأعصابه مشيرًا ببرودٍ:
_اتفضلي فهميني أنا بنصت للي قدامي كويس!
اتسعت ابتسامتها وعدلت من اسدالها بغرورٍ وهي تشرح له:
_دلوقتي يا ابن الحلال لو واحد مكتئب وعنده تراكمات مش لذيذة بيروح فين؟
زم شفتيه وهو يشاكسها:
_لو الواحد ده عاقل يعني!
أكدت بإشارة رأسها، فقال بتريثٍ:
_ممكن لدكتور نفساني.
صفقت بيدها فجأة ففزعته وخاصة حينما صاحت:
_براڤو عليك، وأنا عملت نفس الشيء.
ضم شفتيه معًا باستسلامٍ لفهم زوجة أخيه، فعادت لتوضح له الأمور الغامضة بالنسبة إليه:
_بس أنا ذكية حبتين بدل ما أدور على دكتور نفساني يعالجني ويسجلي اعترافاتي الخطيرة اللي تودي لحبل المشنقة، وبعدين يساومني عليها بكل الفلوس اللي أمتلكها، إختارت الشخص الصحيح اللي يسمع البلاوي والأسرار الخاصة بيا بدون ما يفتح بوقه والضمان قدامك..
وركلت السيارة وهي تشير له:
_جماد لا يسمع لا يتكلم لا يتحرك!
هز رأسه بخفةٍ وهو يردد ببسمة مخيفة:
_اقنعتيني!
ووضع يديه بجيب جاكيته وهو يدنو منها قائلًا:
_أسف للمقاطعة بس هو أنتي عملتي أيه بالظبط يوصلك لحبل المشنقة، اعترفيلي يمكن أقدر أساعدك قبل فوات الأوان.
ابتلعت ريقها بارتباكٍ مضحك، وخاصة حينما شددت عليه:
_أقولك بس توعدني متقولش لأخوك.
منع تلك البسمة من الظهور، وقال بصرامةٍ وجدية:
_اعتبريني مشوفتكيش.
ابتسمت وهي تخبره بأريحيةٍ تامة:
_يعني أوقات بتجسس على عمر وهو في الشغل، الاحتياط واجب بقى أنت عارف.
ضيق عينيه بصعوبة فهم ما تقصده بأي مدى يصل حد مراقبتها، فقالت:
_زراعاله كاميرا بمكتبه.
جحظت عينيه في صدمةٍ وخاصة حينما استكملت:
_وأحيانًا بسرق فلوسه ولبسه.
وراقبت الطريق من حولها قبل أن تفصح عن أخر أسرارها:
_كل ما بيطلب هدوم أون لاين بستلمها بداله من الكريدت كارد بتاعه وبأخدهم لنفسي لإنه كده كده بينسى هو طلب أيه!
اغتاظت تعابيره، فأشار لها بغضبٍ رغم ثبات انفعالاته:
_اطلعي نامي يا نور بدل ما أعتقلك أنا حالًا!
*********
استمع يحيى لجميع الأطراف والملابسات، وانتظر من حوله سماع حكمه المنصف بالنسبة للسيدات، مرر يده على فمه عدة مرات، وكأنه يحاول إخفاء سخريته التي ظنها غير واضحة، وقال ببسمة هادئة:
_أنا حقيقي عاجز عن الرد، ومش عارف أقول أيه!
هز حمزة رأسه بتفهمٍ عجيب لحق رزانة جملته:
_أيوه فعلًا هو الموضوع صعب وميتعرفش يتقال فيه أيه.
استدار تجاهه وأشار إليه بغضبٍ:
_أنت بالذات متتكلمش خالص، لإنك سبب أي مصيبة بتحصل وهتحصل جوه قصر الجارحي!
لطم صدره بصدمةٍ:
_أنا!!
احتقنت عين يحيى بإشارةٍ مزلزلة، جعلته ينساق خلف صمته، فصاحت يارا بعصبية:
_لا يا أبيه يحيى خليه يتكلم ويقولنا على الأسرار اللي مخبيها عنهم.
واتجهت نظراتها لعز وهي تصيح بانفعالٍ:
_عايزة أعرف أيه اللي مستخبي عني بالظبط!
أكدت شذا حديثها:
_صح يا يارا، محتاجين كلنا نفهم أيه اللي كان بيحصل من ورانا!
رد عليها رعد موضحًا:
_لا مش من وراكم من قبل ما نعرفكم أساسًا وده في حد ذاته مش مهم!
طرقت دينا على سطح الطاولة بغضب قاتل:
_وماله يا أخويا نسمع ونقرر مع بعض إذا كان مهم ولا مش مهم!
تأزم على يحيى الموقف برمته، خاصة مع توتر الأجواء، لذا بدأ يلتزم بجديته مع إتخاذ الأمر للخطورة بينهم، فقال:
_يا جماعة من فضلكم بطلوا تبصوا على الماضي، لإنكم عارفين إن ماضينا كلنا سييء.
ورفع عينيه لبنية القصر الشامخ وهو يتابع بغصة حزن طالت نبرته:
_القصر ده زمان كان متاح فيه كل شيء محرم قبل دخول آية ودينا وشذا، اللي حصل زمان مينفعش نتحاسب عليه دلوقتي، إحنا اتولدنا من تاني وإبتدينا نبص على الحلال والحرام اللي عمر عتمان الجارحي ما وضعه حد لينا، قوانينه وقواعده كانت بتجمع شمالنا وأملاكنا عمرها ما جمعت قلوبنا ولا جمعت طاعتنا لربنا عز وجل.
وتابع بتأثرٍ شديد:
_كلنا كنا غارقنين بالمعاصي حتى لو في مننا مرتكبش الكبائر بس مكناش ملايكة، الدنيا لهيتنا ونستنا حساب ربنا وغضبه علينا.
وتجولت عينيه بينهم فوجدهم يستمعون إليه بانصات وحزن يتلون على الوجوه، فعاد يلتشح ببسمته الساحرة من جديدٍ:
_متبصوش لزمان بصوا لدلوقتي، قدرنا نربي أولادنا على قيم ومبادئ دينهم اللي إحنا متربناش عليه ده في حد ذاته إنجاز.. لإن هما اللي هيمدوا نسلنا لسنين جاية، هما اللي هينقلوا تربيتنا ليهم، دلوقتي بنحاول نكون مثالين بس جوه كل واحد مننا شيء يخص الماضي اللي فيه ذنوب، وواجبنا نتوب عنه مش نعاير بعضنا بيه.
وتابع وهو يبعد مقعده عن الطاولة:
_ربنا ستر خطايانا وعيوبنا مينفعش نيجي بعد العمر ده كله ونفضح اللي ستره، خليكم متأكدين إن ربنا بيحبنا وأكبر دليل وجودهم حولينا، لإن ربنا سيحانه وتعالى كان عايزنا نتغير وهما كانوا السبب في ده.
تركهم يحيى وصعد للأعلى، فانتقلت نظرات رعد لدينا، سكنت عينيه داخلها، تذكر كل لحظةٍ مضاها برفقة تلك الفتاة البسيطة التي أرغمت كبريائه وغروره وجعلته ينحني إليها، تذكر معاناته بترويضها وكيف كانت تتلذذ حينما تكسر قاعدة من قواعد عنجهيته المعتادة، كيف كانت تبتسم خلسة حينما يتخلى عن سيارته ويرافقها بالباص أو تصطحبه لأحد الأماكن الشعبية، كيف نقلت تربيتها لابنائه رائد وداليا وجعلتهما أفضل منه، بالرغم من تمسك رائد ببعض الغرور الموروث عن أبيه ولكنه بالنهاية يحمل منها الخصال العظيمة، التي ترغمه على الاعتذار بصدر رحب دون أي غرور منه، تسللت يده من أسفل الطاولة لتحاوط خاصتها فمنحته ابتسامة أشرقت حياته القادمة لألف عامًا!
لطالما كان آدهم الرفيق المخلص لرعد، حتى كان رفيقه برحلة شروده، انتقلت لفتاته المحتشمة بعدما اعتادت عينيه على مظهر النساء المرتبط بالعري، وكأن الثراء بين الطبقة المخملية مرتبط بالملابس الفاضحة، فأتت إليه تلك الحورية لتهز عرش قلبه، مازال يتذكر أول صدفة جمعته بها ومن صدفة المصعد لصدفة المكتب حينما تفاجئت بأنه مديرها، إلى ذاك اليوم الذي خلصها من هؤلاء اللعناء وكيف بعدها وجد ذاته يعبر لها عن حبه العتيق الذي أثمر عن فتاته الجميلة آسيل وابنه المشاكس جاسم، كيف تمكنت بمفردها من زرع نبتة لم يتمكن هو من مساعدتها بزرعها لإنه لم يتربى عليها من البداية، ضمها آدهم إليه وهو يهمس لها بحنانٍ:
_آسف.
وإن ذُكر الغرام سيذكر العز ومعشوقته بالمرتبة الأولى، ذاك العشق الخالد الذي وُلد منذ الطفولة، أحبها وأحبته حتى وإن كان غليظًا فظ، ولكنه بأغلب أوقاته عاشقها الرومانسي الذي لم يدع فرصة التقرب إليها، ذاك العاشق الذي عانى لوعة الهجر ظنًا من أنها من تسكن قلب أخيه الوحيد يحيى، وهو ذاته الذي عاد للمعركة بعدما انسحب منها تاركًا لأخيه رأية الانتصار، فعاد حينما ألمه قلبه، عاد إليها وفرحته ازدادت فور كشف حقيقة حب يحيى لملك، أحبها وأرادها لنفسه فقط، أصابه الجنون وهو يحاول أن يمنع عنها نظرات المحاطين حتى وجدها تبتعد عن ثيابها المتحررة وتختار الحجاب بإرداتها، فشعر بأنها وأخيرًا وجد الراحة برؤيتها هكذا، هي تخصه فقط ولا تخص غيره، فتنتها المهلكة تلك لا ينبغي لغيره رؤيتها، وتتبع عشقهما ثمارهما معتز ومروج، مازال يتذكر كم بذلوا من مجهود ليجعلهما تربية صالحة تختلف عما نشأوا به وبالرغم من التعسرات الا أنهما نجحوا بالنهاية، جذبها عز لكتفه فمالت برأسها عليه ببسمةٍ هادئة، وقد صفيت الاجواء بينهما كمعتادها
انتهت تلك الملاحم بمشاكس العائلة، راقب الجميع بذهولٍ وانتهى بزوجته تالين التي ترمقه بضيقٍ، فاقتربت منه تهمس إليه:
_كان لزمتها أيه الكلمتين دول، كنت هتولع النار بينهم.
حاوطها بذراعه وهو يخبرها بغرورٍ:
_الحياة متحلاش غير بشوية بهارات..
وأشار بيده إليهم:
_مش مهم البداية كانت أيه المهم النهاية وصلوا لفين، وكل ده بفضلي أنا!
زمت شفتيها بسخطٍ:
_بس أنا بقى زعلانه منك يا حمزة ومتحاولش تلجئ لأحمد أو للمغفل للتاني أنا مستحيل هسامحك بعد ما كنت عايز تحدفني بالكرسي!
هو الآن يدعي صدمته من الأمر باجتيازٍ، وخاصة حينما ردد باستنكارٍ:
_مين.. أنا.. معقول أنا أرميكي بالكرسي يا تالي، أنا لو كنت رميتك صحيح فأنا رميتك جوه قلبي يا بت!
ابعدته عنها وهي تصيح بانفعالٍ:
_ابعد أنا مش مصدقاك ومش هتقدر تضحك عليا المرادي.
عاد ليحكمها داخل أحضانه من جديد وهو يهمس لها بمكرٍ:
_كده يام أحمد يا غالية عايزة تضيعي علينا فرحة العيد!
_لسه على العيد بدري، لما يقرب أفكر أصالحك.
قالتها وهي تنهض عن الطاولة، فلحق بها وهو يصيح:
_ الكلام أخد وعطا، طيب استني طيب أنا مش حمل الجري بتاع المراهقين ده إرحمي قلبي يا ملتهمة الكيوي بقشره!!
******”
تعالت ضحكات من يراقبهم من الأعلى، فصاح لمن يجاوره:
_يستاهل، هو سبب الخناقة تالين هتقتص منه!
رددها يحيى وهو يقف جواره يراقبان الموقف من أعلى التراس، فابتسم ياسين وهو يتابعه، مازال منحني على السور الحديدي يراقب أثر كلماته التي ناشدهم بها بالأسفل، فاستقام يحيى بوقفته بعدما تأكد نجاح مهمته، ليجد ياسين يراقبه بصمتٍ ونظراته تلفظ سخرية مبطنه، فقال بتحذيرٍ:
_متستهونش بالموضوع مكنش سهل على فكرة!
بقى ثابتًا أمامه، فنال منه حينما تركه وولج للداخل قاصدًا غرفة الضيافة المجاورة لهما، فإتبعه يحيى وهو يردد:
_طب حيث كده بقى متبقاش تلجئ ليا تاني في حل المواضيع التافهة حل إنت كل شيء.
تمدد ياسين على السرير المجاور للجهة اليمنى، بعدما نزع عنه سترته، وجلس يحيى على السرير المقابل إليه يراقب هدوئه بغيظٍ، فردد بهمسٍ:
_مفيش فايدة فيك هتعيش وتموت وأعصابك في التلاجة!
اتسعت ابتسامته، وتخلى عن صمته تلك المرةٍ:
_خايف من كتر نقك ده لما أموت يدخلوني الفرن!
انتابه ذعر مقبض، فصاح به:
_متجبش سيرة الموت تاني! ، ربنا يديك طولة العمر.
وتابع بمرحٍ يحاول إخفاء به دمعة عينيه:
_ثم إنك هتخش الفرن ليه ما أنت ماشي على الصراط المستقيم أهو ولا تكونش لسه بتلعب بديلك أنت كمان يا دنجوان!
ضم يديه معًا أسفل رأسه على الوسادة، ثم قال وهو يهيم بسقف الغرفة الغريبة التي يرتابها للمرة الأولى:
_أنا عمري ما كان ليا علاقة محرمة بواحدة ست يا يحيى وأنت عارف كده كويس.
تمدد بجلسته على الوسادة قبالته، وهام بذكريات الماضي، فابتسم وهو يردد باستغرابٍ:
_كان متاح لينا كل شيء ومع ذلك عمرنا ما ارتكبنا الذنب ده، تفتكر أيه اللي منعنا عن كده؟
وتابع وكأنه يتناقش مع ذاته:
_عتمان الجارحي كان مش حابب فينا كده، أوقات كنت بحسه هينطقها بشكل مباشر ويقولنا إلعبوا بديلكم بقى!
وتطلع تجاه ياسين وهو يتساءل:
_تفتكر كان عنده شك في قدراتنا؟!
قهقه ياسين بعدم تصديق لما يقوله، فتعالت ضحكاته الرجولية التي يفرج عنها بالمناسبات الخاصة قط، وقال بصعوبة من بينها:
_كان عايزنا ننحرف تقصد!
هز رأسه بتأكيدٍ، وأضاف:
_مهو كان عارف بمصايب ولاد عمك وساكت!!
وأضاف بمرحٍ:
_كنت فاكر إنه شايفنا عاقلين كفايه طلع متضايق مننا ومش طايقنا.
وضحك وهو يخبره:
_كان نفسي أقوله حفيدك الكبير المبجل متجوز في السر حل عننا بقى!
سلط عسليته إليه ومال بجسده حتى بات يقابله، فقال ببسمةٍ ساخرة:
_قصدك القفا اللي علم على رقبتي لأول وأخر مرة.
وتابع بثبات مقبض:
_والله أعلم لو مكنتش آية دخلت حياتي في نفس التوقيت كان حالي هيكون إزاي.
والتقط نفسًا مطولًا وهو يستطرد:
_مكنتش هسمح لأي واحدة إنها تدخل لحياتي من تاني، خاصة بعد اللي روڤان عملته معايا، يمكن عشان كده سمحت لتالين إنها تحكي للأولاد كل شيء خاص بالماضي، مكنتش حابب إنهم يتفاجئوا بشيء وخصوصًا عدي وعمر وأحمد وحازم متنساش إنها بالنهاية كانت خالتهم حتى لو كانت بالسوء والبشاعة دي.
هز يحيى رأسه بتفهمٍ، واستقام بجلسته حينما وجد ياسين يحيطه بنظرة زرعت داخله القلق، فتساءل:
_في أيه!
وكأنه عاد بذاكرته لشيءٍ هام، فقال بضيقٍ:
_لو كنت حكيتلي من البداية مكنش كل ده حصل!
ابتسم يحيى وقال بغرور:
_لو كنت حكيتلك مكنتش قابلت آية ولا حبيتها، أنا قدمتلك خدمة كبيرة على فكرة!
عاد ليتمدد مجددًا، وأغلق عينيه باستسلامٍ للنوم، فتمدد يحيى باستقامة على الفراش وصاح بدهشةٍ:
_هننام هنا!
لم يأتيه ردًا صريحًا منه، فأغلق عينيه وهو يهمس بنومٍ:
_لو صحيت الفجر صحيني أشرب، لإن مستحيل حد هيعرف إننا هنا!
وسرعان ما غفى لنومةٍ مريحة، ففتح ياسين عينيه يتأمله ببسمةٍ هادئة، ثم أغلقهما ليغفو هو الآخر!
*********
طوى ثيابه ووضعها بالحقيبة الموضوعة على الفراش من أمامه، فعاونته رحمة حينما جذبت عطره الخاص وبعض متعلقاته، وضعتهما بحقيبته ومازالت تدعي ثباتها أمامه، التقط عدي منها ما تحمله، ووضعه جانبًا ثم قربها إليه فأخفضت رأسها حتى لا يرى دموعها، رفع ذقنها إليه فأفرجت عن دمعاتها أمامه، ضم يديه ليزيحها عن وجهها مرددًا بصوته الرخيم:
_مش مضطرة تخبي خوفك عليا يا رحمة، من حقك تخافي عليا لإنك ليا فيا أكتر ما أنا ليا في نفسي.
وحاوط وجنتها بحنانٍ وهو يستطرد:
_هرجعلك في أقرب وقت أوعدك.
مالت برأسها على صدره فضمها إليه بكل قوته، وقد عاد ليهمس لها:
_خلي بالك من نفسك ومن اللي في بطنك.
هزت رأسها بهدوءٍ وقالت بتوسلٍ:
_حاول تكلمني وتطمني عليك حتى لو مرة واحدة يا عدي.
طبع قبلة عميقة على جبهتها وقال:
_هكلمك لإني أكيد هحتاج أسمع صوتك.
وأشار لها بابتسامته الساحرة:
_لسه معانا وقت نقعد ونرغي، كده كده مش همشي غير بعد الفجر.
وإقترب منها وهو يغم بخبثٍ وعينيه لا تترك شفتيها المغرية:
_ما تيجي أديكي تذكار وداع!
وقبل أن تستوعب مغازلته الجريئة كان يحملها بين ذراعيه ليطفو بها لعالمهما دون مناقشة عابرة، الحديث بتر والأفعال تكفي لتزف أقصوصة حبه لها.
********
مر اليوم سريعًا واقترب موعد آذان المغرب، ومازالت تنتظر عودته للقصر، فما أن وجدته يهبط من السيارة أسرعت إليه تخبره بضيق:
_جاسم أنت نسيت صح.
ضيق عينيه وهو يتساءل باستغرابٍ:
_نسيت أيه!
منحته نظرة محتقنة وتركته وولجت للداخل فلحق بها وهو يخفي بسمته الماكرة، فجلس قبالتها على طاولةٍ الطعام، خرج معتز من المطبخ يحمل الأطباق، فصاح إليه بغضب:
_ما تقوم ما عم تساعد بدل ما أنت قاعد مريح كده.
لوى شفتيه بسخطٍ، وهو يجذب عنه الاطباق للطاولةٍ، ولج ياسين من الخارج فأسرع إليه رائد يلحق به، فزفر بضيق:
_قول اللي عايز تقوله يا رائد وخلصني.
ارتسمت ابتسامة واسعة على محياه وهو يخبره:
_في مؤتمر مهم جدًا، جايلنا دعوة لحضوره وطبعًا أحمد وأنت الأنسب لحضور النوعية دي من الاجتماعات.
بدأ يشعر بالفتور من شرحه المفرط، فصاح به:
_لخص.
أخرج من جيب جاكيته كرت الدعوة وهو يخبره بكل سرور:
_أحمد زي ما أنت شايفه كده مش مظبط، لذا مفيش أنسب منك إنك تحضر المؤتمر وده مكان الفندق.
واستطرد بتقدم اغراءات عرضه:
_أشيك بدلة وصلة من تركيا لصاحب النصيب اللي هيحضر المؤتمر ويكون وجهة مشرفة لشركات الجارحي طبقًا لأوامر ياسين الجارحي هخلي حد من الخدم يوصلهولك لحد باب جناحك، ها كده متفقين؟
جذب الدعوة منه وهو يدفعه بضيق:
_طب غور بقى مش عايز أشوف وشك لبعد الفطار!
*****
بغرفة المكتب الرئيسية للقصر.
طرقت على الباب قبل دلوفها للداخل، فجلست قبالته تترقب فور انتهائه من توقيع الملفات من أمامه، فأغلقها وهو يردد ببسمة صافية:
_بنفسك جاية تناديني للفطار؟
هزت رأسها نافية وهي تخبره:
_لا مش جاية عشان كده.
زوى ياسين حاجبيه وهو يتساءل بفضول:
_طيب أيه؟
ابتسمت آية وهي تخبره على استحياءٍ:
_جيت أفكرك بوعدك قبل كل عيد، نسيته يا ياسين.
نهض عن مكتبه وإتجه إليها بخطواتٍ واثقة، فحرر جاكيته وهو يجلس قبالتها مرددًا:
_مستحيل أنسى طبعًا، يومين أرتب نفسي وننزل نشتري للدار كلها لبس العيد، فرحتهم بدخولنا كل عيد متتعوضش يا آية.
اتسعت ابتسامتها وصاحت بحماسٍ:
_أنا بأحبك أوي وحبي ليك بيزيد يوم عن يوم.
دنا منها حتى بات قبالتها، فهمس وعينيه لا تفارقها:
_وأنا بعشقك!
*******
بالخارج
اجتمع الشباب حول الطاولة، يتناولون طعام الافطار بعدما انطلق الآذان، فما أن انسحب ياسين ويحيى وكبار العائلة حتى جذب جاسم كوب العصير الفارغ والملعقة، فطرق ليستحوذ على اهتمامهم مردفًا:
_انتباه يا ســـــــــــادة… انتبـــــــــــاه.
ردد حازم بسخطٍ:
_أيه هتوزع علينا التموين ولا العيدية!
جذبه رائد بغضب:
_ يا عم اتنيل لما نشوف حكايته أيه هو كمان.
صاح عمر بضجر:
_عدي سابنا وفلسع هنشوف مواهب!
نهض جاسم عن الطاولة وإتجه لزوجته التي تراقبه بضيقٍ، فتفاجئت به يجذبها إليه وهو يصيح:
_النهاردة كلكم معزومين برة على حسابي بمناسبة عيد جوازنا أنا وداليا.
تعالت صيحات الفتيات المحمسة، وكانت آسيل أول من تحدثت بينهن:
_بجد يا جاسم طلعت بتفهم، أخيرًا هنخرج.
جحظت عين أحمد بصدمة:
_مين اللي بيتكلم! حبيبتي أنتي مش هتلحقي تطلعي تلبسي هيغمي عليكي كمان شوية.
جذبت داليا القهوة الساخنة إليها، قائلة بحزم:
_اشربي فنجانين تلاتة كده وفوقي عشان ورانا طالعه!
راقبها أحمد وهي ترتشف الكوب بنهمٍ، وصاح ساخرًا:
_وفري مجهودك يا داليا مستحيل حاجة هتقصر فيها!!
******
بالأعلى وبالأخص بغرفة ياسين.
ولجت مليكة للداخل ببعض الارهاق، فتفاجئت بوجود كيس من القماش الفخم على الفراش، فتحته وهي تراقب تلك الحلة الفخمة السوداء، لوهلةٍ اختلط عليها الأمر بينها وبين البذلة الانيقة التي إرتداها بليلة زفافهما، فأسبلت بتوترٍ، وخاصة حينما لمحت لجواره دعوة خاصة لأحد الفنادق الفاهرة، انقبض قلبها ورددت بارتباكٍ:
_رايح يقابل مين!.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية ترويض الشرس (أحفاد الجارحي 5))