رواية بين دروب قسوته الفصل السادس 6 بقلم ندا حسن
رواية بين دروب قسوته الجزء السادس
رواية بين دروب قسوته البارت السادس
رواية بين دروب قسوته الحلقة السادسة
كانت كل هذه ذكريات مشوهة مر عليها عامين من الزمن، كانت كل هذه ذكريات حزينة للغاية جعلت القلوب ترتعش حزنًا وتبكي انهيارًا وألمًا، من بين هذه الذكريات لحظة أو اثنين تبدو السعادة بها.. كانت أقل من القليل!..
عامين مضوا على تلك المصيبة التي وقعت على عاتقها وأخلفت كل هذه النتائج البشعة التي جعلت الجميع في منزلهم يفقد رفيق وحبيب وشقيق وصديق..
عامين لم ينسوا بهم هذا الألم وتلك المعاناة، عامين كاملين كل يوم تمر عليهم ذكرى من داخلهم لتعود بهم إلى نقطة الصفر.. وبداية السطر..
الآن نحن في أرض الواقع والحدث الأعظم بعد تخطي الجميع لما حدث وعادت الحياة لهم، بعيدًا عن هذه الذكريات القهرية، المُسببة للألم أكثر وأكثر..
تخطت “سلمى” فاجعة موت عائلتها ورحيلهم من الحياة بعد وقت ليس بقصير أبدًا، لم يمر عليها يوم بعد رحيلهم إلى أكثر من ثلاثة أشهر إلا وهي تبكي كل ليلة في غرفتها مُستحضرة نفسها أمامها لتجلدها على فعلتها بعدما قال لها أنها السبب الوحيد في موتهم..
ترى كل يوم نفسها وهي وحيدة بينهم، ترى نفسها وهي تقف أمامه دون سند يحميها وظهر تحتمي به كوالدها وشقيقها، لا تخاف منه ولن تخاف، تعلم أن مهما حدث بينهم هو لن يؤذيها ولكن الوضح صعب للغاية..
كانت مع عائلة كبيرة، أحباب وأصدقاء، سند وعون لها ثم دون أي مقدمات بقيت وحيدة هكذا!.. وحيدة تضل جميع الطرق ولا تعرف أين المُستقر..
أخذت فترة كبيرة لكي تعود كما كانت في السابق “سلمى” ومن يعرفها، ولكن ذلك كان واجهة وقناع مرسوم بدقة عليها والجميع يعرف أنهم مازالوا على وضعهم ولن تعود الحياة أو الوجوه كما كانت..
رسمت الجدية على ملامحها لمن يستحق، وأظهرت الابتسامة لمن تريد وعادت مرة أخرى تلك الفتاة صاحبة المواصفات الغريبة المختلفة مع بعضها مثله ولكن تعرف كيف تكون هذا وذاك في كل وقت وموقف..
بالنسبة إلى “عامر” وحبها له، وبكل فخر وقوة تعترف أنها إلى اليوم تحبه!.. تحبه وتفعل أكثر شيء من الممكن أن يكون خطأ، تهواه، قلبها لا يريد نسيانه!.. عقلها تأمر مع قلبها وبقيٰ عنده ووقف عليه عندما قررت أن ترى غيره.. ليس على القلب سلطان، ليس على القلب سلطان..
إن تحدثت عن حبها له لن يكفي الحديث مهما قالت، لن تكفي المشاعر لوصف ما بينهم وما تشعر به ناحيته، لن يكفي أي شيء عندما تتحدث عنه ولكن تعرف كيف تتحكم في كل ذلك!.. وإلى اليوم لم تعود له ولن تعود وليحترق قلبها وعقلها وروحها إن أرادت هذا.. ليحترق كل شيء، لن تعود لخائن، لقاتل، لن تعود لشخص جعلها طوال الفترة الماضية تفكر كيف كانت السبب في موت عائلتها!.. كان “عامر” بالنسبة إليها يمثل مقولة “ومن الحب ما قتل”
لم يكن مرور عامين على حياته وهي هكذا شيء كبير، كل ما في الأمر أن هناك أشخاص اختفت منها فقط!.. كعمه الداعم الأكبر له، ابن عمه رفيق الطريق وصديق المحن، و.. حبيبته ومن كانت زوجة المستقبل..
بقيٰ على ذلك النزاع مع والده، وكبرت الفجوة بينهم أكثر وأكثر منذ آخر لقاء حدث وتم اتهامه فيه بأنه من قتل عمه وأسرته، للحقيقة لم تكن علاقاته جيدة مع أي أحد سوى والدته، والده لم ولن يحدث هذا، حبيبته وقد ابتعدت منذ لحظة خيانته لها والتي إلى الآن لا يعتبرها خيانة ولن يعتبرها مهما حدث لأنها لم تكن كذلك.. وآخر شخص بقيٰ في هذه العائلة شقيقته، الذي استحقرته أكثر من السابق وابتعدت عنه بطريقة غريبة وكأنها لا تعرفه والحديث بينهم قليل وأقل منه..
لا يهمه أي من هذا، إنه عاد إلى نقطة الصفر حقًا، يعمل، يعود من العمل إلى المنزل يبدل ملابسه ويخرج ليكون متواجد في إحدى الملاهي الليلية كما كان يفعل دائمًا أو يعود من العمل لينام!.. أتجه إلى التدخين المدمر للصحة وادمنه كالكحول وكل ما يحدث في حياته يكتمه داخله ولا يخرجه لأي شخص كان ولا حتى يفكر به!.. الوحيدة التي كانت تستمع إليه في كل وقت وحين تركته وحده وتخلت عنه..
كانت تعلم أنه لا يوجد لديه أحد سواها، لا يثق بسواها، ولا يتحدث مع أحد سواها، كانت له كل شيء، حبيبته ابنته، وزوجته، اعتبرها زوجته حتى من قبل أن يحدث هذا لأنه رأى بها سنده وقوته، ضعفه وحبه وكلما نظر إلى عينيها رأى نفسه بوضوح..
أصبح وحيدًا وكل ما يحدث بحياته ليس له أي قيمة من بعدها، حبه إليها كان حب جنوني، قاتل وسام، وإلى الآن هو كذلك ولم يقل عن السابق ولو ذرة واحدة بل ازداد.. ازداد كثيرًا وأصبح يهواها ويشتهي وجودها معه وبحياته بشدة..
تركه لها العامين الماضيين لا يعني أنه تركها إلى الأبد وتستطيع أن تفعل ما تشاء، أبدًا فهي قد كتبت على اسمه وأصبحت له وملكه ومملكته منذ أول يوم وقعت عينيها عليها وهي على دراية بحبها..
تركها تفعل ما يحلو لها، تبتعد كما تريد وتقترب متى تشاء في النهاية مهما حدث لن تكون لأحد غيره ولن تمر على غيره من الرجال، وإن اضطر لفعلها بالقوة ستحدث، بالخبث ستحدث.. مهما كانت طريقة حصوله عليها سيفعلها.. مهما هبط بمستواه ستكون له ومعه..
لن يضيع ذلك الحب ولن يترك عمره الذي كان معها يسرق بهذه الطريقة، لن يراها مع أحد غيره وقلبه ينبض بحبها.. لن يكن الرجل المسالم الذي يتخلى عن ما هو ملكه ليظهر بصورة جيده وليكن متحضر.. لن يفعلها ولن يكن ذلك الرجل..
هو ذلك العنيف القاسي، الحاد المتهور، وسيبقى هكذا إلى موته، إلى فناء اسمه من الحياة أو إلى عودتها إليه بكامل رغبتها!.. وهذا لن يحدث
في ذلك الوقت وبينما يمر على الجميع بقصص مختلفة عن الماضي، أغلقت شقيقته على قلبها الباب بقفل محكوم وألقت مفتاحه في قاع المحيط كي لا تعرف كيف تفتحه مرة أخرى من بعد حبيب عمرها وزو’جها الراحل “ياسين”..
هناك الكثير من الذئاب الذي حاولت النيل من هذا القلب وهو مغلق وبطرق غير مشروعة ولكنها كانت الاقوى على الرغم من الهشاشة البادية عليها وحافظت على ما تبقى لها منه..
حافظت على أنقى حب وأجمل ذكريات قد تمر على شخص ما في حياته..
ومنذ آخر مرة تقابلت مع شقيقها في موقف لا يُحسد عليه وهي تجتنبه إلى أبعد حد، بعد أن كانت تراه رجل يُصاحب ما يهواه على حساب الجميع رأته رجل منحط هوى إلى قاع مستوى الدنائة.. هبط إلى أسفل من هذا المستوى بكثير..
أضاع كل الاحترام الذي كان باقي له عندها، وأشعل الكـ ـره في قلبها ناحيته، أصبح شقيق فقط، الاسم الذي تحمله هو يحمله أكثر من ذلك لن توجد أن بحث عن “عامر القصاص” في حياة شقيقته..
ولم تكن تعلم أنه برئ وضعيف للغاية، هش كما النساء وقلبه يرق في لحظة ضعف له، لم ترى إلا القسوة والعنف منه ولم تحاول هي أو أي شخص في هذا البيت أن يرى غيرهما.. إلا هي! تعلم كل ما به.. وترى الضعف خلف قسوته لذلك كانت دائمًا “سلمى” هي مفتاح لـ “عامر”…
كما فعل معه والده بالضبط، لم يحاول ولو مرة واحدة أن يكتسبه إلى صفه، كانت العلاقة مع ابنه في البداية ليست كهذه أبدًا، كعلاقته بعمه “أحمد” يحبه ويستمع إليه ويأخذ بنصائحه، ولكن عندما كبر “عامر” وأصبح له وضعه بينهم، تحول إلى شخص آخر يشرب دون حساب ويسهر كما يريد، حاول معه والده ولكنه لم يعود فذهبت بينهم العلاقة إلى طريق لم يحبه أحد منهم وأصبح الجفاء سيدها..
يقف له والده على خطأ واحد ليجعله يرى أن نظرته به بعد تحوله صحيحه وهو لا يحب خوض نقاش معه ويبتعد عن أي شيء يأخذه إلى هذا الطريق..
الشفاء من جروح كهذه تأخذ وقت كبير جدًا للتعافي منها!..لو كان والده بقيٰ معه بحنانه وحاول أكثر من المرات العشر والعشرون لم يكن “عامر” هنا اليوم.. إنه مل من نصيحته بلين وأتجه إلى القوة ونظرية أنا على الصواب وأنت دائمًا خطأ ومن هنا كانت البداية السيئة لهم..
ولم تكن والدته لها أي دخل في كل هذا منذ البداية إلى نهايته، كانت على الوضع الصامت وحركة الايماءة إلى والده والتي تدل على الإيجاب في كل شيء موجود.. له هو فقط
عاد والده إلى وضعه معه كما كان بعد رحيل عمه، الذي كان الوصلة بينهم وعصا النجاة بالنسبة إلى “عامر”، وبقيٰ هو الآخر على وضعه ولم يفكر حتى في التغير لتسير مركبهم سويًا..
❈-❈-❈
وقفت أعلى درجات السلم، تنظر إلى الأسفل إن كانوا أنهوا فطورهم أم لا، ويبدو أنه لا، هبطت الدرج بهدوء وثبات، مرتدية حُلة كلاسيكية بيضاء اللون، تاركة لخصلات شعرها العنان والتي أصبحت قصيرة للغاية عما كانت، لقد تغير مظهرها تمامًا بعد أن بدلت لون خصلاتها من البُنبة المالخطة للذهبي إلى الأسود المختلط مع البُني، وقامت أيضًا بتقصيره عما كان حيث أنه أصبح طوله إلى كتفيها بالضبط، وغيرت قصته التي كانت تجعل الخصلات القصيرة تهبط على جبهتها، الآن يختلف تمامًا وتظهر في صورة امرأة مرموقة بهذه الملابس..
عينيها واسعة كما هي ترسمها بدقة تظهرها فاتنة للغاية، شفتيها مازالت مُكتنزة تبادل وجنتيها الدلال الذي تتمتع به.. ويا له من مغري لشخص يعرفه الجميع..
كانت مُرتدية حذاء أسود لامع ذو كعب عالي يصدر صوت هبوطها على درج السلم وكان هو في الداخل يستمع إليه وينتظر قدومها بينما يقلب في طعامه..
دلفت إلى داخل الغرفة، لتجد عمها كما المعتاد يترأس الطاولة، بجواره على الناحية اليمنى زوجته، وعلى الناحية اليسرى ولده..
ألقت عليهم تحية الصباح أثناء تقدمها إلى مقعدها بجوار زوجة عمها:
-صباح الخير
بادلها عمها وزوجته التحية بابتسامة جميلة من وجوههم الطيبة بالنسبة إليها، وبقيٰ هو صامت كالمعتاد، لا يتحدث ولا يُجيب عليها تحية الصباح ولا حتى أي تحية تلقيها في دخلتها عليهم.. لم تكن هي فقط، بل للجميع هنا يفعل ذلك..
جلست على المقعد جوار والدته وتركت حقيبتها على المقعد الآخر المجاور لها، استدارت تبصرها جيدًا وتحدثت مُتسائلة:
-عامله ايه دلوقتي يا طنط بقيتي كويسه؟
ابتسمت لها الأخرى بعد أن أدارت وجهها إليها مُجيبة بهدوء:
-أيوه يا حبيبتي الحمدلله
تسائلت “سلمى” مرة أخرى عن “هدى” الغير موجودة على غير العادة:
-اومال فين هدى
عقبت على سؤالها والدتها قائلة بجدية:
-هدى فطرت بدري ونزلت الشركة على طول بتقول عندها شغل كتير
أومأت إليها برأسها ثم حركت وجهها إلى الأمام وبدأت في تناول فطورها بهدوء، عينيها كانت تختلس النظرات إليه بين اللحظة والأخرى وفي كل مرة كانت تتقابل مع عينيه التي تنظر إليها بدقة وثبات..
لم يكن مثلها يختلس النظرات منها بل كان ينظر إليها بوضوح رافعًا رأسه وبصره مثبت عليها.. فعادت هي إلى طعامها تاركة ذلك التبجح الذي يتمتع به إليه وبقيت صامتة..
بعد لحظات من هذا الهدوء رفعت رأسها إلى عمها مُردفة بصوت واضح وقوي:
-لو سمحت يا عمي كنت عايزة الشيك اللي هتتبرع بيه للجمعية علشان محتاجينه ضروري
أومأ إليها برأسه قائلًا من بعدها بنبرة جادة:
-حاضر يا سلمى
مرة أخرى تؤكد عليه حديثها بخجل وبعينين ضيقة عليه:
-ممكن النهاردة علشان ألحق اصرفه
لاحظ خجلها منه وهي تطلبه مرة ثانية، ابتسم إليها بود ولين ليجعل ذلك الحرج يبتعد عنها وقال:
-حاضر بعد الفطار هكتبلك الشيك
ابتسمت باتساع وفرحة وهي تشكره ساردة له كم سيكون هذا فارق لهم في الجميعة التي أسستها منذ عام:
-شكرًا جدًا يا عمي، المبلغ ده هيفرق معانا
اغمض عينيه وهو يحرك رأسه للأسفل بحب وحنان يوجهه ناحيتها:
-ربنا يوفقكم يا بنتي
ابتسمت إليه ببشاشة ونظرة رائعة خلابة من عينيها الساحرة ووجهها الفاتن، وعادت مرة أخرى إلى طعامها وعم الصمت مرة أخرى ولكن هاتفها لم يعجبه الوضع فأصدر صوت عالي منه بوصول مكالمة إليها..
أمسكت الحقيبة من على المقعد ثم فتحتها وأخرجت الهاتف منها، كان اسم صديقتها “إيناس” يُنير الشاشة، تركت الحقيبة مكانها ثم أجابت عليها بهدوء:
-أيوه
استمعت إلى حديث الأخرى وهي تنظر أمامها ثم عند قول شيء ما من قِبلها وضعت إصبع يدها على زر خفض الصوت وتلقائيًا عينيها ذهبت عليه خوفًا من أن يكون استمع إلى ما قالته..
لم يلاحظ هو بل كان ينظر إلى طعامه بشرود، تنفست الصعداء ثم أنهت المكالمة معها دون توضيح أي شيء مما تحدثوا به..
وضعت الهاتف مكانه مرة أخرى في الحقيبة وما كادت أن تقف على قدميها لتهم بالرحيل إلا أنها استمعت إلى صوت عمها الحاد القوي:
-كنت فين امبارح
واستمعت مرة أخرى إلى أجابت “عامر” التي خرجت من بين شفتيه بقوة ونبرة هجومية:
-هكون فين يعني
أبصرت عمها الذي كرر عليه السؤال مرة أخرى بطريقة أوضح مما سبقت وقد بدى عليه أن هناك شجار وشيك كالعادة بينهم:
-كنت فين امبارح بالليل
ترك عامر فنجان القهوة الذي كان بيده، ابتلع ما وقف بجوفه وهو على علم أن هناك محاضرة ستلقى عليه وربما نهايتها لن تكون جيدة:
-سهران مع صحابي.. فيها حاجه دي كمان
صاح والده بنبرة حادة مُغتاظة وعينيه كعينين الصقر عليه:
-سهران مع صحابك لحد الصبح.. راجع الساعة أربعه الصبح وقايم تشرب تلاته قهوة علشان تعرف تصحصح
أجابه “عامر” بمنتهى الهدوء والذي كان يصاحبه التبجح اللا نهائي بعدما عاد بظهره إلى ظهر المقعد ليستند عليه:
-مادام مقصرتش في شغلي ولا حاجه طلبتها مني يبقى محدش ليه حاجه عندي وأعمل اللي يعجبني
أشار والده “رؤوف” بيده بقوة وهمجية ناحيته صائحًا باهتـ ـياج بسبب اللا مبالاة الموجودة لدى ابنه وأسلوبه الوقح في الحديث:
-لأ مقصر.. مقصر في شغلك وأختك راحت من بدري علشان تكمله، مش واخد بالك إن المجمع السكني هيتسلم النهاردة ولا ايه؟
أكمل بسخرية واستهزاء ناظرًا إليه بقوة شديدة:
-شكل الخمرة لحست مُخك
رفع “عامر” عينيه عليه للحظة ثم أخفضهما على الطاولة، مسح بإصبعه طرف أنفه الشامخ في وجهه ومرة أخرى عاد بنظرة إلى والده وهتف ببرود:
-تمام ايه المطلوب دلوقتي؟
صدح صوت والده بعد فترة وكان بها يحاول التماسك والضغط على أعصابه بسبب ذلك الأحمق الذي يجلس أمامه:
-تتعدل وتحترم نفسك، وتتعامل معايا بأدب وتأدي دورك كابن ليا وللبيت ده
بمنتهى التبجح وقلة الاحترام إلى والده، بمنتهى البرود واللا مبالاة لعمر والده ولكل شيء فعله في حياته لأجلهم أجاب بقوة وعنف وكأنه لم يفكر في حديثه هذا قبل أن يقوله:
-لما أنت تأدي دورك كأب ليا وللبيت ده هبقى أعمل كده
لحظات صمت مرت على الجميع، هو نظر إلى الطاولة بعد كلماته التي ألقاها عليه وسعر لوهلة أنه أطال الأمر وخرج عن يده، بينما كان والده في حالة صدمة تامة.. بقيٰ ناظرًا إليه ولم يهبط بعينه من على وجهه وملامحه، لم يكن يتوقع أنه من الممكن في يوم من الأيام يصل هنا!..
لم يكون دنيء إلى هذه الدرجة ومنحط ببراعة، لم يكن خائن وعنيف، لم يكن قاسي ومتهور فقط لقد كان ابن عاص أيضًا
نظرت إلى والدته التي وجدتها تبصره بصدمة تامة كوالده الذي لم ينطق بحرف من بعدها، وقفت على قدميها سريعًا وذهبت لتقف جوار عمها الجالس على المقعد ووضعت يدها الاثنين على كتفيه تحتضنه صائحة بعنف له:
-أنت إزاي تكلم عمي كده؟
رفع وجهه إليها ينظر إلى ملامحها الشرسة التي ستقاتله الآن لأجل عمها الذي أخذت صفه منذ أن تركته، تبجح بها هي الأخرى وقال بصوت حاد:
-وأنتي مالك أصلًا؟
أجابته بنبرة قوية حادة مثله بالضبط وعينيها على عينيه البُنية ولم تخشى هذه المرة الضعف أمامه، بل كانت القوة في محلها بعد كلماته القاسية:
-مالي ونص.. عمي هو أبو البيت ده وعموده غصب عن عنيك… هو كده فعلًا مش مشكلتنا إنك شايف غير كده وماشي على خط غير خطنا
ابتسم بسخرية واستهزاء بحديثها، ثم نظر إلى عينيها بعمق وكأنها تناست كل ما كان يعاني منه، تناست كل مخاوفه تجاه والده والذي كان يعترف إليها بها دومًا، تناست كل شيء ووقفت أمامه الآن تسخر مما يشعر به:
-أنتي اللي بتقولي كده
أومأت برأسها بجدية ومازالت تتابع حديثها معه بحدة، وتغاضت عن تلك النظرة وذلك الحديث الخفي خلف ضحكته الساخرة:
-آه أنا اللي بقول كده.. وبطل بجاحة وأتكلم معاه بأسلوب كويس وبعدين ماهو عنده حق هتابع شغلك وحياتك إزاي وأنت كل يوم راجع الصبح
أجابها ببرود مرة أخرى ولا مبالاة حقيقية:
-شيء مايخصكيش
نفت حديثه وهي تبتعد عن عمها مقتربة منه لتوضح له أنها لها مثلما له بالضبط في كل هذا:
-لأ يخصني.. ده شغلي وشغل بابا وياسين اللي تعبوا عليه كتير لحد ما بقى كده
وقف هو الآخر على قدميه وأجاب بعنف وقوة وهو يبصرها جيدًا مُشيرًا بيده بحركات هوجاء تصدر عنه وقد خرج عن هدوءه وذلك البرود الذي كان يرسمه على ملامحه:
-لو قلبك واكلك عليه أوي كده روحي أنتي اشتغلي بدل الجمعية اللي واكله حياتك دي.. أعملي زي هدى أخدت مكان ياسين روحي خدي مكان أبوكي
عاندت حديثه وراق لها ذلك، أن تجعله يشتعل من الداخل بقولها أنه لا يخصه أي شيء تفعله بحياتها:
-شيء مايخصكش أشتغل ماشتغلش مش بتاعتك دي
كاد أن يُجيب عليها بعد أن قاربت دماءه على الغليان بسبب حديثها في أكثر شيء يجعله يغضب، وهو أن يكون بعيد عن حياتها ويتركها تفعل ما يحلو لها، وهذا لن يحدث..
أردف والده أخذًا منه فرصة الرد عليها، مُهددًا إياه بجدية شديدة وحديث سيحدث حقًا إن لم يعد عن أفعاله:
-قسمًا برب العباد إن ما اتعدلت يا عامر لأ أنت ابني ولا أعرفك ولا تكون داخل البيت ده من أساسه وانسى إن ليك أهل ولا حتى ميراث بعد موتي
أبعدت عينيها إلى عمها الذي صدمها حديثه للغاية!.. يستطيع فعلها حقًا وهذا الأحمق لن يعود عما يفعل بسهولة ولن يستمع إلى حديث والده وبالأخص إن كان بهذه الطريقة، ابتلعت ما وقف بحلقها خوفًا من أن تسوء الأمور أكثر من هذا ويفعل عمها ما قاله
نظر “عامر” أمامه وأبعد نظره عنه لتقع عينيه على والدته التي أشارت له بعينيها بقوة لكي يعود عما يفعل ويعتذر من والده وبادرت هي بأول شيء لكي يفعلها:
-هدي نفسك يا رؤوف عامر مايقصدش
لكنه ألقى حديثها عرض الحائط وأشار بيده بهمجية وعنف بحت ثم استدار بقوة ناظرًا بعينيه التي تحولت إلى اللون الأسود الحالك إلى حبيبته الغبية، بادلها النظرات الحادة العنيفة ثم خرج من الغرفة تاركًا إياهم يشتعلون منه ومن أفعاله..
جلست “سلمى” سريعًا على مقعده ونظرت إلى عمها بهدوء وجدية بنفس الوقت ثم خرج الحديث من شفتيها بلين ورقة:
-متزعلش منه يا عمي أنت عارفه غبي وبيقول أي كلام بس قلبه طيب وهو مايقصدش
نظر إليها عمها وابتسم من زاوية فهمه، على الرغم من كل ما فعله بها، وعلى الرغم من أنها تظهر إليه الجدية الشديدة ولا تعطيه فرصة للحديث حتى إلا أنها مازالت تدافع عنه أمام الجميع وتحاول أن تصلح كل خطأ يفعله..
أومأ إليها بهدوء وابتسامه قائلًا:
-عارف يا سلمى… عارف
❈-❈-❈
كانت جالسة على مقعد من مقاعد الطاولة الصغيرة، حيث أنها تتسع لشخصين فقط في مطعم من المطاعم المرموقة، ذات الرونق الرائع والمظهر الخلاب، ابتسمت بصفاء وهدوء وبهذا الوجه البشوش إلى شاب أمامها يجلس مقابلًا لها، خصلاته سوداء وعينيه كذلك، أنفه حاد، شفتيه رفيعة، لحيته نابته وكذلك شاربه، يبدو وسيم كمثل “عامر” بالضبط..
يعلو ثغرة ابتسامة عريضة يبادلها إياها في وسط الحديث الدائر بينهم ولكن عينيه داخلها شيء يعبر عن آخر غير تلك الابتسامة
سردت بجدية وهي تضع كوب عصير المانجا على الطاولة ناظرة إليه بجدية:
-أخدت الشيك من عمي وصرفته وتم الموضوع الحمدلله
ابتسم إليها بود وترك هو الآخر فنجان القهوة الخاص به على الطاولة وعقب على حديثها:
-كويس وإن شاء الله خير متقلقيش
تنهدت بهدوء ووضعت يدها الاثنين على الطاولة تستند عليها وهي تبصره بجدية مُكملة حديثها توضح له كيفية الأمور:
-مش قلقانة بس عايزة الدنيا ترجع تمشي زي الأول إحنا لو مكنش المبلغ ده مكناش هنعرف نمشي أمورنا
ترك ما تتحدث عنه لأنه لا يهمه من الأساس وأتجه بالحديث إلى طريق آخر يريده ويهواه كما يهوى تحقيق مراده معها:
-هتسهري معايا بكرة
لوت شفتيها المُكتنزة أمام عيناه السوداء البراقة قائلة:
-موعدكش
ضيق عينيه عليها بجدية يتسائل بجدية:
-ليه؟ إيناس هتكون معانا
ابتلعت ما وقف بحلقها ثم قالت له بتوتر ما حدث آخر مرة في المنزل بسبب خروجها المُستمر ليلًا بدون داعي، ولم تكن تريد أن يتكرر ذلك مرة أخرى:
-مش القصة يا هشام بس أنت عارف بقالي فترة بخرج بالليل وعامر عمل حوار آخر مرة واتخانق هو وعمي بسببي
زفر بضيق وعصبية وأعاد ظهره للخلف مُبتعدًا عنها وتغيرت ملامح وجهه مئة وثمانون درجة على ذكر “عامر”:
-يادي عامر هو إحنا مش هنخلص منه بقى
ضيقت ما بين حاجبيها وعينيها عليه مستفهمه ما المقصود من حديثه:
-يعني ايه نخلص منه
صاح بصوتٍ مُتعصب وغاضب بسبب ما تفعله معه دائمًا، تعطي لـ “عامر” الأهمية الكبرى بحياتها، حتى أنه الأهم منه وإلى الآن لم يفعل ما يريد بسبب وجوده وبسبب غبائها:
-يعني نخلص منه يا سلمى… كل حاجه خايفة من عامر وعامله حساب لعامر.. دا أنتي حتى مأجلة خطوبتنا علشان خاطر عامر
تفوهت بحدة بعدما تضايقت من حديثه الذي يظهرها ضعيفه وتخاف بشدة منه:
-أنا مش خايفة منه على فكرة أنا بس مش عايزة مشاكل في البيت بسببي
وقفت عينيه على عينيها بدقة وعمق وقد فعلت ما أراد بحديثها ليحاصرها بذلك السؤال:
-ومال الخطوبة بالمشاكل يا سلمى
وجدها ارتبكت عندما تحول الحديث إلى نقطة تهرب منها دائمًا رأى كل الارتباك على ملامحها والتوتر قد ظهر بوضوح ولن تستطيع أن تُجيب عليه فأكمل هو مرة أخرى:
-ردي عليا عرفيني! ولا أنتي خايفة على مشاعره؟
تنفست بقوة أمامه مُغمضة عينيها تعتصرهما ثم فتحتهما ونظرت إليه بجدية حادة لتجعله يصمت عن ذلك الحديث الذي يقوم بتفتيح جروحها التي أغلقت عليها قبل أن تُشفى:
-هشام! بلاش الكلام ده لو سمحت أنت عارف اللي كان بيني وبينه انتهى من زمان أوي وإحنا دلوقتي ولاد عم لا أكتر ولا أقل
تسائل مرة أخرى بضيق وانزعاج واضح منها وداخه يسب الساعة التي وقع فيها بذلك المأزق:
-اومال مأجلة الخطوبة ليه؟ مش قولتي علشان عامر
حقًا تخاف على مشاعره، ومشاعرها هي الأخرى، إلى الآن تحبه ولا تتقبل وجود أي رجل في حياتها سوى هو وعلى الرغم من ذلك هي أيضًا ترفضه.. ترفضه بكل الطرق والمقاييس ولن توافق على عودتها إليه مهما حدث.. فحتى بعد كل ما حدث مازال على وضعه ولم يتغير.. كل ما تفعله أنها تحاول الخروج عنه إلى غيره، تحاول أن تتقبل “هشام” في كل مرة وتنظر إليه على أنه شريك حياتها..
اختلقت سببًا واقعي وسيحدث حقًا إن تقدم لخطبتها، فهذا “هشام الصاوي” ولد “رفعت الصاوي” وابن عم “إيناس الصاوي”، لن تتم الموافقة بتلك السهولة من عمها ولن تحصل عليها أبدًا من “عامر”:
-آه يعني مهو بردو عمي مش هيوافق بسهولة.. انتوا أكبر منافسين ليه وباباك كمان مش هيوافق بسهولة
أقترب للأمام مُمسكًا بيدها الموضوعة على الطاولة بشغف وعينيه تتحرك على ملامح وجهها:
-لأ مالكيش دعوة بأبويا أنا.. المهم أنتي، لازم تشوفيلنا حل علشان نخلص إحنا بقالنا سنة مع بعض لو كانت خطوبة كانت خلصت ولسه كمان لما يوافقوا هنضطر نعمل خطوبة قدامهم وأنا بصراحة تعبت ومش مستحمل أكتر من كده
أطالت النظر عليه واستمعت إلى حديثه ثم قالت:
-مش مستحمل ايه؟
رسم على ملامح وجهه الضيق، ثم الحنان والشغف، الحب والاشتياق، كل ذلك في لحظة واحدة لكي يظهر إليها حديثه يخرج من القلب وما داخله:
-إنك تكوني بعيدة عني يا سلمى.. أنا عايزك مراتي.. عايزك جنبي وليا مش اسيبك تباتي هناك في بيت معرفش بيحصل فيه ايه لأ وكمان اللي اسمه زفت ده معاكي
جذبت يدها بقوة من أسفل يده الموضوعة على الطاولة وعادت للخلف بجسدها بينما عينيها مُتسعة عليه بقوة ولم تصمت حيث أنها تفوهت بحدة:
-هشام أنت بدأت تقول كلام غلط وهنزعل من بعض، ايه ده اللي بيت معرفش بيحصل فيه ايه؟ يعني ايه كلامك وماله عامر قاعد معايا في نفس البيت فين الأزمة
لقد أخطأ في التعبير، وعليه تصليح الأمر لتسير كما يريد، ارتسم الحزن على ملامحه وأردف بهدوء وحنين شغف يقوده إليها:
-مقصدش بس قدري اللي أنا فيه أنا راجـ ـل بحب ومن حقي اغير عليكي
وجدها كما هي لم تُجيب عليه بل تنظر إليه وتستمع إلى حديثه وكأنها في داخلها تعيد ترتيب الأمور مرة أخرى، ولكنه لن يعطيها هذه الفرصة:
-متزعليش من كلامي أنا آسف.. ده يوضحلك قد ايه بحبك يا حبيبتي
أومأت إليه برأسها وصمتت عن الحديث وقلبها ثائر داخلها، ينعتها بأفظع الكلمات، كيف لها أن تستمر عام كامل في ذلك الضغط الذي وضعت نفسها به، كيف لها أن تكون على علم أنها تحبه ولا تريد غيره وتغصب نفسها على تقبل آخر ليصبح شريك حياتها؟
استمعت إلى صوته الحاني يهتف بابتسامة عريضة على وجهه الوسيم:
-وعلشان متزعليش بجد أنا كنت عاملك مفاجأة هتفرحك أوي
تسائلت بجدية واستفهام:
-مفاجأة! مفاجأة ايه؟
مد قدمه للأمام قليلًا ثم مد يده اليمنى إلى جيب بنطاله وأخرج منه ورقة صغيرة مطوية، قدمها إليها بنفس تلك الابتسامة:
-دي المفاجأة
أمسكت بالورقة وفتحتها لتقرأ ما بها وقد كان شيك يحتوي على مبلغ كبير منه، رفعت نظرها إليه وعينيها تتسائل قبل شفتيها التي تحركت بجدية:
-دا شيك بنص مليون
أكمل هو على حديثها موضحًا إنه للجمعية الخاصة بها، ليجعلها تسعد وتتناسى ما الذي كان يتحدث به معها إلى مرة أخرى سيخرج كل ما في قلبه وقلبها وسيفعل ما يحلو له:
-للجمعية.. تبرع من شركة الصاوي ياستي
-بجد؟
أومأ إليها برأسه وأردف مُعقبًا:
-آه والله بجد
قدمت يدها إليه وأمسكت يده تضغط عليها بقوة تعبر له عن امتنانها إليه بعد ذلك المبلغ الذي قدمه إليها:
-شكرًا بجد يا هشام.. مش عارفه أقولك ايه
تعمق في النظر إلى عينيها وأخرج صوته بنبرة رخيمة شغفوة مُطالبًا بالمزيد منها:
-متقوليش حاجه غير بحبك… نفسي اسمعها منك
سحبت يدها مرة أخرى ونظرت إليه بجدية شديدة، ابتلعت ما وقف بجوفها، لو يعرف أنها لو تستطع قولها لفعلت ولكنها لا تستطيع قولها إلا لشخص واحد فقط، ليته يعود عما يفعل:
-كل حاجه في وقتها أحسن
أومأ إليها مُبتسمًا وأجاب بهدوء تاركًا لها الفرصة لتفعل ما تشاء:
-ماشي وأنا هستنى لوقتها
❈-❈-❈
عادت إلى الفيلا قبل أن تغمر السماء النجوم وقمرها يسطع في مكانه، تجنبًا لأي حديث قد يصدر من “عامر” ناحيتها ثم بعد ذلك يتشاجر مع والده، وهي لا تريد هذا، دلفت بسيارتها إلى الداخل وبقيت بها قليلًا، عقلها يدور معها حول أفكاره عن الذي من المفترض أن يحدث بينها وبين “هشام”
إنه شاب مجتهد للغاية وطموح، يحبها ويريد الزو’اج منها، وسيم ومقبول بالنسبة إليها وله كل المواصفات التي تريدها أي فتاة للزواج، تعرفه منذ عام مضى تطورت العلاقة بينهم إلى أنه أراد الزواج منها وهي بكامل الغباء لم تمانع بل وافقت ولكنها أجلت الفكرة قليلًا..
بعد كل هذا هي لا تحبه.. لا تريده، إنه من الممكن أن يكون صديق، شقيق، أي شيء غير أنه يأخذ مكان “عامر” في قلبها وحياتها، لا تستطيع النظر إلى رجل على هذا الأساس، لقد ترك “عامر” كل صفاته داخلها، ترك حبه وهوسه بها، ترك جنونه وحنانه عليها، وإلى اليوم لا تستطيع رؤية غيره..
ما الذي ستفعله مع “هشام” كيف ستتقبل أن يكون في موضع “عامر” وكيف من الأساس ستجعله يأتي ليطلبها!.. هناك مئة سؤال في رأسها جميعهم يريدون إجابة وهي لا تمتلك ولا إجابة واحدة منهم..
تنهدت بضيق ثم أخذت المفتاح من السيارة وأخذت حقيبتها وهمت بالنزول منها عندما رأته يحاول أن يصف سيارته جوارها هو الآخر، هبطت منها وفتحت الحقيبة لتضع بها المفتاح ولكنها عندما وضعته لم تجد الهاتف بها..
بحثت عنه في تلك الحقيبة الصغيرة لم تجده فأخذت المفتاح مرة أخرى وعادت للسيارة تحت أنظاره داخل سيارته، فتحتها ثم دلفت مرة أخرى ووجدت الهاتف بها، أخذته وعادت مرة أخرى لتغلقها ثم تقدمت تسير إلى الداخل مجاهدة بقوة مع عينيها ألا تنظر إليه..
يالا الألم الذي يشعر به داخل قلبه، يتلوى على جمر مشتعل، يحترق كل لحظة يراها بها، بعد كل ذلك الحب والانتظار تتركه بهذه الطريقة! يكن كالغريب بالنسبة إليها ولا تريد النظر إليه حتى، لا تريد الحديث معه ولا التقدم منه خطوة بعد أن كان لها الحياة وما فيها.. الألم الذي بداخله يكاد أن يقتله كلما رآها هكذا.. يشتهي قربها بشدة.. يشتهي وجودها بحياته كما السابق..
الآن يتركها تفعل ما تريد ولكن في النهاية لن تكون لغيره، لن تكن إلا زوجته وفي مرقده..
خرج من السيارة هو الآخر وسار خلفها للداخل، في طريقة لفت نظرة ورقة بيضاء نظيفة على الأرضية على غير العادة، ربما وقعت منها.. انخفض إلى الأسفل أخذها بين يده ثم وقف شامخًا مرة أخرى وفتحها بفضول ليرى ما محتواها وقد كان صادمًا للغاية بالنسبة إليه..
اشتعل قلبه أكثر وسارت النيران به تتدفق في الأوردة، احتدت مسكته على الورقة ونظرة عينيه تحولت مئة وثمانون درجة، أخذ صدره يرتفع وينخفض بعنف وقوة كبيرة نتيجة لغضبه العارم الذي وُجد بعد نظرته ورؤيته لمحتوى هذه الورقة الصغيرة..
من أين تعرف “هشام الصاوي”؟ وما الذي أخذه منها مقابل هذا المبلغ؟..
نظر إلى البعيد ليراها تقف أمام بوابة الفيلا وتهم بالدخول لتختفي من أمامه وتحتمي في من بالداخل ولكنه لم يتركها تفعل ذلك وصرخ بكل صوته مناديًا باسمها بعصبية وغضب..
انتفضت عندما استمعت إلى صوته على حين غرة وشعرت بالخوف للحظة، ثم تذكرت أنها لم تفعل شيء فأخذت نفس عميق واستدارت تنظر إليه بجدية.. رأته يتقدم منها بعصبية وطريقة همجية وأتت عينيها على الورقة بيده ولكنها لم تكن تعلم أنه الشيك الذي أخذته من “هشام”..
وقف أمامها وهتف بنبرة حادة قاسية وملامح جادة مُخيفة وعينيه عليها بدقة عالية:
-تعرفي هشام الصاوي منين؟
أنهى تلك الجملة الصغيرة رافعًا الشيك أمام عينيها، اتسعت عينيها أكثر مما هي عليه، شعرت بالذعر الشديد والتوتر انتهابها خوفًا من أن يعلم بعلاقتها معه، إن علم بذلك لن يمر الأمر مرور الكرام عليها أبدًا مهما كان يحدث بينهم ومهما كانت تظهر إليه القوة والا مبالاة فسيبقى هو “عامر” الذي تعرفه وستبقى هي “سلمى” خاصته التي لن يجعل أي شخص مهما كان من هو يقترب منها..
❈-❈-❈
دلف “هشام” إلى مكتب والده في فيلا “الصاوي”، التي لم تكن تقل أبدًا في الجمال والروعة أي شيء عن فيلا “القصاص”، ألقى عليه التحية وجلس بهدوء على المقعد المقابل له..
نظر إليه والده بجدية، ولم تكن تلك الحدة المرتسمة على ملامحه سوى الخوف الشديد لأي أحد آخر ينظر إليه.. عينيه حادة سوداء كابنه وأكثر، تجاعيد وجهه تحمل القسوة والغضب وكأنه غاضب من نفسه قبل أي أحد.. شفتيه مزمومة بطريقة غريبة وكل هذا ما هو إلا وصف بسيط يعبر عن جديته..
تسائل بجدية شديدة وقوة ونبرته حادة:
-ها عملت ايه
أجابه ابنه بجدية هو الآخر مثله وتحولت ملامحه إلى الضيق الشديد وربما أن يكون عندما دلف إلى هنا ظهرت ملامح وجهه الحقيقية كوالده:
-لسه يا بابا
وقف والده على قدميه بعد أن نفذ صبره ووصل إلى حافة الهاوية، لقد انتظر الكثير وما حدث معه لم يكن إلا تدبير القدر وعليه هو أن يغير ذلك.. ولم يكن إلا عن طريق ابنه المعتوه الذي لم يفعل أي شيء إلى الآن معها، صرخ بقوة بصوت حاد وقد ثار عليه بعد الاستماع إلى حديثه المُهلك للأعصاب:
-كل شوية لسه يا بابا لسه يا بابا.. البت دي لازم تموت وتحصل اللي قبلها
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بين دروب قسوته)