رواية بين دروب قسوته الفصل الرابع والعشرون 24 بقلم ندا حسن
رواية بين دروب قسوته الجزء الرابع والعشرون
رواية بين دروب قسوته البارت الرابع والعشرون
رواية بين دروب قسوته الحلقة الرابعة والعشرون
“لا يساوي أي شيء دونها.. يعلم أنه “عامر القصاص” لا يكون هو إلا بها”
غرفة مظلمة كغرف السجن الانفرادي لا يدلف إليها أي بصيص من النور إلا عبر النافذة الصغيرة في أعلى الحائط خلفها مُحكمة الغلق بأعمدة الحديد..
وذلك الباب المُغلق منذ أن استفاقت وعادت إلى وعيها، أين هي؟ من أخذها بهذه الطريقة؟ ولما فعل ذلك؟ وما الذي سيحدث لها؟ كل هذه أسئلة تهطل على عقلها في كل ثانية تمر عليها.. وقد كان الوقت طويل للغاية وذلك لأنها حتى لا تعرف ما المدة التي قضتها هنا..
في ظل تلك الزحمة داخل رأسها لم تكف عن التفكير بما بدر من زوجها وتلك الصديقة الخـ ـائنة، في ظل كل ذلك كانت وخزة قلبها أكبر من أي شيء حدث في السابق بينهم..
تلك الدموع التي تهطل على وجنتيها دون أي صوت دليل على كل الآلام المُنبعثة من داخلها تريد أن تكون مُحررة.. مُحررة بعيد عن كل ذلك الحزن والألم.. تريد أن تخرج إلى قلب آخر غير قلبها فقد عانى كثيرًا..
أغمضت عينيها ومازالت تبكي ومازال الألم مُستمر، والتفكير لم يتوقف بل يزداد مع كثير من الأسئلة التي ليس لديها أي إجابة عندها..
حاولت جذب يدها ولكنها كانت مربوطة بقوة خلفها لتكن خلف ظهر المقعد الجالسة عليه..
وكذلك قدميها الاثنين مربطين في أقدام المقعد..
لم يكن هناك أي شيء مُحرر بها.. حتى قلبها وروحها تراهم أمام ناظريها في قفص عصفور محبوس والحابس أراد ذلك بضراوة.. ليس هناك شيء ملك لها.. قلبها كان ملك لمُعذبها، كان ملك لذلك المُتسبب في أوجاعها.. كان ملك لسارق أحلامها..
روحها مرتبطة به بشدة وعنف، إن حدث له شيء مـ ـاتت وأن شعر بالألم تألمت وإن كان بخير أتى لها هو بالألم..
تملك جسدها أيضًا بعد الزواج وأصبحت رهينة بين يديه، لا تستطيع الاعتراض فـ يمارس عليها أساليبه الخاصة لتكن خاضعه له..
حتى أنها الآن وفي هذه اللحظات لا تدري أين هي ولا من معها.. بعيدة كل البعد عنه وعقلها مُنشغل به وبكل أفعاله القذرة معها.. يا لك من “عامر” حقًا..
الخوف والرهبة لم تكن تتملك منها في هذه اللحظات على عكس كثير من المرات شعرت فيهم بالخوف والرهبة منه ومعه! هل كل هذه الإشارات والفراق والسنوات التي كانت بينهم دليل على أنهم ليس من المفترض أن يكونوا في علاقة سويًا؟
انحدرت الدموع على وجنتيها بكثرة والألم يزداد في قلبها ولم تعد تستطيع التحمل! ألا يكفي كل ما تحملته!.. من رحلوا وتركوها ومن كان خـ ـائن ومن كانت خـ ـائنة، من كذب عليها ومن حطم قلبها ومشاعرها!..
ارتعشت شفتيها المُكتنزة الوردية وهي تبكي وجسدها مُتشنج، اللؤلؤ داخل عينيها الزيتونية وكأنه يُزينها..
عقلها بعد كل سؤال يطرحه عليها يخمن أن “عامر” هو من فعل هذا وأتى بها إلى هنا كي يصلح ما فعله.. ولكن طريقته خاطئة..
توقف التفكير وسُلبت منها كل الأسئلة عندما وجدت باب الغرفة يُفتح ويدلف منه النور إليها وكأنه ليس منزل بل غرفة في الطريق أو الصحراء!..
أغمضت عينيها للحظة بسبب الضوء الكثير المُنبعث بعد أن اعتادت عينيها على الظلام في الغرفة.. ثم رفعت عينيها ورأسها لتنظر إلى الذي يدلف وقد كان!..
“هشام”!.. رأته يدلف مُبتسمًا بانتصار وسخرية لا نهائية، فتابعت دخوله هذه المرة بخوف بعد أن دق قلبها وخيب ظنها في أن يكون “عامر” زوجها..
أغلق الباب من خلفه ودلف إلى الداخل ليقف أمامها مباشرة ابتسم باتساع مُنتصرًا ثم هتف بسعادة بالغة ظاهرة على وجهه بوضوح:
-شوفتي الدنيا صغيرة إزاي؟ كان المفروض بقى إني في السجن علشان جوزك اتخلص مني.. بس مطلعش شاطر يعني وكمل الليلة دي، طلع خايب
ابتلعت ما وقف بحلقها وتغلبت على ذلك الخوف الذي تمكن منها ورفعت صوتها إليه قائلة بغضب:
-أنت عايز مني ايه؟ أنا عملتلك ايه
اتسعت ابتسامته وهو يرى الخوف في عينيها ويعلم جيدًا أنها تحاول أن تكون تلك الشجاعة أمامه:
-بصراحة أنتي معملتيش بس غيرك عمل
لم تذهب بعقلها إلى أحد غيره! من غيره سيفعل المشاكل والكذب.. والخيانة!:
-عامر!..
حرك رأسه يمينًا ويسارًا نافيًا تخمينها بأن يكون زوجها، وأردف بنبرة بها الشر والحقد أكثر من صوته الرجولي:
-ياريته كان هو بس للأسف هو كمان معملش حاجه.. اللي عمل حد كبير أوي وبتحبيه أوي وجب ولازم الانتقام منه حتى لو كان مات
تابعته بعينيها الزيتونية واستغربت لحديثه الغريب عليها! مَن مِن الممكن، أيعقل شقيقها؟:
-ياسين؟
أردف بجدية ونبرة فاترة غير مُبالية بملامحها:
-أحمد القصاص
ذُهلت بعد أن استمعت إلى حديثه! ألا يجد إلا والدها لكي يكذب بخصوصه؟ رفعت صوتها وصرخت عليه باستغراب ثم اتهمته بعنف وشراسة:
-بابا؟ بابا عمل فيك ايه؟ أنت كداب.. كداب
صرخ على حين غرة عندما وجدها تدافع بتلك الطريقة عن والدها ويرى الاستماته في نظراتها الرافضة لحديثه وقال بحقد وغل ينبع من داخله وهو يشير إلى نفسه بحسرة:
-أنا مش كداب.. أبوكي دمرني ودمر حياتي.. دمر أبويا وأمي وعيلتي كلها.. دمر طفولتي ودمر الطفل اللي جوايا خلاني زي ما أنتي شيفاني كده واحد وسخ وشراني وهيقتلك
دمعات خرجت من عينيها الاثنين وهي تستمع إليه وترى مظهره وهو يتحدث بكره شديد وكأن هناك ما حدث بالفعل، رددت آخر كلماته بخوف:
-تقتلني!
أومأ إليها برأسه مُؤكدًا يُجيبها:
-للأسف.. هقتلك علشان تحصلي اللي راحوا
اتسعت عينيها بذهول واستنكار لما أتى على خلدها بعد حديثه الأخير والسؤال الذي طرح على عقلها من خلفه، فهم ما الذي فكرت به فمرة أخرى أومأ إليها قائلًا بجدية وبرود:
-أيوه بالظبط.. اللي راحوا أبويا اللي قتلهم، مكانتش حادثة والسلام كانت متدبرة ولسوء حظك إنك طلعتي منها
ذهب إلى آخر الغرفة تحت نظراتها المصدومة والغير قادرة على إبداء أي رد فعل وأتى بمقعد من الزاوية المخفية في الظلام ثم استدار به ناحيتها وعكسه ليجلس عليه مُخالفًا أمامها:
-عايزة تعرفي أبوكي عمل ايه؟ ولا مش هتصدقي
وضع يديه الاثنين أعلى ظهر المقعد واستند عليه وبدأ في سرد القصة منذ البداية إليها بعيونه السوداء الحالكة:
-أبوكي ياستي كان بيحب واحدة قبل الست الوالدة.. راح يتقدم لها مرة واتنين وعشرة وأهلها رافضين يأس واتجوز وهي كمان أهلها جوزوها.. خلف وخلفت وهما الاتنين لسه على تواصل مع بعض.. هو بيخون مراته وهي بتخون جوزها كل حاجه كانت واحدة في البيتين إلا حاجه واحدة بس
اختلفت نظرته وتحولت إلى كره خالص وحقد لا نهائي يماثله الغل المتواجد داخله كلما تذكر ما كان يحدث معه:
-إن حياة الست مع جوزها كانت وحشه وصعبة وابنهم في النص.. يشوف خناق يشوف زعيق يشوف ضرب
توقف عن الحديث وهو ينظر إليها ويراها تستمع إليه ثم أكمل قائلًا بجمود:
-يشوف أمه مشنوقة
استمع إلى شهقتها التي خرجت منها على حين غرة وهي تستمع إليه وتتخيل في رأسها كل ما يقوله.. كم كان صعب كل ذلك على هذا الطفل:
-أيوه مشنوقة.. خدي بالك بحكيلك باختصار علشان متبكيش
ابتسم بسخرية وهو يرى الدمعات تفر من عينيها تُسير إلى وجنتيها تستقر على مقدمة رقبتها وأكمل بكثير من الغل:
-عاش أبوكي حياته هو وولاده.. إنما الراجل جوز الست وابنها مقدروش حياتهم اتدمرت بسبب واحد وسـ* زي أبوكي فضل على علاقة مع واحدة متجوزة
تسائل بعينين لامعة حادة ينظر إليها بكره شديد:
-عارفه مين الولد ده؟ ده أنا هشام الصاوي وأبويا
استنكرت كل ما قاله وهتفت بجدية وعنف من بين بكائها بصوت مختنق:
-بابا أكيد معملش كده.. أكيد في حاجه غلط أكيد
حرك رأسه بنفي يؤكد أن حديثه صحيح وليس هناك شيء خاطئ به يصحح إليها فكرتها عن والدها ويقول أيضا أن هناك من يعلم غيرهم:
-للأسف مافيش حاجه غلط وده اللي حصل فعلُا.. أنتي بس اللي بتحبيه زيادة عن اللزوم وشيفاه ملاك وعادل.. كلكم ماعدا عمك ومراته.. كانوا عارفين كل حاجه
تسائلت بصدمة وذهول والبكاء يُسيطر عليها:
-بابا؟
أومأ إليها وكرمشت معالم وجهه للغضب الشديد والعصبية المُفرطة التي حاول كبتها كل هذه السنوات:
-أيوه هو أبوكي أحمد القصاص.. بسبب أبوكي اتحولت من طفل لمجرم.. واحد عنده عقد وقرف.. بسبب أبوكي أخدت عهد على نفسي إني مش هخلي واحد في عيلتكم سعيد.. بس أبويا كان ليه رأي تاني
أكمل قائلًا بفتور:
-هو اللي رتب حادثة العربية بس علشان أنا ربنا بيحبني أنتي لسه عايشة.. هطلع كل عقدي عليكي وبعدين اقتلك
اعتدل في جلسته يكمل تهديده إليها بشر ونظرة حادة واثقة:
-كل واحد دوره جاي حتى لو كان آخر يوم في عمري
نظرت إليه، لحظة والأخرى، دمعاتها لم تتوقف لحظة بل ازدادت وخرج صوتها ليتحول إلى بكاء ونحيب، هل والدها أيضًا كان خدعة مثلهم؟ مثلها الأعلى وحبيبها الأول ومن وقف جوار “عامر” في كل خطوة! لم يكن يحب والدتها وكان خـ ـائن.. كان كاذب!.. لذلك بعد كل رفض لعمها عن زواجهما كان هو يوافق، لا يريد لعامر المهووس بها الفراق عنها لأنه عاش ذلك قبله!..
لا لا أنها تظلم والدها وتصدق شخص يظهر عليه أنه مريض نفسي لا يريد إلا المعالجة السريعة بسبب ما حدث له في طفولته.. إنه عدائي للغاية لا يريد رؤية سعادة الآخرين..
فُتح الباب، رفعت بصرها تنظر إلى الوالج إليهم مرة أخرى، أغلقت عينيها بسبب ذلك الضوء الذي يزعجها ومرة أخرى تفتحهما وتنظر لتجد ابنة عمه الخـ ـائنة الكاذبة.. ما الذي تريده أيضا..
دلفت وأغلقت الباب من خلفها، لتتجه إلى ابن عمها والابتسامة على وجهها من الأذن إلى الأذن تُلقي عليها نظرات الإنتصار من عينيها اللامعة بغرابة..
أردفت بنبرة رقيقة ناعمة مُتهكمة عليها:
-ازيك يا سلمى يارب تكوني مبسوطة معانا
نظرت إلى ابن عمها تنخفض برأسها لأنه يجلس على المقعد جوارها وهي واقفة وقالت له:
-بدأت الحفلة من غيري ليه.. مش قولت هتستناني
ابتسم وهو يقف على قدميه تاركًا المقعد يتجه للخارج:
-معلش بقى يا سوسو مقدرتش استنى.. هسيبك معاها شوية
أومأت إليه وانتظرت إلى أن خرج وأغلق الباب من خلفه، فعدلت المقعد ووجهته إليها وجلست عليه مُعتدلة:
-ايه رأيك في المفاجأة بتاعت امبارح يا سلومه
سخرت قائلة ضاحكة بقوة:
-ولا نقول يا بطل
تفوهت بالكلمات المُتسائلة باستغراب وعتاب ليس له محل الآن في هذا الموقف:
-حتى أنتي.. أنا معملتش فيكي حاجه وحشه.. مأذتكيش
أجابتها بجدية ووضوح:
-هو آذاني.. علشانك
أردفت بنبرة ترتعش بسبب البكاء، تتسائل بذهول لما وضعوها في المنتصف وعليها أن تنال العقاب:
-وأنا مالي.. أنا ايه دخلي ليه تعملوا فيا كده ليه أكون أنا الضحية في وسطكم
ردت بحقد وكره يدل على حبه إليها:
-علشان بيحبك.. بيحبك أنتي
قالت “سلمى” بجدية وهي واثقة من حديثها:
-بس أنتي مش بتحبيه.. طول عمرك كرهاه
حركت “إيناس” كتفيها الاثنين وقالت بهدوء فاتر:
-في البداية حتى محبتوش أنتي عندك حق.. بس كنا على علاقة.. معجبة بيه وبشخصيته وفلوسه علشان ماكونش كدابه.. شرب سهر خروج قلع حتى
تحولت نظراتها إلى أخرى شريرة للغاية قاتلة تريد الانتقام ولن يكون إلا عن طريقها ليصل إليه في منتصف قلبه:
-وفي لحظة كده علشان عرف إني أعرفك وأقدر اوصلك يرميني.. لأ مش أنا خالص
وقف عقل “سلمى” عند كلمة واحدة فقط من وسط كل هذا الحديث وستكون الإجابة منها فارقة ومصيرية للغاية حتى ولو كانت كذب:
-قلع!..
ابتسمت “إيناس” لأنها تعلم أنها كانت ستعلق على تلك الكلمة، قالت ما كانت تريد الاستماع إليه لأنها تعلم أن “سلمى” ستكون مع الأمـ ـوات:
-الحقيقة بردو علشان مبقاش كدابة لأنك كده كده هتموتي.. كانت مرة وهو مقدرش يكمل يا حرام افتكرك وخاف على مشاعرك
أشارت إليها بحقد غريب، وكره لها وله، ولكن الأكثر إليها:
-أنتي كنتي السبب في إنه يبعد.. إنه يرميني كده.. أنتي كنتي المفضلة عنده رغم أنه يعرف ستات بعدد شعر رأسه
باستغراب أكملت وقد كان ذلك ظاهر على ملامحها حتى مع نظرة عينيها الواثقة وحديثها الجدي:
-كل شيء عنده كان مباح إلا إنه يقرب من واحدة بجد أو يقولها كلمة حلوة.. كان بجح ومش كداب.. مش بيعرف يكدب لو واحدة وحشه كان بيقولها أنتي وحشه
ضحكت ضحكات مُتفرقة وهي تكمل سرد ما كان بينهم وفي لحظة تحولت وهي تنظر إليها بغضب وحدة:
-كان كل حاجه معايا وفي لحظة هوب مافيش عامر لأ وكمان تهديد وشتايم وقرف.. لأ ده يشوف إيناس اللي بجد بقى
تابعتها “سلمى” ونظرت إلى تعابيرها وكل ما يصدر منها، أنها تحقد عليها لأنها معه، تكرهه لأنه كان كل شيء لها ثم أبتعد وفضل غيرها عليها، تريد أن تطعنه بها كما طعن كرامتها وكبريائها.. من ماذا مصنوع أنت يا “عامر”؟
بهدوء تحدثت “إيناس” وتابعت بعينيها عيون “سلمى”، لحظة صمت بينهما ثم قالت ببرود خالص:
-زي ما أنتي مالكيش دعوة بحكاية أبوكي كمان مالكيش دعوة بحكاية عامر.. بس محدش هيتعاقب غيرك يا سلمى أنتي بس اللي هتوجعي عامر أكتر من وجعه نفسه
وقفت على قدميها وتابعت النظر إليها بنفس تلك الطريقة وتفوهت تعبث معها:
-استعدي بقى
ذهبت إلى الخارج وأغلقت الباب، تاركه إياها تندب حظها في كل من عرفتهم في حياتها..
هي هنا تُعاقب لأجل والدها وتُعاقب لأجل “عامر”، والدها أخلف من خلفه شخص مطعون في والدته مُحطم من داخله معقد لا يحتاج إلا لعلاج في أسرع وقت قبل أن يدمر كل من حوله حتى ولو من الأقربين..
و “عامر” دمر فتاة بتلك الألاعبب القذرة خاصته، دمر ما داخلها وحطم كبريائها وطعن في كرامتها، أخذها متى ما أراد وتركها متى ما أراد، فعل بها ما يحلو له وألقى بها في أقرب سلة قمامة..
ابتسمت “سلمى” واتسعت ابتسامتها بسخرية شديدة ثم تحولت إلى ضحكات وهي تعد بلسانها مذكرة نفسها بكل من كان خـ ـائن في حياتها..
-عامر، بعده هشام، إيناس، ياسين، وبابا!..
تعالت ضحكاتها لتملئ أرجاء الغرفة وهي تعود برأسها للخلف، ثم.. ثم بعد لحظة عادت تلك الوخزة في قلبها وشعرت أن الهواء يختفي من حولها وقفصها الصدري ينطبق على قلبها كما أن الغرفة تنطبق عليها.. وانفجرت باكية محولة دموع الضحكات إلى دموع البكاء صارخة بعنف وهي تتقدم للأمام برأسها ويديها الاثنين مربطين إلى الخلف.. الضجيج الذي داخل رأسها سيقتلها لا محال.. وإن لم يفعل سيتوقف نبض قلبها بعد كل تلك الآلام والطبول القارعة داخله..
❈-❈-❈
استمع إلى رنين هاتفه على سطح المكتب، وقف مُتقدمًا منه تاركًا الحاسوب على الطاولة الصغيرة، أمسك بالهاتف عاقدًا حاجبيه بعد أن وجد رقم مجهول يقوم بالاتصال به، أجاب بفتور واضعًا إياه على أذنه:
-نعم
استمع إلى كلمات الطرف الآخر المتسائلة عن هويته لتقوم بقول ما تريد إليه فأجابها يحرك رأسه وكأنها تراه:
-أيوه عامر القصاص
لحظة والأخرى وعينيه تتسع بذهول وصدمة، بها اللهفة والقلق وكل المشاعر التي تنم عن التوتر والخوف ثم صاح صارخًا:
-اتخطفت! اتخطفت إزاي من قدام الجمعية ومين عمل كده
أكمل سريعًا وهو يأخذ جاكيت بدلته من على المقعد الذي كان يجلس عليه والمفاتيح الخاصة به من على المكتب وصاح بعنف:
-يعني ايه متعرفوش.. وإزاي بتبلغيني دلوقتي إزاي كنتوا فين من وقتها
خرج من المكتب بخطوات واسعة راكضه إلى الخارج وعيناه سوداء حالكة وهذا لا يحدث إلا بحالات الغضب الشديدة:
-يعني ايه عرفتوا بالصدفة انتوا بهايم
أغلق الهاتف بوجهها بعد أن وصل إلى الأسفل في لمح البصر ودلف لأخذ سيارته شاعرًا أن كل عضو بجسده يتحرك وحده دون أي إرادة منه، جسده يتحرك نحوها!..
ألقى الهاتف وجاكيته بجواره على المقعد ثم أدار المقود وخرج سريعًا بلهفة وقلق وعصبية والجميع ينظر إليه باستغراب تام وشوق لمعرفة ما الذي يحدث معه..
بينما هو كان في حالة أخرى، يسابق الرياح والزمن ليعرف ما الذي حدث لحبيبة عمره وروحه، يسابق الأحداث والقدر ليكون هو محلها في كل سوء، يسابق أحداث روايته مُحاولًا جعلها أجمل معها رغم أنف الشر والحقد المُحيط بهم..
كان قلبه يدق بعنف وقوة، يقرع بلهفة وخوف، بقلق ورهبة وكل ما به لا يتعلق إلا بالقلق عليها..
روحه وحياته، لا يستطيع التخيل أنها من الممكن أن يحدث لها شيء! لا يستطيع أن يتركها تذهب هكذا!..
صقر جريح طائر في السماء ينزف ويعلو صوته ألمًا، صياد ماهر بعد أن كانت فريسته المهووس بها بين يده أخذت منه من قِبل مجهول!..
مجهول؟! لا لم يمكن مجهول بل كان يعرف جيدًا، ولكن لم يتوقع أن يكون الرد سريع إلى هذه الدرجة وفي وقت هم على نزاع به..
عينيه شُتتت على الطريق ولم يعد يدري إلى أين وجهته، طريقه الذي كان يذهب إليه جسده، إلى أين مقرها وأين حبها!..
ضيق ما بين حاجبيه وهو يضغط على المقود بيده بعصبية شديدة وعنف خالص، يحاول إخراج ما به في أي شيء حوله ولا يجد فيها أبسط الأمور..
كيف تقول تلك الغبية أنها علمت بالصدفة اختطاف “سلمى” منذ الصباح وهي مخطوفة ولم تعلم إلا عندما راجعت الكاميرات لترى أين وقع منها مفتاح سيارتها!..
يا الله، ماذا لو لم يكن هناك من يعرف أين هي، ماذا كان سيحدث له ولها، والآن ما الذي تتعرض له على يد ذلك الغبي الحيوان الذي سينال منه عقاب لن ينظر بعده في عيون أحد أن تركته الشرطة له فقط،
قام “عامر” بتبليغ الشرطة سريعًا لمساعدته في العثور عليها ولأنه رجل هام ومعروف في الدولة قامت الشرطة بتلبية النداء سريعًا وقاموا بتفريغ الكاميرات الموجودة أمام الجمعية ورؤية السيارة بأرقامها واضحة ربما لم يفكر “هشام” بأمر كهذا وربما أيضًا هو فعل ذلك ليقوم بتضليلهم عن الطريق الصحيح للوصول إليه..
تقدمت عناصر الشرطة إلى منزله وقاموا بالتفتيش ولكن لم يجدوا أحد فطالب “عامر” بالتحفظ على والده وحدث ذلك أيضًا تلبية لرغبته..
وأيضًا ذهبوا إلى منزل “إيناس” ولم يجدوا أي أحد هناك من الأساس وذهب إلى منزلها القديم كان الوضع كما هو..
منذ أن علم وهو يحاول الوصول إلى “سلمى” عن طريق هاتفها، لا يدري لما قد يفعل مؤكد أنهم أخذوه منها ولكنه حاول كثيرًا ويجده مقفل..
أثناء قلقه وحيرته، لهفته وخوفه، رهبة قلبه وعذاب روحه في بعدها عنه لا يعلم عنها أي شيء، أثناء عجزه عن فعل أي شيء ليقوم بالعثور على حبيبته أتته رسالة نصية على هاتفه بأن هاتف “سلمى” قد فُتح..
دق الأمل داخل قلبه مرة أخرى وارتسمت الابتسامة على شفتيه سريعًا فور فقط أن رآها، ستكون هذه مساعدة أخرى مع أرقام السيارة التي يقومون بالبحث عنها ولكن لا أثر لها..
بالتعاون مرة أخرى مع عناصر الشرطة قاموا بتتبع هاتف “سلمى” النقال والذي كان صعب للغاية حيث أنه كان في منطقة لا يوجد بها أي إتصال وكل لحظة والأخرى يقف الإتصال بها ويعود هاتفها إلى وضع غير مفعل..
اغمض عيناه الاثنين وأبتعد في ركن ليكون هو وحده، وقف ينظر إلى السماء وعيناه بها رغبة ملحة للبكاء، يريد أن يفيض كل ما يشعر به الآن ويعبر عن كمية الحزن والألم الموجود داخله.. يود أن يطالب بالرحمة من الله فيها هي فقط ولكنه خجل للغاية من طلب كهذا وهو لا يفعل إلا ما يغضبه عليه.. ولكنه أصبح عنده يقين تام أن رحمة الله وسعت كل شيء، ويعلم أنه لن يضره في أكثر الأشياء محبتًا إلى قلبه وأكثرهم عشقًا وغلاوة، يعلم أن الله لن يخذله ولن تكن هي الراحلة الرابعة، يعلم أن أي مكروه لن يحدث لها وسيكون معها في الوقت المناسب وسيعثر عليها.. يعلم أن الأمل ضئيل ولكنه.. لكنه “عامر القصاص” ذو الهيبة والشكل والسلطة لا يساوي أي شيء دونها.. يعلم أنه “عامر القصاص” لا يكون هو إلا بها.. إلا معها.. يعلم أنه جرحها كثيرًا وأبكاها أكثر ولكنه والله يحبها.. يحبها ويهوى كل ما بها ولا يريد التخلي عنها.. لا يريد أن يكون وحيد فهي.. هي كل الأشخاص، الحياة وما بها..
تنهد بصوت مسموع مُناجيًا ربه يقول كل ما في صدره، ويعلم أنه توصل إليه وسيكون معه في كل خطوة، غفور رحيم، عفو كريم، لن يتركه وحده، لن يخذله، لن يسلبها منه بهذه الطريقة..
❈-❈-❈
دلفت “إيناس” إليها بعينين شامته، ساخرة، تقول ما لم تقوله شفتيها إلى الآن..
نظرت إلى هيئتها، عينيها المُنتفخة وشفتيها المتورمة، نظرت إلى وجنتيها الحمراء ووجهها الباهت الحزين المرتسم عليه آثار الدموع التي لم تتوقف إلى الآن..
ومن خلفها ولج ابن عمها والابتسامة على وجهه هو الآخر، يتابعها بتشفي وحقد، بمرض لأجل أن يسعد عقده النفسية..
أردفت “إيناس” بابتسامة ساخرة وهي تقترب منها قائلة:
-بصراحة بقى أنا وهشام محضرين ليكي مفاجأة ولا في الأحلام.. وبصراحة أكتر كانت فكرتي أنا
أقترب هو الآخر يكمل على حديث ابنة عمه ضاحكًا بشدة:
-بصراحة عليكي افكار يا إيناس تودي في داهية
ردت مُعقبة بجدية رافعة حاجبيها:
-ومش أي داهية.. دي الداهية اللي هتروحها سلمى مع عامر
لوت شفتيها مُتهكمة تقول بدلال حقير:
-ومش الموت متخافيش
تتابعهم بأعين زائغة، لم تعد تستطيع التحمل لا الحديث ولا النظر إلى وجوههم، لم تعد تستطيع التفكير أو التذكر فقط تجلس هكذا تنظر في الفراغ أو إلى وجوههم ولكن غير ذلك لم تعد قادرة على فعله.. يكفي كل ما مرت به، يكفي ما عاشته إلى اليوم، يكفي دمار حياتها قبل وبعد الزواج منه..
خذلانها في كل البشر المحيطين بها ومازال هناك غيرهم لم تكشف عنهم قناع وجههم.. مازال هناك الكثير لا تعرفه..
أشار “هشام” إلى ابنة عمه بيده وهو يتقدم من “سلمى” قائلّا بجدية وفتور:
-دخليه يا إيناس
خرجت الأخرى وتقدم منها هو ليقف خلفها بيده يبعد عنها ربطة يدها الذي جعلتها تتألم كثيرًا..
ثم استدار ليقف أمامها وفعل المثل مع ربطة قدميها..
قربت يدها الاثنين منها إلى الأمام وشعرت بألم لا مثيل له فهي منذ أن أتت ويدها الاثنين مربطين خلف ظهر المقعد الجالسة عليه..
آنت بصوت خافت للغاية وهي تضع يدها على الأخرى، ثم رفعت عينيها على الباب لترى “إيناس” تدلف إلى الغرفة معها شخص ما لا تعرفه..
يبدو وكأنه مثل الحارس الخاص، طويلًا، أكتافه عريضه، جسده ضخم ونظرته حادة..
أمسكها “هشام” من ذراعيها الاثنين وهي في حالة استسلام تامة ثم دفع المقعد من خلفها بقدمه بقوة ليبتعد عنها واقعًا على بعد مسافة منها..
ثم في لمحة لم تأخذ بالها منه فيها كان كف يده بعد أن ترك يدها يهوى على وجنتيها اليسرى بعنف شديد للغاية وقوة لا تتحملها فاستدارت صارخة بعنف الناحية الأخرى تقع على جسدها فاستندت بيدها على الأرضية..
نظرت إلى الأرضية مُنحنية على نفسها ورفعت يدها إلى وجنتيها تشعر بسيل الدماء يخرج من شفتيها بغزارة، وجنتها وكأنها تحت تأثير مُخدر لا تشعر بها..
ضغطت على عينيها بعنف وهي تبكي بقوة مُنتحبة بقهرة وحرقة..
تقدم منها مُبتسمّا يتمسك بخصلات شعرها بعنف يجذبه بغضب وحدة قاصدًا فعل ذلك ونظر إليها بعينين ملهوفة على الانتقام:
-مبسوط وأنا شايفك كده.. ولسه
استمع إلى صوت ابنة عمه خلفه يخرج بقلق وخوف:
-هشام!
استدار ينظر إليها باستغراب تاركًا الأخرى فأشارت إليه بعينيها على الأرضية جوار “سلمى” قائلة:
-دي معاها موبايل
صرخ بدهشة مُستنكرًا بعنف وعصبية:
-ايه؟
أقترب منها بسرعة وانحنى يأخذه من على الأرضية تحت نظراتها الملهوفة في أن يكون “عامر” قد علم ما حدث لها وتصرف في تلك المدة الصغيرة.. تريده الآن وحتى ولو كان بينهم جبال العالم كله.. تريده ولا تريد غيره أن ينقذها مما هي به، تريده وتعلم جيدًا أن هذه العلاقة سامة للغاية..
لم تفكر للحظة واحدة أنها معها هاتف ولم يأخذه منها أحد لقد أخذوا كل عقلها.. وكان لكل شخص دوره في التفكير به..
ألقى الهاتف بعصبية وعنف شديد في الحائط فهبط على الأرضية مهشمًا فذهب ووقف فوقه بقدمه يسحقه أسفله..
كرمش ملامح وجهه إلى الشر والغضب وعاد إليها يمسك خصلاتها رافعًا وجهها إليه ثم هبط على وجنتيها الاثنين بصفعتين متتاليتين وهي فقط تبكي وتشعر بالألم!.. حتى أنها لم تصرخ أو تدافع عن نفسها.. تعلم أنها لن تفوز مهما حدث.. لن تخرج من هنا إلا إذا قام أحد بمساعدتها ولكن أن تفعلها وحدها مع هؤلاء فهي تعذب نفسها فقط..
دفعها للخلف بعنف لتستقر على الأرضية وأبتعد عنها إلى الباب سريعًا قائلًا بجدية وكره:
-شوف شغلك معاها..
أكمل يجذب يد ابنة عمه معه إلى الخارج خوفًا من أن يأتي “عامر” إليه هنا:
-يلا إحنا
دلف الآخر بوجهه الصلب الحاد وجسده الضخم الذي ستختفي داخله أن وقفت أمامه.. أقترب منها بنية ليست طيبة أبدًا وهي تعود للخلف إلى أن بقيت خلفها الحائط وهي جالسة على الأرضية..
الرهبة! الرهبة تقتل قلبها القارع بداخله النبض على السريع، دقة خلف الأخرى والأخرى بسرعة لا مثيل لها، الخوف أعمى عيناها ولم تعد تستطيع أن تتنفس بانتظام.. لقد تعثرت وثيرت أنفاسها وهي تراه ينحني أمامها بالضبط على قدميه مقربًا يده من وجنتها قائلًا بصوت غليظ:
-متخافيش.. دي حاجه بسيطة أوي وأنتي مجربة
نظرت إليه باستفهام، تستنكر ما يقوله، عينيها لم تفهم ما الذي يقصده حتى..
لم تدري بما يقول إلا عندما وجدت يده مزقت البلوزة الخاصة بها وأتى بها من الأعلى نصفين..
صرخت بعنف وهي تبعد يده عنها ضاربة إياه غير مبالية لحجمه وحجمها الصغير للغاية جواره:
-أبعد عني.. غور في داهية أبعد عني
لم يتزحزح من أمامها بل أمسك بخصلات شعرها وقربها منه بعنف وهو يستمع إلى صراخها وبكائها قائلة:
-أنت متعرفش أنا بنت مين ومرات مين… أنا مرات عامر القصاص هينسفك نسف لو قربتلي
ارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة بسيطة للغاية ثم أمسك يدها الاثنين بيد واحدة واستطاع فعلها بمنتهى السهولة ثم مال على رقبتها دافعًا إياها في الحائط محاصرها بجسده الذي سيقتلها أن بقيٰ هكذا لدقائق بعد..
صرخت بعنف وحاولت التحرك بقوة، ضربت بقدميها كثيرّا ولكنه حاصرها، حاولت.. وتركت الاستسلام الذي كانت به عندما انتقل الوضع إلى منطقة أخرى ولكن تلك العصفورة الصغيرة البريئة لن تستطيع الهرب من بين يدي غراب..
لن تستطيع إلا وهي مجرد عظام ملتحمة مع بعضها البعض..
في اللحظات الحاسمة نتناسى كل السيء وأي خلاف مع من نحب، وهذا ما حدث معها، تناست كل شيء وتذكرت وجهه وابتسامته، تذكرت حبه وهووسه ملامحه واسمه مُطالبة بالنجدة من “عامر القصاص”
قبل أن تزهق روحها وتُسلب بكره ورحابة صدر.
❈-❈-❈
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بين دروب قسوته)