رواية بيت البنات الفصل السابع والعشرون 27 بقلم أمل صالح
رواية بيت البنات الجزء السابع والعشرون
رواية بيت البنات البارت السابع والعشرون
رواية بيت البنات الحلقة السابعة والعشرون
وضع المفتاح الباب ثم أداره وولج شقته الخاصة به هو وزوجته، حبيبته ومعشوقة الفؤاد، ضاقت المسافة بين حاجبيه وانكمشت ما إن قابلته تلك العتمة والظلام الدامس الذي يعم المكان.
أغلق الباب ثم تحسس مكبس الإضاءة حتى وصل له وأشعله، جاب المكان بعينيه بقلق لإختفائها وإختفاء صوتها المليء بالحيوية الذي تقابله به كل يوم عند عودته من العمل.
نادى وهو يلقى المفتاح بعشوائية فوق إحدى الارائك وهو لازال ينظر نحو جميع الغرف عله يستشف إن كانت توجد في واحدة منها: ولاء.
لم يأتِه أي إجابة فدخل “مصطفى” على الفور لغرفتهما – دون أن يكترث لحذائه الذي ولج به – فوجدها هي الأخرى تغوص بالظلام والصمت فنادى من جديد ودقات قلبه تزداد فزعًا: ولاء!!
صوتُ بُكائِها المكتوم والقادم من الشرفة جعله يلتفت بسرعة لإتجاهها متحركًا بخطوات شبه راكضة وبهلع، دفع الباب فوجدها تجلس أرضًا دون أن تهتم للألم الذي انتشر بجسدها جراء جلوسها فوق البلاط مباشرة أو للبرد القارس في هذا اليوم من أيام فصل الشتاء.
توسعت عيناه بإرتياع وانخفض فورًا لمستواها جالسًا القرفصاء أمامها واخذ يتفحص كل إنش بها ولسانه لا يتوقف عن طرح الأسئلة: مالك يا ولاء؟ بتعيطي ليه؟؟ حد عملك حاجة؟؟ إيه اللي حصل؟!!
وما كان ظهوره وحديثه القلق سوى زرٍ ضغط عليه فجعلها تنفجر في البكاء، وكأنها كانت تنتظر حضوره كي تبكي كيفما تشاء، جذبها نحوه بسرعة وربت على رأسها وهو يحاول تهدئتها وطمئنتها بكلماته: طب خلاص اهدي، اهدي وفهميني في إيه!!
وقف أولًا ثم أمسك بذراعيها يعاونها على الوقوف والدلوف لداخل الغرفة بعيدًا عن هذا الجو البارد، أجلسها فوق الفراش وتحرك بسرعة ليغلق باب الشرفة ثم تحرك للخارج وعاد بعد بضع دقائق وهو يحمل كوبًا من الماء.
رفعه على فمها بيدٍ ومسد بالاخرى فوق ظهرها حتى انتهت من الكوب كاملًا، مال برأسه قليلًا ليبصر وجهها هاتفًا برفق: أجيبلِك تاني؟؟
نفت دون أن تجيب فاستأنف ولازالت يده تسير على ظهرها: طب مالك؟ في ايه حصل وأنا برة؟؟
ابتلعت ولاء ريقها وحدقت به بعينيها المحمرة بشدة أثر بكائها قبل أن تجيبه بإنتحاب: نتيجة التحاليل طلعت..
لثواني لم يفهم عما تتحدث قبل أن ترتخي قسماته وقد تذكر أمر تلك التحاليل التي قاموا بها سويًا منذ أيام، عندما شكت أنها حامل بسبب بعض الأعراض التي ظهرت عليها.
اومأ برأسه دون أن يرد وهو يشجعها بعينيه على مواصلة الحديث، نظرت أرضًا ففرت دمعة جديدة من عينيها وهي تتابع: عملت كذا إختبار عشان اتأكد من صحة التحاليل وكلها كانت نفس النتيجة..
بعد رؤيته لحالتها تلك يمكنه تخمين النتيجة دون أن تقول هي، التقط يديها بين يديه وضغط عليهما يبثها حبه وعشقه بصوته الرخيم المحبب: طب وايه يعني! زعلانة ليه دي حاجة مش في إيدنا، كل اللي علينا نقول الحمد لله وند….
ولكنها قاطعت حديثه فجأة وهي ترفع رأسها لترمقه وشفتيها ترتجفان: أنا حامل يا مصطفى..
توسعت عيناه وارتفع حاجباه بتلقائية عقب جملتها التي أدهشته وجعلته في حيرة من أمره كذلك، فإن كانت النتائج إيجابية فلما كل هذا الحزن والبكاء؟!! لماذا تتصرف وكأنها فقدت جنينها للتو؟!!
نفى برأسه في تساؤل عن سبب حالتها تلك إذًا فعادت لتنظر أرضًا من جديد وهي لا تعرف كيف تصيغ له حديثها ومبرراتها، لا تعلم إن كان سيتفهما أم سيتلقى حديثها بسخرية واستهزاء، ماذا إن غضب وثار عليها؟؟
أما مصطفى فتحدث أولًا بإستنكار وهو جاهل تمامًا عن سبب ردة الفعل تلك بعد علمها بأمر حملها، من المفترض أن تكون أسعد مخلوقة اليوم!
– طب … طب بتعيطي ليه؟!!
تسائل بزهول حقيقي،
ثم استطرد وهو يميل برأسه أكثر لينظر لعينيها التي تبعدها عنه: أنتِ يعني عرفتِ نوع الجنين وزعلانة؟؟
إنه رجل على أي حال، لا يعلم اي شيء بخصوص موعد ظهور نوع الجنين، فنبع سؤاله هذا من خوفه وقلقه وعدم فهمه لما تمر به.
ولم تعرف ولاء أتبتسم على سؤاله الجاهل أم تسترسل بكاءها وتوضح له مخاوفها وأجابت في النهاية: لأ…
رفعت وجهها واستكملت موضحة: أنا خايفة يا مصطفى..
– خايفة؟!
ردد خلفها بغرابة ثم اقترب منها وحاوط كتفيها بذراعه، تحدث بهدوء وهو يُخفض رأسه أكثر: خايفة ليه؟؟ من إيه؟؟
اختنق صوتها وهي تجيبه بتذمر وضجر: يا مصطفى أنا لسة صغيرة، فجأة كدا اتجوزت وبقيت مسؤولة عن بيت وفجأة تاني هبقى أم ومسؤولة عن طفل ومطلوب مني أربي واخلي بالي و و و….
نظرت لعينيه السوداء ذات الاهداب الكثيفة: وأنا والله أقسم بالله لسة حارقة الأكل الصبح! هشيل مسؤولية عيّل إزاي أنا؟! أنا خايفة اخلف عيال قليلة الأدب!
إبتسم ضاحكًا بخفة فنظرت له بدهشة وقبل أن تفتح فمها للحديث مستفسرة عن سبب تلك الابتسامة المتشكلة على ثغره داهمها بعناق غير متوقع وصوته يهمس له بلوم وبنبرة يشوبها المزاح: حسبي الله ونعم الوكيل يا شيخة، إيه يابت العقل المنيل بستين نيلة ده!!
وعاد مصطفى لبرِ الواقع بعد أن أبحر في ذكرياتِهما معًا لوقتٍ لا بأس به، ضحك بخفةٍ كما ضحك في هذه اللحظة من الماضي وهو يتذكر ردة فعلها العفوية والصادقة، نظر لصغيرته وغالية قلبه وسام وهي تلعب بلعبها فوق الفراش الخاص به فاتسعت ابتسامته أكثر وهو يراقبها بصمت دون كلل أو ملل.
نسخة مصغرة من كليهما، تطغي ملامحه عليها أكثر من والدتها – ولاء – تركت الصغيرة مكانها واقتربت من مكتبه الذي يجلس خلفه ثم صعدت فوق المقعد بعد مشقة لتقف عليه بمواجهته منادية: بابا…
نظر لوجهها الصغير ذو الملامح البريئة الصافية والمحببة لقلبه ثم أجاب: نعم!
– هروح لماما امتى؟؟
تسائلت وهي تذم شفتيها بطفولة وترنح جسدها حتى كادت تقع لولا امساكها بزجاج المكتب بسرعة، ووقف مصطفى بسرعة متخليًا عن مكانه ليحجم يده على ذراعها الصغير.
قطب جبينه بضيق من وقوفها الذي كاد يتسبب بوقوعها وتحدث وهو يلتفت ليجلس على الكرسي الآخر المقابل لها: انزلي اقعدي بس كدا الأول.
حاوطت عنقه حتى جلست على الكرسي،
جذب مقعدها يقربه من خاصته وعاود الحديث بهدوء وبسمة صغيرة: أنتِ عايزة تشوفي ماما؟؟
– عايزة ابات معاها.
أجابت ببراءة وعفوية فرفع يده يرجع خصلة من خصلاتها المتمردة فوق عينيها خلف أذنها وهو يسألها: زهقتِ مننا؟؟
تقوست شفتي الصغيرة للأسفل وامتدت شفتيها للأمام وهي تجيبه بصدق: ماما بتقعد معايا طول اليوم وبنفضل نتفرج على كارتون ونطبخ سوا…
لوحت بيدها في الهواء بطفولية وهي تسترسل بحنق: لكن هنا بفضل قاعدة لوحدي، تيتا بس اللي بتقرأ لي قصص وبعدين بتمشي، عمو عثمان بياخدني معاه المستشفى يقعدني على كرسي وبيفضل يتكلم مع الناس التعبانة وجهاد في المدرسة بتاعتها…
كانت تعني بالمدرسة الكلية التي ترتادها جهاد شقيقته، تنهد يتطلع إليها بصمت وندم وتأنيب ضمير، طفلة بعمرها بحاجة ماسة وكبيرة إلى والدتها أكثر من والدها – الذي يبقى في عمله أكثر من بقائه في البيت –
إبتسم لها مصطفى وقال واعدًا إياها: خلاص أنا بكرة هكلم ماما ونخرج كلنا سوا، بابا وماما ووسام.
توسعت عيناها بسعادة وصفقت بيدها وهي تطالعه بدهشة وكأنها ترمق قطعة من الشوكولاتة بحجم الجبل مثلًا، وألقت بجسدها عليها لتحتضنه فانتشلها سريعًا بين يديه يتلقى قبلاتها التي بدأت تنهال عليه بضحكات وسعادة ذات مذاق آخر.
وفي الغرفة المجاورة حيث غرفة عثمان، وقف أمام المرأة ينثر القليل من عطره حول عنقه وعلى معصمه، وضع الزجاجة من بين يديه وتنهد بحيرة محدثًا نفسه وهو ينظر للزجاجة: يعني إيه يعني ترفضني عشان سبب تافه زي ده؟!!
وأشار بسبابته صوب الزجاجة بحدة وامتعاض: بقينا نحكم على الناس من جملة طلعت وقت عصبية يا فاتن!
ونظر لوجهه في الانعكاس زافرًا بضجر: أنا مأجرمتش يعني!
ترك ما كان يفعله من تجهيز ذاته للذهاب لعمله وجلس فوق الفراش وعقله مثقل بالكثير من التساؤلات، هو ليس من هؤلاء الشبان الفاسدين، الذين يستمتعون بمضايقة الفتيات أو يلقون بعبارات تلميحية خادشة للحياء.
يمتلك أختًا بالفعل!
“كما تدين تدان” جملة كفيلة لجعله يتراجع ويفكر لثواني قبل أن يتسبب بأي أذى – مهما كان صغير – لأي فتاة.
كما أن والدته أحسنت تربيته هو وأخواته، إنه ليس كما تعتقد جنى، ولم يلقي بتلك العبارة يومها بغرض استفزازها أو مضايقتها، يقسم أنه لم يرى وجهها في هذا اليوم حتى! يقسم أن نيته في هذا اليوم كانت صافية من أي تلميحات!
ولكن..
كيف يبرر لها كل هذا بعد أن قُبِلَ برفض قاطع، أخبره توفيق أنه ترفض الزواج ككل وليست ترفضه هو لعيبٍ ما بشخصه ولكن بعد الحديث الذي دار بينهما أمام قسم الشرطة بات سبب رفضها واضحًا للعيان.
خرج من غرفته بوجه متبرم وهو يتأفأف بغيظ متجهًا لغرفة والدته، طرق الباب أولًا ثم ولج ما إن سمحت للطارق بالدخول.
وقف على أعتاب الغرفة وصاح بإمتعاض: مش لاقي عبدولة، ودتيه فين يا رضوى؟!
كانت رضوى والدته تعبث بملابسها تبحث وسطها عن شيء ما عندما اقتحم اذنها صوته فاعتدلت ترمقه بنظرات مقللة دون أن ترد وهي ترفع طرف شفتها عاليًا.
رفع عثمان حاجبه وعاود الحديث أمام صمتها وسكونها وكأنه لم يلقي سؤالًا للتو: متأخر أنا.!
ألقت ما بيدها ولوحت بالهواء في استنكار: ما تتأخر ولا تولع أنا مال امي!
وابتسمت بسخرية وهي تستأنف: وسي عبدولة في الغسالة، ريحته المعفنة خرجت من دولابك واتوزعت على البيت كله.
– هنفتي بقى! هنفتي بقى وأنا ملبستوش غير مرة واحدة الأسبوع ده.
ضربت على جانب رأسها بخفة وقالت بلا اهتمام قبل أن تدفن رأسها داخل الدولاب من جديد: ولاا بقولك ايه، فكك مني واتكل على الله..
نظر حوله بغيظ وفي ثم اقترب من سريرها وجلس فوقه مربعًا قدمه وذراعيه مردفًا بعناد: مش رايح في حتة، وأديني قعدت أهو واللي يعرف يقومني يفرجني!
قلبت رضوى والدته عينيها بملل والتفت اليه متسائلة: عثمان … أنت عايز إيه؟؟
– أبو جنى كلمني من كام يوم.
توسعت عيناها بتفاجئ وتركت ما بيدها سريعًا مقتربة منه بلهفة: وقالك إيه؟؟
نظر إليها فوجدها تتطلع إليه بأعين واسعة متراقبة فأجابها بجدية وضيق وهو يحل عقدة ذراعيه: رفضتني…
واستطرد بسخرية: قال ايه مش بتفكر في موضوع الجواز دلوقتي وطالعة من تجربة أبصر ايه فاشلة…
لوت رضوى فمها وقالت موبخة إياه بإستنكار: طب وأنت مزعل نفسك ليه؟؟ راحت عنزة يجي بدالها مُزة إحنا يعني هنغلب؟
– مهو بصي بصراحة…
ضاقت عينيها بشك واقتربت منه دافعة قدمه لتجلس أمامه فوق السرير: هببت إيه؟؟
بدأ عثمان يقص عليها لقاءهم الأول وما حدث وما قاله يومها وختم بإنفعال وكلمات صادقة: بس أقسم بالله ما كان في نيتي حاجة! أنا شوفت حاجة سودا معدية من قدامي فقولت اللي قولته ولا لمحت حاجة فيها ولا حتى وشها.!
نظر لوالدته فوجدها تبتسم وهي تنظر للفراغ: جدعة ومتربية صحيح…
وتبدلت ملامحها في أقل من ثانية وهي تدير وجهها لترمقه بوجه مكفهر وتجهم: الدور والباقي على قليل الرباية اللي مخلفاه، نيتك ايه يابو نية سودا أنت؟!! إحنا يا حبايبي في أرض الواقع مفيش حاجة اسمها نية ومانياش إحنا بنتعامل باللي ظاهرلنا…
وحدقت به بنظرة شملته وبنفور واشمئزاز وهي تستطرد: وأنت اللهم صل على النبي في أول مرة شوفتها رميت الجملة الزبالة السوقية دي..
وتنهدت ملتقطة أنفاسها ثم استرسلت بهدوء وجدية عندما رأت صمته: تخيل كدا حد قال حاجة زي كدا لجهاد أختك، هتسكت وتعديها كدا؟؟ هتقول خلاص مش مشكلة الراجل نيته مش عارف إيه؟؟
مط شفتيه بضيق من نفسه ومن حقيقة الأمر الذي أظهرتها له والدته، في حين تابعت رضوى: والبنت اللهم بارك زي ما بتقول باين عليها محترمة وبنت ناس يعني مش واحدة من إياهم زي ما أنت فاهم، طبيعي ماتقبلش كلمة زي دي!! هي خلاص خدت فكرة زفت عنك وشايفاك دلوقتي واحد مش مظبوط من اللي بيوقفه على الناصية يعاكسوا البنات في الرايحة والجاية.
ضاقت المسافة بين حاجبيه وصاح متذمرًا: والله ماعندي وقت أصلًا أعمل كدا، ولا كان في نيتي كل الكلام ده، يومها وسام كانت معصباني ومكنتش شايف قدامي وروحت رميت كلمتين في وش مصطفى وخلاص!
– وهي هتخش جوة نيتك يا حبيب أمك وتعرف؟؟ إحنا قولنا اللي بيظهرلنا من برة بنحكم عليه وأنت قولت إنها مش راضية تقعد معاك وبتصدك، يعني انسى إنك تعرف توضحلها وتفهمها نيتك يابو نية صافية!
قالت الجملة الأخيرة بتهكم فوجدته يتأفأف ويتنهد، يشعر بضغط غير مبرر فجأة، ربتت رضوى على قدمه وعادت لتتحدث برفق: أنت خلي بالك من كلامك بعد كدا، وأنت كدا كدا ملحقتش تعرفها أو تتعرف عليها ومعجب بس بشخصيتها، نصيبك مع غيرها.
عقد عثمان ذراعيه ونبس شارحًا لها وجهة نظره: صعب ألاقي زيها أو غيرها، هي حاجة غريبة أوي أول مرة أشوفها، mix غريب من كل شخصيات الدنيا…
ونظر لوالدته صارخًا بضيق: حاجة واو يا ماما بقولك!
دفعته بعنف ووقفت صارخة هي الأخرى: صرعتني يابن الجزمة أنت في إيه، طالما هي واو أوي كدا صرف نفسك يا روح ماما وحاول تغير فكرتها عنك!
وتركته وانصرفت وهي تتمتم بضجر من أفعال نجلها التي قد تصيبها يومًا بالجنون وتُفقدها عقلها، ووقف عثمان أيضًا يعود لغرفته جامعًا ما قد يحتاج إليه في عمله داخل حقيبته.
جلس ليرتدي حذاءه فنادته رضوى من المطبخ المقابل لوجهه تمامًا: أكلت حاجة يا ولاا؟؟
انتهى من عقد رباط الفردة الأولى ثم انتقل للأخرى يجيبها: لأ هجيب أي حاجة من الكافتيريا اللي جنب العيادة وخلاص.
– يابني أنت عايز تجنني، دكتور بالإسم أنت وخلاص؟؟
وقف مهندمًا ملابسه المكونة من بنطال أسود وقميص من ذات اللون الذي أبرز لون بشرته وزادته جاذبية فوق جاذبيته، طوى سترته البيضاء الطبية فوق ذراعه وحمل على كتفه الحقيبة التي قام بإعدادها منذ دقائق ثم رد على حديثها: يا حجة والله متأخر على العيانين ومش هينفع نتخانق، آجي بس وهنعمل قعدة عرب أنا وأنتِ ونلم البيت يحجز بينا.
خرجت من المطبخ لتقف على أعتابه واضعة يدها في خصرها: طب والله ما أنت نازل غير لما تاكل حاجة، وريني بقى مين كلمته هتمشي في أم ده بيت.
وما كان له أمام هذا الإصرار والعناد سوى الاستسلام والرضوخ لها دون أدنى اعتراض، مادام أقسمت بالله فلا رجعة في حديثها، إنها الأم المصرية يا سادة.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– إيه الريحة دي يا ساتر! حطوا حاجة على مناخيركم.
نطق سامر بتلك الكلمات وهو يتقدم البقية خلفه ليقوم بفتح باب شقة جده بالطابق الأول، ولجانبه كان يقف مَجد الذي يرتسم الضجر على قسماته؛ لتوه جاء من عملِه وبدلا من أن يرتاح يقف هنا للقيام بتلك المهمة التي كُلف بها الجميع.
من خلفهما وقفن بنات عمه الثلاثة، بسملة وبسنت اللاتاني عادتا من سكنهما منذ أيام معدودة بعد أن انتهيتا من أداء الامتحان الأخير للسنة الأخيرة لهما بالكلية، وأخيرًا جنى التي أخذت اليومين الماضيين اجازة لها بعد آخر عمل قامت به.
رفعت كل واحدة منهن طرف حجابها ووضعته فوق أنفها لتمنع بذلك دخول الغبار لمجرى تنفسها أو لفمها ثم تحركوا للداخل.
ولج سامر أولًا وتبعه مجد ثم الجميع فأصبحوا خمستهم داخل المنزل ليتحدث مجد الذي وهو يقف في المنتصف عاقدًا حاجبيه بضيق لتلك الرائحة: خش يا سامر افتح شبابيك المطبخ والحمام وأنتِ يا بسنت افتحي بتوع الأوض، وأنا هفتح اللي هنا في الصالة، هَووا الحتة بدل ما هي كاتمة كدا.!
لوت بسملة شفتيها وهتفت بتذمر ووجه ممتعض وهي تتحرك ناحية الشرفة لتقوم بفتح أبوابها سامحة لضوء النهار بالدخول وملء المكان: يعني الواحد بدل ما يقعد يستمتع بالإجازة وينَزل posts صياح يقول فيها أخيرًا Graduate يقوم ينْزِل بيت سته وجده الله يرحمهم وينضفه؟؟ إيه البؤس ده؟!
رد عليها سامر وهو يخرج من المطبخ بعد أن فتح نوافذه: بت اعملي وأنتِ ساكتة، هتندبي كتير يبقى في سرِك مش ناقصين وجع دماغ إحنا.
– وأنت حد كان وجهلك كلام يا ساقع أنت، خليك في حالك يا هُزُق!
وهكذا بدأ شجارهما الرسمي كأي لقاء يرى كلٌ منهما الآخر به، تفرقوا جميعًا في المكان تاركين هذا الشجار خلفهم ليشتعل، وبعد دقائق كان ضوء الشمس منتشرًا في كل إنش وركن بالمنزل ليقوم كلُ واحد منهم بعمل شيئًا مختلفًا عن الآخر.
تولت بسنت أمر المطبخ رفقة سامر، وقفت هي أمام الحوض لتقوم بجلي الصحون التي لوثها الغبار والأتربة واستند سامر على الرخام خلفها يتحدث بعد أن قطم من حبة الخيار بين يديه: وبس ياستي، طلعنا كلنا جري لقينا عمك سلطان سايح في دمه وطنط منة قاعد جنبه على الأرض ونرمين عمالة تعيط.
شردت بسنت تحرك رأسها بأسى وشفقة لما آلت إليه الأمور مع عائلة عمه سلطان: يا عيني!
والتفت ترمق ذا الفم الممتلئ بلهفة: وهو عامل إيه دلوقتي يا سامر؟؟
– هو مين؟؟
تسائلت بسملة وهي تلج المطبخ حاملةً بين يديها صندوقًا كبيرًا يغطي وجهها، تحرك سامر يأخذه عنها في حين ردت بسنت على سؤالها بوجه حزين: دا حصل حاجات كتيرة وإحنا مش هنا يا بسملة!
وضع سامر الصندوق فوق الثلاجة وأجاب عن سؤال حبيبته أولًا: عمو سلطان من كلام عمو توفيق بقى كويس، مشوفتوش بصراحة؛ بابا مش راضي يروح ولا راضي يبعت حد فينا فمعرفتش حالته وكدا.
أنزلت بسملة كوب الماء عن فمها بعد أن أفرغته دفعة واحدة بجوفها ثم أردفت وهي ترفع كتفيها بلامبالاة: أنا لو مكان طنط منة هعمل أكتر من كدا، دا هي حنينة معاه إنها كسرت على دماغه ازازة ماية واحدة!!
زمت بسنت شفتيها بإستنكار لحديث تؤامها ثم قالت بتعاطف وحزن موبخة اياها: لأ حرام عليكِ يا بسملة، الاتنين غلطانين بطرق مختلفة بس مينفعش يوصل بيها الأمر إنها تعمل كدا، افرضي لا قدر الله كان عمو جراله حاجة.
إبتسم بخفة على الكلمات الرقيقة التي تشبه صاحبتها وامتدت يده نحو قلبه هامسًا بهيام: آه يا قلبي آه!
وتبدلت قسماته في لحظة للإشمئزاز ينظر لبسملة مشيرًا على بسنت: اتعلمي بقى وبطلي فولح!
حدقت به من رأسه حتى اخمص قدميه ولم تنطق سوى بجملة واحدة تحمل في طياتها تهديد: اصطبح وقول ياصبح..
وخارج المطبخ تحديدًا في الشرفة ذات المدخلين، الأول داخل البيت والثاني يطل على الحديقة الصغيرة التي تحيط بحدود المبنى، انتهت جنى من كنسها وغسلها كما قامت بسقي الوردات الصغيرة والزهور فوق السور ثم وقفت تنعش رئتيها بقليل من الهواء الطلق.
صعد مجد السلالم المؤدية للباب الخارجي للشرفة ليقف لجانبها زافرًا بتعب وهو يستند بذراعيه على السور: السلة برة اتملت زبالة واكياس كتير، هو البيت ما اتنضفش من امتى بجد؟!!
ضحكت على كلماته والتفت تستند بظهرها تجيبه بشرود وإبتسامة صغيرة جِدًّا: آخر مرة كنا متجمعين فيه قبل وفاة خلود بنت ندى، لما كنا بننزل نقعد فيه كل جمعة…
نظر إليه ونقلت هي بصرها من الفراغ لوجهه مستأنفة: إحنا كنا بنتجمع هنا كل جمعة آه بس مكناش بننضف غير الصالة والأنتريه، ويدوب بنغسل الكام طبق اللي بناكل فيهم مش أكتر…
وتنهدت بحيرة وهي تعود لتنظر أمامها: لكن حقيقي مش فاهمة سبب طلب عمو حامد الغريب ده، ليه عايزنا فجأة ننضف المكان كله، حتى الأوض اللي مقفولة من سنين!!
وتوسعت عيناها فجأة مستطردة: يحزني ليكون هيبيعه يا مجد!
ضحك بصوت عالٍ على النظرة على وجهها فنظرت إليه مبتسمة بغرابة وعدم فهم، هدأ وتحدث بإبتسامة تركتها ضحكاته منذ ثواني: مش للدرجة دي يا جنى، آي نعم المكان مقفول ومش بننزله زي الأول بس أنتِ شايفة ظروف البيت كله اليومين دول عاملة إزاي، مش فاضيين نرجع نتجمع ولو حتى نص ساعة..
وتابع: وعلى العموم، مش هتوصل لبابا لدرجة انه يبيعه، دي حتة امه وابوه برضو مهما كان..
نظر للطريق الظاهر من خلف الأسوار التي تحيط بالحديقة واسترسل: سامر الفتّان قالي انه سمع بابا وعمو توفيق بيتكلموا الصبح، صوتهم عِلىٰ بيقول وواضح إن الموضوع كان على البيت.
شهقت جنى بفزع: يبقى بابا اللي عاوز يبيعه!!
كور قبضته وطرق بها على رأسها بغيظ: 100 مرة قولنا الحاجات دي ما بتتشربش على الصبح كدا، شاربة حتة لوحدك يابت؟!
أخذت نفسًا طويلًا وحدثت نفسها بحيرة: أومال ايه طيب، أنا واحدة في اجازة على رأي بسملة ايه اللي أنا بعمله هنا بقى؟؟
إبتسم دون أي يجيب فالتفت هي إليه قائلة: تعالى نخش نشوف هببوا إيه، أنا حاسة إنهم بيلعبوا جوة.
دلفت من الباب المؤدي لداخل المنزل ولحق هو بها، ما إن صاروا بالداخل حتى وصلهم صوتهم العالي والقادم من المطبخ ولم يكونوا بحاجة لتخمين بين مَن نشب هذا الشجار؛ بالتأكيد سامر وبسملة!
في الطابق الرابع حيث منزل سلطان، حبست نرمين ذاتها في الغرفة، جلست فوق فراشها ضاممة قدميها نحو صدرها، تنهمر الدموع من عينيها لتغرق خديها وتلطخ وجهها كاملًا.
تردد بلسانها كل ما تحفظه من آيات القرآن الكريم بعد أن ظهر متلبسُ والدتها ليتحدث بلسانها ويتصرف عنها، تسمع صراخها وصوتها العالي من هنا، وكلما زاد الصوت ازدادت معه دقات قلبها وسرعة ترديدها لآيات الذكر الحكيم.
اغمضت عينيها فهبطت شلالات أخرى من الدموع وأخذت هي تحرك جسدها المرتجف للأمام وللخلف وهي تبكي بعنف، تعيش بمفردها لحظات من الخوف والرعب، لا أحد تذهب إليه ولا أحد تستطيع الاستنجاد به، لا أحد يأخذها لأحضانه ولا أحد يطمئنها، إنها يتيمة بحق، يتيمة كل شيء رغم وجوده.
مسحت وجهها بسرعة عندما اخترق أذنها صوت تحطيم زجاج، تذكرت تحذيرات الشيخ محمد يوم كان هنا، أخبرها أن حالات كتلك تفقد وعيها وشعورها بالواقع يمكنها أن تحاول قتـ.ـل نفسها، كما أن والدتها بالفعل حاولت فعل هذا من قبل ولكن عندما كانت بوعيها.!
تركت مضجعها وهرولت للخارج تركن خوفها وريبتها جانبًا خشية أن تأذي والدتها نفسها، وبالفعل وجدتها تقف في المطبخ تعطيها ظهرها بسكون ودون حركة، تنظر لقطعة الزجاج بين يدها بصمت وهدوء دب الرعب بقلبها.
– مـ …. ماما.
نادتها بارتباك وتوتر وهي تحرك قدمها التي تأبى الحركة بصعوبة، التفت إليها ببطئ جعلها تبتلع ريقها وقلبها يكاد يتوقف نتاج ما تعيشه بتلك اللحظات.
برقت منة بعينيها فتراجعت نرمين بضع خطوات للخلف، صرخت منة بصوتها الخشن الغليظ وهي تقترب منه فاردة ذراعيها تهم على الهجوم عليها فالتفتت نرمين راكضة للخلف ودون تفكير.
ولم يكن مفرها الوحيد سوى صالون المنزل، نظرت حولها فوجدت نفسها محاطة بأربعة جدران ووالدتها التي لحقت بها على الفور، بكت بعنف وتحدثت بتوسل وهي تحاول إعادتها للواقع بينما تعود بأقدامها للخلف: ماما … ماما أنا نرمين! بالله عليكِ فوقي..
اصطدمت بالاريكة خلفها فرفعت قدميها عن الأرض ووقفت عليها وهي لازالت ترجوها: ماما..
وصرخت تغمض عينيها بصوت شق أحبالها الصوتية: عشان خاطري بقى، عشان خاطـ..
وقطعت كلماتها فجأة،
اختفى صوتها من المكان واختفت هي معه!
دفعتها والدتها للخلف،
حيث النافذة المفتوحة،
أمام أعين تلك المغيبة والدتها،
وأمام أعين حارس البوابة بالأسفل،
الذي صُدم بجثة هامدة تلقى من الأعلى أمامه.
سقطت نرمين،
وانتهى!
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بيت البنات)