روايات

رواية بيت البنات الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الجزء الثاني والعشرون

رواية بيت البنات البارت الثاني والعشرون

بيت البنات
بيت البنات

رواية بيت البنات الحلقة الثانية والعشرون

أن تكون مشاعرُك وإحساسُك وهمًا لا إقتران لهما بالواقع فذلك هو السيف الطاعن بحق، وأن تجعل ذلك الوهم يحركُك كيفما شاء فإنها بداية دمار ذاتِك وإقحامها في قبوٍ مشتعل، ولكن أن تستلم لتلك المشاعر المزيفة وتعانق تلك النيران برضا فتلك هي النهاية.
تجلس وسط عائلته منكمشة على ذاته تضم جسدها لها بخزي وخجل وكأنها معاقبة من والديها على خطأ كبير اقترفته، تنظر أرضًا بإنتظار أن يوبخها أيُ أحد على تقصيرها وإهمالها لإبنتها ولكن لم ينطق واحد من الجالسين ببنت شفة.
حاولت أن تختلس النظر لترى سبب صمتهم ذاك فوجدت جميع الأعين تتطلع إليها، مصطفى، عثمان ورضوى التي تتنهد بين الحين والآخر دون أن تقول كلمة واحدة.
ابتلعت ريقها وتحمحت تحاول إخراج صوتها الذي قرر أن يهجرها في هذا الموقف المحرج ليزيد الأمر سوءًا، هتفت بصوت مبحبوح دون أن تتجرأ وتنظر لأي منهم: أنا آسفة..
زفر مصطفى بضيق بعد اعتذارها الخمسين تقريبًا، كلما فتحت فمها للحديث اعتذرت وكأن الكلمات هربت من على لسانها وتركوا “أنا آسفة” تتولى أمرهم.
أبصرت ولاء وجه ذلك الحانق فخمنت لربما هو غاضب منها ومن وجودها، مدت يدها لحقيبة ذراعها ووضعتها فوق كتفها بتوتر وإرتباك.
وأخيرًا قررت رضوى أن تقطع هذا الصمت الذي انتشر في المكان جاعلًا من الجميع بُكم لا قدرة لهم على الحديث فقالت وقد لاحظت نيتها للرحيل: محصلش حاجة يا ولاء لكل الإعتذارت دي، قدر الله يابنتي وما شاء فعل، هنعترض على قدر الله!
ترقرقت عيناها بالدموع وارتجفت شفتيها وهي تجيبها والذنب يأكلها أكلًا: لو كنت أخدت بالي منها مكنش ده حصل، أنا السبب..
رأى الجميع تلك الدمعة التي فرت من عينِها لتسقط على قدمها وهي تتابع بإختناق: أنا مستحقش أكون أم ليها، مش هعرف احافظ عليها ولا اربيها..
ورفعت وجهها للجميع تستكمل والألم ينهش بقلبها لما هي مقبلة على قوله: خليها معاكم، مش هاخدها معايا تاني و….
شهقت فانقطع حديثها وأخذت تبكي، تطلعوا لها بشفقة وحزن وتطلع هو لها بألم وحنين ورغبة ملحة في احتضانها، واستطردت ولاء حديثها دون أن تبالي بشهقاتها وبكائها: وأنا لما أحب أشوفها هاجي أشوفها هنا.
وعادت لتبكي وهي تنتظر إجابتهم على هذا العرض المؤلم، وما كان منهم إلا أن صمتوا وتحركت رضوى تجلس لجانبها جاذبةً إياها داخل أحضانها وهي تعلم كل العلم أن سبب حالتها تلك ليس لمجرد وقوع وسام.
شبك عثمان أصابع يديه معًا وقال وهو يتقدم للأمام في جلسته بهدوء وتعقل: اسمعي يا أستاذة ولاء، ربنا بيقول في سورة التغابن «مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ» يعني اللي حصل لوسام ده بإرادة ربنا ولو رجع بيكِ الزمن ووقفتي اللي حصل هيبقى وقف مؤقت لأن ده ببساطة قدر، وسام مقدر ليها دراعها يتكسر فمش مهم أوي السبب اللي أدى للنتيجة دي لأنك لازم يبقى عندك إيمان بالله أكتر من كده.
وحرك أصابعه في الهواء يتابع: مش معنى كده بقول إنك مغلطتيش أو بمحي غلطِك، لأ أنتِ غلطتي بعدم انتباهِك ليها لكن مش للدرجة اللي تخليكِ تقولي كل ده!
حرك رأسه بإيجاب ونبس مؤكدًا: غلطتي وحسيتي بالندم لغلطِك تمام مفيش مشكلة بس ربنا رجعهالِك كويسة فالمفروض بدل الكلام ده كله تقولي الحمد لله!
وما كان من كلماته تلك سوى انها زادت من بكائها وجعلتها تهتز بين ذراعي رضوى التي أشارت بعينها لعثمان لغرفة جهاد التي رافقت وسام بها.
تنهد ومسح يديه معًا قبل أن يقف ويغادر المجلس، تركتها رضوى تبكي قدر ما تشاء وما إن هدأت ابتعدت هي بنفسها عن أحضان تلك السيدة الحنون التي لم يُغير أمر طلاقها من ابنها من مدى حبها لها.
عاودت ولاء الحديث بثبات وجمود وهي لا تنظر لأي منهما وعلى الأخص هو، تخشى أن ينصهر حصن ثباتها بنظراته المُعانقة، وبنبرة متحشرجة مليئة بالوجع قالت: أنا آسفة على اللي حصل لوسام…
حاولت رضوى مقاطعتها ومنعها من استئناف حديثها لكنها أصرت على المتابعة: من أول ما ولدتها وأنا فشلي بيظهر قدامي كل يوم أكتر من التاني، عرفت إني عمري ما هنجح في تربيتها وإني هكون أم فاشلة لابنتي، فضلت أول خمس سنين بجازف عشان أكون مثالية ليها لكن مشوفتش غير إهمال وضعف وفشل، بقيت قاعدة في بيتي كأني في مكان غريب..
نفت برأسها بقوة وهي تؤكد لهما بإصرار وعادت للبكاء مرة أخرى: أنا مينفعش أخليها معايا، مينفعش..
وبوهن وضعف التقطت حقيبتها مرة أخرى ووقفت دون أن ينطق أي منهما بحرف واحد، أوقفها صوت رضوى الحازم وهي تنظر لها بعيون حادة: اقعدي يا ولاء..
تطلعت لها بعدم فهم فأشارت رضوى بعينها للجوار :اقعدي!
نظرت ولاء لذلك الذي خيم عليه الصمت منذ بداية الحوار، يجلس بدون أي ردة فعل مربعًا يديه أمام صدره بينما يعود بظهره للخلف براحة، مكتفٍ بالاستماع ببرود وكأن الأمر لا يعنيه.
عادت لتجلس بتردد وارتباك جانب السيدة رضوى وهي لا تفهم ما سبب تلك اللهجة والنظرات، في حين نظرت رضوى لبكرها وإبنها وقالت آمرة بغيظ لوضعيته اللامُبالية: وأنت اتعدل..
أشار بسبابته على نفسه رافعًا حاجبيه بدهشة فأكدت له أنها تعنيه بصوت أعلى: أيوة أنت، اقعد عِدل بقول!!
تحمحم وهو يمسح مؤخرة عنقه معتدلًا في جلسته وهو يخفي بتلك الحركة حرجه من صراخ والدته بوجهه أمام ولاء التي ابتسمت بخفة، تقدم للأمام قليلًا في جلسته وعقد أصابعه معًا وهو ينصت له بتهذيب.
وزعت رضوى نظراتها بين الإثنين وبصوت غاضب ووجه ممتعض ومنفعل قالت: اسمعوا بقى أنتوا الإتنين عشان أنا مش هعيد وأزيد واللي هقوله مش هكرره..
أشارت على كليهما باصبعها: أنتوا الإتنين تشوفوا حل لوضعكم ده، متهببين عايزين بعض بتعملوا في نفسكم كدا ليه؟!!
لوحت بيدها في الهواء: مش فارقين معايا إولعوا أنتوا الجوز، بس فكروا في بنتكم اللي محدش فيكم حطها وسط حسابته الدايرة دي..
أشارت لباب الغرفة التي توجد بها وسام: ذنبها إيه العيِّلة دي تعيش وسط القرف ده، مستغلين دلوقتي إنها مش فاهمة حاجة بس بكرة تكبر وتسألكم إحنا ليه مش عايشين مع بعض..
نفت بذات الإصبع وهي تنقل بصرها ما بينها وبينه: مكنتش هقولكم الكلام ده لولا إني عارفة قصة الكفاح والحب العظيمة اللي بينكم..
قالت الجملة الأخيرة بسخرية وتهكم قبل أن تواصل بتشفي وخيبة: بس يا خسارة الحب من غير تفاهم وعقل يمشوه.
ووقفت بعد أن أهدت لكل واحد رسالتها الخاصة على أمل أن تترجم عقولهم تلك الرسائل فينتهي بهما المطاف على بَر الوفاق.
واعطت مصطفى قبل ذلك نظرة ذات مغزى جعلته يعيد الحوار من البداية داخل رأسه لكي لا يخطئ، أما عن ولاء فتخشبت في مكانها ما إن وقفت رضوى وتحركت تتركهما بمفردهما.
أخذت تفرك كفيها معًا بتوتر تضاعف ما إن ولجت الغرفة – مع الحرص على ابقائه مواربًا – وبقت بمفردها معه.
– هي دي أسبابِك؟!
كان أول مَن بادر بالحديث لعلمه بأنها لن تفعل حتى لو انتهى اليوم على هذا الصمت، رفعت وجهها بتوتر وأجابت بتلعثم: إ .. إيه؟!
أوضح لها بعد تنهيدة قصيرة: أسباب طلبك للطلاق أقصد، إنك شايفة نفسِك فاشلة وغير جديرة بالثقة إنك تكوني أم..
ارتجفت شفتيها وعادت تتطلع للأرض مجيبة: بس أنا فشلت فعلًا يا مصطفى، مهما حاولت كانت دايمًا النتيجة فشل، سواء محاولتي أكون أُم ناجحة أو زوجة ناجحة.
رفعت كتفيها وبضحكة صغيرة ساخرة آلمته تابعت: حتى أبسط وأصغر الحاجات مكنتش بعرف أعملها..
مال برأسه لليمين قليلًا وبنبرة حزينة سألها: زي ايه يا ولاء؟
نظرت عاليًا تمنع نفسها من البكاء وهي تجيبه: بداية من ولادتي، مكنتش بعرف أعمل حاجة لبنتي، أبسط حاجة تنظيفها وهي لسة عندها شهور! كنت بخلي ماما هي اللي تحمّيها وتنضفها بسبب خوفي إني أذيها، كنت بخلي ماما تغيرلها الحفاضات عشان مش بعرف، كنت بخلي ماما تعملها الرضعة..
نفت بشرود وهي تعود بذاكرتها لسنين مضت: لما كانت بتعيط مكنتش ببقى عارفة أسكتها إزاي، لما كانت بتتعب مكنتش بعرف حتى مهما عيطت وصرخت مكنتش فاهمة إنه بسبب تعبها، رغم إنها كانت بتكون نضيفة وشبعانة مكنتش بفهم!
ارتسمت بسمة صغيرة على ثغرها وهي تسترسل وقد سمحت لدموعها بالتحرر من مقلتيها لتنهمر فوق خديها: ولما كبرت شوية قولت خلاص فترة وعدت ودلوقتي دخلنا على فترة أصعب وهي التربية، معرفتش أعملها دي حتى يا مصطفى!!
قالتها بقهر وألم وداخلها يهتز، مسحت أنفها السائل بطرف كُمها وهي تسترسل: وصلت لسن الخمس والست سنين ومعرفتش أخليها تنتظم في الصلاة، معرفتش أعلمها الصح من الغلط، فشلت في اهتمامي ليها، فشلت في حمايتها، ببساطة فشلت إن أكون أم لبنتي!
ختمت وهي تعد على أصابع يدها ثم انفجرت في البكاء وجسدها يرتجف بعنف ومهما حاولت أن تتماسك كانت تفشل فاستسلمت لتلك النوبة من البكاء.
وكان هو يستمع بعدم تصديق وفمٍ فارغ أثر دهشته لما تتفوه به تلك البلهاء، يريد أن يضحك على ما تقول وتفكر به، يريد أن يخبرها أن كل هذا عادي وأن ما تمر به هو الطبيعة التي تمر بها أي أم مع طفلها الأول!
كم ود لو أن له الحق بالجلوس جانبها لينهرها ويوبخها على تفكيرها الغبي ثم بعد ذلك يجذبها لأحضانه، يتحجج بكل شيء من أجل عناق!
آهٍ من هذا المصطفى!
وأمام صمته الطويل رفعت وجهها فصُدمت به يبتسم!
استفهمت بإستهجان وحيرة: أنت بتضحك؟!!
وقف متحركًا للمطبخ وغاب به لدقيقة تقريبًا ثم عاد يحمل بين يديه علبة من المناديل الورقية، وضعها على الطاولة أمامها ولازال يحتفظ بالبسمة على فمه.
التقطت واحدًا بعنفوان ومسحت وجهها وقد ظنت أنه بتلك الابتسامة يستخف بها وبكلماتها النابعة من قلبها، هذا بدل أن يواسيها.!!
جلس على ذات الاريكة التي تجلس فوقها مع الحفاظ على مسافة بينهما، تنهد وأعرض عن صمته أخيرًا ليقول متسائلًا: أنتِ عارفة أنتِ عملتي فينا إيه بسبب أفكارِك دي وسكوتِك عن إخراجها؟؟
تطلعت له بصمت، واستطرد هو: كل اللي مريتي بيه طبيعي يا ولاء كون إنها أول مرة تبقي أم! كل اللي أنتِ قولتيه ده بيحصل مع أي واحدة في أول طفل ليها..
ونظر أمامه ضاحكًا بخفة وبتعجب قال وهو يحرك بإبهامه للوراء: وبالنسبة للصلاة فدي الحاجة اللي ضحكتني بجد!
نظرت له شرزًا فرفع حاجبيه بدهشة وهو يبرر لها: أيوة ضحكتني، الرسول ﷺ بيقول علموهم على سبع واضربوهم على عشر، و وسام لسة تامة السبع سنين من شهور بسيطة، مفيش مانع إنها تتعلم من قبلها بس مش لدرجة الانتظام يا ولاء!
اومأ إيجابيًا وهو يفهم ما دار بعقلها: فاهم إنك عايزاها تكون كويسة دينًا وعلمًا وأدبًا، عارف إنك عايزاها أحسن واحدة في الدنيا بس واحدة واحدة مش سباق هو!
وابتسم بحنان وهو ينظر لها بشوق: فاشلة ازاي بس يا ولاء، أنتِ لو فاشلة بحق مكنتيش هتلففيني حوالين نفسي كده، مكنتيش هتخليني راضي عنِك أو عن أي حاجة بتعمليها..
كان يقصد بحديثه أيام زواجهم، وختم بصدق مردفًا: أخلاقك وأدبك شهادة عظيمة لنجاحك ودليل كافي لنجاح تربيتِك مستقبلًا.
نفى برأسه بيأس: ضيعتي من عمرنا سنة كاملة يا ولاء، ياريتِك كنتِ اتكلمتي بدل ما كنتِ بتزني على الطلاق وخلاص، يمكن كان زماننا في مكان تاني دلوقتي وعايشين حياة غير دي!
ونظر له بلوم وعتاب حبيب صادق: كنت هفهمِك، كنت هحتويكِ والله يا ولاء..
ووقف متحركًا للغرفة هو الآخر وتركها تتآكل ندمًا وحزنًا وألمًا..
خرجت رضوى بعد دقائق فوجدتها واقفة أمام الباب تستعد للخروج، نادتها بسرعة وبصدمة: خُدي تعالي راحة فين؟؟
أجابت دون أن تلتفت ويدها فوق المقبض: هروح..
توسعت عيني رضوى وهي تقترب منها بغيظ: يابنتي أنا ناقصة جنان، تروحي فين الساعة دي بس، الساعة داخلة على ٣ الفجر ومحدش ماشي في الشارع..
وأشارت للداخل بحدة: خشي يابنتي خشي ربنا يهديكِ..
– معلش أنا هاخد تاكسي أو هطلب أو…
بترت حديثها عندما استمعت لصوته الهادر بغضب: ما تسمعي الكلام وتخشي، مش كفاية جاية في الوقت ده لوحدك أنتِ والبنت!
نظرت له فبرر بسرعة وهو يضع يده في بنطاله يخفي اهتمامها وخوفه عليها: افرضي كان حد عمل لوسام حاجة؟!
رمقته رضوي والدته بسخرية وما إن تأكد من موافقتها على البقاء حتى التفت وولج غرفة شقيقه عثمان في رسالة صريحة للجميع بأن غرفته لها اليوم.
وقف أمام خزانة ملابس عثمان الذي كان يحملق بشاشة هاتفه باهتمام وتركيز شديد، اخرج إحدى منامات عثمان المرتصة أمامه بترتيب وتنظيم، فأوقفه عثمان بسخرية وهو يغلق الهاتف: مالك يا فنان ومال دولابي.
بدأ مصطفى بإنتزاع ملابسه ولم يجيبه سوى بكلمة واحدة وبنبرة باردة يتخللها التهديد والإرعاد: ريّح.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– والشيخ محمد عمل ايه؟
تسائلت “جنى” بتلك الكلمات بعد أن قصت عليها والدتها مع حدث وإكتشافهم أن زوجة عمها “منة” مممسوسة، تنهد “توفيق” وأجاب: عرفناه اللي حصل الأول في المرتين اللي فاتوا بعدين طلعناه ليها، كنا حابسينها في الأوضة لوحدها ومشغلين القرآن لعل وعسى تهدى، فضلت تصرخ وتكسر في الحاجات وبعد شوية مسمعنلهاش صوت..
أشار على وجيهة التي أسندت وجهها على كف يدها بحزن: امك الله يصلح حالها هي ومرات عمك شهيرة دخلولها كانت واقعة من طولها ظبطولها لبسها بعدين دخلنا الشيخ ليها لما فاقت…
وأخذ يقص عليها ما حدث تفصيليًا، عندما سمّى الشيخ محمد بالله وهو يخطو لداخل الغرفة، يردد بلسانه آية الكرسي والمعوذتين.
رفعت منة وجهها له إرهاق بادي على وجهها، ثم ارجعت رأسها للخلف بوهن وهي لا تفهم أي شيء، كانت تظن أنهم مجتمعون حولها بسبب مرضها ولكن يبدو أن هذا غير صحيح!
– السلام عليكم ورحمة الله، ألف سلامة يا أم نرمين.
نطق الشيخ وهو يتقدم ناحية الفراش فرفعت وجهها ترمقه مرة أخرى للحظة قبل أن تحول بصرها لوجيهة وشهيرة اللاتان تقفان جانب الفراش، أشارت بإصبعها عليه وقالت: مين الراجل ده؟
أشارت شهيرة على الشيخ محمد بكف يدها وبهدوء أجابتها: ده الشيخ محمد، هيرقيكِ ويقولك على شوية حاجات لازم تعمليها عشـ…
ضاقت المسافة بين حاجبي منة وهي تعتدل بإندفاع: هيرقيني ليه مانا زي الفل أهو إي اللي حصل؟؟!
رد الشيخ محمد على هذا السؤال وهو يجلس على المقعد المقابل للفراش والذي سبق ووضعوه له، وبسكينة وصوت هادئ قال: أنتِ مش محتاجة سبب لقراءة الرقية يا مدام منة.
إكفهر وجهها وصاحت وهي تنظر لشقيقي زوجها حامد وتوفيق بغضب وانفعال غير مبررين: بقولكم إيه خدوا الجدع ده من هنا، مشوه وسيبوني لوحدي!
اقترب حامد خطوة يهم على زجرها على حديثها المخجل ولكنه إشارة الشيخ له جعلته يتوقف مرة أخرى في مكانه.
أمعن النظر لحالتها، وجهها شاحب كالأموات، يمتلئ معصمها بالخدوش التي تدل على محاولاتها للإنتحـ.ـار، وعينها التي تدور في المكان بإهتزاز.
– أنتِ على علم بما أنتِ عليه؟
سألها فنظرت له سريعًا والغضب يرتسم على وجهها: يعني إيه؟؟
ونفت براسها وأضافت بثقة زائفة: أنا كويسة ومفياش أي حاجة.
امسكت رأسها بألم حقيقي بسبب الصداع الذي يحتله منذ فتحت عينها، مدت يدها للطاولة الصغيرة ذات الادراج بجانب السرير وأخرجت ورقة صغيرة تحتوي على عقار مجهول المصدر وكان الشيخ يتابع كل هذا بتركيز.
– لكن مهما أخذتي من أدوية لن يختفي الصداع…
تطلعت له بعدم فهم وشيء من الاستهزاء لكونه يتحدث في مجال لا يفقه عنه شيء وما كان منه أمام استنكارها وجهلها سوى مصارحتها: أنتِ ممسوسة يا أم نرمين، كل اللي بتعمليه ده ملوش لزوم ولا هيداويكِ.
توسعت عيناها صارخة وهي تنظر للوجوه أمامها: طلعوا الراجل الخرفان ده من هنا، اطلعوا برة كلكم!
واستجابوا لرغبتها وخرجوا، أغلقوا الباب عليها مرة أخرى وتركوها وحدها كما تريد، استضاف توفيق الشيخ بمنزله ليستطيعوا الحديث دون أن تستمع لهم منة وتثور من جديد، وانضمت لهم نرمين.
– الحالة اللي بتجيلها مؤقتة، دقائق بيتغير فيها صوتها وتبدأ تعمل اشياء غريبة وبعدين ترجع لطبيعتها.
اومأت نرمين تؤكد له فقد كانت الشاهد على تلك التغيرات تطرأ على والدتها، تنهد الشيخ محمد وفسر لهم بوقار: ده تلبس كامل عارض؛ الجني يتلبسها بشكل كامل ويتواجد في جسدها بشكل دائم لكنه يخرج ويرجع؛ جن طيار..
وأعقب بأسف: ده مبيحصلش إلا في حالة بُعد الإنسان عن الله وذكره، ضعف إيمانها واستخدامها للسحر أدى لتلبسها، ولا علاج لها سوى العودة إلى الله، الالتزام بالرقية الشرعية والأذكار التي بمثابة حصن للمسلم..
كانت نرمين تومأ برأسها مؤيدة كل ما يقوله ذلك الرجل، قلما رأت والدتها تصلي أو تتعبد، لم ترها يومًا تقرأ بكتاب الله ولو حتى بتلك الايام المباركة كأيام شهر رمضان.
نظر الشيخ محمد للرجال المرتصين أمامه واردف بحدة: أما عن تلك الساحرة اللي كانت بتتردد على منزلها فلابد من الإمساك بها، أبلغوا عنها.
ونظر لنرمين لعلمه أنها ابنتها: دورك يا بنتي هو اقناع والدتك بما هي عليه، لازم تعرف وتفهم وضعها عشان دون ارادة منها لا فائدة للي بنعمله ده كله، لازم ترجع لربنا، تصلي وتمسك المصحف، تواظب على الأذكار يوميًا، الإنتكاسة ولو لأيام هترجعها اسوء!
وانتهى توفيق من سرد ما حدث على مسامع جنى التي تسائلت وهي تنظر لغرفة شقيقتيها بسملة وبسنت والتي بقت فيها نرمين: طب نرمين هتبات هنا ومراة عمي هتفضل فوق لوحدها.! مينفعش!
ردت وجيهة بشفقة وعطف: تعمل ايه البت يعني يا جنى! دي يا عمري كانت هتموت من الرعب لما نزلتلي ومن ساعتها خايفة تطلع..
واستأنفت بقلق: وإحنا برضو مش عارفين منة بتتحول امتى ولا اللي عليها ده بيظهر امتى، فخليها هنا بدل ما تأذي بنتها وهي مش في وعيها.!
زفرت جنى وتحدثت بتعقل وهي تحاول إفهامها ما تريد: يا ماما مقولتش حاجة، بس وضع زي ده لازم حد يكون جنبها خصوصًا أفراد عيليتها، وعمي سلطان منفض ولا على باله وأهلها ميعرفوش حاجة ومفيش غير بنتها يبقى مينفعش تقعد فوق لوحدها بدل ما تعمل في نفسها حاجة..
نظرت لها وجيهة وبدت مقتنعة فتابعت جنى بسرعة: لما بتكون مش في وعيها ممكن تحاول تموت نفسها زي ما حصل وزي ما الشيخ قال، على الأقل تقعد معاها في نفس البيت مش لازم نفس الأوضة…
ووزعت بصرها بينها وبين والدها الذي ينصت: بعدين أنتوا زي ما قولتوا هي مش راضية تقتنع إنها ملموسة والمفروض حد يتكلم معاها، وهي مش موافقة تشوف حد مننا يبقى على الاقل هتتقبل وجود بنتها، نرمين هي المفتاح!
تنهد توفيق واومأ بتفهم قبل أن يعقب: اعذريها برضو يابنتي هي أكيد في صدمة ومخضوضة، نمشي النهاردة بس وبكرة يحلها ربنا.
وقبل أن تقف لتدلف غرفتها استوقفها متسائلًا بإهتمام: عملتي إيه في المكتب والشغل، لو محتاجة حاجة عرفيني..
ابتسمت داخلها بسخرية لهذا العرض المتأخر وأجابته ببسمة لم تصل لعينيها: الحمد لله ظبطنا المكان أنا والـteam معايا، متشكرة لحضرتك.
حرك رأسه والتفت هي تتحرك لغرفتها، هكذا كانت العلاقة بينه وبين بناته، اقتصر في مدهم بالحنان والحب على مواقف معينة، لا يحتضنهم إلا إذا حدث شيء يستدعي هذا العناق، هكذا كان … ولازال.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
في الطابق الثالث لبناية منزل الحج “أحمد قنديل” والد “ناصر” و “هايدي” وزوج “إيمان” الراحل، في الطابق الثالث تحديدًا حيث شقة ناصر وندى.
وضعت الأطباق الأخيرة فوق طاولة الطعام وجلست في المقعد المجاور لخاصته مردفة بغيظ وامتعاض: أقسم بالله أنا كان هاين عليه أروح أقطش ودانه في بُقي، ربنا يسامحه ويهديه وينجد الغلبانة نورة من بين ايديه.
إبتسم ناصر على تعليقها الأول وقال وهو يمد يده برغيف من الخبز: هدّي نفسك يعم أعصابَك مش كدا.
أخذت ما يناولها واستطردت بوجه مكفهر وإنفعال: وهو اللي عمله ده يتسكت عليه يا ناصر، ده البت كانت شوية وتوطي على رجليه!
ربت بيده على يدها وتحدث بجدية: ملناش دعوة يا ندى، عملنا اللي علينا، هي موافقة باللي بيعمله ومش عايزة غير انه مايطردهاش فلو كنا اتدخلنا كنا هنحرج نفسنا وخلاص، المهم..
ختم بتلك الكلمات التي جعلتها تتطلع إليه باهتمام بعدما كانت تنظر أمامها بضيق، ابتسم بمراوغة واقترب منها هامسًا لها وكأنه يخبرها سرًا قومي: إي رأيك نتجنن وننزل نتمشى حالًا!
توسعت عيناها بدهشة ورفعت رأسها ملتفتة تنظر لساعة الحائط بالخلف، عاودت النظر إليه ولازال الزهول يغطي وجهها: الساعة ٣ وربع يا ناصر!
اتسعت ابتسامته وهو يعود للخلف كما كان يجاوبها بثقة: وايه يعني، واحد ومراته ومحدش ليه شوق في حاجة، بعدين إحنا منطقتنا بس اللي نايمة، المدن مابيناموش يا ندى.
التمعت عيناها بسعادة كطفلة صغيرة وضمت يداها أسفل ذقنها: بجد والله!
عاد برأسه للخلف ضاحكًا على ردة فعلها المحبب ثم رد عليها ولازال يضحك بخفة: آه والله!
وبعد دقائق كانت تستقر لجانبه في السيارة بعد أن ارتدت ثوب بسيط باللون الأسود، لازال يتألم قلبها على ابنتها ولكنها تحاول بكل جهدها العودة لحياتها ولزوجها الذي يتألم أكثر منها.
نقل بصره بينها وبين الطريق متسائلًا بجدية جعلتها تنتبه له: بس عارفة يا ندى..
إبتسم وهو ينظر للطريق الفارغ أمامه من أي سيارات: أنا بحبك أكتر من كنافة أمي والله
ضحكت على تلك الجملة الغير متوقعة وتعلقت بذراعه وهي تجيبه بجملة مشابهة جعلت ضحكاته تصدح هو الآخر: طب منا بحبك أكتر من بقلاوة ماما يعم!
وتشاركا الضحك رغم الآلام التي تغرقهما، يعاون كل منهما الآخر على النجاة، ورغم تلك الضحكات لم تمنع ندى نفسها من التفكير في ابنتها، سرعان ما لاحظ صمتها المفاجئ وقطعها للضحك فلم يرد أن يتحدث بأي شيء بالماضي قد يوجعهما.
ابتسم وسأل وهو ينظر لها بطرف عينه: ها بيتزا ولا كبدة هَوهَو.
ضحكت: كبدة هَوهَو أكيد!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفي اليوم التالي، يجلس أمام والدها بإبتِسَامة واسعة، يرتشف من كوب الشاي بإحترام وتهذيب وهو يستمع لرده: طبعًا أنت يابني الناس كلها عارفة الحج شريف القاضي رحمة الله عليه، راجل الكل يشهد بكرمه وأخلاقه وكان عزيز عليا وصديق غالي على قلبي.
ابتهج عثمان وتهللت اساريره: طب الحمد لله، محتاجين ايه تاني عشان نقرأ الفاتحة!!
ضحك توفيق على ردة فعله وقال: محتاجين حاجات كتير أهمها رأي جنى، خصوصًا إنها لسة فاسخة خطوبتها من ايام ومش عارف لو ممكن تتقبل إنها تاخد خطوة الخطوبة دي مرة تانية..
واستكمل بضيق: والناس ما بتصدق تلاقي حاجة تتكلم فيها، سابت واحد عشان واحد ورترتة زي ما أنت فاهم وبالذات إن الواد اللي كان خطيبها ده مطلعش سهل وممكن يوقع الدنيا.
ابتسم بوجه ذلك الخائب الأمل والذي توقع أنه سيغادر بعد قراءة الفاتحة!
– ناخد رأيها الأول، هي أكيد عارفاك لأن زي ما قولت شوفتها مع ولاد عمها واتكلمت معاها، بس لحد ما أكلمك بلاش تحتك بيها أو تحاول تكلمها، عشان دي أمانة أولًا وقبل كل شيء وعشان ماتسقطش من نظرها وانتوا لسة مفيش حاجة اصلا، ده لو أنت عايز يبقى فيه.
رمقه عثمان بعدم فهم ونظرات عينيه تخبره بالاستمرار بالحديث والتوضيح فتابع توفيق بإبتِسَامة: جنى بنتي هي واخواتها متربيين وعارفيين دينهم، وكل واحدة ليها مواصفات معينة ومختلفة في شريك حياتها لكن الأساسيات كلهم متفقين فيها، محاولتك للكلام معاها بعد قعدتك معايا يعني عدم احترام ليا وعدم احترامك ليا يبقى عدم احترامك ليها، بنتي وعارف دماغها!!
إبتسم عثمان واومأ بهدوء وهو يفكر أنه هناك الكثير من الجوانب التي لم يصل إليها بعد في تلك الفتاة، تفاجئه في كل مرة بجانب جديد!
– أتمنى مكالمتك ليا تبقى بموافقتها، حقيقي بتمنى ده.
– ربنا يقدم اللي فيه الخير يابني.
وصاحبه توفيق للأسفل وهو يؤكد له على وجوب وصول سلامه لشقيقه الأكبر ووالدته، غادر عثمان والتفت توفيق متنهدًا بإبتِسَامة وأثناء صعوده أوقفه نداء إبن أخيه الأصغر سامر: عم توفيق.
ابتسم له توفيق وترحاب وتفاجئ عندما عانقه فجأة: حبيبي ياعم توفيق حبيبي…
ابتعد عنه وتحدث بإبتهاج: كنت عايزك في موضوع إيمبورتنت..
قطب توفيق جبينه مرددًا بعدم فهم: موضوع ايه؟؟
حاوط كتف عمه بفضل طول قامته وتحرك معه للأعلى: إيمبورتنت يا عمي إيمبورتنت، شربني شاي في بيتكم بس الأول وساندوتش جبنة قديمة بحلاوة طحينية عشان الحلاوة خلصت من عندنا.
ضحك توفيق ورافقه بجهل لما يريده ذلك المشاكس الذي قرر أخيرًا التحرك خطوة للأمام..
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
– لأ مش موافقة.
نطقت هايدي بتلك الكلمات بإعتراض أمام والدتها وشقيقها ناصر الذي يجلس مرغمًا وهو لايزال غاضبًا منهما، لوت إيمان شفتيها بإستنكار وصاحت: لأة تلؤك يختي، ماله عادل محامي شاطر وقد الدنيا.
– ولا عادل ولا غيره، أنا هخلص دراستي وأشتغل.
صرخت إيمان بها بغضب: وبعدين، بعدين يا روح امك بعد التعليم والشغل..
لفت يدها حول ذراع ابنتها وتحدثت بأعين متسعة مخيفة: اوعي يابت تكون دماغك مع حد ولا عينك على واحد كده ولا كده، اقطع رأسك فيها يابت أنتِ سامعة.
هتف ناصر بسخط وهو ينظر لوالدته ولكلماتها الغير مراعية: سيبي ايدها يامّا، إيه الكلام اللي بتقوليه ده؟؟
ونظر لشقيقته التي تنظر للفراغ برأس مرفوع وكبرياء تخفي خلفه رغبتها القوية في الصراخ بالجميع وإخراج ما يجوش بقلبها، قلبها الممزق الغير قابل لأي مشاعر.
تلك الهالة من الحزن التي تحيط بها وحده مَن استطاع رؤيته، نظر لوالدته وقال وهو يقف ماددًا يده لهايدي: أنا هتكلم مع هايدي شوية فوق، ولو سمحتِ ياريت يعني بلاش كلامِك اللي زي العسل ده.
قال الجملة الأخيرة بسخرية قبل أن يجذب شقيقته ويغادر رفقتها متحركًا لمنزله تحت نظرات والدته التي كظمت غيظها تجبر نفسها على الصمت كي لا تفعل ما تندم عليه بعد ذلك.
وفي البناية المجاورة حيث منزل عصام، اقتحمت غرفة المطبخ على خالتها ووقفت أمامها بوجه متجهم: انا موافقة..
تركت دعاء والدة عصام ما بيدها ورفعت حاجبها ترميها بنظرات مستغربة فاستطردت روفيدة: موافقة أتخطب لعصام.
ابتسمت دعاء برضا والتفت تتابع ما كانت تفعل ولم تستفسر حتى عن سبب غضب تلك التي تشتـ.ـعل خلفها، وصلت لمبتغاها فماذا تريد بعد ذلك؟!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بمدينة القاهرة عاصمة جمهورية مصر العربية وأكبر وأهم مدنها على الإطلاق، التي تتسم بكثرة وتنوع معالمها التاريخية الحضارية، الفرعونية، الإسلامية والمسيحية.
بمساكن الطلاب المغتربين لجامعة القاهرة وتحديدًا الغرفة التي تتشاركها الشقيقتان بسملة وبسنت، وضعت بسملة ذات الملامح الحادة والبشرة الخمرية وشاحًا على رأسها وهبطت السلالم للبقالة القريبة من المكان.
انتقت ما تريده والتفت مغادرة كما جاءت وهي تتمسك بطرف ثوبها الذي انفلت من بين أصابعها عندما رأته بوجهها، إنه عمر!!!

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بيت البنات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى