روايات

رواية بيت البنات الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الفصل الثامن والعشرون 28 بقلم أمل صالح

رواية بيت البنات الجزء الثامن والعشرون

رواية بيت البنات البارت الثامن والعشرون

بيت البنات
بيت البنات

رواية بيت البنات الحلقة الثامنة والعشرون

حالة من الرعب والهلع تلبست صبحي الحارس عقب سقوطها بالقرب من قدميه، انتفض عن كرسيه ليقع على الأرض بأعين متسعة وفزع ازداد عند رؤيته لبقعة الدماء التي بدأت بالانتشار حول رأسها.
وما هي سوى نصف دقيقة مرت حتى بدأ الناس والمارة بالانتشار حولها، ارتفع ضجيجهم وضجيج تجمعهم وصرخ صبحي الذي ولج من البوابة الكبيرة بارتعاب: يا حج جامد! يا حج توفيق!
ونظر خلفه لمن لا حول لها ولا قوة أرضًا وعاد ليصرخ مناديًا: حد ينزلنا بسرعة ياخوانا..
والتفت يعود للخارج مرة أخرى فوجد بعض الأشخاص قد انخفضوا لمستواها، كان من بينهم ذلك الذي القى السترة الطبية البيضاء من يده أرضًا ليبدأ بفحص مواضع نبضها أولًا وقبل أي شيء ودقيقة وصاح بالواقفين وهو يعتدل واقفًا بسرعة لينظر للوجوه حوله: لسة عايشة، حد من أهلها موجود بسرعة نلحقها؟!
وعلى ذكر أهلها، كان أول من استجاب لنداء صبحي هم سامر ومَجد، جنى، بسنت وبسملة؛ وذلك بسبب وجودهم في الطابق الأول من المنزل.
ركضت جنى على السلم بسرعة عقب نداء الحارس المختلط بالضجة خارج المكان مما دب الرعب بأوصال الجميع، ترفع طرف اسدال الصلاة الذي كانت ترتديه كي لا يعرقل حركتها، ومن الخلف يلحق بها الشابان وشقيقتاها.
اخترقت هذا الجمع تدفع هذا وذاك وقلبها يرتعش بخوف وارتياع، وما إن صارت أمامها حتى تسمرت في مكانها بصدمة، صدمة شلت جميع أطرافها وجعلتها غير قادرة على الحركة.
صدمة احتلت وجوه الجميع وجعلتهم متخشبين في أماكنهم، تخطى الشابان هذه الصدمة سريعًا وتحركوا نحوها يهتفان بإسمها: نرمين!!
وجلست بسملة على ركبتيها صارخة بهلع وفزع بصوت شق احبالها الصوتية: نرمين … نرميــن!!
ركض توفيق على السلالم بملابسه المنزلية المكونة من بنطال وقميص من القطن، تتبعه وجيهة التي وضعت حجاب صغير فوق عبائتها المنزلية ولسانها يردد دون توقف “استر يارب” وشيء بداخلها يخبرها أن القادم سيء … سيء جِدًّا.
وفي منزل حامد، لم يصلهم بالأعلى نداء صبحي ولكن وصلهم صوت صياح المارة وضجتهم، نظرت شهيرة من النافذة فتفاجئت بتلك التجمعات الهائلة أمام منزلهم، دققت النظر في محاولة لاستشفاف أي شيء فلم ترى سوى وجيهة التي خرجت راكضة من البوابة من خلف توفيق.
أغلقت النافذة وعادت للداخل لتضع حجابها الطويل الساتر لكامل جسدها تسرع بالخروج هي الأخرى لمعرفة ما يحدث بالخارج والذي بالتأكيد له علاقة بالعائلة، ولكن دون حامد الذي نام بتعب فلم ترد إقلاقه واقلاق نومه.
بالأسفل انخفض سامر بسرعة وحمل ابنة عمه الغارقة بدمائها مهرولًا صوب سيارة والده التي كانت مصطفة أمام البوابة والتي ركض مَجد فاتحًا اياها بسرعة البرق، وضعها في الخلف وأغلق الباب ومن الأمام صعد مجد ليركب في مكان السائق يستعد للإنطلاق وجاوره سامر الذي أخذ ينقل بصره للأمام تارة وللخلف حيث تلك التي تصارع الموت تارة
وما كادا يتحركا حتى فُتح الباب وصعد توفيق هو الآخر الذي استمر بطرح الأسئلة، ماذا حدث؟؟ كيف سقطت؟؟ هل فعلت عمدًا أم دفعها أحد من فوق؟؟
وهناك..
ظلت جنى متيبسة في مكانها، تنظر لبقعة الدماء أرضًا بأعين جاحظة وعقل مغيب، ذلك المشهد الذي رأته منذ دقائق لا يفارق عقلها، تجمدت الدماء بعروقها فجعلت منها تمثالًا متسمرًا في موضعه.
على الأرض أمامها لازالت بسملة تصرخ بانيهار، خارت قواها فلم تعد قادرة على الوقوف حتى، تنادي بإسم ابنة عمها غير واعية لأي شيء هي الأخرى.
و وجيهة التي شعرت بقدميها غير قادرة على حملها فارتمت على المقعد خلفها تنظر أمامها بأعين فارغة ولسان معقود، تريد قول الكثير والاستفسار لكن المشهد كان كفيلًا بإخراسها.
وما بين هذا وذاك كانت تقف بسنت بجانب جنى حالها لا يقل عن حال الجميع بل كان أسوأهم، بدأ الأمر برعشة خفيفة بيديها حتى انتهى بها وكامل جسدها يهتز بعنف وينتفض، سقطت أرضًا بجانب بسملة وقدرتها على تحمل كل هذا قد نفذت، تسرب ألمٌ لرأسها ومعدتها، أخفى ضبابٌ مفاجئ الرؤية عن عينيها، ثانية … اثنتان … ثلاثة وبدأت بسنت بالسعال والتقيؤ على الأرض دون توقف.
ركضت وجيهة نحوها منادية بفزع: بسنت! بت يا بسنت مالك؟؟
تطلع إليهم الناس بشفقة وحزن، شيئًا فشيء بدأ الناس بالانصراف وقلت التجمعات ولم يبقى سوى الجيران المقربين من العائلة، انخفضت واحدة من الجارات وساعدت وجيهة في مساندة ابنتها للداخل وانخفضت أخرى لمستوى بسملة التي تبكي بانيهار وحاولت تهدئتها هي الأخرى.
وبقت جنى ساكنة في مكانها، كما هي تنظر للأمام أمامها بنظرات فارغة، بعقل غير قادرٍ حتى الآن على استيعاب ما حدث، لم يقترب منها أي أحد كما فعلوا مع أخوتها، ولما وهي – كما يظنون – صامدة وهادئة!
ولكنهم مخطئون،
إنها لا تسبح كما يعتقدون، إنها تغرق!
في الأعماق حيث لا بقعة مضيئة واحدة.
بقلب مثقل بالهموم وعقل يتألم لكثرة التفكير، اقتحم هو ذلك الحصن المنيع الذي تُحتبس خلفه وصاح باسمها: جنى!!
حركت رأسها باستفاقة،
ابصرت عيناها وجهه الذي ظهر من العدم،
إنه عثمان!!
– أنتِ كويسة؟؟
سأل بحاجبين معقودين بغرابة لوقوفها وتجمدها بهذا الشكل عكس بقية أفراد العائلة الذي ظهر على كل منهم الفزع بأشكال متباينة، نظرت حولها على أمل أن يكون مجرد كابوس ستستيقظ منه الآن، ولكن اصطدمت عيناها ببقعة الدماء التي كانت بمثابة صفعة أكدت لها الواقع المرير.
ابتلعت ريقها بارتباك والتفت حول نفسها هامسة بتيه: نـ … نرمين!
فأجاب مطمئنًا عن السؤال الذي تنبض به عيناها: طلعوا بيها على المستشفى، متقلقيش هتكون كويسة ان شاء الله طالما لسة في نبض..
تحركت حول نفسها بعشوائية وخطوات غير مرتبة بسبب فقدانها لتركيزها فلم تعرف إلى أين تسير وكيف تتصرف، مرة أخرى تحدث وهو يقف أمامها مانعًا إياها من الحركة: خير ان شاء الله، أكيد طلعوا بيها على مستشفى الطوارئ اللي في أول البلد..
كان يُعلمها بهكذا معلومة بديهية لمعرفته بتوترها الظاهر والذي وكأنه أنساها ذاكرتها فلم تعد قادرة حتى على تخمين مثل هذه المعلومة البسيطة.
اومأت بحركات سريعة براسها بالايجاب وعادت راكضة للخلف حيث البوابة المؤدية للداخل وظل هو في مكانه ينظر بتشفي وأسى لأثرها، وما إن اختفت بالداخل حتى التفت مشيرًا بسرعة لأول سيارة أجرة مرت من أمامه ثم أعطاه عنوان المشفى التي تحدث عنها منذ قليل.
أخبرت شهيرة زوجها حامد بما حدث مما جعله ينتفض فزعًا مهرولًا للخارج بملابسه البيتية هو الآخر، لم يجد سيارته ولا سيارة ابنه طارق – الذي كان في العمل – فعرض عليه أحد جيرانه أخذ دراجته البخارية “الموتوسيكل” والانطلاق بها للمشفى.
وداخل السيارة التي تحوي بداخلها نرمين، اخرج سامر هاتفه عقب رؤيته لوالده الذي يلحق بهم من الخلف وتحدث بقلق لأخيه على الهاتف: ايوة يا طارق، سيب اللي في إيدك كله وارجع البيت …. اسمع بس يا طارق اللي بقولك عليه!! أمك ومرات عمك وبناتها لوحدهم في البيت …. انجز يا طارق!
احتدت نبرته بالجملة الأخيرة بسبب جدال طارق على الجانب الآخر ورغبته لمعرفة ما يحدث وسبب هذا الطلب المفاجئ، تخيل أسوء المشاهد والسيناريوهات ولكن ما حدث لم يخطر بباله حتى.
وعندما انتشر التوتر والقلق في المنطقة وعم الهرج والمرج بالمكان ليتحرك الجميع على قدم ساق، كانت “منة” قد فعلت ما فعلته بابنتها وسقطت على الأرض مغشيًا عليها دون أن تدرك هول ما صنعت وتلك المصيبة التي حلت فوق رؤوس الجميع.
النافذة أمامها مفتوحة على مصرعيها،
المكان من حولها غارقًا بالفوضى التي صنعتها نرمين وهي تفر هاربة منها.
تفترش الأرض بمنتصف المكان،
وجهها شاحبًا كالأموات،
ويداها مفرودتان على الأرض حولها.
هل كانت ضحية؟
نعم إنها ضحية.
هل ظُلمت.
نعم ظُلمت!
ولكن ليس من العادل أن تقع تلك المسكينة ابنتها ضحية لأفعال أمها القبيحة والشنيعة!!
ليس من العادل أن تقع ضحيةً لأب أناني وأم قاسية، ليس من العادل أن تَظلِم كما تُظلَم!

ساعة من الزمان مرت على الجميع كالقرن، إنها الآن داخل غرفة العمليات، يرتص رجال العائلة بالخارج وكل منهم في عالمه الخاص، يرجون الله أن تخرج لهم ابنتهم سالمة ومتعافية.
منذ أن ولج الطبيب والممرضون الغرفة ولم يُفتح الباب لمرة واحدة، يريدون فقط طمنئة قلوبهم وتهدأتها، يريدون تلك الجملة التي تخبرهم أنها بخير رغم مدى بشاعة الأمر.
– طارق!
هتف مجد بتعجب وهو يرى شقيقه يسير مندفعًا من بداية الرواق، شيئًا فشيء وظهرت من خلفه والدته وجنى وبسملة التي كانت شبه تركض في سيرِها وهي تنظر لكل غرفة جانبها على أمل أن تجدها مستلقية داخل واحدة منها.
استقر طارق أمامهم فقطب حامد جبينه بغضب وهدر بهم وهو ينظر لبكره موبخًا: إيه اللي جابكم بس، أنا مش قولتلكم خليك معاهم يابني!! ينفع يعني المنظر ده؟!
زفر طارق وأجاب بيأس: والله يا بابا ما عرفت أمنعهم، ومعرفتش برضو أقعد محلي سر كدا.!
وتحدثت شهيرة بصوتٍ متحشرج باكي وهي تمسح وجهها بكف يدها: نقعد يعني هاديين وراسيين كدا عادي ولا كأن في واحدة مننا بتموت هنا؟؟ هي عاملة ايه؟؟ هتطلع كويسة مش كدا؟؟
كان صوتها مترجيًا أكثر من كونه متسائلًا، تريد ذلك الرد الذي سيثلج نيران قلبها المتأججة، نظر طارق لباب غرفة العمليات هو الآخر ثم عاد ببصره لهم مستفسرًا: مفيش أي حاجة؟؟
تنهد توفيق – الذي كانت تغطي الدماء قميصه أثر حمله لنرمين – وأشار للمقاعد الفارغة جانبه: اقعد يابني، اقعد وادعيلها…
اقتربت بسملة من والدها بسرعة وجلست أسفل قدميه متحدثة بشهقات خرجت مع بكائها وأعين يترقرق الدمع بها: هتكون كويسة يا بابا، أنا … أنا مش عايزاها تموت، والنبي يارب ما تموت.
انفجرت باكية عقب جملتها الأخيرة، نعم لم تكن العلاقة بينهما بهذه القوة ولكنها رغم هذا لا تريد فقدها، تريدها أن تتشبع بالسعادة والحنان كما تشبعت واكتفت من الهموم والأحزان.
تريد الجلوس معها ومشاركتها أطراف الحديث،
تريد الضحك معها والخروج معها، تريد ضمها، إخبارها أنها تحبها رغم إظهارها الجفاء.
الآن فقط تود فعل الكثير معها وقول الكثير لها،
وخزات حادة اخترقت قلبها وسببت لها الألم وهي مجرد تتخيل الحياة دون وجودها، هل هو الندم يا بسملة!!
لما تشعر بالذنب على فعلٍ لم ترتكبه؟!
رفعها توفيق عن الأرض من كتفيها وأجلسها لجانبه بينه وبين أخيه حامد الذي ربت بخفة على قدمها، تحاوطها توفيق وأدخلها لأحضانه مربتًا على كتفها وماسحًا على ظهرها وهو يردد بعض الكلمات موجهًا اياها له وللجميع قبلها غرضه بها بث الراحة والطمأنينة بنفوسِهم: هتبقى كويسة يا بسملة، هتبقى كويسة يا حبيبتي إن شاء الله وهتخرج لنا بالسلامة.
كان مجد يقف مستندًا على الجدار المواجه للمقاعد، يعقد ذراعيه أمام صدره ويطالعها بنظرات تنبع بالحزن والعطف، يحدث نفسه: يالا ضعف الإنسان!
كيف لها أن تكون بهذا الوهن والضعف الآن وهي تلك التي يشهد الجميع بمدى قوة قلبها وتيبسه.
ولكن يبدو أن ليس كل ما يُظهره الآدمي حقيقي، نحن نُريكم ما نريد إظهاره لكم، فقط تلك اللحظات القاسية كما الآن هي ما تعرض لكم حقيقتنا، النقية الصافية والخالية من أي تصنع.
رفع توفيق عينه ونظر لغاليته الثانية – جنى – التي تحدثت بهدوء وبنبرة متقطعة بسبب ثقل لسانها المفاجئ والذي تسبب بجعلها غير قادرة على الحديث: مـ … ماما مع بـ .. ســنت.
عقدوا جميعهم حواجبهم لبطئها الشديد في الحديث وصعوبة اخراجها للكلمات، حتى هي تفاجئت بهذا!!!
اعتدل سامر في وقفته بعد أن كان يستند بجانب أخيه وسأل بغرابة وهو يحل عقدة ذراعيه: في ايه يا جنى؟؟ في حاجة تعباكِ؟؟ زورِك واجعِك أو حاجة؟؟
رفعت كتفها بدون اكتراث: معـ … رفش!
وأشارت للممر الطويل الذي جاءوا منه: أنــا … بر .. رة. ‹أنا برة›
والتفت متحركة للخارج تحت نظرات الجميع التي تباينت ما بين قلقة ومستغربة، التقت في منتصف الممر بعثمان الذي يتحرك في الطريق المعاكس قاصدًا عائلتها، يحمل بين يديه كيسًا بلاستيكيًا أسود اللون.
توقف ما إن رآها وكاد يتحدث إليه ليسألها عن حالها ولكنها تخطته وبدت لم تراه من الأساس فتنهد وتابع سيره لهم بالداخل.
توقف أمام هذا الجمع الكبير متسائلًا باهتمام حقيقي صادق: مفيش أي حاجة يا عم توفيق؟؟
نفى توفيق برأسه دون أن يتحدث ولازالت يده تتحرك بحنو على تلك التي تبكي داخل احضانه، بينما عثمان فتح الكيس وبدأ يخرج منه عبوات من العصير الجاهز موزعًا إياها على جميع الواقفين وما إن انتهى وقف بالقرب من سامر ومجد وهتف: ربنا يخرجها بالسلامة ان شاء الله..
نظروا إليه مرددين من خلفه واستطرد هو مطمئًا إياهم: النبض بتاعها كان كويس الحمد لله وقت ما قيسته، فإن شاء الله يعني الأمر مش هيزيد عن كسور وكدا يعني..
لم يستطع قولها صريحة أنها لن تموت كي لا يعطهم أملًا زائفًا واكتفى بكلماته تلك فقط، أما عنهم فلم يكن أي منهم يمتلك القليل من الطاقة للرد عليه والتعقيب على حديثه، ووقف عثمان بالجوار ملتزمًا الصمت يدعو الله هو الآخر أن يريح قلوب هذه العائلة وألا يحزننهم في ابنتهم.
وبعد بضعة دقائق من وقوفه معهم تحرك للخارج للحاق بها، ينظر للرواق طوال هذه الدقائق على أمل أن تعود ولكنها لم تفعل فلم يستطع كبح قلقه وفضوله ورغبته للإطمئنان عليها، يريد الحديث معها وإخراجها من حالتها الغريبة تلك بأي شكل من الأشكال.
إنها حتى لم تبكي كما البكية،
رأت مثل هكذا مشهد وفزعت هكذا ولم يظهر عليها أي شيء!
كانت جنى قد جلست فوق السلمة الأولى من الأسفل، ضمت قدميها نحوها وحاوطتها بذراعها الأيسر و بيدها اليمنى أخذت تداعب قطة صغيرة مرت من جانبها فجأة وقررت البقاء مع تلك الحزينة، وكأن حتى هذا المخلوق الصغير أراد أن يمحي هذه الهالة التي تحيط بها ببقائها
– اتصاحبتوا بسرعة!
صدح صوته فجأة من الخلف وهو يردف بتلك الكلمات بدهشة، التفت جنى ونظرت لصاحب الصوت الذي لم يكن سوى عثمان الذي هبط السلالم ليستقر جالسًا جانبها، ابتسم مشيرًا على القطة وهو يوجه حديثه لها بعد أن أبعدت يدها عن القطة: دي دُرية، أنتيمتي…
ثم أشار عليها ناظرًا للقطة: ودي جنى، خطيبتي.
رمته بنظرة نارية مشتعلة كَفته من أي حديث آخر فرمش بأهدابه في حركات سريعة ونظرات بريئة تصنع بها جهله سبب هذه النظرات و عادت هي تنظر أمامها متنهدة بصمت ودون أي كلام.
داعب القطة بيده هذه المرة وتحدث إليها بنبرة هادئة وجادة منافية لما كانت عليه منذ لحظات: إن شاء الله هتكون كويسة، أنا فاهم وضعك وحالك كويس أوي ومقدر إنك لازم تحسي باللي حساه دلوقتي وتمري بيه بس وسط كل ده مينفعش تنسي إن « لَّن يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا»!
رفعت حاجبيها بتعجب لتبدل شخصه في أقل من ثانية ونظرت إليه دون أن تنطق ببنت شفة فاستأنف ببسمة صغيرة مبهجة أظهرت تجاعيد صغيرة ولطيفة حول فمه: واوعي تكوني ناسية الركن السادس من أركان الإيمان!
رفع اصبعيه السبابة والوسطى موضحًا: الإيمان بالقضاء وبالقدر خيره وشره، خيره وشره..
كرر آخر كلمتين بالجملة يؤكد لها المعنى فنظرت مرة أخرى أمامها ولم ترد عليه، هي ليست معترضة على قضاء الله بل إنها أكبر وأعقل من هذا ولكن كل ما في الأمر أنها متعبة!
متعبة لدرجة كبيرة فاقت قدرتها على التحمل،
شهرٌ واحد وثلاثون يومًا حدث بهم ما يحطم الإنسان ويُنهيه من المرة الأولى، ورغم هذا ظلت صامدة!
تلقت جميع صداماتها وخيباتها بإبتسامة، وبدلا من أن تترك العنان لأحزانها حاوطتها بلجام متين قاسي رافضة البوح بمكنونات قلبها المحطم.
أخفت حزنها عن الجميع، حتى عن ذاتها الحبيبة والمرافقة لها، وها هي ترى نتيجة هذا وتحصده؛ انعقاد لسانها وثقله المفاجئ! كما أنها منذ دقائق شعرت بالألم يغزو كامل فمها وحتى أسنانها.
مد عثمان يده لها بعلبة من العصير سبق وابتاعها لنفسه وقال منتشلًا إياها من شرودها بصوت مرح: خُدي دي طري بيها على نفسِك كدا…
وقطب جبينه ماططًا شفتيه بضيق للأمام وهو يسترسل: وبدل ما أنتِ قاعدة تندبي بينك وبين عقلك قومي يختي اتوضي وصلي ركعتين وادعيلها، الدعاء بيرد القضاء يا جنى..
قال الأخيرة بجدية فحدقت به موزعة بصرها بين وجهه والعلبة التي يمد يده بها لها وباقتضاب قالت بصعوبة وهي تنظر للطريق: شكــ … رًا.
قرّب وجهه منها واختفت المسافة بين حاجبيه وهو يسأل: إيه؟؟
قالها قاصدًا جعلها تتحدث ليتأكد من الشكوك التي بدأت تراوده عقب نطقها للكلمة، زفرت قالبة عينيها وعاودت الحديث بملل: قولـ .. ـت شكــ … رًا.
ترك عثمان علبة العصير من بين يديه على السلم ليتحرك واقفًا أمامها مخفضًا رأسه ولازال حاجبيه معقودان بغرابة: أنتِ الكلام طالع تقيل كدا ليه؟؟
وقبل أن تفتح فمها للرد أوقفها خروج سامر مناديًا إسمها بصوت عالٍ وبشكل جعلها تنتفض فزعة، التفت بسرعة واقفة ثم ركضت نحوه وتبعها عثمان ليقف خلفها على بعد بضعة خطوات.
توقفت أمام سامر الذي سأل وهو يتنفس بصعوبة جراء هرولته من الداخل لهنا: محتاجين دم…
وابتلع ريقه يتابع واضعًا يده بخصره: A موجب..
ونفخ الهواء من فمه ليعيد التوازن للشهيق والزفير، بينما جنى قطبت جبينها وانكمشت قسماتها في خوف: أَ .. نا سا … لب يا سامر!
وضع سامر يده في خصلاته وبعثرها بعنف واختناق، لا يعلم كيف يتصرف الآن ونرمين بين الحياة والموت بالداخل، للتو خرج الطبيب وأخبرهم بتوقف قلبها لمرتين خلال إنقاذهم لها كما أخبرهم بضرورة نقل دم لها في الحال، ماذا الآن في هذا المأزق؟!
– طب والحل؟؟
أكياس الدم في المستشفى مش كفاية!
محتاجين كمان كيس على الاقل.
قال سامر بحيرة وهو يشاركهم صوت أفكاره فتقدم عثمان ليقف بجانبها رامقًا سامر بحماس: أنا O موجب، اسحبوا مني..
نظر إليه سامر سريعًا بعد أن كان يتأفأف ويفكر في أي طريقة لإنقاذ ابنة عمه وقال بلهفة: هو عادي؟؟
أومأت جنى بسرعة: أيـ .. ـوة، بســــر .. عة!
وتحركوا جميعًا للداخل بخطى سريعة،
لا يعلمون أين سينتهي بهم المطاف ولا كيف سينتهي الأمر برمته، ولكنهم سيفعلون كلَ ما بوسعهم حتى نهاية الأمر والتي تُرجى أن تكون سعيدة مرضية.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
خرجت هايدي من غرفة الأطفال – بمنزل ناصر – التي سبق وخصصت لها بعد ما حدث بالمرة الأخيرة مع والدتها، نظرت حولها باحثة عن ندى فوجدتها تجلس فوق إحدى الأرائك تصب كامل تركيزها على الهاتف وبدت منشغلة بشيء مهم لدرجة لم تلحظ خروجها ووقوفها بالقرب.
تحمحمت تجذب انتباهها فرفعت الأخيرة وجهها عن الهاتف بسرعة وقد تناست تمامًا أمر وجودها بالمكان، أغلقت الهاتف ووضعته جانبًا متسائلة بغرابة وهي تنظر لإسدال الصلاة الذي ترتديه: رايحة فين يا هايدي؟
أشارت للمطبخ ببرود: هشرب وأنزل اجيب لنفسي حاجة من عند عمو ربيع؟؟
– حاجة إيه؟؟ عرفيني لو محتاجة حاجة!
قالت ندى بعفوية ولم تكن تتوقع تلك النظرة المتعالية الساخرة التي ارتسمت على وجه هايدي التي ردت عليها: لأ شكرًا، اللي بعوزه بعرف اجيبه لنفسي، مش بستنى حد يجيبهولي.
توسعت عيني ندى بتعجب لهذا الرد على كلماتها البسيطة التي لا تستدعي كل هذا ورغم هذا احتفظت بضيقها لنفسها ولم تعقب على ما قالت وفضلت الصمت.
خرجت هايدي من المنزل وتحركت في الشارع لمحل البقالة بالقرب منهم، انتقت منه ما تريد شراءه ووقفت لدفع الأموال: ٢٥ يا عم ربيع صح؟
اومأ الرجل بالإيجاب فمدت يدها بالنقود والتفت لتغادر كما جائت ولكنها صُدمت به بوجهها.!! هل يترقبها أو شيء من هذا القبيل؟!
إن لم يكن الأمر كذلك فلما يتواجد في كل مكان تكون هي به؟!! كيف يظهر هكذا فجأة من العدم؟!! لماذا يتبعها ويلحق بها؟!
أما عادل، توسعت عيناه دهشةً لرؤياها الغير متوقع، وهو من جاء لأخذ بعض الأشياء لوالدته! يعيش أجمل صدف دنياه من بعد صدفة لقياها.
شقت ابتسامة صغيرة طريقها نحو ثغره واستقرت فوقه وهو ينظر لوجهها المحبب لقلبه، ابتسامة سرعان ما تلاشت عندما ألقت بالكيس البلاستيكي – الذي يحوي مشترياتها – عليه وهي تجز على أسنانها بوجه ممتعض مكفهر.
رفع ذراعيه بسرعة ملتقطًا الكيس قبل أن يقع أرضًا، ارتفع حاجبيه بزهول لفعلتها والتفت لاحقًا بها بسرعة وهو لا يفهم سبب فعلتها.
– يا هايدي!
قطع الطريق عليها يعوق حركتها، نظر إليها بضيق ومد يده بالكيس: في ايه يا هايدي؟؟ شوفتي عفريت عشان كل ده ولا ايه!
جذبت الكيس من يده بعنف وفي حركة غير متوقعة ألقت به أرضًا وصرخت به بغضب وتجهم: أنت إيه ياخي؟ معندكش دم! اتكسف وخليلك شوية كرامة من اللي ماشي تبعزقها في الجري ورايا كدا، قولتلك بدل الـ لأ الواحدة اتنين وتلاتة وعشرة وأنت مفيش إحساس ولا د.م، أنت الإهانة بالنسبالك ايه بالظبط؟؟؟
وابتسمت بسخرية مستأنفة: يعني طالما يعني الكلام مش بيحوق عرفني عشان أعرف اتعامل واخلص من القرف ده بقى…
واحتدت نظراتها مرة أخرى وختمت: يكش تخزى على دمك وتبطل بقى بعد البُقين دول!!
وتابعت سيرها تاركة إياه خلفها صامتًا ثابتًا كالصنم، لم يرمش له جفن أو يحرك ساكنًا، اصغى جيدًا لحديثها واكتفى برمقها بنظراته الخالية من أي تعبير.
تلك المرة كانت كلماتها قاسية، قاسية جِدًّا،
أهانته وقللت من شأنه ورجولته كذكر.
هل هذه هي نتيجة حبه؟؟
هل هذا جزاء صراعه للوصول لها؟!
إن كان الأمر كذلك فتبًا لهذا العشق وتبًا لقلبه المغرم والذي يرفض البُعد عنها حتى بعد ما قالت.
نظر للكيس أرضًا،
فوجد كيس البطاطس قد خرج منه،
نكهتها المفضلة!
رفع وجهه وسار هو الآخر من فوقه،
ربما إن مرّ اليوم من فوق ما تحبه قد يتخطى حبها بالغد!
يتألم؟
نعم … وكثيرًا.!!
كل كلمة ألقتها بوجهه كانت بمثابة سهم اخترق قلبه ليُدميه ويملئه بالجروح، كلما تحدثت أكثر كلما ازدادت وغزات قلبه وشعر برغبة مُلحة في صفعها وإسكاتها.
نعم بقى جامدًا أمامها،
نعم قد تظن أنه لا يبالي أو يكترث.
ولكنه بأعماقه انهار كليًا،
انطفأت شعلة لوعه لها ولوهلة نفر منها واشمأز!
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عودة مرة أخرى لمنزل عائلة الهلالي، تحديدًا الطابق الأول الخاص بمنزل كبير العائلة الراحل طه الهلالي، حيث كان الأقرب لوجيهة التي سقطت ابنتها فجأة من هول المنظر، وظلت بسنت تتقيأ لفترة وفي نهاية المطاف استسلمت للأمر وغاصت بنوم عميق هاربة به من الواقع المؤلم.
شهقت في نومها منتفضة على الفراش بفزع، نظرت حولها بهلع وارتياع، تحاول اقناع ذاتها أنه مجرد كابوس ولا شيء مما حدث بالساعات الماضية حقيقي ولكن..
صوت والدتها العالي والقادم من الخارج وهي تصرخ بمنة جعلها تيقن أنه الواقع: كله من ورا عمايلك السودا، ربنا ينتقم منك أنتِ وأبوها، ذنبها في رقبتكم وربك كبير يا منة..
كانت منة تتنفس بصعوبة تحاول إخراج صوتها بكامل جهدها: قوليلي بنتي فين، بنتي فين يا وجيهة؟!!
ونظرت حولها لمجموعة السيدات – اللاتي يخرجن من البوابة بعد الدعاء لإبنتها بردها سالمة – وصرخت بوجه وجيهة مترجية: ايه اللي حصل، ريحيني حرام عليكِ أنا مش فاكرة أي حاجة!
– رمت نفسها من الشباك، بنتك رمت نفسها من الشباك يا منة، ويا عالم عملت كدا ليه، مانتِ محدش عارفلِك شكل! شوية تبقي طبيعية وشوية ملبوسة، وياريتك عايزة تتعالجي، راكبة دماغك و شايفة نفسك صح وكلنا غلط، والنتيجة؟؟
استطردت بقهر وألم: بنتك مرمية في المستشفى بين الحياة والموت ويا عالم هتطلع منها سليمة ولا عاملة ازاي، حسبي الله ونعم الوكيل فيكِ وفي اللي ما يتسمى جوزِك، ربنا بينتقم منكم أنتوا الجوز في بنتكم الغلبانة..
وتركتها وولجت الغرفة التي تتواجد بها ابنتها، ما إن راتها مستيقظة هرولت ناحيتها بلهفة: بسنت! عاملة ايه يا قلب أمك؟؟
رفعت يديها المرتعشة وامسكت بكف والدتها مردفة بأمل: نرمين يا ماما، نرمين كويسة؟؟
جلست على الفراش أمامها وأجابت بحزن: لسة قافلة مع أبوكِ وقالي لسة ماطلعتش من العمليات، و
بيقول محتاجة دم…
ونظرت لإبنتها التي سرت الدموع فوق خديها واسترسلت: ادعيلها يابنتي..
ارتمت باحضان والدتها وتعلقت بها هاتفة بصوت مختنق: أنا خايفة يا ماما، أنا خايفة أوي.
لا تعلم سبب هذا الشعور، ليست خائفة على نرمين ولكنها كذلك تخشى شيئًا مجهولًا!
كلما اغمضت عينيها يقتحم ذاك المشهد عقلها، حيث نرمين تفترش الأرض وتحيط بها الدمـ.ـاء من كل ناحية، وكلما تذكرت داهمها الدوار وشعرت برغبة قوية في التقيؤ.
وقلبها الذي تزداد دقاته بعنف كذلك، كل هذه الأشياء تظهر عليها دفعة واحدة فتجعلها ترتعش خوفًا، هذا ما لم تشعر به قبل!
– قومي البسي عشان نروحلهم المستشفى يلا.
قالت وجيهة وهي تمسح لآخر مرة على ظهرها فتفاجئت بها تنفي براسها بسرعة: لأ مش هروح غير لما تفوق، هروح لما اتأكد إنها بقت كويسة!
كانت تخشى الذهاب فتصاب بضربة قاسية أخرى، كما أن رؤية نرمين قد تجدد هذه المشاعر السابقة داخلها وهي لا تريد هذا.
بالخارج،
سقطت منة على الادراج خلفها بأعين جاحظة، تحاول ترجمة ما قيل لها، تحاول تكذيبه.
لماذا لا تتذكر أي شيء؟؟
لماذا هذا الجزء الذي يتحدثون عنه مختفي من عقلِها؟؟
هل يقولون الحقيقة؟؟
هل هي ممسوسة؟؟
هل يعاقبها الله على ما فعلته بتوفيق وعائلته وغيرهم من الأبرياء الذي طالهم شرها؟
ضربت على صدرها بقهر وبنواح وندب اخذت تولول باكية: يارب كنت خدتني أنا يارب، ليه يارب بنتي يارب! آآه يابنتي.
ولكن هل يفيد الندم بعد فوات الأوان؟
أم أنها فرصة للجميع لإعادة تدوير ذاتهم؟!
وفي البيت المواجه لبيت الهلالي، بالطابق الثالث وتحديدًا داخل غرفة نومه، جلس خلف مكتبه يحرك قدمه لأعلى وأسفل بتوتر بينما يقطم اظافر يده بأسنانه.
لقد رأى كل شيء،
رأها وهي تدفعها، ورأها وهي تُدفع!
استمع للجميع يقولون أنها ألقت بنفسها،
ولكن لااا، لقد دفعتها والدتها، رأها بام بأم عينيه!!
لا يعرف كيف يخفي هكذا أمر،
ولا يعرف كذلك كيف يبوح به؟!!
ولمن يفعل؟!
وهل سيصدقه أحد؟!
تُرى ماذا بإنتظار الجميع بالقادم في رأيكم أعزائي؟

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بيت البنات)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى