روايات

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الرابع والخمسون 54 بقلم حسناء محمد

موقع كتابك في سطور

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الرابع والخمسون 54 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الجزء الرابع والخمسون

رواية بنت المعلم الجزء الثاني البارت الرابع والخمسون

رواية بنت المعلم
رواية بنت المعلم

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الحلقة الرابعة والخمسون

الحادية عشر مساءً
انتهى العزاء انسحب الجميع ولم يبقى سوى أفراد العائلة المنتظرين لفهم ما يجري معهم … وبالأخص محمود المذهول ولا يستوعب ما وقع على أذنيه، يونس أخوه!! وطلب مروه للزواج ؟!!
بصمت عكس طبعه المتهور، سلك عبده طريق منزله يبتعد عنهم ليختلي بنفسه، عاش أسوأ يوم في حياته، ساعاته تمر ببطئ، وتفاصيله تقتله بسكين الندم والحسرة وهو على قيد الحياة … كلما فاض الحزن بصدره أخذ نفس عميق داعي الله بأن يلهمه الصبر، ويقدر على تحمل البلاء.
فتح باب غرفة فقيدته يجول بعينيه بداخلها، يتمعن في كل تفاصيلها، يتخيلها كما كانت موجودة بها … انهمر الدمع من مقلتيه وهو يتحسس الفراش الفارغ ببطئ، بكى بألم يغزوه إلى أن ارتفع صوته المنكسر، وفي الخارج وقفت سحر تتابعه وتشاركه ببكاء صامت إلى أن جاء سعد وولج للغرفة يبكي وشهقاته تتعالى بحرقة، نحيبه يرج في الغرفة وهو يرمي نفسه في أحضان والده الذي حاوطه بذراعيه واختلط صدى بكائهم بطريقة تقطع القلوب حزنً …
؛*************
: بلاش تسجنه هيموت ومش هيستحمل
لم يتلقى يونس رد منه فتابع برجاء :
مستعد اعمل اي حاجه بس هو يمشي من هنا
هز صبري رأسه بعدم تصديق وقال بحده :
أنت بتبرطم بتقول ايه، ده مش هيتحرك من هنا غير على القسم
تطلع يونس إلى إبراهيم بضيق، هو فقط لم يأتي وتجاهل تحذيره بأنه سيسجن أن اقترب من القرية بل قدم وبكل قوة لا يعرف من أين جاء بها يتهم إحدى بنات الجالس بصمت مخيف … لم يبقى في المجلس إلا جابر وصبري وعبد الخالق واخيه حكم أنهم أولاد عم أشقاء وشيخ حكيم وبالطبع يونس وإبراهيم.
: يا خالي لو سمحت..
قاطعه بهدوء دون أن ينظر إليه :
عمك
صحح إليه ما ينطقه ومن ثمّ سأله باقتصار :
عايز ايه ؟؟
رمق يونس إبراهيم مردد برجاء :
سبوه يمشي
وجهه أصفر شاحب اللون، وعينيه تتحرك بعشوائية هنا وهناك بين أوجه الموجودين، يديه تهتز باضطراب وجسده متحفز بحركة لا إرادية، ولكن اين كان كل هذا عندما قادته قدميه إليهم!! أبتسم المعلم سالم بسمة جانبيه صغيرة وهتف بلا مبالاة :
ما يمشي هو حد ماسكه
رفع جابر حاجبيه باستغراب وسأله بتعجب وهو يرى سعادة ابراهيم :
يمشي ازاي ؟!! بعد كل ده ويمشي طيب ويونس ؟!
بسلاسة رد عليه بلا اكتراث :
هو حر بس الاكيد هيمشي معاه
تحدث عبدالخالق باستنكار :
يمشي معاه وهو ابننا !! وعبده يشوف ابنه قدام عينه مع حد تاني!!
: ويقعد معانا بناء على ايه يا عبدالخالق هو مش اسمه يونس إبراهيم الخولي برده
حل عليهم الصمت دقيقة فهناك صدمة بعد لم يتخطوها، حتى يونس انتابته غصة لفهم مغذى حديث المعلم سالم، لم يفكر في تغير اسمه لينسب إلى عبده وهو لم يتقبل تلك المفاجأة الفجة على قلبه .. قال جابر بضيق وهو يرمق إبراهيم :
زي ما جه برجله لحد هنا يستحمل ولا فاكر حنان هتطلع من التربه وتحوش عنك
أضاف صبري باقتضاب :
أنا هكلم المركز يبعتوا يخدوه كفايا على الراجل موت بنته
كان يقصد عبده الذي انسحب ورفض أن يجلس معهم، لا يقوى على التحدث ولن يتحمل رؤية ابراهيم أمامه بكل تبجح ينسب يونس إليه .. راقب يونس صبري يخرج هاتفه فصاح بانفعال :
لو هيتحبس يبقا هي كمان تتحبس معاه هو مخططش لوحده علشان يشيل الليلة كلها
تجمد صبري مكانه ونظر إليه متسائلاً باستغراب :
هي مين ؟؟ وليلة ايه ؟!
هتف جابر بغضب شديد فما فعله عبده لاحتواء الفضيحة دون أن يلوث اسم رحاب وهذا ليس تفضل منه عليها بل لأجل اودلاه :
وعلى ايه يا يونس امشي ومتجيش هنا تاني مع السلامه وكفايا على خويا اللي هو فيه
وضع يونس يده على رأسه وردد بضجر وحيرة تجعله يفقد تركيزه :
أنت ليه محسسني إني مش بني آدم وعندي احساس
تابع بنبرة مختنقة :
بني آدم ادمر في يوم وليلة، يكتشف أن أبوه مش أبوه وكل اللي عاشه تمثيلية عشان فلوس
تدخل الشيخ موجه حديثه للمعلم سالم :
مش هتتحل كده يا معلم سالم
كل هذا وإبراهيم ينظر إلى يونس دون أن يحيل بعينيه عنه، في كل الأحوال جميع الحلول تؤدي إلى نفس الواجهة ” الافتراق ”
بعد كل هذا يحرم منه !! تلك السنوات بما فيها تتبخر كما لا وجود لها !! لن ينكر أن مبتغاه من البداية كي لا يخسر الميراث ولكن كيف يقنعه بمشاعره الصادقة اتجاهه، لم يهتم بعد أن تعلق به وأصبح محور حياته بل هو حياته في الأساس .. لا نقود ولا أراضي تضاهي دقيقة واحدة يعشيها بعيد عنه، ابنه، وصديقه، ومؤنسه، أفنى عمره ورفض أن يتجوز خوفً من إساءة زوجته إليه أو يهمل إذا أنجب طفل آخر!!
أعطى نفسه حق دون أن يحسب نتائجه، والثمن لم يكن متوقع أبدا، نظرات قسوة ونفور تجعله يريد أن يشق الأرض ويدفن نفسه ولا يراه في عين يونس، ذلك الحبيب الذي تربى على يديه ابنه وحصيلة عمره، كيف تلك النهاية ؟! وحيد !! يعود خالي اليدين ؟!
: لا يا يونس أنت ابني وهتفضل ابني، أنت عارف اني معرفش أعيش من غيرك صح ؟؟ أنت عمرك شوفت مني حاجه وحشه !! حسيت في مره اني بعاملك بطريقة وحشه ؟؟ معقول يا يونس تسيب أبوك ؟؟
مغيب عن الواقع يتأمل ملامح يونس باهتمام لا يبالي بمن حوله متتوق برجاء وتوسل لسماع كلمة سماح منه … على الجهة الأخرى كز يونس على أسنانه يكتم انفعاله، أشبه بطفل صغير يخفي حزنه على لعبته التي كسرت بسبب صديقه وعندما رأى والده بكى متفقد حنان مواساته ولم يهدأ إلا بوعد لشراء أجرى جديدة، والصغير هو يونس واللعبة المكسورة قلبه ومن خذله وكسره إبراهيم ولكن لم يجد من يواسيه ويرأف بحالة ضياعه !!!!
: ما هو ده اللي قهرني
القهر أقل ما يصف به حاله، استطرد بامتعاض:
اللي قهرني أن كل اللي عملته معايا علشان فلوس
لم يعطيه يونس فرصة للرد ونظر للمعلم سالم يردف بتجهم :
يمشي ويغير عنوانه وبعدين نبدأ في حوار تغير النسب على الأقل ساعتها مش هيعرفوا يوصله ليه
رفع المعلم سالم حاجبه وسأله بسخرية :
هتخليه هربان من الحكومة يعني ؟؟!
يشعر بالضغط يحاصره إلى أن أصبحت أنفاسه ثقيلة، حمل يتكدس فوق صدره، روحه تسلب منه بالبطيء ولا يجد رحمة من أحد .. حدق يونس بابراهيم مردد بجمود :
مش مهم هشوف بيت في منطقة تانيه واجره ليه بس يتحبس لا
في أثناء هذا الحوار بالداخل وبالتحديد في إحدى الغرف … أغلقت صباح باب الغرفة ووقفت هي وناديه مع سالم جابر الذي عقد ذراعيه يحدج مروه بترقب وهو يعيد سؤاله للمرة الثالثة :
يا مروه متختبريش صبري طلعتي ازاي وأمته ؟؟ وازاي ويونس قابلك وهو كان معانا ؟؟؟
القلق ينهش قلبها ولا تتمكن من السيطرة على الرعب المستحوذ عليها، لم تكن دقات قلب بل طبول تدق ناقوس الخطر فالهلاك قادم لا محال، طال الانتظار ومن ثمّ همست بخشية :
هو بابا مقلش اي حاجه تخصني
صاح سالم بانفعال وهو يحرك يده بعشوائية من حالة الهياج المستولية عليه منذ اسمع بخروجها :
مقلش بس هيقول يا مروه مش معاكي لوحدك لا ده هيسفلت بوشي الأرض
أشار على نفسه يتابع بغلظة :
لأن أنا اللي كنت هنا وأنا اللي متنيل قاعد معاكم، ولما تطلعي وأنا موجود وتغفليني يبقا لازم أفهم كنتي فين وبتهببي ايه
تدخلت صباح تسألها برفق قبل أن يأتي المعلم سالم ويجعلها حطام على رؤوسهم أجمع :
اتكلمي يا مروه احكلنا يمكن نلاقي حل ونعرف نهدي ابوكي بدل ما يسود عيشتنا كلنا
ارتعشت أوصالها وهي تتذكر ما حدث معها ثم تشجعت واردفت بتوجس لم يعهده أحد من مروه قوية الشخصية، شجاعة الطبع:
الصبح جالي رسالة من رقم غريب وطلع الشاب اللي مرات عمي كلمته يركب الصور
تحفز جسد سالم وكأنه يعلم باقية الحديث الذي سيكون نهايته، بللت شفتيها بطرف لسانها واستكملت ببكاء :
قالي أن مرات عمي كلمته بليل وطلبت منه يمسح كل حاجه ويقفل الموضوع وقالي أقابله في اقرب مكان يديني الفلاشه
: وطلعتي تقابلي واحد ولا تعرفيه ولا شوفتيه لوحدك
توسعت مقلتي مروه وفزت من مكانها بارتعاب وهي تراه يقف على باب الغرفة، لا يعلموا متى فتح الباب وكيف لم يشعروا به ولكن القادم لن يكون خير بتاتًا على الكل …. لطمت ناديه على وجهها بذعر في الخفاء وهي تقف خلف صباح التي أيقنت من ملامحه الصارمة أن لا مجال للنقاش معه، نظر سالم إلى عمه بمخافة قائلاً بتوجس :
عمي والله أنا معرفش هي طلعت أمته و…
أشار إليه بالسكوت وسأل مروه بجمود :
كملي بعد ما طلعتي من هنا ايه حصل وازاي قابلتي يونس وإبراهيم؟؟
رمشت بأهدابها باضطراب وجسدها يرتعش من شدة رعبها، فتحت شفتيها تحاول خروج الأحرف وكأن لسانها أعتقل برباط من حديد، لمحت انذار الهلاك يشع من عينيه فتمتمت بنبرة مهزوزة :
كلمني ووصفلي عنوان رفضت اروح هناك وبلغته يا يجي في شارع المركز يإما هرجع.. جه واداني فلاشه وبعدين حسيت إني دايخه ومش قادره أقف على رجلي لقيته بيضحك وكان عايز يخدني
انهمر الدمع من مقلتيها بخوف شديد وهي تستكمل بضعف :
في ست كانت بتبيع خضار جات لما لقتني بدوخ ووقفت جنبي مكنتش قادره اتكلم بس هي فهمتني ومردتش تسبني ليه، فضل واقف يقنع في الست اني معاه لحد ما قدرت اعيط واقولها خاطفني، الست صوتت ولمت الناس وهو جري
رجفة ضربت جسدها وصياحها يزداد :
الست حاولت تفوقني ووصلتني للموقف زي ما قولتلها وهناك يونس شافني وجه اخدني منها وهي هربت لأنها خافت منه
قبض سالم على يده بغيظ شديد يود أن ينقض عليها ويفتك بها ولولا وجود عمه لفعلها … أخفضت مروه رأسها بانكسار وهي تعلم مدى خطأها وعواقبه الوخيمة، دام المعلم سالم يدقق في ملامحها لبرهة يمنع غضبه الذي وصل إلى أعلى ذروته من إبادتها ..
: عمي أنا والله كنت موجود هنا ومتحركتش و..
خُرس سالم وليس هناك أي شيء يحضر في ذهنه للتفوه به كي ينقذ نفسه من بطش عمه فهو المسؤول أمامه، لكن ما لم يتخيله قطعًا رد المعلم سالم وهو يقول بقسوة :
وأنا أعتب عليك ليه لما أهل بيتي مش قد الثقة اللي أنا اديتها ليهم
بجفاء تطلع إلى ناديه يسألها باستنكار :
وأنتِ كنتي فين لما بنتك اختفت من قدامك !!!
كتمت مروه بكائها وهتفت برجاء :
بابا أنا طلعت من غير حد ما ياخد باله
: أنتِ تســكتي خــالص
انتفضت بفزع من نبرته الشرسة التي لم تسمعها من قبل، ويغضب شديد واضح على تعابيره صاح باحتدام :
غبيه وغباءك كان هيضيعك، بدل ما كان صور متركبة كانت هتبقا حقيقة ووقتها والله يا مروه محد كان رحمك من ايدي
هز رأسه ببطيء مسترسل بحده :
اظاهر اني فعلا غلط في التساهل معاكم بس بسيطة كله يتصلح
رمق صباح وناديه شزرًا مزمجرًا بسخط جعل الهلع يتراقص على قلوبهم من القادم :
وانتوا التلاته حسابكم تقيل عندي لحد ما أعرف ازاي بنت تطلع من وسط بيتي وانتوا نايمين
التفت يخرج من الغرفة وهو ينادي على سالم الذي هرع خلفه :
بكره الصبح تيجي للهانم وتروحوا تشوف مكان الست دي ولو في كاميرات للمنطقة تراجعها
دار يحدق به بعينين مظلمة توحي بشر العالم كله :
الواد ده عايزه حي أو ميت
أومأ سالم بخضوع وتحرك مسرعًا يغادر المنزل، ظن أن هذا كل شئ وانتهى الأمر بمعرفة هوية الشاب، لا يدرك أنها مسألة وقت وسيواجه نتيجة تقاعسه في أمر عمه …. كلمات لاذعة سمعتها مروه من صباح وناديه وهي تستحق أكثر من ذلك ولكن نجاة اخذتها لغرفتها تبعدها عن أنظار والدها الذي ولج إلى غرفته في الطابق الأرضي ومنع دخول أي أحد مهما كان السبب …..
؛*****************
عودة لمنزل عبده في الطابق الثاني
جر سالم أقدامه لداخل شقته بعدما غادر محمود حيث زوجته وأولاده، رفض أن يتحرك خطوة واحدة إلا عندما فهم قصة يونس وكيف اختطف، وكان إحساسه محق وأكذوبة عبده بخطفه لحفظ صورتهم أمام الجميع فلن يرحموا أن ذكر اسم رحاب في الأمر …
بخطوات سريعة أشبه بركض استقبلته ندى فقد استاءت من الانتظار ووقفت تتطلع من الشرفة لحين عودته :
سالم كنت فين قلقتني ؟؟
رفع يده يملس على رأسها برفق دون أن يرد، يشعر بأنه على وشك السقوط في أي لحظة، جسده وقلبه وروحه يطلبوا الراحة، هدنة صغيرة يستوقف كل شئ عندما ويستوعب العقل ما يدور به …
ألقى بنفسه فوق الفراش وهو يخرج آه حارة من جوفه، وألف آه لا تأتي نقطة في بحر حزنه، رمق سقف الغرفة بشرود فسمع صوت ندى الحنون وهي تسأله بلطف :
احضرلك أكل ؟؟ مأكلتش من الصبح حاجه خفيفه قبل ما تنام ؟؟
دار برأسه يشير إليها بعينه بأن تقترب، ظهرت شبه بسمة على شفتيها وهي تجلس على الفراش، رفع بنفسه يعتدل ووضع رأسه على ركبتها والسكوت هنا خير من كلمات لا تحكى … دام الوضع ربع ساعة تقريباً وهي تحرك أناملها بنعومة في خصلات شعره الطويلة نسبيّا، تتأمل ملامحه الباهتة المكسوة بالاسى، وهو مغمض العينين سألها بصوت مختنق :
أمي فين ؟؟
ردت عليه بتوتر :
في الاوضة مطلعتش منها من الصبح ومردتش تاكل
هز رأسه برفق ونهض متجه حيث الغرفة المذكورة، طرق مرتين ولم يجد رد ففتح الباب يجول بنظره في السواد الدامس بتعجب، رفع يده وأضاء المصباح الكهربائي وهو ينظر لجهة الفراش بتلقائية، لكنه فزع من رؤيتها تجلس على مقعد بجواره تحدج في الفراغ وكأنها متجمدة … تنهد سالم واستغفر بهمس ثم قال بجمود :
ليه قاعده في الضلمة دي ؟؟
لم تعطيه اي ردة فعل وظلت كما هي فهتف متسائلاً بقلة حيلة :
ندى قالت أنك مردتيش تاكلي واخرتها ؟؟
ارتاب سالم من حالها وعندما شعر بأنه سيفقد أعصابه ردد قبل أن يخرج ويتركها :
لو زعلانه على سمر متزعليش لأنها ارتاحت من اللي احنا عايشين فيه
طلب من ندى أن تجهز إليه ثياب مريحة لحين خروجه من المرحاض، وهو يفكر في ردة فعل والده إذا علم بمكوث رحاب معه في الشقة، حيرة شديدة وكل خيار أسوأ من الاخر …
؛*********** بقلم حسناء محمد سويلم
” لكل منا طريقة في استقبال حزنه، أحياناً يكون البكاء أقرب وسيلة، وهناك من يكتم مشاعره في أعماق قلبه دون أن يظهر مدى حزنه، وفي بعض الأحيان تعبر ملامح الوجه عما يدور بداخل جوف الشخص، في كل هذه الحالات مع اختلاف سبب الحزن، الأصعب من تقبل المشاعر واستقبال الأمور هو عدم قدرتك على إيجاد طريقة تخرج بها تلك المشاعر المكبوتة، وكأنك مقيد بسلاسل من حديد واحساسك يجلدك بسوط الصمت، يختلج قلبك بين ضلوعك وأنت هادئ المظهر، ثابت مكانك وبداخلك أمواج بحر هائجة تزلزل كيانك ”
مع بزوغ فجر يوم جديد حل على آل سويلم، جاء من السفر بعض الأقارب الذين لم يحالفهم الوقت وجاءوا لمواساة عبده الذي لم يخرج من غرفة سمر بعد … استقبلهم جابر في منزله وطلب من زينب ونيره ومي التي لم تغادر مع ربيع ليلة أمس أن يجهزون مائدة طعام تليق بمن حضر، وما أن توسط قرص الشمس السماء ذهب سالم جابر إلى مروه وأخذها مع هند للمكان التي قابلت به الشاب…
؛؛؛؛؛؛
في منزل والد مرتضى
ارتشف مرتضى كوب الشاي وهو يتحدث مع والده عندما أنهوا فطورهم، وأثناء هذا الحديث مر خليل من أمامهم ملقي التحية فسأله مرتضى باستغراب :
أنت جيت أمته ؟؟
فرك وجهه بنعاس وهو يجلس على الأريكة بجوار تغريد :
وصلت الفجر
عبس وجه والده وهتف بانزعاج :
اللي خلاك تيجي الفجر مش هيمنعك تيجي المغرب
بضيق رد خليل :
يابا احلفلك بأيه معرفتش اطلع من الشركة، وبعدين هكون اقدر اجي ومجيش ليه!!
تابع باستنكار وهو يشير بإصبعه على رأسه :
أنا أصلا بتكلم ومش عارف أصدق اني بتكلم في دفنتها
قالت والدته بحسرة وعينيها تلمع بالدموع :
ربنا يرحمها يا بني ويعوضك خير
قال والده باقتصار وهو ينهض :
افطر وخلص نفسك وتيجي مع مرتضى الواحد كان في نص هدومه امبارح وأنت المفروض تكون أول واحد جنب عبده
هز خليل رأسه وانتظر خروجه من المنزل ثم قال بكدر :
أنا مش رايح ومش هعزي حد
شهقت والدته بصدمه واردفت بعتاب :
اخص عليك يا خليل ودي تيجي يا بني
بينما سأله مرتضى بحده طفيفة :
ومقولتش الكلمتين دول وابوك هنا ليه ؟؟
: أنا عايز اللي يواسيني ويصبرني
أشار خليل على نفسه مستكمل بسخرية :
اجيب منين طاقة اخفف على الناس وأنا مش لاقي عندي
رفع مرتضى حاجبه باستغراب فاغتاظ خليل من التعجب البادي على ملامحه، شعر وكأنه يشكك في حزنه معتقد أنه بلى إحساس :
ايه مستغرب ليه !! مش إنسان زي زيكم وعندي مشاعر
هتفت والدته بحنان :
ربنا يصبرك يا بني هنقول ايه غير ربنا يرحمها ويغفر لها
بكت تغريد بعد فشلها في كتم غصتها، وهمست بصوت متقطع:
الله يرحمها دي كانت مكلماني واتس الصبح
وقف مرتضى واتجه إليها ثم جثى على ركبته ورفع يده يمسحها دموعها مردد بحزن :
هي محتاجه دعوتك دلوقتي، كلنا زعلانين وموتها كان صدمة لكن ده ابتلاء وموعظة، قومي اغسلي وشك وادعي ليها كتير
حينها أخذ خليل هاتفه ودلف لغرفته يبدل ثيابه، ثم خرج بعد عشر دقائق تقريبًا لتخبره والدته أن مرتضى ينتظره أمام المنزل … تحركوا معا في صمت لم يقطعه إلا خليل هو يتساءل بتشوش :
هو الميت مين نعرف أنه مش مسامحنا ازاي ؟؟
ثبت مرتضى مكانه ودار بجسده ينظر إليه بريبة قائلاً بدهشة :
ومين الميت ده بقا ؟!!!!
بغى خليل توضيح مقصده ولكن انهال عليه مرتضى بالأسئلة المتهكمة:
الميت ده سمر طبعاً ؟! ومش مسمحاك ليه بقا ؟؟ وعلشان كده مش عايز تروح تعزي ابوها لأنك ظلمت بنته ؟! شوف يا خليل حكاية المدير اللي موفقش يديك إجازة امبارح مدخلش عليا بس قولت اشوف اخرك ايه ولسا مستني خد بالك !!
تزعزع قلب خليل وهو يهتف يبرئ نفسه :
مظلمتهاش والله يا مرتضى هي اللي كانت طيبه وغلبانه مش بالعقل تحسها هبله وساذجة واي حد مكاني كان هيعمل كده
عقد مرتضى بين حاجبيه يسأله مستفسرًا باستنكار :
يعمل ايه ؟؟!
: جيت على حنية قلبها ومعرفتش كده غير لما عرفت اني خلاص مش هكلمها تاني، كنت ببقا اكلمها بعصبية وضغط الشغل يطلع عليها وتعيط وتقفل وبعدها بشويه ترن عليا تاني وتكلمني زي ما يكون مفيش حاجه، لما كانت بتزهقني بقفل السكة في وشها وتاني يوم ارن عليها اقولها اي كلمتين كانت تسامح وتهزر عادي، وهي فترة مش طويله بيني وبينها بس مفهمتش مكانتها في حياتي غير لما ماتت
بصعوبة بالغة بلع لعابه وتابع بندم وعينيه تلمع بسحابة شفافه تنذر بسيول الحزن على وشك أن تنهمر :
هي كانت دايما تقول إنها وجودها زي عدمه ومش فارقه في حياة حد بس لو أقدر اعرفها أنها مش ساذجة واني غلط وأن مفيش زيها
زفر مرتضى بقلة حيلة وتمتم باستياء :
سبحان الله اللي يعرفها واللي ميعرفهاش زعل عليها، وكسرت أهلها وكلامك يأكد أننا نراعي ربنا في تعاملنا مع القريبين مننا لأن محدش ضامن عمره
ربت على كتفه يحسه على التحرك مستكملاً بلين :
مش هحملك فوق طاقتك، هي لو كانت مش عايزه تكمل معاك بطريقتك مش هتستنى زي ما قالت لمحمود مره كانت هتقوله تاني
؛*****************
يتحرك هنا وهناك وفي كل الغرف بالتوالي، يأخذ كل غرض يخصه في حقائبه ولم ينسى أن يلملم أغراض الذي يلف حوله دون كلل أو ملل:
مش هسيبك يا يونس أنت ابني
ألقى يونس الحقيبة أرضا بعد أن اغلقها مردد بضجر :
أنت متعتبش من ساعة ما رجعنا ومفيش غير الكلمتين دول على لسانك
وصلوا مع بزوغ الفجر إلى شقتهم كي يجهز يونس نقل إبراهيم لمكان آخر يصعب على الشرطة العثور عليه عندما يبدأ في إجراءات تغير اسمه .. امسكه إبراهيم من كتفه وهتف يترجاه :
أهون عليك تسبني لوحدي، مفيش اي حاجه تشفعلي عندك
” تشفعلك !! ” رددها باستهجان ومن ثمّ استرسل مستنكرًا :
وايه يشفع لواحد واخد طفل مش ابنه نسبه ليه عشان فلوس !!
كاد أن يكرر إبراهيم نفس الجملة دون جديد، فقاطع يونس تلك الأسطوانة المكررة والتي لن تحدث تغير مطلقاً :
خلاص كفايا حرام عليك، عرفت أنك اتكرمت ونسيت حوار الفلوس والورث وعاملتني زي اب وابنه
أشار على نفسه مستكمل بحرقة :
مش ذنبي أنك راعيت زرع لحد ما كبر وأنت عارف أن الحصاد مش ليك
صدح صوت طرقات قوية على الباب فنظر إبراهيم إلى يونس بخوف لا يختلف كثيرًا عن شعوره، قلق من رجوع المعلم سالم في اتفاقه وبلغ الشرطة .. وربما لم يلاحظ مرور ثلاث ساعات وهو في الشقة وهذا جعل الرجلين اللذين اتبعا يونس من القرية بناءً على أمر كبيرهم يخشيان هروب أحدهما …
: فين الشنط ؟؟
سأله أحدهما بجمود فأشار يونس على الحقائب وهو يفسح إليهما الطريق .. جال بنظره في الإرجاء بحيره وعدم فهم لنفسه، ربما لو كان رحيله من تلك الشقة قبل أن يعرف حقيقة هويته لكان الآن الوداع حار على فراق كل تفاصيل عاشها منذ صغره، لكن الآن الواقع يغير الكثير، فتلك التفاصيل أصبحت مغشوشة!! كل شئ عاشه كذبة مؤلمة إصابته بجروح غائرة في حنايا قلبه …
بقسوة لم يعهدها إبراهيم منه أبدا رآه يقف بجوار باب الشقة يقول بشراسة وعينيه تطلق سهام النفور اتجاهه :
يا تيجي معايا دلوقتي وهخليك في أمان واعتبر ده رد جميل أنك ربتني، يا همشي ولما تتمسك وتفضل في الحبس مش هتشوف وشي وساعتها مش هحس بتأنيب الضمير لأنك السبب
وهل يملك رفاهية الإختيار ؟؟ نهض يمشي بثقل يطأطأ رأسه، يتمنى أن يفيق من هذا الكابوس ويجد نفسه يعد وجبة الغذاء لحين مجئ ابنه من عمله، في جو أسري ينحصر عليهما فقط ….
؛**************
طرقة نجاة باب غرفة مكتبه وصوت ضربات قلبها أعلى من طرق الباب، شهقة مكتومة خرجت من بين شفتيها وكأنها لم تعلم بأنه سيفتح وهي من جاءت إليه !!
: مش قولت مفيش حد فيكم ينزل هنا ؟؟؟
منذ ليلة أمس وهو أمر بأنه سيمكث في الطابق الأرضي بعيدًا عن رؤيتهن كي لا يثور في وجه احداهن، إجابته نجاة بتلعثم :
الفطار جاهز من بدري و ..
قاطعها بسؤال مقتصر :
طلبت منك فطار ؟؟
هزت رأسها بالنفي فقال بجمود :
يبقا متتصرفيش من دماغك تاني
كادت أن تتفوه فنظر إليها بحده وتابع بغضب :
متحوليش تختبري صبري يا نجاة واتفضلي اطلعي شقتك
بتعثر همست بخشية من إثارة غضبه أكثر :
ناديه ضربت مروه ولما صباح أدخلت اتخنقوا سوا ومش عارفه اعمل ايه والناس بدأت تيجي تعزي وكل واحده في ناحيه
أومأ إليها مبتسماً بسمة مخيفة ونبرته المريبة جعلتها ترتعب وتندم على فكرة اللجوء إليه :
بسيطة دقيقة وطالع وأنا عارف هعمل ايه
عادت نجاة للخلف خطوة واسرعت تصعد تخبرهن بأنه سيأتي بعد دقيقة، وفي ظرف ثوان تبدل الحال ليس فقط صباح وناديه وحتى الفتيات.. جلست ناديه بجوار صباح بهدوء واجتمعن الفتيات حول مائدة الطعام مصطنعين تناول وجبة الإفطار، أصبح الوضع هادئ يسوده السكينة فقط لأجل خبر مجيئه !! ماذا أن حضر ؟؟
: الله على الهدوء والاحترام!!!
قالها ساخرًا وهو يحدق بهن بحده، لا يصدر إلا صوت أنفاسهن فتطلع إلى ناديه يسألها مستفسرًا بصرامة :
خير ؟؟ مفيش ورايا غيرك ولا ايه ؟!
لم ترد فواصل متسائلاً بحنق :
عايزه توصلي لايه وأنا انفذه ؟؟
سؤال بمغذى اخر اتضح معناه جيدًا عندما فجعت ناديه، جحظت عينيها ولأول مرة تخرج عن صمتها مردده بذهول :
هطلقني يا معلم ؟!!!!
حرك رأسه مغمغم بتهكم :
وأنا جبت سيرة طلاق ولا ده اللي أنتِ عايزاه
ومن ثمّ قال موجه حديثه للكل :
طيب علشان يبقا الكلام قدامكم كلكم واللي عندها اعتراض تسمعني
بصرامة استطرد يخبرهم قراراته والتي لن يكون بها نقاش :
كتب كتاب يونس ومروه بعد أربعين سمر وفرحهم مقتصر على كتب كتاب في المسجد بسس وتروح معاه مكان ما هو قاعد مش فارق معايا
هل شعرت يومًا أن الموت أهون عليك في موقف ما !! ربما سمعت عن كلمات أشبه بسكاكين تقطع صدرك إربا، وهذا ما وقعت به وهي تنصت إلى كلمة واحدة فقط ” مش فارق معايا ” أرادت أن تبكي وتحرر تلك الدموع المحبوسة في عينيها بندامة ولكن الخزي يلاحقها من كل مكان.
لم تكن مفاجأة القرارات تنتهي عند مروه فقط، فعندما أكمل بجفاء كأنه جاء بدلو ماء مثلج وسكبه فوق رحمه:
ومنير اتقدم لرحمه وأنا وافقت وحدت كتب كتابهم قبل ما يسافر الكويت في شغله الجديد والفرح لما يثبت نفسه في الشركة وياخد أول إجازة بإذن الله
تطلعت رحمه حولها بصدمه ثم دارت برأسها تهمس بسؤالا ساذج لخيريه الجالسة بجانبها :
رحمه مين ؟!!!!!
وكزتها خيريه بقوة في قدمها تعيد وعيها، وأي وعي في هذا القرار!!
حديث كثير واعتراض أكثر يترصد في حلق رحمه التي تستوعب من هو منير من الأساس ؟!!
: حد عنده اعتراض ؟؟
نظرات تحذير كلها مصوبة باتجاه رحمه، الخوف يتراقص على قلبها من الإقبال على مواجهة ستكون خاسرة بها لا محال، لا الوقت لصالحها، ولا مزاج والدها يسمح بذلك، بالأصح لا تملك الجرأة على الوقوف في وجهه وترفض قراره وهي واخوتها استنفذوا كل رصيد الصبر لديه، في كل مرة تقترف احداهن خطأ لا يغتفر ولا يصدر إلا من شخص بلا عقل، والدليل إقدام مروه على مقابلة شاب حقير ابتزها لا تعلم عن هويته اي شيء كاد أن ينهي حياتها بأبشع طريقة تمر على قناة …
انتظر لحظات وكأنه يعطيهم فرصة للرد كي لا يكون متحيز لجهته، وفي الحقيقة هو لن يغير قراره ولكن يعتبره وضع روتيني لا قيمة له خاصةً وهو في قمة غضبه كالان …
؛**************
: أما عايز اتكلم معاكي
بعدت عينيها عن شاشة التلفاز وسألته بخشية :
مش برتاح للدخله دي بيبقا جاي وراها مصيبه صح ؟؟
ضيق منير بين حاجبيه بعبوس وسألها بملل :
إنما لو عمر هن الجالك تسمعيه وبدل الساعة ساعتين صح ؟؟
هزت رأسها تؤكد إليه :
صح، أصل الواد عمر ده بيفكرني بيك موكوس دايما
تنهد منير باستياء وصاح بتبرم :
اسمعيني بقا بدل ما توكس بجد
: قول يا خويا
أخذ نفس عميق وأخرج كلمات غير مرتبه بسرعة قبل أن ينسى ويلقي في وجهها صاعقة كهربائية :
أنا روحت للمعلم سالم أول امبارح وطلبت ايد رحمه وعرفته اني اتقبلت في شركة الكويت وهو وافق وحددلي كتب الكتاب ومعرفتش اقولك لأنك طول النهار امبارح في العزا بتاع بنت أخوه
دقيقة، دقيقتين، صمت أصابها دون أن يرمش إليها جفن، وعلى حين غرة وقفت تصرخ بهلع وتستغيث برعب وهي تحرك ذراعيها بحركة سوقية :
يالهــوي الحقوني يا ناس .. الحــقوني يا عالم
فز منير بفزع يصيح بعدم فهم :
يلحقوا ايه ياما هتفضحينا
سفقت بيدها وهدرت بتهكم :
يلحقوني منك هتموتني مجلوطة بأحلام اليقظة بتاعتك يا خويا
صرخ منير بسأم والانزعاج جلي عليه :
أحلام ايه ياما بدل ما تفرحلي إني هتجوز حب حياتك
تطلعت إليه بجدية ثم سأله بشك :
وله أنت بتتكلم بجد ولا بتشتغلني باحلامك
: أحلام ايه بقا ما خلاص بقت حقيقة، أنا كنت زيك كده مش مصدق نفسي ازاي اتجرأت وروحت لحد عنده اطلب أيدها بس وحياتك ياما معرفتش امسك نفسي قدامه وقومت أسجد شكر لربنا أن دعوتي استجابت ورحمه هتكون من نصيبي
ترمق السعادة تتطاير فوق تعابيره وهو يسرد إليها أسعد لحظات في حياته البائسة، كفراشات تحوم فوق حوض الزهور في أيام الربيع الزاهية … بريبة سألته بعدم اقتناع :
رحمه بنت المعلم سالم ؟؟ اللي أنت شغال عنده شيال ؟؟
لم يعجبه وصفها ولكنه هز رأسه بتأكيد، فقالت بامتعاض وعدم تصديق:
وبنت المعلم وافقت بيك !! وقفوا بشيال رد سجون ازاي!!
بهتت ملامح منير غير مستوعب أن والدته هي من تصفه، أردف يمازحها متفهم قدر الصدمة عليها :
ايه ياما لما أنتِ تقولي كده الغريب يقول ايه
أشارت إليه تهتف باحتقار رآه منير في أعين الكثير :
يقولوا الحقيقة يا بني هو فين تعلى عن الحاجب!!
رفع حاجبيه باستغراب مغمغم بفتور :
مش مصدق أن دي ردة فعلك ده أنتِ أول واحده كنتي بتشجعيني
: اشجعك على تعليم، على شغل، حرفة، مش تطلع السما وأنت مبتعرفش تطير يا منير
واكملت بأسلوب فظ لابد منه ليفيق على حقيقته الصغيرة قبال حجم ماسة عالية المكانة :
هتتعب نفسك وتتعبها واحنا مش قد العيلة دي ولا عمرنا هنكون نقطة جنبهم، ولا عايزني اسقفلك واقف اتفرج عليك وأنت بتقع على جدور رقبتك
ضغط منير على يده وهتف بكبرياء :
لا ياما اقفي واتفرجي عليا وأنا بطلع أول سلمه علشان هوصل قريب
تركها وغادر كي لا يتأخر على موعده مع تبديل الورديه، يدرك الصدمة ولكن لم يتخيل أن يسمع هذا الحديث قط .. فرحته بقبوله في إحدى شركات بدولة الكويت لم تضاهي علامة ضئيلة بسعادته الغامرة عندما قرر طلب رحمه للزواج واستمع لموافقة المعلم سالم، وحتى إن لم يعلم رأي رحمه بعد لكنه على دراية تامة بأنها إذا أدركت حبها الكبير الساكن بين ضلوعه ستوافق، فقد كانت أمنيه يدعو بها كل سجدة، كل خطوة في مستقبلة لأجل أن يكون رجل يستحق الفوز بها، نعم فهي مكاسبه في هذه الحياة!!!
؛****************
بعد صلاة الظهر
منشغلة في تجهيز خلطة طبيعية كقناع وجه لإحدى العرائس، وبغتةً فُتح باب صالون التجميل بدون سابق إنذار .. حدقت ساره بتلك الواقفة وهيئتها غريبة عن المنطقة :
اي يا حلوة هتبحلقي كتير ؟؟
: أنتِ ساره ؟؟؟
تركت ساره ما بيدها واعتدلت تسألها باهتمام :
على حسب جايه في خير ولا شر ؟؟
: عايزه اتكلم معاكي شويه لو فاضيه
أشارت ساره على العروس وبعض الزبائن المنتظرين دورهم :
زي ما أنتِ شايفه ولا ايه
: أنا ليلى مرات عز أخو سيف
تشنج جسد ساره عند ذكر اسم هؤلاء الأشرار، أخذت الحجاب المعلق ووضعته بإهمال على شعرها … أخذت ليلى من يدها وخرجوا سويا أمام الصالون وساره تسألها بسخرية :
جتتي بتتلبش لما اسمع اسمكم
ابتسمت ليلى بسمة صغيرة على جانب فمها وسألها باستهزاء :
اومال هتنجوزي سيف ازاي ؟!!
ضيقت ساره عينيها بعدم ارتياح للسخرية التابعة لسؤالها :
وأنتِ مالك إذا كنت هتجوزه ولا لا
تبادلوا النظرات بصمت قتلته ليلى وهو تردف بلامبالاة:
الطريق لهنا مكنش صعب زي ما كنت متخيلة ولا أنتِ طلعتي زي ما كنت متخيلة
انكمشت تعابير ساره باستغراب ثم سألتها بفضول :
وكنتي متخيلة ايه بقا أن شاء الله ؟؟ بقولك ايه انا واحدة ورايا مشاغل مش فاضية للت والعجن ما تيجي من الآخر ؟؟
: سمعت سيف بيقول لـ عمر أنه عايز يتجوزك وأنتِ رافضة
استكملت ليلى ببرود :
خليكي على موقفك وياريت متحوليش تغيري رأيك اصل المشرحة مش ناقصة قتله
ضحكت ساره بصخب وردت عليها بميوعة :
ما تقولي يا حبيبتي أن عينك منه، خلصتي على أخوه وأهو ضل راجل ولا ضل حيطه
انزعجت ليلى من وقاحة تفكيرها وعنفتها بجهامة :
أنتِ مجنونة عيني من مين !! أنا الغلطانه إني جيت لوحده زيك أنصحها من البيت المشؤوم ده
استرسلت بنبرة محتدمة :
سيف مين اللي يتجوز وهو مش لاقي ياكل أصلا ومحتاس بعيال أخوه، ولا التاني متعلق بواحده لو نفخت بس أخوها هيدفنه حي ده غير أمه اللي ولا حد فاهم هي ميته ولا عايشه
لوت جانب فمها متشدقه وهي تحدج بها من أعلى إلى أسفل:
وأنتِ بقا فاعل الخير اللي فيهم
تغاضت ليلى عن استهزاء نظرتها وقالت بجفاء :
أنا واحدة بتتعالج من جريمة قتل لا ومش قتل اي حد ده جوزي وأبو بنتي
وضعت ساره يدها على خصرها مردفه بزهو ساخر :
ومالك بتقوليها بكل فخر كده، هو كان كابس على نفسك اوي فقولتي تموتيه وترتاحي
: ومين قالك أنه مات ؟؟؟
استقامت ساره بفزع وسألتها بتعجب وخوف :
ايه يا وليه الهبل ده !! مش قتلتيه يبقا مات ؟!
تلك المرة كانت صاحبة الضحكة ليلى التي اكتفت بذلك والتفت تغادر وعينين ساره تتابعها بذهول طاغي ..
: يا مجانين يا ولاد المجانين
قالتها بتذمر وولجت للداخل متوعدة إلى سيف فقد نسى من هي ساره، فما دخلها بهذا الهراء وإن اعتبرته حديث جاد سوف تسمح لنفسها بالرعب من عودة شبح قاتل !!
؛****************
رفض عبده أن يأكل وظل في غرفة سمر منذ أمس، لكن عندما استمع لصوت ابنه خرج يسأله بجمود بدون مقدمات :
أمك فين ؟؟؟؟
تطلع سالم إلى ندى وسحر وسميه التي عادت في الصباح الباكر، واجابه باقتصار :
فوق في شقتي
برزت عروق وجهه وهو يهدر بغضب شديد:
ماشي تطلع تمشيها فأي داهية وده بس علشان خاطر سمر وقسمً بالله لولا أنها طلبت مني اسامحها لكنت رميها في الحبس الباقي من عمرها
حبس سالم أنفاسه وتمتم بامتعاض :
مش وقته يابا ..
قاطعه بصرامة وانفعال :
مش هتقعد دقيقة واحده في بيتي وعلى ذمتي
بقلة حيلة ويأس رمق سالم سعد الجالس بانكسار وضعف :
قوم نادي لعمك سالم
: نادي لعمك سالم وجابر وهات البلد كلها وطلع جدك من تربته، رحــاب مش هتستنى لحظة واحدة
رددها عبده وهو يجلس على المقعد بعنف، وما هي إلا دقائق وولج جابر مسرعًا متسائلاً بقلق :
في ايه ؟؟ مالك يا عبده ؟؟!
دخل بعده المعلم سالم وبجواره سعد، فقال سالم عبده بنفاذ صبر :
أبويا مصمم أطلع امشي أمي اعملها ازاي دلوقتي وهوديها فين
حدج المعلم سالم أخيه وسأله باهتمام :
ولما انت هتعمل كده انهارده ليه قولت امبارح في العزا أن إبراهيم خطف يونس وطلعتها بره كلامك ؟؟!
نظر عبده إلى سعد تارة وسالم تارة مردد بحده :
عشانهم وعشان بنتي الوصتني اسامحها
أومأ إليه بتفهم ومن سأله بضيق شديد :
ولما تمشيها دلوقتي وطلقها تاني يوم يبقا اسمه ايه، ارحمنا وارحم نفسك يا عبده
بحرقة تلتهبه بنيران الحيرة والعجز صاح عبده وعينيه مكسوة بالحمرة :
وأنا مين يرحمني وبلساني قولت أن يونس طلب ايد مروه يعني دلوقتي ولا بعدين بقت على اسمه وانا عارف ان أخوه رايدها
عقب جابر بشراسة يعترض على ما ينوي عليه وبداية تدهور في علاقة الإخوة على وشك البدا :
لا يا عبده كلنا عارفين ومحمود متأكد أن مروه عمرها ما كانت ليه ولا هتكون، ولو اتكلمنا في الحق لو مكنش ده حصل بنتنا مكنتش هتخلص من اللت في سيرتها وهي ملهاش ذنب أن رحاب شيطان وسطنا
أنهى المعلم سالم جدال نهايته خسارة كبيرة إليهم فنظر إلى ابن أخيه مردفًا بجمود :
خليها فوق لحد العزا ما يخلص وتخلي عينك في وسط راسك
خرج من الباب فوجد صبري في طريقة إليهم أو يصطنع ذلك ربما!! اقتضبت ملامح المعلم سالم وهو يتخطاه دون أن يوجه إليه حديث، فتنحنح صبري بصوت مرتفع خرج على أثره جابر :
انتوا بتعملوا ايه جوه والناس بره مستنيه تعزيكم ؟؟
هز جابر رأسه واجابه بوجوم :
ما أنت موجود يا صبري وعلى العموم جايين وراك
خبيث لا يأتمن على سر من يتوق لسماع كل خبر سواء يخصه أو لا يعنيه، تطفل في صغيرة وكبيرة لأجل حصوله على أكبر حصيلة من المعلومات عن هذا وذاك، كإذاعة راديو أو محطة أخبار متنقلة فقط لكونه شخص ذو دراية بحياة الجميع، دائماً مشغول بمن حوله وهذا نوع بسيط من أشخاص تعيش معانا … صبري لا يشغله شيء في حياته قدر معرفة كل جديد خاص بال سويلم، في سباق مع نفسه للحاق بالزمن معهم، من تزوج ومن أنجب، تجارة رابحة واسم له سيط كبير في السوق، اشترى منزل وهذا باع أرض، لا يكف ولا يمل من غرس عينيه في حياة كلا منهم على حدى …
؛****************
في بهو منزل المعلم سالم
على الجهة اليسرى حيث طاولة خشبية اجتمع عليها أزواج بناته منتظرين مجئ محمود وسالم وسعد ليكونوا معهم في العزاء ويدخلوا سويا … يركز موسى في شاشة هاتفه يتابع أخر رحلات سياحيه خرجت من مكتبه عن بُعد، وبجواره يعقوب يتحدث مع مرتضى الذي ترك خليل يعزي عبده وجاء يتفقد مها وتفاجئ باجتماعهم، قبالة لهم سفيان وعامر الذي تثاءب بتعب وصوته ارتفع رغم عنه …
نظروا إليه جميعاً في آن واحد فتطلع إليهم بتعجب منه نفسه ثم ردد بغيظ من نظراتهم:
ايه محدش بيتواب فيكم ولا ايه
: أنت كده بتتواب !! دا أنت هتشفطني من جنبك
ضحكوا على مزاح سفيان وعامر حدجه شزرًا، في نفس الوقت ولج يونس بوجه عابس واقترب منهم يسحب معقد يجلس عليه في صمت، ترك إبراهيم عند أحد أصدقائه لحين وجود شقة تناسبه يتكفل بها وبعلاجه وتكون بالقرب منه ليتفقده من حين لآخر وعاد بالإجبار بناءً على أمر عمه وهذا اللقب جديد كلياً عليه ولكن عليه الاعتياد بسرعة..
وعلى بعد قليل تسمر من دخل بخفوت يحدق بهم بتوتر، أين هو بجانبهم ؟؟ كيف يجلس معهم وكل واحد مكانته أعظم من الآخر!!
صاحبة شركة رحلات سياحيه، والابن الأكبر لمالك محاجر المنطقة هذا الوقور المهيب، واليد اليسرى للمعلم سالم المسؤول عن مصانعه وعائلته من كبراء القرية، والمحامي الذي ورث أراض بمساحة شاسعة ووالده كان شيخ جليل، وصاحب مصنع ولديه محلات توزيع في كل الجمهورية، والأخير هذا حتى وإن اكتشفوا نسبه للعائلة مؤخرًا فهو أصبح ابنهم ويتمتع بكل صلاحية لديهم، إذا ما هو ؟؟؟
: منير !! تعالى واقف كده ليه ؟؟
فاق منير من شروده من المقارنة الذليل إليه، وتقدم بخطى مضطربة وكأنه يمشي على شوك .. رحب به مرتضى وسأله باهتمام :
نسيت المفتاح المخزن ولا ايه ؟؟
يعتقد مجيئه لأجل المصنع يا له من احمق وماذا سيأتي به معهم، هز رأسه بالنفي فتعجب مرتضى من حالته فسأله بتفحص :
مالك ؟!! في حاجه حصلت في المخزن ؟؟
حرك رأسه بالنفي مرة أخرى وهو يخفض رأسه لا يملك الشجاعة الكافية ليخبره أنه جاء مثله، فما يحق إليهم أصبح يحق له، اكتفى بالبحث عن مقعد بعيد بعض الشيء عنهم وذهب يجلس عليه باحترام ينتظر مجيء من طلب منه الحضور …
ابتعد بعينه عنهم وهو يجاهد نفسه في طرد تلك الأفكار من رأسه، إذا قارن المكانة خاسر إما الهيئة فيأخذ لقب اكبر خاسر في العالم، وهنا لا يقارن بشكل ملامحه بل في الجسد، هو قصير بالنسبة إليهم ضئيل الجحم، وزنه يتناسب مع طوله ومن يراه معهم يعقد أنه ابن أحد منهم، خطف نظرة سريعة يتفحصهم ثم تأمل نفسه بقهر ..
ظهر المعلم سالم فوقفوا احترام إليه، ألقى التحية فردوا بأدب وظلوا واقفين لأنه لم يجلس، حدق المعلم سالم بمنير الجالس بعيد وقال بحده :
أنت قاعد بعيد ليه ؟! تعالى هنا
اسرع في خطاه ووقف في منتصف يعقوب ومرتضى، جبلين وهو في وسطهم، تطلع المعلم سالم إلى موسى وهتف باقتضاب :
بعد أربعين سمر هيكون كتب كتاب يونس ومروه اعمل حسابك يومها هند هتروح معاك
تهللت أسرار موسى وبلغت سعادته عنان السماء، فتابع المعلم يسأل يونس :
من دلوقتي ليومها هتكون خلصت ورقك ؟؟
هز الآخر رأسه بفتور متمتم بهدوء :
أن شاء الله
: فرحكم هيقتصر على كتب الكتاب في المسجد
فهم يونس عدم وجود فترة بعد عقد القران وهو في الأساس لا يملك حق الاعتراض… انتظر سفيان دوره بحماس شديد لكن خاب أمله والحديث يوجه إلى منير الخجول :
هتسافر أمته
بصوت منخفض رد بحرج :
شهرين
: يبقا كتب كتابك مع يونس والفرح أول إجازة هتنزل مصر فيها
تساءل مرتضى بدهشة طاغية :
كتب كتابه على مين ؟؟
لم تكون إجابة بل زلزال ضرب بهم :
رحمه
انكمش منير على نفسه وهو يرى نظراتهم المصدومة تلاحقه كسهام تحطم ما تبقى من كرامته :
لو محدش عنده اعتراض تقدروا تروحوا العزا
صمتهم الرد فأعطاهم إشارة بالتحرك، تقدم وسار وهم خلفه والدهشة تصاحبهم بعدم تصديق واستيعاب … في الأعلى كانوا يقفون في الشرفة خفاءً، ورحمه منهارة لا يكفيها البكاء دمًا :
اشمعنا أنا اتجوز ده، بقا أنا اكون مرات الجربوع المعفن ده
زجرتها هند بعنف وهي تهزها برفق :
عيب يا رحمه اتأدبي في كلامك
صاحت بانفعال والدموع تتسابق على وجنتيها بقهر :
أنا مغصوبة اتجوز عيل شغال عندنا، كلب ميسواش وأنتِ تقوليلي عيب، أنا لا يمكن أوافق لو هقتل نفسي مش هكون مرات الشحات ده
تطلعوا إلى بعضهن بقلة حيلة فقالت مها بحنو :
اهدي بس كده وافتكري أن بابا قال بعد أربعين سمر يعني الفترة دي كفيلة تهدي بابا ونعرف نتكلم معاه
أضافت خيريه بتأييد :
وبابا عمره ما غصب واحده فينا على حاجه
تركتهم حسناء وهي تقول بفتور وحزن :
أنا رايحه أكمل قراءة قرآن لسمر لو حد عايز يجي ونختم لها سوا
اتبعتها أمل وخيريه وظلت هند ومها مع رحمه يهدئوا من روعها وقلقها المميت، بينما تلك الصامتة تجلس في مكانها منذ الصباح لا تتحدث ولا يصدر منها إلا صوت شهقات خافتة من بكائها كلما تذكرت ما حدث، أمر لن يمر مرور الكرام وترك أثر كبير في نفسها جعل النوم يفر من عينيها والهواجس تطاردها في يقظتها !!!
لكن أربعين يوم فقط ستكون فاصل بين ماضي وحاضر مجهول ؟؟!
أربعين يومًا ؟؟؟
؛************

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بنت المعلم الجزء الثاني)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى