روايات

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم حسناء محمد

موقع كتابك في سطور

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الثالث والخمسون 53 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الجزء الثالث والخمسون

رواية بنت المعلم الجزء الثاني البارت الثالث والخمسون

رواية بنت المعلم
رواية بنت المعلم

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الحلقة الثالثة والخمسون

“طول ما أنتم ايد واحدة هتفضلوا سند وعزوة ما الجبل عمره ما يهزه ريح، حوط على اخواتك يا سالم أنت كبيرهم وأنا عارف ان راسك توزن بلد وقدها، هتلاقي كلاب عايزه تنهش فيكم والقريب هيبقا غريب لو الفلوس دخلتم وسطيكم، وخاليك دايما عارف إن الفلوس بتغير النفوس”
تذكر أخر كلمات الحاج عثمان إليه وهو يجلس يتكأ على عصاه ينظر إلى غرفة العمليات بترقب … وعبده جلس بعد أن خارت قواه ولم تتحمل قداماه الوقوف، منذ ساعة وربع وهم ينتظرون خروج الأطباء من غرفة العمليات، وضع سمر حرج للغاية ولا أحد يطمئنهم، والقلق يتضلع بقلوبهم ..
يمكث سعد بالقرب من باب الغرفة وعينيه الباكيه على تؤامه معلقة باهتمام لسماع خبر يطمئنه على حالة أخته، وسالم عبده يقف عاقد ذراعيه يستند على الحائط شارد الذهن في مشهد خروجه من النافذة على صوت يونس وهو يصرخ مستغيث … أخته تفترش الأرض غارقة في دمائها بشكل مفجع لا يقدر على نسيانه، وفي آخر الممر يمشي يونس عائد مع سالم جابر بعد أن أخذه للمرحاض يغسل يده الملطخة بالدماء… يتحرك جسد فقط يرفض عقله تقبل ما مر عليه منذ ساعة ونصف بالتحديد، فتح عينيه متخيل أن صوت الارتطام القوي هو من هلوسة عقله الذي دفعه للنعاس في البهو هربًا من صدمة الواقع، والكارثة أنه استيقظ على منظر مروع ومفزع، ترك أثر كبير على نفسه، حفر ندبة في قلبه واخر شئ يتذكره بعدما استصرخ بعلو صوته، هي نظراتها إليه وعينيها تلمع بالدموع والدماء تجري من تحتها ..
دماء من تكون بمثابة أخته!!
أو من اكتشف أنها أخته بالفعل في الصباح ؟!!
؛**************
انتفض يعقوب من نومه وفز واقفاً يسير بخطوات سريعة لخارج غرفته، وجد والده يسبقه لجهة الباب يتمتم بقلق :
استر يا رب
الساعه الثانية صباحًا فمن يأتي في هذا الوقت إلا وصحبته مصيبه !!
: سميه !!
رددها عزيز وهو يحدق بابنته بدهشة التي ارتمت في أحضانه تبكي بشهيق، اقتربت حسنيه بعدما كانت تقف بعيدًا فلم تتخيل أن ابنتها هي الطارق البته … امسك يعقوب سميه وسألها بعدم فهم :
ايه جابك دلوقتي ؟؟ بتعيطي ليه ؟؟
أضاف عزيز متسائلاً مستفسرًا:
اتخانقتي أنتِ وسعد وطردك ؟؟
من بين نحيبها جاوبتهم بخوف :
سمر وقعت من البلكونه والاسعاف خدتها
تذكرت ما رأته هي الأخرى عندما وقفت تجاور سعد تخفف عنه منتظرين الإسعاف :
كانت غرقانه في دمها ومش بتتنفس
جحظت عينين عزيز بصدمه ثم حوقل بحزن مرددًا بعدم تصديق:
لا حول ولا قوة الا بالله، أمته يا بنتي وهما فين دلوقتي
: هي في العمليات بس لما تطلع هيخدوها مستشفى في اسكندريه تقبل حالتها لأنها خطيرة
عقد يعقوب بين حاجبيه باستغراب وسألها مستفهمًا :
ازاي تطلعي لوحدك دلوقتي ؟؟ وازاي سمر وقعت من البلكونه أصلا ؟؟
خرج صوتها مهزوز وهي تردف بتعثر :
معرفش كلنا صحينا على صوت يونس وبعدين نزلنا وسالم كلم الإسعاف لأنهم خافوا لو حركوها تتأذي وأنا خوفت اقعد لوحدي في البيت
شعر يعقوب بالريبة من حديثها فما جاء بيونس بالتحديد الليلة وهو يمكث في منزل المعلم سالم فترة زيارته !! وإذا كانت صدفة ليس طبيعي أن تسقط سمر من الشرفة وفي الأساس هي تعيش في طابق أرضي إلا إذا صعدت لغرض ما ؟؟ .. هز رأسه وملس على شعرها مردد برفق :
متخفيش ادخلي وأنا هكلم حد أشوفهم فين وأروحلهم
عقب عزيز بعجلة متجه لغرفته :
هدخل ألبس وكلم مراتك أفهم منها هما فين
تردد في البداية من الإتصال بها كي لا يقلقها معتقد أنها نائمة، ولكنه لم يجد رد من سالم جابر على مكالمته ولا حتى مرتضى، فاتصل بها وما هي ثوان وردت بصوت مختنق هامس :
يعقوب
خفق قلبه مردد بهيام فقد أجزم أنه لم يعلم حلاوة اسمه إلا من بين شفتيها :
قلبه والله يا حسناء
ومن ثمّ أخرج تنهيده حارة من صدره وسألها باهتمام:
سميه لسا جايه ومش فاهم منها حاجه تعرفي هما في انهي مستشفى ؟؟!
جاوبته بنبرة مرتعشة :
هما في مستشفى الخاصة في المركز وهتطلع على مستشفى في اسكندريه بس مش عارفه اسمها
رقيقة هي لا تتحمل تلك الأحداث، ود لو أن باستطاعته الذهاب إليها وأخذها في عناق طويل …
: أنت لسا واقف مكانك
نظر يعقوب إلى والده بتعجب من سرعته في تبديل ثيابه بل وأخذ حزم نقود من خزنته بعد !!! أغلق المكالمة مع حسناء وأسرع في ارتداء ثيابه ثم خرج وتحرك مع عزيز للمشفى الخاص القابع في المركز التابع له قريتهم والذي يبعد ما يقارب خمسة عشرون دقيقة…
؛************
ضجة وبلبلة كبيرة أمام المشفى بعد أن حاول المسؤولين منع ذلك الحشد من الدخول، الأقارب والجيران والمعارف تفشى الخبر بسرعة عجيبة غير متوقعة، يتسابقون في تجهيز المساعدات وكلا بطريقته ومقدرته، وهذا برهان واضح صريح لمكانة ومحبة آل سويلم بين الجميع.
خرج الطبيب وهو ينزع قناعه الطبي، انتفض الجميع وركض عبده يسأله بخوف شديد :
سمر عامله ايه ؟؟ هي كويسه ؟!!
أومأ الطبيب برسمية وهتف بأسف :
احنا عملنا اللي نقدر نلحقها بيه بس لازم تتحرك حالا لمستشفى تقبل حالتها
قطب المعلم سالم جبينه باستفهام وسأله باستغراب:
يعني ايه تقبل حالتها ؟!!
: الوقعة كانت شديدة على دماغها وتسببت لنزيف في المخ واحتمال يكون في كسر في الجمجمة، عربية الإسعاف بتجهز ولازم تتحركوا حالا
لم يتمهل المعلم سالم ونظر إلى صباح الواقفة بعيد بعض الشئ يأمرها بصرامة :
خدي الحريم معاكي سالم هيرجعكم البيت
ثم تابع وهو ينقل نظره إلى سالم جابر :
رجعهم وخد معاك يونس
: أنا جايه معاكم مش هسيب بنتي
عم الصمت دقيقة والأعين كلها تعلقت على رحاب الواقفة بجمود، لم ينتبه أحد لوجودها وعكس كل التوقعات قال المعلم سالم مشيرًا إلى سعد وسالم عبده :
اركبي العربيه مع عيالك
بضعف وانهزام تحرك عبده مع جابر متجهين إلى السيارات للاستعداد للحاق بعربة الإسعاف عندما تخرج … وهم يسيرون اقترب جابر من المعلم سالم واردف باقتضاب :
كانت رجعت البيت مع الحريم بدل عبده ما يقتلها وهو شايفها
رد عليه بسخرية لاذعة :
لو عبده قتلها هنعرف نبعده عنها إنما لما نرجع ونلاقيها ولعت في ٣ بيوت باللي فيهم مظنش هيكون مناسب لينا يا جابر
ما إن خرجوا من باب المشفى وجدوا صوت صافرة سيارة الإسعاف تضوي في المكان استعداد لإفساح الطريق لخروجها، ود الحشد أن يواسي آل سويلم لكن الوقت غير مناسب فبدأوا بتفهم توتر الأجواء وابتعدوا من أمام طريقهم …. اختلج قلب عبده وهو يرى سيارة الإسعاف تخرج بأقصى سرعة فأشار إلى ابنه بأن يسرع هو الآخر خلفها وهو يجاوره وبالخلف المعلم سالم وجابر، واتبعهم سيارة معتصم وصبري، ثم سيارة يعقوب وعزيز، وأخيرًا مرتضى ووالده ..
؛**************
صدح أصوات آذان الفجر في منابر المساجد وسالم يقف بالسيارة قبالة البوابة، هبطت صباح وسحر وندى ولم يبقى غيره ويونس الساكن :
أنزل ارتاح دلوقتي وخلي بالك من الجماعه لحد ما ارجع وأنا هروح المركز تاني أشوف حد يغير على الجرح لاني نسيت وأحنا هناك
تطلع إلى يده ثم قال بخفوت :
تعالى مكاني وأنا أسوق ونروح سوا
اعترض سالم مردد بوهن :
مش هينفع نسيب الحريم كلنا أنزل أنت وأنا مش هتأخر
هبط يونس ودار للجهة الأخرى ثم فتح الباب الخاص بسالم متمتم باقتصار :
أنا شوفتك وأنت مش عارف تسوق وعلى النهار ما يطلع هنكون رجعنا
استسلم سالم إليه وذهب للمقعد الثاني فبالإضافة إلى صعوبة قدرته على القيادة، يشعر بألم شديد يزداد في جرحه وعلى الأرجح هناك خطأ ما اقترفه الطبيب الذي عالجه …. ولجت صباح للمنزل وبعد أسئلة كثيرة ومتكررة للاطمئنان على صحة سمر طلبت منهم التحلي بالصبر وعدم الإتصال بوالدهن لأن الوضع لا يتحمل ضغط فالجميع بحالة هلع.
؛**********
: محمود
همهم بنعاس فعادت تناديه بهدوء، تململ في الفراش ثم رد عليها بصوت مبحوح أثر نومه، فقالت بارتباك :
اصحى كده عايزه اقولك حاجه
فتح عينيه بثقل ونظر إليها متعجب نبرتها ومن ثمّ سألها باهتمام :
فيه ايه ؟؟ العيال فين ؟!
: نايمين إحنا لسا بعد الفجر
استند على مرفقيه متسائلاً بقلق :
ما تقولي يا مياده في ايه على طول وايه مصحيكي دلوقتي ؟؟ تعبانه ؟!!
سألها بشك وأخر شئ يتذكره قبل أن يخلد للنوم، سهرة عائلية نادرة حدوثها بالنسبة لهم وكانت بصحة جيدة … هزت مياده رأسها بالنفي وتمتمت بحزن :
من شويه سهير جارتنا في البلد رنت عليا وقالت إن سمر وقعت من البلكونه والاسعاف خدتها..
لم تكمل جملتها ألا وهو ينتفض من الفراش يقف متصلب مردد بصدمه :
سمر أختي!! سمر وقعت من البلكونه!!
عاد يسألها بخوف وحيره :
أمته ؟؟ وهي فين ؟!
: متعرفش هي كلمتني علشان عارفه أننا مسافرين نغير جو وبتقول أن الساعه ٢ بليل لقوا في صويت والناس ملمومه
ركض محمود يبدل ثيابه وهو يمسك هاتفه يتصل بأحد اخويه عل أحدهم يجيبه، فقالت مياده باضطراب :
أنت هتروح لوحدك استنى اصحي العيال ونيجي معاك
: مش هينفع أنا معرفش هما فين، خليكي وأنا لما اوصلهم هكلمك
فركت في يديها بتوتر واردفت بخوف شديد حتى كادت أن تبكي :
بس أنا خايفه
نظر إليها بحيره ثم هتف وهو يعطيها مبلغ كبير من النقود :
متخفيش اقفلي الباب عليكم ومعاكي الفلوس لو احتجتوا حاجه أنتِي في عمارة كلها سكان
قالها وركض للخارج وهي تحدق به بقلق، تلك المرة لم تكذب في إظهار الخوف والقلق مثلما كانت تتقن في الأيام السابقة لجعله يشعر بالمسؤولية اتجاهها … ذهبت للنافذة تراه يتحدث في الهاتف وهو يصعد للسيارة وقادها بسرعه، تنهدت بضيق مشفقة لحياة سمر التي لم تنعم بالاستقرار والسكينة في حياتها ..
؛؛؛؛؛؛؛؛
الساعة التاسعة صباحًا
خمس ساعات وهم جالسين بلا جدوى، يأكلهم القلق والتوتر والطاقم الطبي يتبادلون الخروج والدخول في غرفة العمليات .. ينتظرون عدة ساعات تمر كما أخبرهم الطبيب المسؤول فإن مروا بسلام دون مضاعفات حينها سيكون هناك أمل في تخطي مرحلة الخطر،
شعور مقيت وأنت تجلس تنظر لدقائق معدودة تفصل بينك وبين حياة شخص عزيز عليك… وماذا إن كان هذا الشخص قطعة من روحك !!
عجز يقيدك وأنت حر طليق لا تستطع إغاثته من المخاطر، تتمعن في الهلاك وهو يزحف ببطيء ولا يمكنك نجدته !!
والوقت كفيل بقتلك رويداً…
: يــارب
قالها عبده بانكسار وضعف ثم رددها مرة أخرى ولكن بصوت مرتفع :
يـــارب
كلمة تخلوا من بعدها المواساة، أغلقت جميع الأبواب في وجهه إلا بابه، وقف وتركهم يبحث عن المسجد الموجود بالمشفى .. توضأ وصلى بخشوع وعندما سجد تبخر تصنعه بالتمسك وبكى، هبطت دمعه وقلبه ينزف دمع الندم … وكأن العالم سكن من حوله وطال في السجود يبكي داعياً الله بأن يحفظ أبنته ويغفر له تقصيره في معاملتها، داعى الله بأن يلهمه الصبر ويخفف عنه حزن الفراق، ظل إلى أن شعر بالتعب يستحوذ عليه ثم أكمل صلاته ووقف مستعد للخروج…
ما إن التفت وجده يجلس خلفه بهدوء يحدق به، تماسك عبده واقترب منه مردد بفتور :
الدكتور طلع من عندما
هز المعلم سالم رأسه بالنفي ومن ثمّ غمغم بخشوع :
بسم الله الرحمن الرحيم ” وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ ”
أنا بفكرك وبفكر نفسي في اللي احنا فيه
لمعت عينين عبده متمتم بانهزام :
وإنا إليه راجعون، اللهم آجرني في مصيبتي
واستكمل بحسرة :
يارتني سمعتك وأنت بتقول بلاش غشوميه يا عبده، بنتي رمت نفسها وهتموت بين أيدي
ردعه المعلم سالم بحده :
بدل كلامك ده ادعلها وبلاش توهم نفسك
هتف عبده بخفوت وهو يتذكر حديث سمر ورجائها ليترك رحاب :
يارب ظني يخيب
تحركا الاثنين لكن توقف عبده قبالة رحاب الجالسة بهدوء لا يصدر منه حرف واحد، تحفز جسده للانقضاض عليها وخنقها بيده، ود أن يراها تلفظ أنفاسها الأخيرة وتختفي من الحياة ….
: امشي يا عبده
نقل نظره إلى أخيه وسار معه بعيدًا يجلس على المعقد يجاهد نفسه في الانصياع لرغبته ولكنه متأكد أن تلك المرة لن يفقد سمر فقط…
؛************
أمسكت الهاتف كي تعاود الاتصال به فهي تقف حائرة لا تفهم ما قالته زوجة مؤمن منذ قليل، إسعاف وابنة عمها متى وكيف ؟!!
كادت أن تخرج عينيها من مكانها وهي تشاهده ظهر على الطريق يعتلي حمار، توسعت عينيها بعدم تصديق وتدلى فمها وعادت للخلف خطوة عندما قفز من أعلى الحمار قائلاً بتعجب :
مالك مخضوضه كده ليه ؟؟!
نظرت إليه دون أن ترد فعقد جبينه باستفهام وبعد أن استوعبت هدرت باستخفاف :
هو أنا هستنى ايه من واحد بتاع بهايم اكيد مش هيدخل عليا بالمرسيدس
فهم ربيع أنها تسخر من الحمار فأشار إليه مردفًا بفخر :
اللي مش عجبك ده جبني من أخر البلد في دقيقتين ده أسرع من الطيارة
واستطرد بكدر :
ولا أنا غلطان لما لقيت الواد فوزي ماشي بيه واستلفته منه لما كلمتيني
رمقته شزرًا مردفه باستياء :
تصرفاتك دي هتجلطني بس هي مسألة وقت، مرات أخوك بتقولي سمر معرفش مالها وإسعاف وحاجات كده غريبه
لوى جانب فمه مردفًا بملل :
انتوا الستات ولا اجدعها إذاعة راديو، مردتش اصحيكي من النوم لما عرفت
شهقت مي تسأله بخوف :
يعني صح !! ايه الحصل وازاي متعرفنيش ؟؟
: بنت عمك وقعت من البلكونه وراحوا بيها على مستشفى في اسكندريه وشوية كده هطلع أنا وابويا على هناك
تأملته وهو يتحسس الحمار برفق ورغم صدمتها مما حدث بمنزلهم لن تتمكن من مشاهدته أفعاله المستفزة، صاحت بضيق :
أنت بتعمل ايه متبقاش مستفز ومعندكش دم
اقتضبت تعابير وجه ربيع وعنفها بغلظة :
صوتك عالي واحترمي نفسك
ثم غمز إليها مستكملة بتهكم :
قولي أنك غيرانه وبعدين ده حيوان لازم يحس بالحنية
: مش هضيع وقتي أنا رايحه عندنا
دفعها برفق مردد بسخرية :
ادخلي يا مي مفيش مرواح دلوقتي ولا لازم كلكم تتلموا وتندبوا
عقدت ذراعيها تنظر إليه بحده معترضة على رفضه، فنظر للحمار وقال بخبث :
تيجي تخدي لفة
ضربت الأرض بغيظ وذهبت تبرطم من بروده، بينما ضحك هو ورحل يعيد الحمار لصاحبه كي لا يتأخر على موعده للسفر مع والده للمشفى..
؛***************
يستند برأسه على المعقد مغمض العينين، والتعب يغزو جسده ليست يده فقط … تفاجأ بطلب الطبيب لأشعة لشكه في قطع أحد أوردة يده ولم يعالج بطريقة صحيحة، وبالفعل خضع إلى جراحة أشبه بعملية أخذت وقت ليصل إلى الوريد.
وقف يونس بالسيارة أمام المنزل وانتظره حتى يهبط ثم يصف السيارة ويعود لمنزل المعلم سالم، يبدل ثيابه ويأخذ قسط من الراحة وحينها يقرر السفر للإسكندرية أم يبقى منتظر مع سالم ….
ما إن استمعت لصوت الباب يفتح ركضت للخارج بلهفة واهتمام، زفرت براحة أنه هو وهرعت إليه متسائلة بخوف :
كنت فين قلقتني عليك ؟؟ حد كلمك من المستشفى
رمى بنفسه فوق الأريكة وأخرج من جيبه بعض أقراص العلاج، فمالت نيره تلتقطهم تتفحصهم باستغراب ثم تطلعت إلى يده :
أنت فكيت ايدك وعملتها تاني ؟؟! مكنتش كده
: أنا جعان
على عجلة دلفت للمطبخ تجهز له طعام ومن حين لآخر تذهب تتفقد الصغير النائم في غرفة مجاورة إليهم، وضعت كوب ماء على الصينية وحملتها متجه إليه … تسمرت محلها وهي تمر أمام مرآة في الطرقة، ترتدي بجامة ستان ساترة بعض الشئ وخصلاتها على هيئة كعكة، من سذاجتها ولهفتها للاطمئنان عليه لم تنتبه لوضعهما الجديد، وضعت الصينية ودخلت تبحث عن حجاب تحكمه فوق شعرها وبعد أن تقدم الطعام تصعد وترتدي عباءة …
زحزحت طاولة صغيرة بالقرب من الأريكة المدد عليها، ففتح عينيه واعتدل بتكاسل، أخذ منها كوب الماء يبلغ قرص مخدر فلاحظ أنها ذهبت وفتحت باب الشقة على مصراعيه وتهندم الحجاب فوق راسها، لم يبدر اي سؤال لكن نظراته جعلتها تقول بعفوية :
مينفعش نكون لوحدنا في مكان واحد، ناسي أنك طلقتني
ومن ثمّ استرسلت وتخفي الحزن من عينيها :
ولولا الظروف أنا كنت مشيت
رد عليها بهدوء وهو يفكر في شئ ما :
فيكي الخير، بس برده متنسيش أنك في العده
انكمش بين حاجبيها بدهشة وصاحت باستنكار :
عده !! يعني أنت مردتنيش لذمتك
رفع عينيه يرمقها بتفحص دون أن يرد، رأى الدموع تنهمر من عينيها وخيبة الامل تترصد في وجهها، ظنت أنه ندم على تسرعه في غضبه وسيعود عنه ويرجعها لعصمته … اختفت من أمامه ولجت للغرفة النائم فيها ابنها وأغلقت الباب بحده، قررت أنها لن تضعف وسوف تخرجه من حياتها مثلما فعل وتخلى عنها، لكن تلك القرارات البلهاء تتوارى عند رؤيته، قطمت على شفتيها بقهر فقد رأى دموعها ولم يقوم بأي فعل يدل على اهتمامه لامرها ….
والآخر يجلس يبلع اللقيمات بمشقة وكأنه يمضغ حجر، عقله مشغول بما يجب الإقدام عليه وهو وحده، يود أن يلحق بهم في المشفى لكن سيترك النساء بمفردهن، ولا يتمكن من المكوث هنا وترك أعمامه وابنة عمه فالانتظار أبشع من وقوع الكارثة …
؛**************
في بهو منزل المعلم سالم
وضع عامر الهاتف في جيبه وهو يقف يستقبل خيريه، ألقت التحية بحياء ومدت يدها تصافحه فقال بترقب :
في ايه سمعت صوت عالي جنبك وأنا بكلمك ؟؟!
جلست على المعقد الخشبي الذي يتوسط الحديقة مع الطاولة وعدة مقاعد أخرى :
دي ندى مش عارفين نهديها خالص ومش مبطله عياط
لمعت عينيها بالعبرات تضيف بأسى :
مش قادره تنسى منظر سمر والدم حواليها
ربت على كفها برفق وتمتم بحنو :
أن شاء الله هتقوم بالسلامة
ابتسمت إليه فسألها مستفسرًا :
في حد معاكم هنا غير ندى ؟؟
: آه طنط سحر وعمتو زينب وعمتو دولت وبنتها ومرات ابنها وكام واحده من قرايبنا
هز رأسه بتفهم وتابع بحنان :
ماشي حبيبتي أنا قاعد هنا لو احتاجتوا حاجه لحد ما اشوف يونس وسالم هيروحوا اسكندريه ولا لا
التفت الاثنين على صوت البوابة الحديدية تفتح وموسى يدخل ملقي التحية بصوت مرتفع ويخفض بصره، رد عامر التحية عليه ونظر إلى خيريه مردفًا بصرامة :
ادخلي دلوقتي وزي ما قولتلك أنا قاعد لو عايزين حاجه
تعجبت خيريه من اقتضاب ملامحه وهتفت بتلقائية :
ماشي هسلم على موسى وادخل
رماها بنظرة جعلتها تنسحب بدهشة، كأنه سيخرج نيران تحرقها وهي واقفة أمامه !! لكنها وقفت على بعد قليل من موسى قبل أن ينحرف لليسار حيث جلسة عامر هتفت ببسمة صغيره :
حمد لله على السلامه يا موسى
بادلها البسمة مردد باحترام :
شكرًا يا خيريه، وربنا يشفي بنت عمك وتقوم بالسلامة
: هبلغ ماما وهند أنك موجود
أكمل موسى طريقه للآخر العابس بوجهه وهو يهتف بحنق :
مش ملاحظ أنك كل ما تكلمني تبلغني بمصيبة
لوى عامر جانب فمه مغمغم بضجر :
متبقاش ترد عليا يا سيدي وابقا خليك في بيتك زي الأطرش في الزفة وأنا غلطان اني عايز اطلعك جينتل قدامهم
وكزه موسى في ركبته قائلا بعنجهية :
ولد أنا كده كده جينتل
ضحك عامر واضاف بمراوغة :
جنتل مخيف بصراحه
استقام يعدل من ثيابه مسترسل بحيره :
قوم معايا نشوف يونس هيسافر ولا هستنيى ولا نعمل احنا ايه
عقد موسى جبينه وهتف بكدر :
اسلم على مراتي طيب
: مش وقته يا روميو
رفع موسى حاجبيه مستنكرًا وهو يردد بتهكم :
ده حلال ليك بقا وحرام لغيرك
ابتسم إليه بخبث وسبقه للطريق المؤدي لجهة الثانية من المنزل حيث طابق الضيوف … أصبح البهو هادئ بالقدر الكافي للاختفاء دون أن يراك أحدهم !!
؛************
عودة للمشفى
ذهب مرتضى ويعقوب إلى مطعم قريب من موقعهم يأتون بواجبات بعددهم، باعتبار أن آذان الظهر لم يبقى عليه إلا عشر دقائق .. ودون معتصم اسم العلاج الخاص بخاله جابر كما قاله وهبط يبحث عن الصيدلية الموجودة بالطابق السفلي للمشفى …
: فين والد المريضة ؟؟!
فز عبده مردد بلهفة :
أنا، أنا ابوها
أشار على الممرضة مردفًا بعجلة :
المريضة فاقت وعايزه تكلمك اتفضل مع الممرضة تجهزك للعناية
ابتسم عبده بسعادة ولحق الممرضة وهو يشكر الله على عافية ابنته، لكن المعلم سالم شعر بشيء اخر مريب، انتابه الحزن والضيق فطلب من الطبيب التحدث دقائق :
خير يا دكتور نقول إن سمر حالتها استقرت
حرك الطبيب رأسه ينفي ذلك الأمل وهتف بأسف :
للأسف لا، ومنقدرش نقول غير ده قضاء الله وقدره واتمنى حضرتك تكون متفهم أننا علمنا كل في ايدينا ومقصرناش
أغمض عينيه بألم يستحوذ قلبه لواقع يعيشه ربما بعد ساعة أو يوم،
” صحوة الموت” ما تعيشه سمر ما هي إلا سكرات الموت …
جلس على المعقد يحوقل بخفوت لا يتمكن من السيطرة على زمام الأمور والتحكم في مشاعره ليساند عبده ويواسي نفسه قبل أخوه، حتى الكلمات هربت من عقله الراجح واعتقل لسانه الفصيح فلم يجد خير قول إلا ذكر الله يربط على قلبه …
أما بالداخل ولج عبده بخطى سريعة يقترب من الفراش، أجهزة كثيرة حولها وقناع الأوكسيجين يخفي معالمها … استمع إلى صافرة جهاز مراقبة نبضات القلب وتمعن الشاش الطبي يحيط رأسها واجزاء من جسدها :
ســمــر
فتحت عينيها تهمس بلهفة :
بابا
ربت على يدها برفق مردد بحنان :
متخفيش أنا هنا جنبك، هتقومي وتبقي كويسه بإذن الله
رفعت يدها تبعد قناع الوجه وهي تسأله بخوف :
ايه حصل لماما، هي فين
انكمش بين حاجبي عبده بحيره بين تقرير الطبيب لخطورة حالتها وما تراه عينيه :
هي بره واعمامك وأخواتك كلهم بره مستنين يطمنوا عليكي
واضاف بحزن يشطر قلبه خوفًا:
وقعتي ازاي؟؟ كدبي ظني أنك أنتِ اللي رميتي نفسك
ابتسمت بسمة واسعة مردده بنبرتها الطبيعية :
كنت زهقانه ومخنوقه وطلعت على السطح أشم شويه هوا لقيت نفسي بدوخ ومش قادره أقف، بسند على السور ايدي فلتت ومحستش بحاجة بعد كده
اجهش في بكاء مرير وأدرك أن الفراق قد حان، تضحك بسعادة ووجهها مشرق كشمس ساطعة قبل حلول عاصفة رعدية … همس من بين بكائه بانكسار :
سامحيني يا بنتي .. سامحيني
: مسمحاك يا بابا بس متزعلش مني وسامح ماما
زاد وتيرة صياحه بقهر وهو يحرك رأسه يمينًا ويسارًا لا يصدق نفسه، مال على يدها يقبلها بقوة وهو يهمس بكلمات آسف واعتذار، دموع حارقة لا يكفيها انهار من إطفاء نيران الندم والحسرة، ولو باستطاعته يبكي دمً لفعل ولكن هل يعود الماضي ؟!!
وما فائدة الندم بعد فوات الأوان ؟!!
جاءت الممرضة تخبره بأن وجوده لفترة أطول يعرضها للخطر، انسحب بهدوء وهو يقبل جبينها وأخر ما قدمته إليه بسمة جميلة قسمت قلبه نصفين بخنجر مسموم… فتح الباب وخرج يهتف بتماسك :
قالت إنها كانت بتشم هويه على السطح وداخت وهي بتسند على الجدار ايدها فلتت
ربت جابر على كتفه مردفًا بحنو :
الحمدلله اديك اطمنت، اقعد بقا ارتاح شويه
: البقاء لله
قالها الطبيب بأسف بعد أن خرج من غرفة العناية، انفجر سعد في البكاء بعلو صوته والقى نفسه في أحضان سالم الذي أغمض عينيه يمنع نفسه من الانهيار .. بينما حوقل المعلم سالم وقال بحزن :
لا نقول إلا ما يرضي الله، إنا لله وانا إليه راجعون
جلس جابر على المعقد فقد شعر بأن الأرض تدور تحته، في نفس الوقت وصل محمود وهرع إليهم متسائلاً بعدم تصديق:
البقاء لله في مين ؟؟ مين المات !!
امسكه مرتضى مردد بأسى :
شد حيلك يا محمود ده قدر ومكتوب
كل هذا وعبده يقف متجمد مكانه وما استمع إليه جعل العالم يخلو من حوله ومن ثمّ صاح وهو يشيح بيده وحرقة نبرته تحكي الكثير والكثير عن مرارة ما يشعر به :
بنتي دفعت التمن يا عــالم .. بنتي ماتت ودفعت التمن يا نــاس
أشار على نفسه مسترسل بألم شديد :
اتحاسب لوحدي ليه يا سمر، أشيل كل ده لوحدي ليه يا ناس
اقترب عزيز منه وهتف بحزن :
مش كده يا عبده قول إنا لله وانا إليه راجعون
: بنتي ماتت
رددها وكأنه مغيب عن الوعي ظل يرددها مرارًا وعزيز يساعده على الجلوس، طلب والد مرتضى من يعقوب بأن يتصل على سالم جابر يخبره بالفاجعة ويبدأ بالتجهيز مراسم الدفن … … تلك الجالسة في صمت مخيف لا يرمش إليها جفن، تنظر للفراغ أمامها ولا يتضح عليها أي ردة فعل، من يراها يعتقد أن من صدمة الخبر لا تتمكن من تقبله، لكن هل من أقدم على التخلي عن ابنه تملك مشاعر الأمومة ؟؟
؛************ بقلم حسناء محمد سويلم
حزن خيم على القرية بأكملها، خبر وفاة ابنة آل سويلم يصدح في مكبرات المساجد وإعلان حضورها لازال مجهول إلى الآن … تغيرت الأحوال في ساعات معدودة، ارتدوا النساء العباءات السوداء وحجاب مماثل، حزن، بكاء، كآبة، مشاعر كثيرة لفقد شابة صغيرة في مقتبل العمر ..
تلقى سالم جابر من عمه بأن يستقبل العمال ويشرف عليهم وهم يجهزوا الصوان ..
ويونس وعامر وموسى يتبادلون الأدوار في الاتمام معه، فجأةً اختفى يونس عن الحشد وانحسب خلسة يبتعد قدر الإمكان عن الصوان وحالة الهرج المصاحبة…. ما هي إلا ربع ساعة وقد هبط من سيارة أجرة في موقف السيارات القريب من القرية، جال بنظره يبحث عنه في الإرجاء إلى أن شعر بيد وضعت على كتفه من الخلف، التفت يونس بملامح مقتضبة وشعور النفور استمكن منه :
ايه يا يونس مش بترد عليا بقالك يومين
ظل ينظر إليه بثبات وهدوء فسأله إبراهيم بتعجب :
مالك يا بني ؟؟ وليه رفضت إني اجي البلد لما عرفت اني جاي وقبلتني هنا !!
سكون يخفي صراع يهز كيانه المتصنع بالهدوء، صمت لجأ إليه بعد أن هربت كل الأحرف من جوفه، لا يجد ما يتفوه به يصف إحساس واحد من مشاعره المتضاربة، وبهدوء لا يتماشى مع ما سيخرج من شفتيه قال يونس ببرود :
معلش لازم ارجع البلد دلوقتي لأن دفنت أختي كمان ساعة
” أختك!! ” رددها ابراهيم باستنكار شديد فضحك يونس هتف يهز رأسه :
آه اختي اللي لسا عارف إني أخوها امبارح
رمقه ابراهيم بأعين متسعة وبدت أنفاسه متسارعة غير منتظمة، وبنبرة مهزوزة تمتم بتلعثم :
يعني قعدت معاهم يومين بقا عيال خالك اخواتك خلاص
ابتسم يونس بعدم تصديق، يتماسك في كذبه لا يأبى الاعتراف حتى بعد أن سمع بنفسه منه .. وجهه أصفر يتصبب عرقًا وعينيه زائغة، يزدرد لعابه بتوتر ويده تمسح حبات العرق باضطراب، يحدجه بتفحص متلهف لرؤية ما يسر قلبه ويكذب عقله :
أنت ساكت ليه ؟؟!
نظر يونس حوله واجابه باقتصار وهو لا يرغب في تفاقم الأمر بينهما إلى طريق لا يتمنى أبدا أن يكون النهاية :
امشي يا بابا من هنا ومترجعش ولا تحاول تتواصل معايا تاني
قطع حديثه وهو يعي أنه نعته بوالده !! نداه بوالده ويطلب منه الرحيل وعدم التواصل معه في جملة واحدة ؟؟ بلع يونس غصته وتابع بسخرية تخفي انكساره :
مش عارف اقولك بابا ولا ايه بس على الأقل هفضل فاكر ليك تربيتك ليا حتى لو أنت مش أبويا
انتفض ابراهيم يقطع الخطوات الفاصلة بينهما يمسكه من معصمه يهزه بقوة :
أنا أبوك متسمعش كلامهم دول عايزينك تبعد عني، أنت ابني يا يونس
: ورحاب برده عايزاني أبعد عنك، وتحليل الدي إن أى برده كدب
كمن أخذه على هاوية جبل ودفعه من فوقه يتدحرج بين حطام الخداع وكذبة دامت أكثر من خمسة وعشرون عام … وثق في صمت الزمان وما هو إلا هدوء قبل للعاصفة، ركب في سفينة العمر تغوص به بين أمواج الحياة إلى أن حلت عاصفة وأتت الرياح بما لا تشتهي السفن، هو محق في البداية كانت الخطة لأجل المال لكن بعد ذلك أصبح هو كل حياته، ولكن هل يستطيع إثبات أنه لم يراه إلا ابنه منذ أن كرس عمره لأجل تربيته ؟!!
: يونس أنت ابني وهتفضل ابني، أنت شوفت مني اي حاجه وحشه في حياتك، طيب بلاش أنا معاملتي معاك كانت وحشه، أنا اللي ربيتك وكنت عايش علشانك لا عبده ولا رحاب يعرفوا عنك حاجه، أنت ابني أنا ومحدش يقدر يقول غير كده
شعر يونس أنه يفقد اتزانه وحركته بدت غير طبيعية وخاصة عندما تابع بحرقه وانفعال :
أنا قافل من زمان عن العيلة دي وبعدك عنهم لأنك ابني أنا، فاهم يعني ايه ابني، لا عايز فلوس ولا عايز اراضي سبت كل حاجه علشانك ورحاب هي اللي بعتك
أوشك على الجنون من صراحة كل منهما في إنكار خطأه والقاء كل المسؤولية على الآخر … وهو يقف يحدج إبراهيم لفت نظره على بُعد قليل فتاة تشبه إحدى بنات خاله تعاونها سيدة غريبة على السير، دون أن يحيل بعينيه عنهما قال لابراهيم بعجلة :
ارجع يا ابراهيم ومتجيش البلد تاني لأنهم لو مسكوك هتتحبس
تركه وركض باتجاه الفتاة والسيدة بسرعة، ظل إبراهيم مكانه لا يستوعب عقله ما يمر به الآن بالتحديد .. هل خسر ابنه ؟!!
أهذا عقابه بعد تلك السنوات ؟؟
يعيش الفراق والوحدة بعد أن رباه وأصبح رجل !!
على الجهة الأخرى لهث يونس متسائلاً بقلق بالغ وهو يقف أمام مروه وتلك السيدة :
أنتِ مين ؟؟ ومروه مالها دايخه ؟!!
نظرت إليه السيدة بشك وهو يتفقد مروه بفزع ومن ثمّ انتشلها من يدها بعنف يصيح بغضب :
أنتِ عملتي فيها ايه
رفعت السيدة يدها في الهواء مردفه بخوف :
معملتش يا خويا ده أنا نجتها من شاب الله لا يسامحه رش عليها حاجه دوختها وكان عايز يخطفها
حاوط خصر مروه بذراعه ورفع يده الأخرى يربت على وجنتها برفق وهو يناديها بقلق وعدم فهم :
مروه أنتِ سمعاني
لم يجد منها رد غير أنها تحرك رأسها بعشوائية وتهمس بكلمات غير مفهومة، حدج يونس السيدة بشر وزمجر بوعيد :
عارفه لو أنتِ السبب هيحصل فيكي ايه
: يا خويا وحياة عيالي أنا مسكتها من ايد العيل ده ولما شافني هصوت ولم عليها الناس طلع يجري واسألها لما تفوق
اجتمع بعض المارة والسائقين حولهم وأحدهم قدم زجاجة عطر صغيرة حركها يونس أمام أنف مروه ورفض قطعًا أن يساعده أحدهم في مساندتها للوقوف … وفي أثناء ذلك اختفت السيدة من الوجود وكأنها لم تكن من الأساس، التفت يونس حوله يبحث عنها في حين أن مروه بدأت تستعيد وعيها رويدًا :
أنتِ كويسه ؟!!
وضعت يدها على رأسها تهمس بلا وعي :
دماغي مش قادره
قال أحد الواقفين :
تقريباً ده من المخدر احمدي ربنا أنه مخدكيش
أضاف الأخر وهو يأخذ زجاجة العطر :
احنا هنا في الموقف بنشوف العجب الناس اتهبلت على الفلوس
ظل يونس يرمق مروه بعدم فهم ثم جثى على ركبته حيالها متسائلاً بحيره :
مين الشاب ده ؟؟! وأنتِ ازاي وأمته طلعتي من البيت ؟!!
ربت سائق على كتفه مردد ينصحه :
احمد ربنا يا صاحبي أنك لحقتها وبعدين خلي المدام تاخد بالها بعد كده
ضغط يونس على فكه بغيظ وشعور قلة الحيلة يقيده بشعور مقيت، أخذ نفس عميق لا يدري ما ينتظره مع تلك العائلة وحياته تبدلت في ساعات … سكب ماء في راحة يده ومسح وجه مروه برفق كمحاولة لتستعيد وعيها ويفهم منها ما حدث، لكن من يقف على بعد خطوات قليلة يحدق بهم بأعين تطلق شرارات ملتهبة، فقد محمود السيطرة على انفعاله وانطلق يجهم عليهما يصيح بغضب شديد :
أنت بتعمل ايه يا ***
انفلت لجام لسانه وسبه بلفظ بذئ وهو يمسكه من تلابيب قميصه بعنف، فتحت مروه عينيها بصعوبة وهي على وشك البكاء، كل دقيقة بمصيبة أكبر وأضخم وكأنها مغناطيس يجذبهم … وقفت تترنح بينهم قبل أن يجتمع حشد من الناس وهم في الأساس بمكان يضج بالمارة :
أبعد عنه يا محمود هتلم علينا الناس
رمقها محمود شزرًا وشملها بنظرات تتفحصها مردفًا بسخط :
أنتِ تسكتي خالص ايه يا محترمه نسيتي أنك في وسط الموقف والناس بتتفرج عليكي
وكزته في كتفه بقوة مردده بانفعال ولوم :
وهو لما شايفني دايخه وبيفوقني أبقا مش محترمه، روح يا شيخ منك لله
دفع يونس يده بقوة وهتف بتهكم واستهجان لتصرفاته :
أنت بتعمل ايه بجد ؟!! يعني فيك حيل ودماغ للمشاكل واختك ميته!!
صرخت مروه بفزع ووضعت يدها على ثغرها تهمس بصدمه :
سمر !! سمر ماتت
كان في طريقه للقرية يلحق بباقي العائلة للقرية عن طريق المواصلات، لا يريد رؤية أحد ولا الاحتكاك بهم بشكل عام .. لا يصدق بأن سمر ماتت كي يستقبل عقله مشاعر الحزن والفقدان، يتعامل بطبيعية ومن يراه يعتقد أنه يملك قلب متحجر قاسً لا يتضح عليه أي إحساس لأخته، لكن خلف ذلك الوجه المقتضب يتقطع ألمًا لا يمكن وصفه ولأول مرة يشعر به في حياته …
: امشي معايا
قالها محمود وهو يمسك مروه من مرفقها يجرها عنوة، فرفع يونس يده يقبض على معصمه المحاصر لذراع مروه مزمجرًا من بين أسنانه:
لما تبقا واقفه مع طرطور اسحبها وامشي إنما هي معايا وهترجع معايا
بعينين باكية هتفت مروه بصوت مختنق :
أنا هروح لوحدي مش عايزه حد
انكمش بين حاجبي يونس معترض على انصياعها لأمر محمود :
اقعدي أنتِ لسا دايخه
عقد محمود ذراعيه أمام صدره ووقف محله لم يتحرك خطوة واحدة يخبره أنه لن يرحل بدونها ولو ماتت العائلة بأكملها ليس أخته فقط… أمسكت مروه حقيبتها وطلبت من يونس بأن يرحلوا الثلاثة للقرية، ليس وقت تيبس عقلهما والعناد لن ينتهي مع تؤام لم يكتشف أحدهما بحقيقة أخيه الجديدة …
؛؛؛؛؛
وصلوا للقرية وشوارعها فارغة، كل المحلات مغلقة، جميع الرجال من صغيرهم لكبيرهم ذهب للمسجد الذي سيشيع به الجنازة، قرآن يهز مكبر المسجد والصفوف امتلأت بشكل مهيب، وفي أوائل الصفوف وضع النعش ” تابوت خشبي ينقل فيه جثمان الميت للمقابر” بجهة القبلة ومن كان في الصف الأول إلا رجال العائلة…. من بينهم عبده الجالس ينظر للنعش بثبات وعينيه تراقبه بلهفة، هادئ جدًا لدرجة الريبة، ملامحه جامدة صارمة، لا يبدر منه غير أنفاسه المنتظمة..
اثنين وعشرون عام يمرون كشريط يجره الزمن قبالة عينيه، منذ أن لمس كفها الصغير بين يديه واستنشق رائحة البراءة وهو يكبر في أذنها بعد أن خرجت للدنيا وحملها بين ذراعيه، ابنته الوحيدة على الصبية، الركن الوردي في حياته الرمادية، عليه الآن الاعتراف بأنها كانت تلون أيامه رغم الصراع الأسري الذي يعيشه، وما هذا إلا ثرثرة فارغه بعد فوات الأوان!!
أول خطوة تخطوها وهي تستند على ذراعه، إلى أول يوم لها في المدرسة وهو يأخذها ليشتري إليها الحلوى احتفالاً باعتمادها على نفسها، صباح يوم عيد الفطر عندما ركضت إليه بسعادة وهو عائد من صلاة العيد تلتف حول نفسها وهي تضحك بفرحة بفستانها الأزرق، وعندما بكت لصراخه على أخيها في بعض الأحيان، نظراتها المتوسلة في كل مرة يتشاجر مع رحاب، رجائها ليلة أمس ومحاولتها لتهدئة الأوضاع بينهم …. وهل يعود الزمن !!!
يرجع بساعات فقط يعانقها ويخبئها بين ضلوعه، يخبرها بمدى ندمه على فظاظة طبعه معها، أغمض عينيه بقوة والانهيار يزحف على اوتاره، يشعر بأنه سيصاب بالجنون وهو يفكر في ابنته بصيغة الماضي وهي أمس كانت أمامه ؟!!
: صلاة الجنازة
قالها الإمام في مكبر الصوت فنهض الجمع الغفير يصطفون استعداد للصلاة، عدد كبير لم يكفيه المسجد فوضع الجيران سجادات في الشارع وبعض منهم فرش الأرضية بسجاد منزله، سيارات كثيرة ومتعددة الشكل والثمن مصفوفة في الطريق المؤدي للمسجد، وآخرين لم يلحقوا بصلاة الجنازة فانتظروا تشيع الجثمان بالقرب من طريق المقابر الخاصة بالعائلة …
انتهت الصلاة واقترب سالم ومحمود يحملن النعش من الأمام ومن ثمّ لحق سعد بهما وهو يبكي بشهيق، كان سالم جابر سيكون مقابل سعد لكنه وجد يونس ينظر إليه بتودد فابتعد وافسح إليه المجال .. إخوتها الأربعة يحملن نعشها متجهين لدفن جثمانها، وأخيرًا استطاعت سمر أن تجمع شمل العائلة، جمعتهم بقلوب شطرها الحزن على رحيلها للأبد، غادرت بعيد عن شرور نفس الإنسان، حيث لا مؤامرات ولا خبث ولا كذب … عاشت في حرب وخصام وفشلت مرارًا في التعايش مع واقع أجبرت عليه، وها هي المعركة تنتهي الآن …
وقفوا الرجال من أول المقابر إلى آخر طريق القرية من كثرة عددهم، حشد كبير من غني وفقير، عجوز وشاب … أتم الشيخ دفن الجثمان ووقف يدعو لها بخشوع والجميع يردد خلفه في قول واحد يجلجل بصداه القوي :
آمـــيـــــــــــن
في نفس الوقت انتهوا العمال من نصب الصوان الضخم لبدأ العزاء، كرسي مذهب فاخر في أول الصوان مخصص للقارئ المخضرم الذي سيفتتح العزاء بآيات قرآنية بصوته العذب … وعلى كلا الجهتين مقاعد مبطنة بقماش أسود وبين كل مقعدين طاولة صغيرة عليها زجاجة مياه وعلبة مناديل، وكالمعتاد بعد أن يقدموا الحضور يأتي بالعمال بصواني القهوة والشاي ضيافة إليهم …
فقد سعد توازنه وهو يودع قبر أخته فأسرع الشباب بمساعدته على الوقوف، ثم سانده عامر ومرتضى ورحلوا باتجاه المنزل بدلا من طريق العزاء فهو في حالة لن تسمح بحضوره … وسالم عبده يمشي بجوار أبيه وعينيه مكسوة باللون الأحمر، يضغط على فكه بقوة لتمسكه بالثبات والصمت إلى الآن، سمر لم تكن أخته بل كانت ابنته، شعر بمرارة فقدان صغيرته المدللة وهو كالمغيب لا يدري متى وأين حدث كل هذا !! .. لا يملك سوى الدعاء بالصبر وأن ينزل الله على قلبه الهدوء والسكينة فلا يخيفه إلا أن يضعف أمام هذا الابتلاء الصعب ..
وقف المعلم سالم أولا في الصف يستقبل العزاء والمواساة من الحضور ثم اتبعه جابر وعبده، ومن بعدهم صبري ووالد مرتضى وبعض الأقارب .. في وسط أجواء الحزن والأسى جاء كقطر سريع يهشم ما يقابله، رفض إبراهيم أن يخضع لحديث يونس بل وساقته جرأته أن يأتي إلى وكرهم غير مبالي بالخطر الذي سيقع عليه وسره أصبح على العلن، يتشبث بحق أخذه عنوة ونسبه إليه ووصف مثل شعبي يتوافق معه فها هو يكذب وصدق الكذبة !!!
فزع يونس وانتصب واقفًا وهو يراه يقترب من الصوان، أسرع في خطاه وذهب إليه مردد بهمس :
أنا قولتلك امشي ومتجيش هنا
ازاحه إبراهيم من طريقه وأكمل سيره بهدوء يتجه يصافح المعلم سالم مردفًا بجمود :
البقية في حياتك
حدج المعلم سالم يده الممدودة إليه ثم رفع عينيه يرمقه بقتامة :
البقاء لله وحده
جز يونس على أسنانه بغضب شديد، لن يستطيع منع نفسه من الخوف والقلق عليه من ردة فعل آل سويلم، فلن يمحي حياته معه في لحظات ولن يقدر على ذلك … بصوت مرتفع هتف إبراهيم بعدما سحب يده وكرامته المهدرة، ورفض المعلم سالم واضح لوجوده وحتى مصافحته رفضها :
بنتك عايزه ايه من ابني يا معلم سالم
جحظت مقلتي يونس بذعر وعدم تصديق، هرع يمسكه من يده يسحبه بعيدًا عن الصوان واعين الحاضرين :
امشي يا بابا معايا
نفض ابراهيم كف يونس وصاح بنبرة مرتفعة غاضبة :
امشي معاك ليه مش لما خالك يرد عليا، أنا شايفك بعينا وأنت واخدها في حضنك في وسط الموقف وهي اللي خلتك رجعت وسبتني هناك
علت الهمسات ونظرات الاستغراب والاستنكار تلتف هنا وهناك، توقف الشيخ عن قراءة آيات القرآن الكريم ونهض من مكانه متجه إليهم بتعجب لِما يحدث في مكان ليس مناسب ولا وقت ملائم!!!
ضيق يونس عينيه بعدم فهم، انكمشت تعابير وجهه وهو لا يصدق أنه يريد كسب نقطة لصالحه أمام الجميع قبل أن يكشف … انتفض جابر وردد بانفعال :
أنت ليك عين تتكلم وتيجي لحد هنا بعد اللي عملته
: يا جماعه انتوا في عزاء وميصحش أبدا الكلام ده
تطلع يونس إلى إبراهيم برجاء لكنه صمم على إفساد ما تبقى لمكانته في قلبه وسأل الشيخ بتهكم :
وهو أنا غلط يا شيخ لما اعوز مصلحة ابني، أنا بس بسأله ايه اللي أنا شوفته مع بنت خاله
قال يونس بحنق وهو يشيح بيده بانزعاج :
شوفت ايه وغلط ايه اللي بتتكلم عليه!! مروه داخت من زعلها لما عرفت بموت سمر اسيبها في نص الشارع وامشي
لم يكن المعلم سالم يعلم هوية ابنته التي خرجت من الأساس، يتابع ما يدور بصمت وهدوء يبشر بعاصفة ستحمي كل ما في طريقها … لم يكتفي إبراهيم فأراد أن يشكك الجميع في سلوك بنات المعلم سالم وكما خرب حياته مع ابنه أجزم أن يدمره هو إخوته :
وايه طلعك معاها من أصله ولا كنت متفقين تتقابلوا
جاء صبري مردفًا بضيق حقيقي :
هو أنت جاي تعزي ولا تفتح تحقيق ما تحترم المكان اللي انت واقف فيه
زادت الهمهمات والانظار معلقة على الركن الواقف فيه كبير آل سويلم الذي نطق بتريث وهدوء :
كان ممكن تيجي تتكلم بهدوء بعد ما العزا يخلص وتعمل تقدير واحترام للوقت اللجاي تزعق فيه وكنت هتعرف اللي عايزه
تدخل شيخ كبير يتضح عليه الوقار والهيبة قائلاً بنبرة متهدمة :
لسا راجعين من دفنت شابه لا لحقت تعمل خير وشر مفيش موعظة ولا تأثير بأن الدنيا متستهلش كل اللي شيلينه في قلوبكم من زمان
وقف عبده مردد بصرامة والغضب يحالف نبرته الشرسة :
وهو اللي زي ده يعرف يعني ايه موعظة ولا يوم الحساب
اقترب من إبراهيم يتابع بكره وانفعال لبداية الانفجار :
جاي برجلك لحد هنا وليك عين ترفع صوتك
ارتبك إبراهيم ومن ثمّ هدر بكدر واستنكار كي يثير جدلاً واسعًا في وجود الحضور :
بلاش تلف وتدور علشان تداري على بنت أخوك وعلى العموم أنا هاخد ابني وامشي
نظرات حادة من عينين يحتلها السواد الحالك، يحدق به كصقر يتابع فريسته قبل الانقضاض عليها، وإبراهيم لم يتجاوز الوقاحة لِما يقصده من حديثه المكرر بل يرمي باتهامات قذرة غير مباشرة بين كلماته .. وسكوته لم يضعف وتحليه بالهدوء احترام لعبده الذي فقد كل ذرة تعقل وصاح بحرقة :
اللي بيداري ويخبي ده أنت يا ابراهيم مش إحنا وبعدين هداري ليه وهي المفروض في مقام مراته
توسعت مقلتي ابراهيم بصدمه فواصل عبده مستكملاً بلا اكتراث :
الراجل جه وطلب ايد بنت أخويا وبسبب المشاكل اللي بينا مرداش يقولك لأنه عارف أنك هترفض طلب من اخويا يديه فرصه يفاتحك في الموضوع ويقنعك وفي يوم وليلة تتقلب حياته يا عالـــم
أنهى عبده جملته وهو ينظر حوله في وجوه مذهولة لا تفهم ما يحدث، تطلع إبراهيم ليونس يسأله بصدمه :
أنت بتضحك عليا يا يونس !!
لم يرد عليه فلم يعطي عبده فرصة لأحد وهو يصيح بأعلى صوته ويشيح بيده يفجر مفاجأة بمثابة قنبلة موقوتة زلزلة المكان :
يشاء ربنا يوم موت بنتي ضنايا، أعرف أني عندي ابن اتخطف وهو لسا مولود، خطف ابني يا ناس وحرمه من عيلته
ارتفعت وتيرته يستطرد بوجه أحمر وعروق بارزة :
يونس ابني يا ناس وإبراهيم خطفه مني
انتفض كل من في الصوان يقفون والصدمة تعتلي وجوههم، ذهول ودهشة تلبست همسات الجميع !! أغمض يونس عينيه بقوة الوضع تخطى مراحل السوء المتوقع .. ابتلع عبده ريقه الجاف بصعوبة وردد بصوت مبحوح يكمل ما بدأه :
وأنا الطلبت من مروه تلحقه في الموقف بدل ما يعمل في نفسه حاجه وطلعت مع سمر للمستشفى
: كداب يونس ابني
رد طبيعي للدفاع عن نفسه ولكن المعروف أن صاحب الحق ثابت على موقفه تخرج الكلمات ببسالة، ويتصف بالقوة لا يهزه الريح فالجبل لن يتأثر أن هبت رياح التغيير، وهذا كله متناقض مع هيئة إبراهيم تمامًا .. وضع عبده يده في جيب جلبابه وأخرج نتيجة تحليل النسب يرفعها في وجهه مزمجرًا بغلظة :
والتحليل ده برده كداب
اقتضبت ملامح جابر وهتف بغضب :
كلموا المركز يجي يخده ميستهلش غير أنه يقضي الباقي من عمره في السجن
هز يونس رأسه بالنفي واردف برجاء :
لا بالله عليكم لا، مش هيستحمل السجن ده تعبان
صدمه جليه والاسئلة تدور حولهم باستغراب شديد، الحقيقة يصعب تصديقها وكأنها قصة خيال … نظرات تتنقل بين هذا وذاك والكل ينتظر كلمة تفصل كل هذا من كبيرهم الواقف بشموخ يستند براحة كفيه على عصاه، لم يتحمل الشيخ الانتظار أكثر وسأل المعلم سالم بتعجب :
الكل مستني كلمتك يا معلم سالم ؟!!!
تطلع المعلم سالم إلى إبراهيم بقتامة، يرى حبات العرق تلمع فوق جبينه وهو يزدرد لعابه بتوتر، عينيه تتحرك بعشوائية ووقفته مهزوزة غير ثابته … بصرامة هتف بأمر :
خد ابراهيم يا يونس واستنوا في المجلس لحد عزا أختك ما يخلص
هل قال عزاء أخته !! نسب سمر بأخته ؟!! ولا يتفوه المعلم سالم بحرف إلا في موضعه، ولم تكن الجملة غير رسالة صريحة وواضحة تؤكد حديث عبده !! … سحب يونس إبراهيم لجهة المنزل بعجلة متجه للمجلس كما طلب منه، ومن ثمّ سكب سالم عبده كوب ماء يقدمه لوالده الذي جلس على المعقد بوهن، فقال المعلم سالم باقتصار يوجه حديثه للشيخ :
عشر دقايق وتقدر تبدأ يا شيخ
وهذه الدقائق لأجل عودة كل شيء لمكانه وتعود مراسم العزاء من جديد بشكل طبيعي، وكيف يرضي فضول هذا الحشد لسماع تفاصيل كارثة فُجرت في وجههم منذ لحظات .. أخذ كل واحد مكانه مجددًا والاستغراب لازال يتضح عليهم، ذهول وعدم تصديق يحوم بينهم!!
وخاصة هذا الواقف بهيبته وملامحه الجامدة الذي أعاد كل شئ بأعجوبة كما كان ؟!! بتلك البساطة يمسك زمام الأمور ويسيطر على المعضلة بل ويكمل المراسم دون أن يتحرك من محله!!
رجل عجيب غريب جداً، قوي وصارم بطريقة مريبة، غليظ الطبع في بعض المواقف، ولين القلب دومًا، حنون لأبعد حد من قسوته، هادئ لدرجة تفقد صوابك، حكيم ويمكن أن تطلق الحنكة اسم له، وإذا اختفى الصبر من العالم فسيكون أخذه نصيب إليه .. أنه ” سالم سويلم”
؛************

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بنت المعلم الجزء الثاني)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى