رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الحادي والخمسون 51 بقلم حسناء محمد
رواية بنت المعلم الجزء الثاني الجزء الحادي والخمسون
رواية بنت المعلم الجزء الثاني البارت الحادي والخمسون
رواية بنت المعلم الجزء الثاني الحلقة الحادية والخمسون
لا يصدر سوى انفاسهما المتصاعدة وهو يرمقهما ينتظر الإجابة، ولحسن حظهم جاء جابر يخبره بأنه يوده في أمر هام .. تفحص ملامحهما بشك وقال بأمر :
هخلص وبعد المغرب تيجوا المكتب
خمس دقائق تتبادلان النظرات بخوف وقلق إلى أن أخذت حسناء هاتفها دون أن تنتبه إليه وصعدت غرفتها بسرعة .. بينما تحركت رحمه بخطوات بطيئة إلى أقرب مقعد تجلس عليه وقد ضعفت قدماه على الوقوف حتى وإن أحسنت الظن وحاولت في التفكير بإيجابية أقل ما سيقع عليها أن تحرم من إكمال دراستها، لا تعلم أن مصيرها حُدد وستواجهه لا مفر أبدًا …
؛************
في المنزل المجاور
وقفت خلف الباب الحديدي الخاص بالبهو كي لا يراها أحد المارة بملابس المنزل وفتحته ببطيء، فدهش الآخر من خروجها هكذا !! المنامة الوردية التي ترتديها وخصلاتها الظاهرة من أسفل حجابها التي تضعه بإهمال، فدفعها برفق وولج يقف أمامها مردد باقتضاب :
افرضي حد شافك كده
ردت عليه باقتصار:
متخفش شوفتك وأنت لوحدك قبل ما افتح
ومن ثمّ سألته بجمود :
خير جايَ ليه ؟؟!
تطلع إليها باستغراب وهتف بحده وانزعاج :
يعني غلطان أن سمعت ببت اخوكي اللي ضاعت وجيت أسأل
: هتستهبل يا ربيع
قالتها بحنق فصاح هو بضجر :
حرام اشوف مراتي
والتفت لجهة الباب مستكملاً بغضب :
مراتي الابوها مديها مهلة تفكر في الطلاق
عقدت يدها أمام صدرها وهتفت بسخرية وهي تدرك مبتغاه :
بابا وماما مش هنا فبلاش تعلي صوتك لأنهم مش هيسمعوك
شعر بالضيق من عدم قدرته على التحكم في أعصابه وظهور لهفته إليها، تمتم بتبرم :
أحسن أن محدش هنا ياله ادخلي غيري هدومك خلينا نرجع البيت
توسعت عينين مي باستغراب متسائلة بذهول :
أمشي من غير بابا ما يعرف ؟؟! بتهزر صح !!
قطب جبينه وردد بضيق وهو يحرك يده بعشوائية :
هتستأذني من ابوكي عشان ترجعي بيتك مع جوزك ولا عاجبك تذنيبه ليا وعلى هواكي كلام اخوكي
هدأت نبرتها وهي توضح إليه برفق :
بابا مش بيذنبك بس زعلان على زعلي وسالم أخويا وخايف عليا
: يا سلام مش سالم ده اللي أنا متجوزك وجسمك وارم ومزرق من ضربه، يجي دلوقتي يقفلي على كلمتين قولتهم في وقت غضبي وأنا أساسًا بخاف عليكي من الهوا لو عدى جنبك
برزت عروق وجهه من شدة غضبه وأكمل بحده وصرامة :
ويقولوا طلاق طيب والله والله والله ما أنا مطلق يا مي ولو جبتوا عيلتكم نفر نفر وقفتوا على ودانكم ما أنا مطلق ويا أنا يا أنتم بقا
لم يعطيها فرصة للاستيعاب وصاح بصوته الغليظ وهو يخرج يغلق الباب بعنف خلفه :
دا أنا خليتك عجل فريز بعد ما كنتي جايه عود قصب تقولولي طلاق
رمشت بأهدابها وتدلى فمها غير مستوعبة ما حدث للتو، أشارت على نفسها وهمست بعدم تصديق :
أنا عجل فريز
قطمت شفتيها بغيظ وصاحت بانفعال وهي تضرب الأرض بقدميها :
ما أنت مش بتفهم غير في البهايم
برطمت بتذمر وولجت للداخل تصعد لنيره التي صعدت منذ ساعات ولم تهبط مجددًا .. أثناء ذلك وقفت بغتةً تتذكر شئ لم تنتبه إليه إلا الآن، جلست على الدرج وترقرقت العبرات في عينيها لاعتقادها أنه قصد يعايرها بضرب سالم لها، صحيح أنه لا يعلم السبب وذلك جعلها تحمد الله أنها احتفظت بذلك السر لنفسها كما أمرها عمها سالم والا وكانت سمعت ما يزهق روحها من ربيع في غضبه حتى وإن كان لا يعي ولا يقصد .. من الطبيعي أن تتوب عن ذنب وتنساه لكن لن ينسوه الناس ومع أول عقبة سيذكرونك بقبح جُرم فعلته وندمت عليه ..
؛***************
عودة للمجلس الذي حل عليه الهدوء والصمت فجأة مع دخول ساره وهي تحمل هاجر مردده بسعادة :
أهو بابا أهو وماما كمان
انتفض محمود وركض يأخذ ابنته مرددًا بشوق ولهفة :
هاجر، حبيبة بابا، كنتي فين يا حبيبتي .. اوعي تعملي كده تاني
لوكت ساره العلكة قائلة بابتسامة عريضة:
يوه ده أنت شكلك كنت قلقان خالص، الحمدلله إني عرفتها وهي ماشيه لوحدها في الشارع
لم يهتم محمود لأي شئ وظل يعانق هاجر بقوة ويقبلها في وجنتيها وجبينها والدموع تتسابق من عينيه، بحنان بديهي وحب بالفطرة بين الصغيرة ووالدها، رفعت يدها الصغيرة تمسح عينيه متمته بلطف :
متعيطش وأنا هقول لماما تعملك كيكه بس تقعد معايا
جملة لم تنطق بشكل جيد لكن معناها لمس قلبه النازف بدماء الندم، راقب محمود ملامحها وضميره يجلده بقسوة وهتف بشفاه مرتجفة :
آسف مش همشي تاني
: لا هتمشي
تعلقت الأنظار على المعلم سالم الذي استكمل بأمر :
ملكش قعدة في البلد أنت وعيالك
حرك محمود رأسه بعدم فهم، ورفع يده يمسح وجهه متسائلاً ببلاهة:
هروح فين ؟؟
ضرب بعصاه أرضًا وهذا يعني أن القرار أتخذ ولا رجعت فيه مهما حدث :
زي ما اختفيت مره شيل شيلتك واعملها تاني
تطلع محمود إلى والده ليجده يرمقه بجمود لا يبدي اي اعتراض على رحيله، نقل نظره إلى مياده الممسكة بيد طفلها الذي ركض إلية قائلاً برجاء :
متسبناش يا بابا
فتحت رحاب فمها للاعتراض فوجدت عبده يحدجها بتحذير ثم اقترب وهمس بتهديد :
لو نطقتي بكلمة وصغرتيني هرمي عليكي اليمن وتكون التلاته
جزت على أسنانها بغيظ وحدقت بالجميع بنظرات بغضاء وكره وسحبت سمر خلفها تغادر عائدة لمنزلها متوعدة لعبده عند عودته .. وانسحب سعد هو الآخر مع الثنائي سالم للخارج، فشعر محمود أن الورطة لا محال من الهروب منها، تطلع إلى مياده وهتف بفتور وضعف :
روحي جهزي شنطكم
وخرج يجر خيباته خلفه بانكسار ينتظرهم في سيارته يفكر في مصيبته، يجدر به الآن توفير مسكن أَمْن وترتيب الأولويات في أقرب منطقة من القرية وبالطبع ستكون المركز التابع له القرى …
ابتسم المعلم سالم وقال بترحيب مزيف متطلع إلى صبري الجالس متكأ على المقعد وكأنه في مكان يخصه :
العمدة ذات نفسه عندي دا نهار الهنا
ابتسم صبري بخفة مرددًا بغرور :
سمعت بالحصل فقولت اجي بنفسي اطمن على البنت أحسن تكون اتخطفت وأنا المسؤول هنا
هز المعلم سالم رأسه بتأكيد وهتف موجه حديثه لجابر :
سامع يا جابر مصدر الأمن والأمان حامي الوطن قاعد عندنا
ضحك صبري وقال ببسمة صفراء سماجة :
دولت كلمتك وعرفتك إننا اتصافينا ولا لسا
: جات الصبح وعرفتني أنك فكرت في مصلحتك ومشيت حالك، هو ده المصطلح الحقيقي مش اتصافيتوا يا صبري مش هنضحك على بعض
نهض كي يغادر قبل أن يتفاقم غضبه فقال المعلم سالم بحده :
وقالت أنك عايز تتم جوازة ريهام من محمد في بيتك وده غلط وقبل ما تقول بنتي والكلام الخايب ده اسمع الكلمتين مني
تحفز صبري وهو يصغي إليه جيدًا والمعلم سالم يواصل كلامه :
مش معنى أن محمد ادالك فلوسه تشغالها أنه بقا ملكك ومتنساش أن أخواله عايشين معانا حتى لو هانم طلعت من البلد ولو هو قطه مغمضه أخواله هيخوله قط فرعوني لو حسوا أنك بتستغله وساعتها ريهام هي اللي هتكون في النص بينكم
عقب جابر باستنكار :
وبعدين ما الراجل بيته جاهز وفرشه ايه يخليه يعيش عندك
ابتسم المعلم سالم بخفة فهو يعلم رغبة صبري في امتلاك بيوت وأراضي في القرية وعندما أخبرته دولت عن مشاجرتها الأخيرة لإصراره لزواج ريهام ومحمد في منزلهم فقه نواياه … لم يجد صبري رد مقنع يخرجه من دائرة الشك فقال بجمود وهو يخرج :
ربنا يقدم اللي فيه الخير
وقف جابر هو الأخر متمتم بتذكر :
نسيت اقول لسالم يطل على المحل القديم هقوله واجيلك عايزك في موضوع
أومأ إليه بهدوء ووضع عصاه جانباً، أخرج الهاتف واتصل على أحد المشرفين في المصنع يطلب منه أن يرسل منير إليه على الفور ..
؛؛؛؛؛
التفت على صوت والده يناديه يطلبه للعودة إليه، كان يجري اتصال فأغلق الهاتف وانصاع لطلبه :
كويس اني لحقتك قبل ما تروح المصنع، بدالي وبدل عمك عبده روح المحل القديم شوف البضاعة اترصت ولا لسا بره وكلمني طمني
هز رأسه وسأله بشك :
محدش كلمك من البيت ؟؟!
عقد جابر جبينه باستفهام وسأله بعدم فهم :
حد مين ؟؟ أمك لسا مروحه ومي كانت هناك مع نيره
فرك لحيته بقلة حيلة مغمغم بملل :
طيب بدل ما أنا قاعد مستنيك تعرف هعرفك أنا
رمقه جابر بريبه ومعالم الحيرة تعلو وجهه فألقى سالم قنبلته من فمه :
أنا طلقت نيره
جحظت عينين جابر وكأنهما سيخرجان من وجهه، فعاد سالم للخلف خطوة بخوف من تبدل ملامحه بصدمة لم يراها عليه من قبل .. ثم هتف بتريث وتوضيح :
يابا مبقتش قادر استحمل وأنا اتحملت ..
قاطعه بغضب وانفعال شديد :
أمشي يا كلب يا بن الكلب من قدامي وحسك عينك اشوفك في بيتي غور في أي داهيه
كاد أن يتفوه فدفعه بحده من أمامه وتحرك يتخطاه وهو يسبه بغلظة، دار سالم برأسه يحدق بأثره غير مستوعب أنه طرده وسبه في جملة واحدة!! وانفعال مماثل صاح بصوت وصل إلى جابر :
على فكره يابا أنا كنت متأكد أنك هتلوي دراعي ارجعها بس يكون في عملك أنا ابقا كلب لو رجعتها
ودار للجهة المعاكسة حيث أحد محلات الأدوات الصحية الخاصة بتجارة والده وعمه، من الواضح أنه اليوم الحافل بطرد أولاد سويلم!!
؛*************
في منزل منصور عزب الذي أصبح كمنزل الأشباح، كئيب ومخيف، رغم مساحته الكبيرة وتصميمه الفاخر إلا أن ساكنيه أفقر من كونهم ملاكه، وكأنه لعنه عليهم يأخذ بثأر مالكه القديم …
على طاولة طويلة تكفي أثنى عشر فرد جلس سيف وقباله عمر، يقلصان المسافة بينهما على ضوء خافت يهمس عمر باقتضاب :
بقولك مش مرتاح وهي هنا وبعدين ايه دخلها عند امي
رد سيف بهمس مماثل :
هو أنا هفضل اعيد وازيد في نفس الحوار، ما قالت كانت بتطمن عليها
ضيق عمر عينيه بشك وسأله بسخرية:
أنت مصدق نفسك طيب ولا بتسكتني ؟!!
صمت سيف لبرهة ثم قال بتفكير وقلة حيلة :
مقدرش اقولها تمشي وأنا عارف أنها ملهاش حد وهتكون في الشارع
وتابع بحنق :
ولو أنت مش مرتاح أنا كمان مش عارف أخد راحتي على الأقل أنت بتطلع لشغلك إنما أنا قاعد زي ست البيت في وشها
: خلاص أطلع شوفلك شغله وأنا اخد دور ست البيت
وقفا الاثنين بفزع ونظرا للخلف على صوت ليلى وهي تقف تحدق بهما بهدوء، لم ينتبها إليها واعتقدا نومها مع الأطفال عندما صعدت بهم إلى غرفهم بعد أن أكلوا وجبتهم … ارتبك سيف وتلجلج بحرج من كونها سمعت رفضهم لوجودها :
احنا منقصدش بس مش متعودين على وجود وحده ست معانا
لوت جانب فمها ورفعت حاجبها متشدقه:
سيف ذات نفسه مش متعود شكلي متأخره كتير عن المستجدات
رد عليها عمر بضيق وقد بلغ الغيظ قمته :
بصي ومن الأخر احنا يدوب عايشين بالعافيه وبصراحه كده تصرفاتك مريبه ومش مستعدين لأي مصيبه حالياً
أشارت ليلى على نفسها تسأله بعدم فهم :
تصرفاتي أنا ؟؟ لا فاهمني قصدك !!
ثم استكملت بلا مبالاة :
ولا أقولك متقولش لأن مش فارق معايا وأنا هنا مش بمزاجكم، والمركب كلنا فيها لحد ما تتقلب بينا
أنهت جملتها وغادرت من أمامهما إلى المطبخ، نظر عمر إلى سيف متسائلاً بقلق :
هتتقلب بينا ازاي ؟؟؟!
رفع سيف كتفيه بعدم معرفة قصدها ثم رحل إلى متجه للمسجد ينتظر صلاة المغرب، تمتم عمر بضيق بين نفسه وصعد إلى غرفة والدته :
عاملة ايه يا ماما
ترمقه بجمود وهو يعلم ذلك، كأنه يسمع ردها الساخر في أذنه، يشاهد الاستهزاء في عينيها حتى بعد ما وصلوا إليه!! لِما يشعر بأنها تحمله خطأ ما وقعت به وكأنه المسؤول عن نتيجة أفعالها ؟؟ هز رأسه باستياء وذهب للخزانة يجلب ثيابها مردد بخجل :
هغيرلك هدومك قبل ما اروح المصنع
مازال يستحي من هذه العادة الغير محببة لديه، لكن ليس هناك خيار آخر لأن لا يوجد غيره، يعتني، يطعم، يعطي العلاج، متكفل بكل حياتها … وبعد دقائق يتسابق مع نفسه في الانتهاء، تنفس بارتياح وأخذ فرشاة الشعر يستعد لمهمة أصعب :
معلش بقا يا ماما بعملك على قد خبرتي
مشط خصلاتها بعشوائية بسأم من محاولة إتقان لملمته، وابتسم وهو يتأملها برضا، فلا بأس تلك المرة وقد تحسن كثيرًا في الانتهاء وجعلها بشكل مرتب … أخذ نفس عميق وقال بحزن اتعبه:
اتمنى الفترة دي تعدي لأن خلاص مبقتش قادر استحمل
تمدد بجوارها يضع رأسه على ركبتها يرمي الاحمال العالقة على عاتقه في عرض الحائط، في تلك اللحظة تمنى لو كانت هاديه بعافيتها وتضع يدها على رأسه تملس على شعره برفق، تدعي له وتخفف عنه بكلمات حنونه .. ابتسم بسخرية على أحلامه الغبيه، منذ متى وتعاملت معه بتلك الطريقة في حياته السابقة كي يفكر بها، ربما لكانت الان تعنفه بحده على غبائه وتذكره كم هي تشعر بالاستياء لان مثله ابنها..
آفاق من ذكرياته على رنين هاتفه، اعتدل في جلسته وأخرج الهاتف ينظر لاسم المتصل، لا يجد أمل في الاستمرار للحياة إلا هي .. نهض يسرع في خروجه ليرد عليها فلا يقدر على فعل ذلك أمام هاديه، التي ربما تحرقه بنظراتها النارية عندما تستمع إلى اسم عليا ..
؛**************
: يا ناري، أقول ايه ما ابوكي شبه العبد عنده
تتجول في الغرفة ذهابًا إيابًا بغضب وضيق لن تهدئ إلا إذا أُخمد غليلها بالعراك مع عبده، تابعت بغيظ :
سامعً وطاعة للمعلم سالم، ابني يطلع من بيته ومن وسط أهله لأجل عيونه
ضغطت على فكها إلى بدا صوت احتكاك أسنانها، وسمر تجلس في ركن هادئ تتابعها بصمت دون أن تدخل خوفاً من أن ينالها نصيب من غضبها المتأجج … استمعت رحاب إلى صوت عبده ينادي سحر، ببسمة جانبيه تحمل الكثير هرولت للخارج والشر يسبقها :
آه اعمليله يا سحر كوباية شاي يظبط بيها مزاجه
رمقها عبده بامتعاض واردف بضجر :
بقولك ايه اتمسي وابعدي عن وشي هو أنا موريش غيرك أنتِ وعيالك
صفقت رحاب بطريقة سوقيه وصاحت :
عيالي اللي أخوك عايز يضيعهم ويحسرني عليهم
بصوت عال ردعها بغضب شديد كي لا تتجاوز حدودها:
كلمه في حق أخويا هرميكي بره واللي معملتوش من زمان هعمله دلوقتي
وواصل حديثه يشير إلى سمر الواقفة بعيد تتطلع إليهم:
قالولي رجعها علشان عيالك يتربوا وسطيكم ويارتني ما سمعت كلهم، ولا عيالي اتربوا ولا شوفت يوم عِدل معاكي
كل هذا يحدث على مرأى ومسمع كل من في المنزل ومن ضمنهم مياده التي هبطت بحقيبتين، تقدم سعد يأخذ الحقائب منها يهرب من مشاجرة عائلية تخجله من نفسه أمام زوجته .. على عكس سالم الذي تدخل بين والديه مردد بهدوء :
يابا الكلام ده ملوش لازمه، أمي زعلانه على محمود و..
جزره عبده بكدر واستنكار :
هي زعلانه وأنا مبسوط وبرقص من الفرحه
واستطرد باقتضاب موجه حديثه لرحاب :
يكون في علمك البنت تتجوز بس وما هتقعدي يوم زيادة على ذمتي
: يا خويا بركه، ده انتوا عيله جبروت تاكلوا مال النبي
نظر سالم إليها وهتف بضيق :
مش معقول كل دقيقة خناقه مجبور اعيشها أنا وأخواتي اسمع فيها غلط في أهلي من الطرفين
نقل نظره إلى والده وتابع باستياء :
لو هقدر اتخطى ده هما مش هيعرفوا وزي ما عشتوا زمان علشانا تقدورا تخلونا نعيش باحترام لنفسنا على الأقل دلوقتي
حدج عبده رحاب بشراسة وخرج من المنزل بأكمله يتركه إليها تصيح وتصرخ بغيظ في كل من فيه، وكي لا يتأزم الوضع أمر سالم زوجته وسميه وسحر كل واحده بأن تدخل إلى شقتها وعدم الخروج منها اليوم إطلاقاً لحين مجيء والده … ثم ذهب إلى سمر يدخل معها إلى غرفتها يطلب منها برفق ولين أن تمكث في غرفتها ولا تحتك بوالدتهم الآن فهي في حالة هجومية غريبة، وخرج يتابع عمله في المحلات كما لم يحدث شئ، فهو محق بقدرته على تخطي مشاكلهم العائلية منذ صغره، لديه الحكمة الكافية للفصل بين حياته الشخصية والعملية، وطبعه الهادئ يجعله يمتص الغضب ويقدر على التحكم في انفعاله عكس والده تمامًا …
؛************** بقلم حسناء محمد سويلم
يفرك في يده بتوتر وقلق يفكر في أسلوب مهذب ومحترم يتحدث به ولم يشعر بالوقت الذي قضاه ينظر أرضًا وهو جالس على المقعد قباله، فغمغم المعلم سالم بتعجب :
هو الموضوع صعب للدرجه دي !!
هز منير رأسه وتمتم بتلعثم :
لا بس مش عايز حضرتك تفهمني غلط فبدور على كلام مناسب
ابتسم المعلم سالم وهتف بهدوء :
طيب على ما تكون لقيت كلام مناسب أسألك أنا ليه رفضت تروح الحسابات مع سالم ؟؟
ردد بكلمات غير مرتبه لتوتره الملحوظ:
ما هو ده اللي مش لاقي ليه كلام مناسب
ومن ثمّ استكمل بارتباك :
ده مش مكاني وأنا عارف ان الشغال في الحسابات الريس سالم والريس مرتضى يعني من العيله وكفايا الحضرتك عملته معايا وانا في السجن
: أنا معملتش حاجه أزيد من حقك والشغل في الحسابات بالبيفهم فيها مش من العيله
ظهرت شبه بسمة ساخرة على شفتيه وهتف بحزن :
أنا مليش حق يا معلم سالم وإذا كان الفلوس الضاعت مني فده بسببي ودفعت التمن اني بقيت رد سجون
وتابع بنبرة مختنقة :
مكنتش طمعان غير في وظيفه استاهلها بعد تعبي في سنين الكليه وفلوس الكرسات والشهادات المتشاله فوق الرف بس مليش نصيب
أومأ إليه ثم سأله باهتمام :
ناوي على ايه دلوقتي ؟؟!
أخذ منير نفس عميق وجوابه بصيص أمل:
مستني أمي تطلع شنطة الفلوس الحضرتك بعتها ليها من المكان المخبيها فيه وهردلها، وهكمل في المصنع لو حضرتك معندكش مانع زي ما أنا بره على المخازن وقدمت في شركة بره مصر على أمل تقبلني
: ترد الشنطة ليه ؟؟ الـ ١٠٠ ألف دول بتوعك !!
هز رأسه بالنفي واردف باعتراض :
أنا اللي دورت على وسطه ودفعت ٨٥ ألف رشوه وانضحك عليا
بجمود هتف المعلم سالم وعينيه تراقبه بثبات :
وأنا وأنت عارفين دي شورة مين
دهش منير واعتلى قسمات وجهه الذهول، لم يتخيل أنه يعلم حديثه مع رحمه وخاصة بعد تلك المدة الطويلة… ازدرد لعابه وهمس باضطراب:
محدش ضربني على ايدي وأنا العملت كده برضايا
الآن أصبح اللعب على المكشوف والحديث سار في جهة الوضوح.. وقف المعلم سالم وجلس على المقعد المقابل له مردد بدهاء :
عملت برضاك علشان هي قالتلك اعمل كده
تصبب عرقًا وكأن الشمس فوق رأسه مباشرةً، أعتقل لسانه ولم يقدر على فتح فمه وقد تيقن من معرفته بمشاعره اتجاه رحمه ..
: مالك مخضوض كده ليه ؟!!
تلبسه الخوف والتوتر من المستقبل المجهول، بصعوبة بالغة يتماسك بدلا من الركض بسرعة البرق كما يحثه عقله على فعلها .. وبعد عناء وتشجيع لذاته تمتم بنبرة منخفضة مهزوزة :
دي مشاعر حب ناقيه في حدود الاحترام والأدب من طرفي وده شئ غصب عني لأن الإنسان مش بيتحكم في قلبه
استكمل بتوتر أشبه بمجرم يجلس أمام القاضي :
وعمري ما تجاوزت الحدود حتى بيني وبين نفسي وهما مرتين اللي اتكلمت فيهم مع رحمه
هدوء تام لا يفهم منير معناه ؟؟ أهذا ما يسمى بهدوء قبل العاصفة!! أم أن حديثه لم يكن في صالحه وهناك مصيبة في طريقه !!
لم يريد المعلم سالم اللعب بأعصابه أكثر وسأله بفضول :
ولسا المشاعر دي موجوده ؟؟! يعني لو مكنتش قالتلك ادفع فلوس للراجل مكنتش فلوسك ضاعت وروحت لبست القضيه بدل يعقوب علشان يتكفلوا ببيتكم وتكون رد سجون زي ما قولت
بتسرع وعدم تفكيرك رد بعشق ينبع بين ضلوعه :
طيب ياريت اتكلم معاها تاني ومش مشكله اتحبس برده
جحظت عينيه وهو يعي ما يهذي به، أحمر وجهه باستحياء واخفض رأسه .. ضحك المعلم سالم بخفة وقال باقتصار:
قوم يا منير ارجع المصنع شوف شغلك
استقام ببطيء يجول بعينيه حوله غير مستوعب أن الأمر انتهى بتلك السلاسة، لا يطمئن لرحيله وشعوره بفخ يتربص إليه ينتابه.. أعطاه المعلم سالم نظرة بالتحرك فانصاع يسير بجهة الباب رويدًا متأهب للمجهول :
منير، ازاي تاخد خطوة في حبك من وجهة نظرك؟؟
دار بسرعة يتطلع إليه مردفًا بتوجس حسب فهمه للسؤال :
ازاي ؟؟
بسمة صغيرة على ثغره وهو يشير إليه بالخروج، وكانسان آلي تقدم في خطواته مردد بهمس لنفسه:
ازاي !! لا ازاي بجد ؟؟
قابلته صباح في البهو فقالت بترحاب :
ازيك يا منير عامله ايه
توقف متسائلاً ببلاهة :
ازاي ؟؟!
ضيقت صباح بين حاجبيها باستغراب وهي تراه يغادر متحدث مع نفسه يتجاهلها .. رفعت كتفيها بلا مبالاة واكملت ما كانت تفعله غير مهتمة..
؛*************
قبل ربع ساعة في منزل جابر
لم تقل صدمه زينب عن جابر بل زادت ببكائها على ما يجري مع أولادها، وبعد إلحاح شديد وافقت نيره على قرار جابر لفترة مؤقتة :
يا بابا ده مش حل، الأحسن نيره ترجع عند اهلها فترة لحد ما يهدوا
رد جابر باقتضاب :
لا نيره مش هتطلع وهو مش راجع
نظرت زينب إليه وهتفت بعتاب :
هتطرده على اخر الزمن يا جابر
صاح بانفعال وصرامة :
مش هيرجع يا زينب مادام بيتصرف من دماغه وكسر كلامي وبعدين حفيدي مش هيتربى بعيد عني
رفعت مي حاجبيها بتعجب وسألته بعدم فهم :
يعني نيره تعيش غصب عنها هنا علشان سليم ؟؟!
: مفيش حاجه غصب هما الاتنين اغبى من بعض
قالت زينب وهي تنهض :
هطلع اتكلم معاها يمكن نعرف ايه وصلهم لكده
انتظرت مي ابتعاد والدتها ومن ثمّ اردفت تفصح عما تريد الاخبار به :
ربيع جه انهارده الصبح وكان عايزني ارجع
راقبها بتفحص وسألها باستفسار :
وأنتِ عايزه ايه ؟؟؟
: عادي يا بابا هو قال إنه كان متعصب ومش قصده
حرك جابر رأسه بتفهم وقال برجاحه :
وأحنا مش هنعلق حبل المشنقة ليه كلنا بنغلط
ابتسمت مي براحه لم تعتقد أن الحديث سيكون بهذه السهولة، بينما تابع جابر بحكمة :
بس في غلط عن غلط يفرق يا بنتي، زمان أول ما اتجوزت أمك وكان معانا سالم اتخانقت معاها خناقة كبيره الكلام ده كان العصر واتعصبت وهدتها لو رجعت المغرب لقيتها هرجعها بيت أبوها متكسره
ضحكت مي وقالت بمزاح :
مستحيل يا بابا تعمل كده
ضحك بخفة واستكمل حكايته وقد وصل مبتغاه :
لما مشيت من قدامها وهديت زعلت اني هرجع مش هلاقيها، عمك سالم قالي متقلقش مش هتمشي بس مكنتش مصدق، ورجعت لقيتها فعلا والموضوع منفتحش من أساسه بيني وبينها، بس من فرحتي لما سمعت صوتها في الشقة نزلت جري على عمك أقوله أنها فوق ضحك وقالي أنها مش هتمشي علشان عارفه أخري ايه
اختفت بسمة مي ورمقته بشرود فسألها بحنو :
وأنتِ يا مي عارفه أخر ربيع ايه علشان كده جيتي هنا جري، صح ؟؟
أخفضت رأسها دون أن ترد مما أكد إليه إحساسه وبحنان قال :
أنا مش عايز غير أشوفك فرحانه، سبيني اقرص ودنه وأتأكد أنها اخر مرة يخوفك كده
اقترب تعانقه مردده بحب :
ربنا يخليك ليا يا بابا
؛*****************
بعد صلاة المغرب
استمعت إلى طرقات على باب غرفتها، ألقت الهاتف بإهمال على الفراش ونهضت بتكاسل، نسيت تمامًا موعدها في مكتبه كما أمرها هي وحسناء .. تشبثت في الباب وتلجلجت باضطراب من رؤيته:
اتفضل يا بابا
: مجتيش ليه ؟؟!
رمشت بأهدابها بتوتر مغمغمه بخوف لا يعلم سببه :
كنت مستنيه حسناء تجي
تفحص معالم القلق على قسمات وجهها مردد باقتصار :
حسناء تحت في المكتب انزلي معاها لحد ما اجيلكم
” اجيلكم ” كلمة تبدو عادية لكنها مرعبة وخاصة لشعورها بمدى خطئها، بسرعة هبطت لتحظى ببعض الدقائق معها قبل المواجهة الساخنة ..
: نزلتي ليه قبل ما تعدي عليا ؟؟
قالتها وهي تقتحم الغرفة بهمجيه، فزعت حسناء من طريقتها وهي متوترة في الأساس :
يا بنتي كنتي هتوقفي قلبي
جلست بجوارها متسائلة بخشية :
قولتي حاجه لبابا ؟؟!
فُتح الباب فجأةً وولج بهدوء يجلس على مقعد قريب من الأريكة، تسارعت دقات قلب رحمه كطبول حرب تعلن اقتراب النهاية .. باهتمام تساءل دون أن يوجه حديثه لاحدهن :
ها صوتكم كان عالي ؟؟! وليه خايفين كده ؟!!
ارتبكت حسناء قائلة بتماسك مزيف :
مش خايفين ولا حاجه بس هي رحمه فهمت غلط ومش راضيه تسمعني فزعقت وصوتنا طلع
رمق رحمه بشك ينتظر منها أي إجابه لكنها زاغت بعينها بعيدًا، تساءل باستفسار وشك :
ايه اللي فهمتيه غلط يا رحمه ؟؟!
: مفهمتش.. عادي أنا أصلا نسيت وياما بنتخانق مع بعض
حدق بهما لثوان ثم قال بعدم اقتناع :
ماشي هعديها بمزاجي وبعد المزاد ما يعدي اعملي حسابك في خطوة جديدة هتستعدي ليها
ثم أشار إلى حسناء متمتم بأمر:
قولي لإخواتك يدخلوا
وبالفعل دقيقة ودلفوا جميعاً للمكتب وكانوا ينتظرن بالخارج كما طلب منهن، جلسن حول بعضهن وسبب هذا الإجتماع أن أمل وخيريه توصلا لطريقة ذكيه للحصول على أرض المزاد …
: بصراحه الفكره فكرت أمل بس أنا غيرت في محتواها شويه
ابتسم وهتف بتحفز لطريقة خيريه الحماسية :
أحب اسمع جدًا
: دلوقتي عرفنا أن الأرض صاحبتها أم لبنوتين واحده منهم كانت زميلة رحمه في الدراسه وعمهم المسؤل عنهم بعد وفاة والدهم، المهم أن في بنوته هتتجوز قريب ومحتاجين فلوس تتم الجوازة فالعرض أننا هنشتري الأرض بالسعر المناسب مقابل أنه يكون ليهم حصه شهريه بمعدل ثابت يقدروا يعيشوا منه وكده نكون كسبنا الأرض ووفرنا دخل لأسرة محتاجه
هتف بانبهار وثقة :
مغلطش لما وثقت فيكم
وتابع مبتسمًا :
بنات المعلم قدها وقدود
عقبت مها بسعادة غامرة:
تربيتك يا معلم
هز رأسه مؤكدًا ثم قال بتفكير :
تمام أنا موافق ومرحب جدًا وبما أنكم قولتوا رحمه تعرف بنتهم يبقا خيريه ورحمه يورحوا للست يعرضوا عليها الفكره ويخدوا منها كلمه
عقدت هند جبينها باستنكار:
يخدوا منها كلمه ازاي !! مش المفروض في المزاد كل واحد بيقول رقم وبعدين الاتفاق
: ما المعلم سالم هيقفل المزاد قبل ما يبدأ
قالتها حسناء بذكاء وفخر وهي ترمق والدها، الذي ابتسم وردد بمكر :
يعجبني الماشي معايا على الخط
أشارت خيريه على نفسها مردفه بتعجب :
يعني هنروح نعرض عليها وناخد موافقتها وفي المزاد نمضي الورق !!
الحماس بلغ عنان السماء وكل واحده تتخيل ردة فعل كل من في المزاد إذا تمت الموافقة بينهم وبين مالكة الأرض!!! لم تتحمل خيريه ونهضت قائله بلهفة :
هكلم سالم يجي يوصلنا لبيتهم مش هقدر استنى من غير ما اسمعها موافقه
ضحك المعلم واعطاها الموافقة فهو يعلم تفوق خيريه ولباقتها في التحدث وخاصة إذا كان الأمر متعلق بالعمل .. استند بمرفقه على حافة المقعد يجول بنظره متأملهن بثبات، وقعت عينيه على تلك الساكنة محلها لم تفتح فمها مره، شاردة الذهن بملامح حزينة :
مالك يا مروه ؟؟! في حد مزعلك ؟؟
دارت برأسها وقالت بهدوء :
كويسه الحمدلله
علقت هند بريبه على حال اختها منذ يومين :
بقالها ٣ أيام على الحال ده وتعبنا كلام معها
تطلعت مروه إليها وهتفت بخفوت ونبرة مهزوزة :
أنا كويسه هو لازم يكون في حاجه علشان ساكته
تهرب من النظر في عينيه مباشرةً وذلك ما وضع إليه، لا يعلم متى يجد الراحة في منزله، ولا يفهم ما سر إصرار الحياة على ضغطه لتخرجه من مأزق ويدخل في معضلة … طلب منهن الخروج وتركه بمفرده، انحسبت واحده تلو الأخرى وعندما جاء دور مروه أمرها بأن تنتظر :
مش عايزه تقولي مالك
: مفيش يا بابا أنا كويسه اخواتي بيبكروا المواضيع
أخرج هاتفه من الدرج وقال بلا اكتراث وهو يرفع شاشة الهاتف في وجهها :
لا المواضيع كبيره يا مروه
تجمد الدم في عروقها وهي تحدق في صورها على هاتف والدها .. ها هو نفذ تهديده بالفعل، وغد حقير، أخفضت رأسها تنظر أرضًا، والدموع تأخذ مجراها على وجنتيها… بصوت مبحوح ومهزوز قالت تبرأ نفسها:
مش صوري يا بابا، مش أنا.. والله ما أنا
لو قتها وقطعها فتات أرحم من موقفها الآن، تخجل من نفسها رغم أنها بريئة من تهمة حُكمت عليها من إنسان خسيس … لم تجد رد منه فرفعت عينيها الباكية تطلع إليه فوجدته يرمقها بثبات، مقلتيه أشبه بسواد ليل حالك، ملامحه حاده، جامدة، توحي بهلاك قادم يحرق الأخضر واليابس، صور لإحدى بناته وهي بوضع منحل وخليع!!!
: بابا صدقني مش أنا والله الموت أهون عليا من أنك تشك فيا
بكت بحرقة وهي تخفي وجهها بين كفيها، منذ ثلاث أيام تعيش أسوأ لحظاتها، رسالة من مجهول يهددها بفضح صور لها في البداية مسحت الرسائل ولم تعطيه أهمية، لكن عندما شاهدة الصور اصاباها الذعر، لا تستطيع التفريق بين الصور المفبركة والحقيقة، كل ما في يدها تبرئ نفسها بدموعها … وضع المعلم سالم الهاتف وقال بجمود :
ليه بتحلفي وتعيطي هو أنتِ فاكره اني عندي شك فيكي
كتمت شهقتها متمتمه بصوت محشرج :
أنا معرفتش اتصرف لما الرسايل وصلتني ومعرفش مين ده وعايز مني ايه
اجهشت في نوبة بكاء مريرة وصوت شهقاتها يضج في الإرجاء، نهض من مكانه واقترب منها يمسكها من كتفها، ثم رفع وجهها ينظر إلى عينيها الدامعة :
مش عايز اشوفك بتعيطي ووحياتك عندي لاخلي العمل كده يتمنى الموت وميعرفش طريقه
حاوطها بذراعيه يربت على ظهرها وصوته المتوعد يردد بقسوة :
متخافيش طول ما أنا معاكي
رفعت نظرها إليه مردفه بهلع :
بيهددني أنه هيبعت الصور للبلد كلها ويفضحني
زجرها بعنف وحده مشيرًا بسبابته محذرًا إياها :
ايه يفضحك دي اياكي اسمع منك الكلمة دي تاني، يبعت للبلد ولو عايز يطبعها ويعلقها على باب بيتي ولا يهمني غيرك واعلى ما في خيله يركبه
حركت رأسها بالنفي لا تستوعب أنها على وشك الانهيار وستكون وصمة عار لوالدها:
لا يا بابا بالله عليك ده لو حصل هموت فيها محدش هيصدقني
: أنا مصدقك وواثق فيكي
هزها بقوة ينتشلها من دوامات الرعب مستكملاً بتجهم:
اوعي تفكري في كلام حد واوعي تخافي طول ما أنتِ صح
ولا حياة لمن تنادي غارقة في بحر الضياع، ترتطمها الأمواج العاتية في ظلمات التوهم، أمسكت في جلبابه مردده بضعف :
اكيد ده محمود عايز ينتقم
أبعدها مرددًا بصرامة :
محمود لو فيه عبر الدنيا مش هيمسح لحد يأذيكم
وتابع بتحذير :
هتتصرفي طبيعي وبكره هتروحي المزاد ولا كأن فيه حاجه ركزي في كلمتين دول وتنفذيهم بالحرف الواحد
انتبهت إليه تسمعه يلقنها بما ستفعله ومرارًا يكرر عليها لا مجال للخطأ إلا ستكون النتيجة النهائية ليست لصالحهم ….
؛*************** بقلم حسناء محمد سويلم
بعيد عن القرية في إحدى الأراضي الزراعية المطلة على النيل، جلس مرتضى يكسب الشاي ويعقوب يضع السكر في الاكواب .. وعلى بعد قليل منهما يتحدث عامر في الهاتف الذي انتظره بشدة :
تشكر يا عم ونردهالك في الافراح
ضحك موسى وغمغم بغيظ :
لا تردها بقعده زي قعدتكم دلوقتي لما انزل البلد
قال عامر بحفاوة :
تعالى وأنا احجزلك الشباب ٣ ليالي
شاكسه الآخر واغلق المكالمة فقد وجد هند تتصل به وذهب يروي اشتياقه لسماع صوتها الذي يشعره بفراشات تحلق به بين السحاب .. قرأ عامر الورقة المبعوثة إليه من رقم موسى على موقع التواصل الاجتماعي ” واتساب” والتي تحمل تفاصيل عن يونس بشكل عمومي وبعدما انضم إلى الشباب….
هدوء جميل مع نسمات الهواء النقية، انعكس ضوء القمر على سطح المياه، وأوراق الأشجار تتراقص بلطف من مداعبة الهواء لها … قطع الصمت سالم عبده مردفًا بملل :
يعقوب كلم أخوك يكلم محمود يشوفه فين
ارتشف يعقوب من كوبه وردد بلا اكتراث :
وأنا مالي ما تكلم أخوك بدل اللفه دي
بنبرة محتدمة ونفاذ صبر هتف سالم :
يا سيدي ما قولنا عمي محرج علينا حد يكلمه
علق سالم جابر بتهكم :
أمته تقتنع أنه كبر وتبطل تعامله على أنه ابنك الصغير
رفع مرتضى حاجبيه قائلا باستهجان :
يابني ده أخوه ازاي ميسألش عليه
: اعوذ بالله مين العمل الشاي ده
ظهر الاشمئزاز على تعابير وجه عامر متأمل الكوب بقرف، فقال مرتضى بكدر :
سيبه وأقوم اعملك غيره
أخذ يعقوب الكوب من يد عامر يرتشف بتلذذ بعد أن أنهى كوبه مغمغمًا بخبث :
مقولتوش يعني المزاد اخرته ايه
حدقوا ببعضهم وهتف سالم جابر بدهاء :
آخرته كل خير
ضحك مرتضى متمتم بمراوغة :
ده احنا هنشوف العجب
: أنا هقوم أعمل شاي
قالها عامر وهو ينهض إلى كومة القش يشعلها بالنيران كما فعل مرتضى ووضع غلاية الماء على أعواد الحطب … تساءل مرتضى بفصول ولهفة :
وانتوا هتروحي مع مين ؟؟! اصلي سمعت أن المعلم سالم عايز الأرض وعمي جابر وعمي عبده عايزنها
لوى سالم جابر ثغره بسخرية وجاوبه بعدم تصديق :
ليه أنت متعرفش أن عمي هيحضر ببناته !!
بصق يعقوب الشاي في وجه سالم عبده لأنه يجلس مقابل له، فرفع سالم يده يمسح وجهه بحنق وصاح بضيق :
حبكت تتصدم وأنت بتشرب
اعتدل مرتضى في جلسته متسائلاً بشك وريبه :
بتهزروا ولا كلام جد !!
: حد يشرب شاي
تطلعوا إليه بغيظ فقال عامر بلا اهتمام :
انتوا الخسرانين دي كوباية تتاقل بملايين
؛**************
اليوم المعهود ” يوم المزاد العلني”
صوان كبير ضخم كلف خمسة وعشرون رجل العمل منذ الصباح لإخراجه بتلك الفخامة .. مقاعد مصفوفة على الجانبين، وبين كل عدة مقاعد طاولة عليها علبة مناديل مجهزة لحمل الضيافة، وعلى أول الصوان لوحة كبيرة يكتب عليها عنوان المزاد …
في تمام الحادية عشر صباحًا بدأ الحضور يتوافدون، ومن أبرزهم الريس عزيز وأولاده وأولهم يعقوب الجالس ينتظر على أحر من الجمر منذ ليلة أمس، لا ترد على مكالماته تركته بحيرته من صدق حديث سالم، وكذلك مرتضى التابع لطاولة والده بصحبة خليل ولا يختلف عن يعقوب كثيرًا فقد أرسلت مها رسالة بأنها مضطرة للمبيت مع أخواتها تلك الليلة .. وطاولة أخرى تخص صبري وابنه معتصم، وبالجوار طاولة رشدي مطاوع ووالديه، وفي أحد الأركان طاولة صغيرة تخص سلطان الجالس بعنجهية … وبعض من كبراء القرية والقرى المجاورة
وأخيرًا ظهر عبده وخلفه والديه وبعده جابر وابنه يتجهون إلى طاولة واحدة بحكم أنهم شركاء في التجارة…. عم السكون بغتةً وانتبه الحشد إلى مدخل الصوان مع ظهور المعلم سالم بجلباب رمادي غامق ويعتليه عباءة رجالية سوداء، تعلقت الأنظار وهناك عينين ساخرة ترمقه بشماته لوقوفه بمفرده بينهم ” وحيد !! ”
لكن من يعلم معنى الوحدة ولديه سبع فتيات !!!
توسعت الأعين والمعلم سالم يتقدم للصوان وخلفه هند ومها وأمل في جهة والجهة الأخرى مروه وحسناء … تعالت الهمهمات بتعجب وذهول، لقد فعلها وأثبت إليهم أن هرائهم لا يعنيه، جلس بأريحية ووضع راحت كفيه فوق بعضهما مستند على عصاه، والفتيات يلتفون حوله وجلستهن مماثلة لوالدهن، ثقة، هدوء، شموخ، ووقار … وقع اختيارهن على عباءة سوداء ذات طراز خليجي مميز راقي، بأكمام واسعه مطرزة بحبات على شكل ماس صغير على الأطراف وحجاب مماثل، هيئتهن تخطف الأنظار وتحبس الأنفاس .. ” لألىٓ مبهرة تبرز بوميض الجمال الخلاب ”
دقائق وولجت خيريه ورحمه ومعهن السيدة مالكة الأرض متجهين إلى طاولة والدهن الذي ابتسم بمكر وهو يرى نظرات التعجب والاستغراب تحوم حوله، جلس كل فرد في مكانه وبدأ صبري بكلماته لافتتاح المزاد باعتباره المسؤول، وقبل أن يبدأن بعرض المبالغ وقفت السيدة تقول:
أنا موافقه على عرض المعلم سالم
تشنج وجه صبري وجال بعينيه بين الجمع المتعجب ثم هتف باستنكار:
هو لسا حد قال عرضه !!
: عرضه وصلني وأنا موافقه عليه
وقف أحد الجالسين يسألها بدهشة :
مش يمكن عرض تاني يعجبك ده حتى احنا منعرفش عرض المعلم !!
استقامت هند وهتفت بنبرة رزينة تشرح بثقة كبيرة :
عرضنا إننا هنتفق على سعر الأرض المناسب مقابل نسبة ثابته هتكون كمرتب شهري دائم
الصمت سيد الموقف والذهول يطغي من وجوههم، بينما ضحك عزيز وهمس إلى يعقوب بخفوت :
هيفضل حماك طول عمره خبيث وليئم
في حين أن المعلم سالم نهض قائلاً بدهاء :
معلش بقا يا جماعه قفلت المزاد قبل ما يبدأ
ابتسمت السيدة وقالت بامتنان :
الله يكرمك ويبارك لك في بناتك زي ما كرمتني
هتفت خيريه ببسمة صغيره :
بكره أن شاء الله نمضي الورق
أشار إليهن باللحاق به وعبده وجابر سبقاه لخارج الصوان، جرأة وشجاعة لم يتصورها أحد أبدا .. لم يخجل كما توهم البعض، وظهر بكل قوته يمشي معهن بانتصار عليهم جميعًا، بكل بساطة جعلهم يقومون المزاد وانتظر اجتماعهم ليظهر إليهم مدى سهولة ويسر حصوله على اي شئ يريده، يؤكد للجميع تفوق فتياته على أعتق رجل في الصوان … وأنه من يحتاج إلى وجودهن في حياته وليس العكس، وأن الطمأنينة والسكينة في عناق إحدى بناته بالدنيا وما فيها…
: ما شاء الله بنات تشرف طالعين لابوهم
: شوفتهم واقفين جنب أبوهم ازاي ولا اجدعها رجاله، البت ماشيه مظبوط تقولش ظابط
: اهو في رجاله اسم بس ولا تعرف تعمل زي البنات دي، دول هما اللي شايلين المصنع مع أبوهم
وحديث جمه غير ذلك يدور بين الجميع بإعجاب وانبهار، لكن هناك من لم يقدر على كتم حقده وظهر على قسمات وجهه الغاضب وهو يسمع كلمات المدح والتمجيد والاطراء وهو من ظن أنه سيشاهده مكسور يذل!!
بخارج الصوان قابل سلطان يعقوب قبل أن يصعد سيارته وبعد التحية والسؤال عن الأحوال قال سلطان بإعجاب :
بلغ المعلم سالم تحيتي وتقديري لدماغه العليا مع أن الأرض كانت داخله دماغي
قطب يعقوب جبينه باستفهام وسأله مستفسر :
مش مكفيك العزبة بكل اللي فيها وعايز تيجي هنا
فرك سلطان ذقنه وقال بسأم :
عايز أرض بعيد عن العين اعملها مخزن لمحصول المزارع
ثم استرسل متسائلاً باهتمام :
هو المعلم فاضل عنده بنات مش مخطوبين ؟؟
رسمت بسمة خبيثة على ثغر يعقوب وتمتم بلؤم :
بتسأل ليه ولا تكون ناوي تدخل القفص
هز رأسه يرفض مغذى حديثه ورد عليه باقتصار كي يغادر، يعقوب لئيم وذكي ولن يجاوبه عما يريد دون أن يوقعه في شباكه :
سلطان حر ميدخلش قفص
لم يعطيه الثاني أي إجابة ترضي فضوله وصافحه ورحل تارك والده لازال في الصوان عله يلحق بها قبل أن تدخل منزلهم، يخبرها كم كانت فراشته الصغيرة جميلة، هادئة، مميزة ..
؛؛؛؛؛؛؛
دخلوا المنزل وسعادتهن لا توصف، رؤية الفخر والاعتزاز في عين والدهن لا تقدر بثمن … كل واحده صعدت لغرفتها تستريح بعد إتمام المهمة بإتقان، وانتظر المعلم سالم في البهو كما طلب منه جابر الذي جاء بعد عشر دقائق تقريباً ..
: مبروك يا أبو هند
رد عليه مبتسمًا :
الله يبارك فيك يا جابر، خير بقالك يومين بتقول عايزني ؟؟
جلس بجانبه متمتم بأسى :
سالم طلق نيره وأنا طردته
ومن ثم استطرد بضيق:
كنت فاكرهم هيعقلوا
رمقه لبرهة وردد بقتامة :
سيبك دلوقتي من سالم ونيره لأن الاتنين اتفه من بعض وركز معايا
تطلع جابر إليه باهتمام فتابع المعلم سالم بصوت منخفض حذر :
في حد بيلعب معايا من تحت لتحت وعايز يوقعني في عيلتي وأنا جبت أخرى من الجو ده وقررت ألعب على المكشوف
حرك جابر رأسه بعدم فهم :
حد مين ؟؟! تعرفه وأحنا نخفيه من على وش الأرض
: لازم أعرف قبل الشهر ده ما يخلص
عقد جابر جبينه باستغراب وسأله بقلق :
كلامك غريب ويقلق يا سالم !! تقصد ايه ؟؟
تجاهل سؤاله وهتف بامتعاض :
مش وقته يا جابر اسمعني ونفذ اللي هقوله ومهما حصل اوعى حد يعرف بالكلام ده حتى عبده
ربع ساعة وهو يسرد إليه كل ما عليه فعله ومن حين لآخر يذكره بعدم معرفة أحد ما دار بينهما مهما حدث … قطع جلست التخطيط السري دخول يونس يحمل حقيبة صغيرة وعلى وجهه بسمة مشرقة، قابله جابر بترحاب وحفاوة شديدة وكذلك المعلم سالم الذي سأله باهتمام :
ابراهيم مجاش لعل المانع خير ؟؟؟
أجابه بحرج من رفض والده السفر معه :
تعبان مقدرش يجي
رد جابر بعدم ارتياح لسيرة ابراهيم من الأساس :
ألف سلامه المهم أنك هتيجي تتعشى معانا طبعا بعد إذن أبو هند
أومأ المعلم سالم برفق فستأذن جابر منهم كي يخبر زينب بتجهيز العشاء لأجل حضور يونس الغالي على قلبه، خرجت صباح ترحب بيونس ومعها كوب عصير أثناء تقديمه رفع يونس يده يلتقط الكوب فكشف أكمام القميص عن معصمه لتظهر وحمة سوداء كبيرة على شكل دائري … ظل المعلم سالم يعيد شكل الوحمة في مخيلته يتذكرها جيدًا، وبدون مقدمات سأله بترقب :
دي وحمه اللي في ايدك
ابتسم يونس ووضع الكوب من يده ثم شمر عن ساعديه يكشف الوحمة بوضوح أمام عينيه :
آه وحمه مولود بيها
: اكيد تعبان من السفر قوم ادخل الشقة أنت عارف الطريق
تعجب يونس من تقلب حاله وتبدل تعابير وجهه، نفذ ما قاله وأخذ الحقيبة يتجه للجهة الأخرى لا يفهم حجم الكارثة التي اشتعلت خلفه .. وعلى حين غرة ضحك المعلم سالم يقهقه بصوت مرتفع إلى أن أحمر وجهه، يضحك يحرك رأسه بعدم تصديق .. من يراه يشعر بالريبة فلا يوجد سبب لتلك الضحكات الغربية، ضحك يحمل خفايا مرعبة، وأخيرًا هدأ قليلاً يتحدث معه نفسه وشكل الوحمة حفر داخل رأسه :
دا احنا عايشين مع شياطين
؛*************
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بنت المعلم الجزء الثاني)