رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم حسناء محمد

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الجزء الخامس والعشرون

رواية بنت المعلم الجزء الثاني البارت الخامس والعشرون

رواية بنت المعلم الجزء الثاني الحلقة الخامسة والعشرون

سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته 💙
؛***
مر ثلاث أيام دون جديد، روتين هادئ لم يحظوا به منذ فترة ليست قصيرة، تفاصيل بسيطة عادت إلى تفاصيل يومهم من جديد…..
تم نقل منصور إلى الحبس الذي سوف يقضي فيه مدته، فقد حكم عليه بالسجن لمدة خمس وعشرون عاماً بناءً علي اعترافاته … ولحقه عز الذي تم نقله من المشفى كما وضح الطبيب المشرف علي حالته، وما هي إلا عدة أيام وسيتم اصدار حكمه هو الآخر، ويتبع والده ليكون جزاءهم علي كل ما اقترفوه…. علم سيف معاد جلسة النطق بالحكم علي والده من المحامي الخاص بهم، لكن في تلك الأثناء كان في منتصف طريقه متجه للغردقة لعله يجد ليلى في عنوانها القديم، لذلك أخبر المحامي أنه سافر خارج مصر ولن يعود إلا بعد تحسن حالته، لن يتحمل نظرات والده المعاتبة، وكلماته الساخطة بسبب عدم زيارته من قبل …
طلب عزيز من شريف بأن يسمح لمايسه بأن تجلس معهم أسبوع آخر، لأن زوجة علي وضعت طفلتها حديثاً، وتريد أن تحضر عقيقة المولدة….. لم يخبر يعقوب أحد بما دار بينه وبين المعلم سالم، لعل اختيار الوقت المناسب يجعل ردت الفعل تهون عليه تلك المجادلة الساخنة،
فاجأ سعد الجميع بأنه أصبح باستطاعته أن يقف بكل سهولة دون مساعدة أحد، طبقاً لأوامر عبده كي لا يثير الشك إذا أخبرهم أنه تعفى تماماً … صنعت ندى قوالب الكيك احتفالاً بذلك الحدث السعيد، وانضمت إليهم مياده التي هبطت لأجل المباركة إلى سعد، بالإضافة إلى سحر التي لم تتمهل دقيقتين وصعدت مجدداً الي شقتها، لتجنب نظرات رحاب الممتعضة لوجودها بينهم، وكذلك حديث عبده الصارم بعدم احتكاك واحده منهن بالأخرى، لأنه لن ينتظر أي مشاجرة أخرى، وخاصة من رحاب التي قبلت أن تعود إليه بسبب إصرار سالم فقط …
حاول جابر تقبل اعتذار أكرم لرحيله المفاجئ دون أن يخبر أحد، حتي بعد سفره قطع تواصله لفترة طويلة، وظنوا أنه تراجع عن الزيجة من خلود، بالرغم من شرحه للمشكلة التي تواجهه في استراليا، وأنه صدم عندها أخبره والده أن مطعمه علي وشك الإغلاق لاختلاف ما في الحي الموجودة به …. قرر سالم عدم الصعود شقته تلك الفترة حتي تهدأ نيره، أو تستعيد وعيها من ذلك الجنون، وكأنها رحبت بفكرته لتساعد زينب في تجهيز أغراضه دون أن تحاول أن تصلح بينهما ….
؛****
أخبره الصبي المسؤول عن إرسال المبلغ الشهري إليها أنها تريد رؤيته، فغير واجهته واتجه إلى منزلها … سيدة عجوز بلغت العقد الثامن من عمرها، توفي أولادها وزوجها في حادث سير، لتكون الوحدة جار أحزانها، انعزلت عن العالم في منزلها البسيط، مكتفية بالأسى الذي أصبح رفيقها بعد موت روحها مع أسرتها…. كان ذلك المنزل الصغير بجانب سرايا آل سويلم، وتكفل كبيرهم بما يلزمها حتي توفي، ولكن لم تنقطع عادته وأكمل سالم مسيرة والده، وقام بإعادة بناء منزلها مجدداً، وخصص كل شهر مبلغ يكفيها، بالإضافة إلي إرسال احدى زوجاته للاطمئنان على صحتها كل فترة،
طرق الباب برفق لعدة مرات، بعد دقيقة ظهرت سيدة نحت الزمن علي وجهها معالم ما مضى، ابتسمت الكهَّةُ وهي تفسح إليه الطريق، وسارت أمامه ببطيء يتماشى مع قدرتها التي أصبحت هزيلة … جلس المعلم سالم علي الأريكة متسائلاً:
طلبتي تشوفيني ؟ محتاجه حاجه ؟!! حاسه أنك تعبانه ؟!
ابتسمت قائلة بسخرية :
ايه يا سالم هو مينفعش أشوفك غير وأنا تعبانه
حرك رأسه نافياً وردد بقلق :
قلقت لما بلغوني أنك عايزه تشوفني
نهضت بتثاقل بجسدها المنكمش متسائلة بتذكر :
لسا بتشرب الشاي بمعلقة سكر ؟!
أشار إليها بأن تجلس :
متتعبيش نفسك يا عمه
نظرت إليها بحده وهي تذهب إلى إحدى الغرف :
لتكون فاكرني مش هعرف أضايفك
اختفت لخمس تقريباً وخرجت تحمل كوب شاي، فنهض سالم مسرعاً باتجاهها، أخذ الكوب منها متسائلاً بشك :
هو سيد جالك الشهر دا ؟؟
جلست في مكانها المفضل وهي تردف بتهكم :
ليه هو أنت مش عارف فلوسك بتوصلني ولا لا
عاد يجلس مقابل منها وهو يضع كوب الشاب بجانبه :
أفهم من كدا أن سيد مش بيجيلك كل شهر
ردت عليه باقتصار :
بيجي وبيشوف العلاج الناقص ويبعته
واسترسلت متسائلة:
جوزت بناتك ولا لسا ؟؟ سمعت أنك فسخت خطوبة بنت ناديه ؟!
ابتسم مردد بمزاح :
دا الأخبار بتوصل أول بأول
: جَوز بناتك يا سالم قبل ما تموت وتسيبهم لوحدهم في الدنيا
ارتشف من كوب الشاي وأردف بهدوء :
نصيبهم لسا مجاش
رمقته باقتضاب وهي تهتف بنبرتها التي بلغها السمانة :
باقية شايب ومحدش ضامن عمره يا بن خيريه
واسترسلت بقلق بادي :
الفلوس بتغير النفوس وبناتك مش هتحميهم فلوسك
وضع الكوب من يده وسألها بعدم فهم:
ليه بتقولي كدا يا عمه ؟!
ظهرت بسمة علي شفتيها مردده بوجوم :
لتكون كبرت علي النصيحة يا سالم
حرك رأسه بهدوء مردفاً باستغراب :
كلامك مش للنصيحة يا عمه مبروكه
ضحكت مبروكه ثم أشارت إليه بأن يشرب كوب الشاي … بعد سكون لم يدوم، قالت بتذكر :
والإسكندرانية عامله ايه مع أم أربعه وأربعين
ضحك بصوت مرتفع وصدحت قهقهته الرجولية في أرجاء المنزل، وبصعوبة قال من بين ضحكاته :
مش عارف صباح عملتلك ايه
: والله أنت اللي مش عارفها علي حقيقتها دي مايه من تحت تبن
نظر إليها متسائلاً بفضول :
تفتكري بعد عِشرة ٣٠ سنه ومعرفهاش ؟!
حدجته لبرهة بسخرية، جعلت سالم يتعجب من سر كرهها الغير مفهوم إلى صباح، بعد تركهم للسرايا وبيعها واتجه كل واحد منهم إلى منزله الخاص، كل مرة يجلس فيها مع مبروكه تخبره بأن صباح امرأة لئيمة لا يجدر الثقة بها ….
: قوم ألحق الضهر حاضر
آفاق من شروده وانتبه علي صوت أذان الظهر، نهض قائلاً بسخرية:
نصيحتك وصلت يا عمه
أشارت إليه بأن يرحل مردده بحنق:
رُود الباب وراك يا بن خيريه والمرة اللي جايه عايزه أشوف بناتك آخر مره كانت والصغيرة في إعدادي
أومأ إليها وتحرك للخارج، أغلق الباب بحرص واتجه إلى أقرب مسجد … دون أن يشغله حديث العجوز، فأصبح من المعتاد أن تثير فضوله فيما تخفيه عن حقيقة صباح، ولكنها ربما تريد إثارة شكوكه لشعوره بالغضب من زيارته المتقطعة منذ أن ذادت أشغاله،
؛****
سقطت الحقيبة من يدها وهي تتأمل الشقة بصدمه، لو كان تتار من الجاموس مر عليها لكانت بهيئة أفضل … ملابس مبعثرة في كل مكان، أكياس الحلوى الملقاة أرضاً، المناديل الورقية المتسخة، بواقي الطعام، اكواب المطبخ كلها أو ربما أكثر … فتحت عينيها علي وسعهم وهي ترى غرف النوم، وضعت يدها على وجهها بتذمر، ثم ولجت إلى المطبخ المنبعثة منه رائحة كريهة…
: مستحيل يكون في بني ادمين عايشين هنا دول تيران
وضعت حجابها بإهمال وفتحت الباب تهبط إلي الأسفل وهي تهمس بكدر:
قال وأنا اللي جايه اعملهم مفاجأة
لم تطرق الباب وولجت إلى طابق والدة زوجها باندفاع، تبحث عن أحد يشرح لها ما حدث في الأعلى، وجدت زوجة مؤمن منضمة إلى الجلسة الظريفة، كانوا يشاهدوا التلفاز وبجانبهم أكواب عصير … نظرت والدة ربيع إليها مردفه بحفاوة:
حمد لله علي سلامتك يا مي
ردت عليها باقتضاب:
الله يسلمك
واسترسلت متسائلة بضيق:
هو ممكن أفهم ايه اللي حصل في الشقة ؟؟؟
عقدت جبينها بعدم فهم، فقالت زوجة مؤمن ببرود :
دول العيال كانوا بيلعبوا شويه
: شوية !! دول فاضل شويه ويهدوا الجدران
نهضت الأخرى وهي تردف بتبرم :
ياختي قولي ما شاء الله ما هما عيالي وعيال جوزك
ضغطت مي على فكها بعنف وهدرت بحده :
والمفروض أن صاحبة الشقة مش موجوده يبقا محدش يدخولها لا كبير ولا صغير لحد ما ترجع، إنما تفتحيها ملعب لسبع عيال يبقا دا استهبال
ولج في نفس الوقت رشدي وبصحبته مؤمن الذي نظر إلى زوجته بوعيد، نطق رشدي وهو ينظر إلى زوجته بلوم :
حقك يا بنتي وأنا منبه عليهم محدش يطلع من العيال لحد ما ترجعي
أشار مؤمن إلى زوجته قائلاً بجمود:
حصل خير يابا، كريمة هتطلع تساعد مي وبعد كدا العيال تلعب في الحوش
لم تستطع كريمة أن تبدي اعتراضها محافظة علي ماء وجهها إذا اندفع مؤمن في بطشه أمامهم، ولكن ساعدتها مي في مشقة مهماتها عندما قالت ممتعضة:
هكلم سميره وأختها يجوا يساعدوني
دارت تصعد وهي ترمق كريمة شزراً، ومن ثمّ اتصلت بوالدتها لتتواصل مع سميره التي تأتي لمساعدتهم في تنظيف المنزل كل يوم جمعة … بينما دلفت كريمة خلف زوجها وهي تتمتم بغيظ :
ولو أنا قولت واحده تيجي تساعدني تقوم نار متنطفيش
اختطف المنشفة من بين يدها يجفف وجهه مردد بتهكم :
دا علي أساس أنك مش طالقه عيالك وعيال ربيع من أسبوع في شقتها
ألقى المنشفة عليها مستكملا بملل :
بلاش شغل السلايف، وامشي اعملي شاي
؛**
في الأعلى اتجهت مي تبدل ثيابها لتتحرك بأريحية، ثم رفعت خصلاتها بعشوائية… تخصرت وهي تدور حولها بقلة حيلة، تحركت باتجاه المطبخ تصنع كوب قهوة سريعة التحضير، وجلست تنتظر قدوم الفتاتان….
ما هي الا ربع ساعة وجاءت سميره ومعها أختها، انتهت مي من احتساء قهوتها، وشاركتهم الاشتباك في المعركة…. ساعتين تقريباً وكلا منهن تنظف غرفة ثم تنتقل للأخرى، اختارت مي أن تنظف المطبخ وغرفة المعيشة، وحين انتهت من غرفة المعيشة وجدت ربيع يدلف الي الشقة بوجه عابس، نظر إليها باستغراب ومن ثمّ سألها بتعجب :
أنتِ رجعتي أمته ؟؟
رمق هيئتها وثيابها المتسخة، ثم حرك رأسه باتجاه الممر المؤدي للغرف عندما استمع إلي صوت ضوضاء:
هما العيال رجعوا من عند خالتهم ؟!!
دفعته بعنف وهي تهتف بحده :
امشي يا ربيع لحد ما أخلص ما أشوفش وشك
أغلقت الباب بقوة قبل أن يلتفت ويفتح فمه، قطب ربيع جبينه باستفهام وهبط مجدداً، رأى والدته تخرج قائلة:
أنت ايه طلعك علي طول
تغاضى عن حديثها ورفع يده متسائلاً بتعجب:
هي مي رجعت أمته ؟!
: ما أنا طلعت وراك عشان أقولك متطلعش لأنها رجعت واضايقت من اللي عملوه العيال، واتصلت ببنتين يساعدوها
فرك رأسه بعدم استيعاب مردد بحيره :
اعمليلي لقمة ياما
جلس علي الدرج ومن حين لآخر يرفع رأسه ينظر للأعلى، يشعر بالريبة من عودتها دون أن تتصل به أو تخبره علي الأقل، وماذا عن حديثها آخر مرة ؟؟… هل تقبلت حياتها أم ستعود بعد أيام قليلة تبكي علي حظها ؟!! ود أن يصعد ويتحدث معها لِيفهم وضعه، لكنه قرر الانتظار حتى تنتهي ليكون الحديث علي محمل جد ومن الأفضل عدم تواجد الأطفال الذي سيستمر غيابهم أسبوع عند خالتهم،
؛********
عند مدخل القرية وقفت سيارة فارهة، هبط منها شاب بسيط القامة يسأل أحد المارة عند منزل عبدالخالق سويلم … صعد بعد أن علم معالم الطريق المؤدي إلى واجهتهم، وقال بضيق :
أنا مش فاهم ماما إيه طلع في دماغها روجعنا مصر تاني
أجابه الجالس بجانبه وهو يتطلع من النافذة يتأمل الطريق :
مسيرنا راجعين دلوقتي أو بعدين
ظهر صوت غاضب من المقعد الخلفي وهو يهدر بحده:
لو انتو عايزين ترجعوا أنا مش عايز
: هو تقريباً كدا وصلنا
ما أن وقفت السيارة أمام منزل ما، خرجت هانم وهي تشير إليهم بالتقدم وعلي ثغرها ابتسامة عريضة … ترجل الخمس شباب من السيارة، بينما تقدم عبدالخالق مرحباً بهم بحفاوة، بعد أن ولجوا إلى المنزل خرجت زوجة عبدالخالق ومعها ابنها وائل الذي رفض خروج إخوته للترحيب بأولاد عمتها …
تعالى يا وائل أعرفك برجالتي أصلك مشوفتهمش من زمان
أشارت علي شاب فارع الطول، يمتلك جسد متناسق، وملامحه تشبه والدته إلى حد ما :
دا محمد كبير اخواته ماسك مكان أبوه مع التجار السعوديين
تابعة وهي تشير إلى شاب يصل شعره المنسدل إلى أول أكتافه، عريض المنكبين، تدل عضلاته البارزة أنه رياضي قوي، ملامحه حاده كنظراته القاتمة :
ضياء مدرب ملاكمه وبيساعد محمد كل فترة
اتبعه شاب يتضح علي وجهه تعبير الضيق، يشبه ملامحه محمد كثيراً لكن متوسط القامة :
علاء مترجم ألماني وشغال تبع شركة كبيرة ومترجم كتب كتيره
ومن ثمّ شاب وسيم وبشوش الوجه :
اللي مشرفني دكتور حسام في سنه رابعة كلية الطب
وأخيراً أشارت علي فتى يمسك الهاتف:
وآخر العنقود فادي في تالته اعدادي
تنهد وائل بوهن وهو يقول بسخرية:
دا أنا تعبتلك يا عمتي
ضربه ضياء علي كتفه مغمغم بضيق طفيف :
ظريف يا وائل
وضع وائل يده علي كتفه متأوه بألم، بينما صاحت هانم بحماس :
فين أسماء ونورا
كاد أن يرد وائل لضيقه من فكرة اختلاط إخوته بأولادها، ولكن هتف والده باقتصار وهو يشير إلى إحدى الغرف:
بيحضورا الأكل للغاليين
وأشار إليهم بأن ينهضوا إلى غرفهم لحين الانتهاء من تجهيزات الطعام …
؛******
شعر بالضيق من جلسته منذ ما يقارب ساعتين، فقرر الصعود لرؤية ما أن انتهت أم لا، فتح الباب برفق وأدخل رأسه يتأمل الوضع بحذر …. رائحة أشبه برائحة الياسمين تفوح في المكان، إضاءة هادئة تنير الشقة بشكل مريح للأعصاب، كل شيء منظم في مكانه لدرجة شعورك بالسكينة من نظافة المكان حولك …
جال ربيع بنظره في شقته غير مستوعب أنه يقف في حلبة المصارعة التي كانت تضج في المكان منذ ساعتين، تحرك ببطيء ليشبع عينيه من النظافة التي حرم منها … وقف منبهر ممزوج بتعجب من الطاولة التي تعتليها زهور متناثرة بعشوائية وتوسطها بعض الشموع، تقدم سريعاً إلى المطبخ عندما فاحت منه رائحة أثارت فضوله، ولكن قبل أن يدلف وجد مي تخرج من المرحاض وهي تحكم المئزر على جسدها وتغطي خصلاتها بالمنشفة، عندما رأته هتفت بحنق :
ياريت تحافظوا علي هَدت حيلي دي أسبوع بس
ابتسم ببلاهة فقالت بحده :
ما توسع يا ربيع خليني أروح أنام شويه
أفسح الطريق دون أن يُعقب ثم ذهب يتجول في الشقة وكأنه يتجول في إحدى المتاحف الأثرية … وعندما انتهى ولج إلى المرحاض لينعم بحمام دافئ، ويلحق بـ مي ويخلد للنوم في راحة بال وهدوء جميل بصحبة زوجته، فلن يحتاج إجابتها بعد ما رآه ليكون خير دليلاً لعودتها إليه دون ضغط منه ….
؛********** بقلم حسناء محمد سويلم
خرج من صلاة الظهر متجه إلى مصنعه، طلب من مرتضى الاتصال بـ عامر لإخباره بالمجيء للتحدث في أمر هام، بعد نصف ساعة تقريباً ولج عامر ملقي التحية باحترام … أغلق المعلم سالم دفتر المراجعة الشهرية، ثم وضع نظاراته الطبية بجانبه، وبادله المصافحة مشيراً إليه بالجلوس ….
دون أن يبدأ بحديث منمق، شرح الاتفاق القائم بينه وبين ممدوح، المتوقف حالياً على موافقته فقط … اعتدل عامر في جلسته وهو يسأل بعدم فهم :
لكن ليه حضرتك مُصر تنقذ الاتفاق ؟؟
أجابه بهدوء:
لأني وافقت على شرطه من البداية
واستطرد بقلة حيلة:
أنا مقدرش اضغط عليك ولو رفضت دا حقك، لكن بوعدك لو وفقت مش هتطلع من بيتك غير وفي بيت نفس المساحة بنفس التصميم واقف علي المفتاح وشغلك مش هيقف غير لما أوفر مكان بديل
فرك عامر لحيته متمتم بارتباك من تلك المجازفة:
هو بصراحة بعد الكلام دا طبيعي أوفق
استكمل متسائلاً بحيره :
لكن طالما هيكون في بيت جديد نفس البيت الموجود ليه متدهوش لي ممدوح ؟؟!
انتظر خروج الصبي الذي وضع كوبان الشاي أمامهما، واجابه بجمود :
لأن ببساطة زي ما أنت قولت بيت جديد، يعني لسا مبني مش مسكون من ٢٠ سنه، بتصميم عصري وأساس حديث، ومش من المنطقي أعمل كل دا لابن عباس
ابتسم عامر مردد بحماس :
أنا تحمست من تخيلي للبيت دا
حرك رأسه مؤكداً إليه وعده :
أعتبرها مسألة وقت وهيكون جاهز ليك
: لكن برده حضرتك تقدر متدخلش ممدوح البلد أصلا
نظر المعلم سالم إليه وقال بهدوء :
لو ممدوح مجاش وقت ما عز كان في وسط بيتي مكنتش هعرف أوصل لي ليلى لأنه متابعها من زمان برجالة أيمن ومقدرش أنكر دا ولا أقدر أخلف كلمتي
أومأ بانبهار من شخصية ذلك الرجل الرزين، حتي ما أعداءه يلتزم بوعوده، يتعامل مع الكلمات التي تخرج من شفتيه وكأنها أسهم إن انطلقت لا تعود أبداً … نهض فجأة وخرج تحت نظرات المعلم سالم المتعجبة، وما هي إلا ثوان ودلف مجدداً ومعه علبة متوسطة الحجم يظهر علي واجهتها رسوم لزجاجات مياه،
: دي ماء زمزم كنت جايبها لحضرتك ولأهل البيت
ابتسم المعلم سالم مردد مبتسماً:
هدية مقبولة وعقبال ما تهديني هدية فرحك
: والله هيحصل لو غيرت رأيك
نظر إليه بثبات متفحص تعبيره المرتبكة، ثم قال بدهاء :
هوافق بشرط
شعر عامر بالريبة من نبرته فسأله بقلق :
وهو ايه ؟!
نهض من مقعده يقف أمامه وهو يردف بهدوء :
في شخص محدش هيعرف يدلني على مكانه غيرك
واسترسل بمكر :
وقتها أكون ضمنت ولائك ليا وأنك تقدر تحافظ علي بنتي
قطب عامر جيبنه باستفهام وسأله بعدم فهم:
ايه دخل الشخص دا في ولائي واني احافظ علي خيرية ؟!!
: يونس الخولي
شخصت ملقتي عامر مردد باستهجان :
ابن عمي
حرك رأسه بتأكيد مغمغما باقتضاب:
وابن أختي لو ناسي يا بن الخولي
أخفى عامر ارتباكه وهو يردف مستفسرا :
والدتي محكتليش التفاصيل ولا بابا كان بيتكلم عن عمي من آخر مره زارونا في اسكندريه ودا من سنين، هو حضرتك متعرفش مكانهم !!!
احتدت نظراته مردد بتهكم :
نبرتك بتدل على أنك بتحاول تخبي كذبك
بلع عامر لعابه مردفاً باقتصار:
معرفش طريقهم من وفاة أبويا ومحولتش أسأل لأن دا طلب عمي أنه يبعد بعد وفاة مراته
واستكمل متسائلاً بشك :
وايه فكرك دلوقتي بيهم ؟؟ مش برده طلب أخت حضرتك أن محدش يدور عليها ؟!
رسم المعلم سالم شبه بسمة مغمغم بسخرية:
لا واضح إن والدتك محكتش التفاصيل
أخرج ورقة مطوية من جيب جلبابه مسترسل بريبة :
أخر حملة تفتيش علي بيت منصور لقوا ملف باسم يونس في اوضة هاديه وتقريباً كانت بتحاول تلاقيه ودا ميدلش غير علي أن اختفائها ورا آخر خيط في ايديها ممكن تضغط عليا بيه
: تقتله ؟؟!!
تنهد بثقل مردد بتفكير :
تفتكر عمك طول السنين دي مقدرش يزرع الكره فيه
احتقن وجهه عامر وهو يردف بضيق:
عمي هو اللي اختار أنه يبعد مع أسرته وأخت حضرتك هي اللي شجعته علي كدا ولو كان عايز يبني كرهه بينه وبينكم أقل حاجه مكنش عرفكم بمرض مراته ولا كان رجعها ودفنها جنبكم
أعطاه الورقة الذي دونها شرطي صديق المعلم سالم للتفاصيل الهامة الموجودة في الملف داخل غرفة هاديه :
أنا احترمت رغبة أختي لما قررت تبعد عننا ونفذت وصيتها إني محولش أسأل علي ابنها، لكن أنا مش هستنى أشوف اي حد من عيلة عزب بيقرب من حدودي تاني
نبرته الصارمة دليلاً علي سأمه من ألاعيب تلك العائلة، ولم يتبقى سوى تلك الماكرة التي تلجأ دائماً إلى الحيلة الدسيسة، لتصبح هي الفائزة في حرب أشعلتها من البداية …. أخذ عامر الورقة وهو يقول بتفكير :
وأنا أكيد عايز مصلحة ابن عمي ومش هرتاح لو وقع تحت ايد الإنسانة دي
واستكمل قبل أن يستأذن للرحيل :
لكن لو لقيته واتأكدنا هكتب الكتاب
ضحك علي لهفته وأردف مبتسماً:
لقيه الأول وبعدين تعالى اخطب سنتين تلاته وحصل اخواتك
اختفت ابتسامة عامر وهو يردد بذهول :
سنتين تلاته !!!!
نظر إليه بتسليه وأشار إليه بأن يرحل إن أراد، أو يجلس ويفكر في الثلاث سنوات القادمين … عاد المعلم سالم يراجع دفتره بهدوء متطلع إليه من حين لآخر، يراوغه بالحديث مستمع بجعله متبرم في الجلسة…
؛********
نظرت إلي الدفتر بشك وهي تسألها مجدداً:
وأنتِ عرفتي منين أنه دفتري ؟!
ردت عليها رحمه بلا اكتراث :
لقيته جنب حوض الورد اللي أنتِ بتقعدي عنده ولما فتحته لقيت اسمك
واسترسلت تسألها مصطنعة الدهشة :
هو مش دفترك ؟؟
حركت هند رأسها بهدوء متمتمه بشرود :
أنا أول مره أشوفه أصلا
التفت رحمه تغادر مضيفة ببرود :
يمكن كان ضايع منك ولا حاجه
أغلقت الباب خلفها، فاتجهت هند إلى وهي تفتح الدفتر بفضول، فهي متأكدة أنها لم تملك دفتر بهذا الشكل من قبل …
‏”لا تسألوها كيفَ فاضَ جمالُها
بَل سبِّحوا، سُبحانَ مَنْ سوَّاها”
لا أجد ما أكتبه عنها لأن الحروف تعجز عن وصفها، لا رأى سوى أن الجمال يخجل من حُسنها، وأن قلبي خُطف عند لقاءها، حاولت أن لا أقع أمام بساطتها، ولكن هل يملك أحد الحُكم على روحه في اختيار مسكنها !!
“هند”
أغلقت الدفتر بخضة وهي تضع يدها علي قلبها، كادت دقاته أن تُسمع كدق الطبول، وهي تتخيل أن تلك الكلمات كتبت لأجلها … مسحت وجهها بتوتر ونهضت تخفي الدفتر في خزانتها، لم ترضي فضولها بعد ولكن لن تتحمل قراءة المزيد فمازالت غير مستوعبة تلك الكلمات من الأساس….
؛*********
انكمشت ملامح عزيز مردد بحده :
أربع سنين ايه أنت فاكر نفسك صغير عشان تستنى كمان من غير جواز
بينما شهقت حسنيه ممتعضة :
دا أنت هتخلل جنبها يا بني
ضحك يعقوب باستهزاء وقال بسخرية بالغة:
اللي يسمع كدا يقول إني داخل علي خمسين سنه
صاح عزيز بغضب :
عارفين يا خويا أنك داخل على التلاتين، بُص بقا لإخواتك الأصغر منك اللي خلفوا بدل العيال اتنين وتلاته
رد يعقوب عليه بهدوء :
ودا ميعبنيش برده
هتفت حسنيه بتفاخر :
عيب !! دا أنت زينة الشباب
تطلع إليها عزيز وردعها بعنف :
زينة الشباب بتاعك مش قادر يفتح بوقه قدام سالم
واستطرد موجه حديثه إلى يعقوب:
مكنتش أعرف إنك عديم الشخصية كدا
أخفض يعقوب رأسه مردد بضيق طفيف:
اللي تشوفه يابا
شعر عزيز أن سكوته سخرية منه، فقال بحده :
مش عايز تتعب نفسك بالرد عليا فاكر أنك هتمشي كلمتك
رفع يعقوب نظره دون أن يُعقب احتراماً إليه، فتدخل عبدالله الجالس بهدوء منذ بداية الجلسة :
يابا العصبية مش هتحل
فتح عزيز عينيه علي وسعهم مردده باستهجان :
ليه هو حد فيكم يقدر يعترض علي كلمتي
واستكمل حديثه وهو يشير إليهم واحد تلو الآخر حتي فايزة ومايسه المنكمشين في جلستهم:
لو حد قمر أنه كبر ويقدر يقف قدامي يبقا غلطان
وأشار علي يعقوب مسترسل بصرامة:
ولو أنت مش قادر تتكلم زي الرجالة وتعترض علي كلمة سالم أنا مش هسكلته يإما يروح يشوف عريس يمشي علي مزاجه لبناته
عم السكون لدقائق وصوت أنفاس عزيز الغاضبة تصدح بوضوح، أراد يعقوب اقتصار المشاجرة تارك للوقت إخماد غضب والده… ولكن كان لي عزيز رأي آخر وأراد أن ينتهي ذلك الحديث قطعاً فهدر بجمود :
اعمل حسابك هتروح معايا بليل نغير الاتفاق زي ما إحنا عايزين وغير كدا ميلزميش بنته
: لكنها تلزمني
احتقن وجه عزيز بغضب، فقال يعقوب بهدوء :
أنا مش عيل صغير عشان ارجع في كلامي وبعدين هو قال كدا دلوقتي إنما قدام لما نتفاهم انا وحسناء ونحس إننا قادرين علي الخطوة دي هنتكلم معاه ووقتها عمره ما هيرفض
انتفضت مايسه تقف وهو تصيح بغيظ :
أنت ماسك فيها وكأن اللي خلقها مخلقش غيرها
حدجها يعقوب بحده مزمجرًا بوعيد :
مسمعش صوتك أحسن ليكي
تقدم عزيز يقف أمامه ثم وكزه في كتفه مغمغم بسخرية:
خشن صوتك قدامي كمان
ومن ثمّ دار يأخذ عصاه واتجه يخرج مستكملا بحزم :
وعشان خاطرك مش هستنى لي بليل
توقف يعقوب أمامه مردف برجاء :
أهدى وبعدين نتكلم يابا قبل ما تروحله
دفعه من طريقه قائلاً بسخط :
ولا دلوقتي ولا بعدين بنت سالم مش هتدخل بيتي
؛***********

فتاة تقف في منتصف السرايا الفاخرة، وتحمل رضيع بين ذراعيها، لا يكسر السكون بعد إلقاء جملتها سوى صوت بكائها التي لا تملك غيره أمام صرامة والدها …. نهض كبير آل سويلم ( الحاج عثمان) من مقعده متسائلاً بجمود :
عايزه ورثك وأنا لسا عايش يا حنان ؟؟
ذاد نحيبها وهي تهتف بقلة حيلة:
لو موقفتش جنب جوزي وأبو ابني مين هيقف معها
ابتسم الحاج عثمان بسخرية متمتم بتهكم :
جوزك اللي ضيع فلوس أبوه وأخوه وخلاهم على الحديدة
: إبراهيم انخدغ في صاحبه ومكنش يعرف أنه هيهرب بالبضاعة قبل ما تيجي هنا
نظر عثمان إليها وأردف بحده :
عشان خايب ومش أول مره ينضحك عليه
واسترسل باقتضاب :
وبعدين دي فلوسك وهو ملوش فيها
تطلعت حنان إلى والدتها التي أخفضت رأسها بقلة حيلة، واخواتها المستمعين في صمت، ومن ثمّ هدرت باضطراب:
يعني أشوفه في الحالة دي واسكت
رد عليها عثمان بصرامة :
هو مش شايف أخوه عمل ايه لما ضاقت بيهم الدنيا
أشار بيده مستكملا بكدر :
ابن الخولي اللي كان حاطط رجل علي رجل بقا بياع خضار واهو كل يوم بيلف علي أكل عيشه مش زي البيه بتاعك اللي قاعد ومستني فلوسك
دلف شاب علي وجهه علامات الضيق وهو يقول بغضب:
وأنا مطلبتش فلوس من حد
التفت حنان إلى زوجها متمتمه بأسى:
وأنا مش حد يا إبراهيم وفلوسي هي فلوسك
صاح إبراهيم بغضب جلي:
وأنا قولتلك متجيش لأن ابوكي هيفكرني طمعان في فلوسه
وقف الابن الأكبر لعثمان مغمغما بحده مقترب من إبراهيم:
لما تقف قدام الحاج عثمان توطي صوتك وتحترم وجوده
شعرت حنان أن الوضع سيتأزم بين أخيها وزوجها فقالت برجاء :
عشان خاطري يا سالم
رفع سالم يده مقاطعها بهدوء :
خاطرك كبير عندنا والفلوس اللي أنتِ عايزها هتخديها
ابتسمت بسعادة بينما نظر عثمان الي ابنه مغمغما بضيق :
بتكسر كلامي يا سالم
حرك سالم رأسه بالنفي وأردف باحترام :
ما عاش ولا كان اللي يكسر كلمتك يابا
واسترسل وهو يشير علي الرضيع :
الفلوس دي عشان يونس وأنا بستأذنك إني اتكفل بالمبلغ
ود عثمان أن يعطي حنان درس قبل أن يعطيها النقود، فتلك المرة الثالثة التي تأتي فيها وتطلب مبلغ من المال لتسدد ديون زوجها، الذي يخسر في أمواله لسوء تخطيط مشاريعه…. يريدها أن تستقر في حياة هادئة مثل أختها دولت التي لم تشتكي منذ يوم زوجها قط، وبفكرة سالم يستطيع اعطائها النقود وهو يصطنع عدم الرضا لعلها تتعلم تلك المرة …
: وأنا مش عايز منك حاجه، أنت فكرني بشحت
انتفض عبده الذي انفجر من غضبه المكبوت منذ أول الجلسة:
وأنت ايه دخلك بين اخ وأخته
نظر إبراهيم إلى زوجته بلوم وهتف بوجوم :
ارتحتي دلوقتي لما سمعتني كلمتين ملهمش لازمة
احتضنت حنان رضيعها بقوة وهي تبكي بصمت، اقتربت منها والدتها وهي تهتف بحزن على حال ابنتها :
تعالي اتغدي معانا وبعدين ارجعي بيتك
تطلعت حنان الي زوجها الذي أشار إليها بالتقدم مع والدتها، وما أن ولجت بعيداً عنهم قبل أن يلتفت مغادر، هدر عثمان بحزم :
لو اتكرر وبنتي رجعتلي معيطه تاني هتزعل يابن الخولي
بلع إبراهيم لعابه محرم رأسه باضطراب، أشار عثمان إليه بالرحيل … بينما تحدث عبده بضيق بعد رحيله :
اتعود يخسر فلوسه واحنا نعوضه
جلس عثمان علي مقعده مغمغما بشرود :
عايز تسيب أختك تعيش عيشة متعودتش عليها
تسأل جابر بعدم فهم وهو يجول بنظره بينهم :
مش الأحسن حنان تعيش معانا لحد ما يقف علي رجله ؟؟
رد عليه سالم باقتضاب:
بلاش نتكلم معها في الموضوع دا لأنها هترفض
بعد مرور ثلاث أشهر جاءت حنان لتخبرهم برحيلها المفاجئ مع زوجها إلى مكان عمله الجديد، حاول عثمان أن يقنع ابنته بالمكوث معهم لحين عودة زوجها من ذلك المكان المجهول بالنسبة إليهم…. لكن إصرارها علي عدم ترك أسرتها تتشتت جعله يوافق ممتعض من تيبس رأسها، بدأ سالم في جمع المعلومات عن ذلك المكان ولكنه تفاجئ أنه عنوان خطأ، وأن حنان أخفت العنوان الحقيقي التي اتجهت إليه … عند إذًا أمر عثمان أولاده بعدم البحث عن أختهم وتركها كما تشاء بعيداً عنهم، ولكن لم يكتفي سالم واستمر في البحث عن أخته في الخفاء كي لا يغضب والده، وخاصة أن قواعد كبير آل سويلم لا تقبل الكسر،
بعد مرور عام من رحيلها اتصلت بوالدتها تطمأن على أحوالهم وتعتذر عن ما فعلته … كانت رسالتها أن تخبر عثمان أنها رحلت مع إبراهيم إلى مكان بعيد بعد أن خسر النقود للمرة الرابعة، وخوفها من قرار عثمان جعلها تفر قبل يتركها إبراهيم ويهرب بعيداً عن بطش والدها، وصلت الرسالة إلى عثمان الذي بدأ في البحث عن ابنته ليخبرها بالعودة وتأخذ ما تشاء من النقود، ولن يعترض طريق إبراهيم ولن يجبرها علي تركه … بعد شهر من تلك المكالمة استطاع سالم تحديد مكانها، ذهب مع والده الذي صُدم من حالة ابنته الهزيلة، ورغم تلك المعيشة الفقيرة، والمنزل المتهالك… رفضت حنان العودة معهم بحجة أن إبراهيم بدأ في الاعتماد علي نفسه، ولن تهدم ما فعلته معه لتدفعه للحفاظ علي أسرتهم، غضب عثمان من تصرفها وجفاءها الغير معهود في التحدث معه، رحل مع سالم الذي حزن على ما أصاب أخته، ولكن لم يقفوا أمام سعادتها كما قالت وتركوها علي راحتها ” لو عايزني سعيدة متدوروش عليا تاني وسبوني أعيش مكان ما ابراهيم يكون موجود”
بعد جملتها تلك لم يسأل عثمان عنها، وترك سالم يرسل إليها مبلغ من المال كل فترة للتأكد من أنها مازالت علي قيد الحياة ولم تموت بعد من حياتها الجديدة…. بعد مرور ثلاث أعوام فاجأ ابراهيم الجميع بوجوده داخل السرايا، ولكن المفاجأة الكبرى أن حنان على فراش الموت بسبب مرضها الذي أصابها منذ فترة قصيرة… لم يتمهل عثمان وأسرع لرؤية ابنته التي تحتضر في إحدى المستشفيات
: سامحوني
قالتها بنبرة منخفضة من خلف جهاز التنفس، رتب عثمان على يدها متمتم بصوت مختنق :
متخافيش هنقلك مستشفى تانيه وهتخفي وتكوني كويسه
ابتسمت بوهن وهي تجول بنظرها بينهم متمتمه بآخر كلماتها:
سامحوني
واسترسلت برجاء :
سيبوا يونس مع إبراهيم يربيه
آفاق من ذكرياته التي جعلت ملقتيه تلمع بوميض حزين علي ذكرى قاسية مرت عليهم، يحاول دائماً نسيان نظرات والده وهو يرى أخته تموت أمام عينيه، لن ينسى أبدا حالته الصحية التي تدهورت منذ ذلك اليوم، والحزن الذي أصابه مهما حاول إخفاءه خلف انشغاله بمسؤوليته …
: بابا
نظر سالم إلى أمل مهمهمًا بشرود، قالت أمل وهي تشير علي فنجان القهوة:
القهوة بردت
أومأ إليها بهدوء وأخذ فنجان القهوة ولكن قبل أن يرتشف منه، ولجت مروه وهي تقول :
بابا عمو عزيز واقف بره
وضع الفنجان جانباً واتجه للخارج، ولكنه تعجب من اندفاع يعقوب قبل عزيز وكأنه يقطع طريقه … بدى الانفعال علي ملامح عزيز، دليلاً علي مشادة كلامية بينهما، ومن ثمّ أقترب عزيز قائلاً بجمود :
في كلمتين عايزك فيهم
تطلع المعلم سالم إلى يعقوب بعدم فهم، وأشار إلى عزيز بالدلوف للمجلس … تقدم يعقوب من والده وأردف بحده:
يابا الكلام دا ملوش لازمة
دفعه عزيز من أمامه مغمغما باقتصار:
مش أنت اللي تقول ليه لازمه ولا لاء
نظر سالم إليهما بتعجب متسائلاً باستنكار:
أكيد مش جاي تحل مشاكلكم عندي ؟؟
: ومشاكلنا دي بسببك
عقد المعلم سالم جبينه باستفهام وقال بصرامة:
وايه نوع المشاكل اللي أنا السبب فيها
نظر يعقوب إلى عزيز بتبرم والتفت يغادر قبل أن يستمع إلى والده وهو ينهي علاقته بمحبوبته … صاح عزيز به وعلي وجهه علامات الضيق :
مش هتمشي قبل أن تسمع الكلمتين دول
واستطرد موجه حديثه إلى سالم :
مش المفروض لما يكون في اتفاق بينك وبينه يكون بحضور أبوه
رد عليه سالم متهكما يقاطع حديثه الساخر:
ليه هو أبوه هيتجوزها معاه
وأشار علي يعقوب مستكملا:
وطالما مش سامح لابنك ياخد قرار هأمنه علي بنتي ازاي
: أنه يحترم أبوه يبقى مش يؤتمن علي بنتك يا سالم !!!
رد عليه باقتصار:
يحترمك شيء وأنه يقرر حياته تمشي ازاي شيء
ثم أشار إلي يعقوب مردد بضيق طفيف:
وأنا قولتلك قبل ما تبلغني ردك علي شرطي تعرف أبوك لاني عارف اللي هيحصل
نظر يعقوب إليهما وقبل أن يتفوه، أشار عزيز إليه وهتف بصرامة:
صوتك ميطلعش وابوك واقف
اقترب يعقوب منه متمتم بخفوت:
ما أنا كدا مش هيطلع هنا ولا هيطلع هناك اومال هتسمعني أمته
لوي عزيز جانب شفتيه مغمغما بسخرية:
ولما أنت عايز تتكلم معترضش ليه لما قالك تقعد ٤ سنين
: لأني موافق
احتقن وجه عزيز من رده الصريح، الذي جعل المعلم سالم يبتسم بهدوء، لم يكتفي يعقوب بعد واستكمل بحزم :
في الفترة دي أقدر أجهز بيتي وأكون مستعد لحياتي الجديدة
تطلع عزيز إلى سالم الواضح علي تعبيره التعجب، ثم أردف متسائلاً بريبة :
ما شقتك خلصانه من بدري ؟!
حرك يعقوب رأسه بالنفي قائلاً :
الشقة هتفضل موجوده اجي فيها زيارات أو لو حبيت اقعد يومين معاكم
” زيارات !!! ” قالها بدهشة وهو يرمق سالم الذي هتف بتهكم قبل أن يندفع دون فهم :
مش هشرط عليه في دي وأنا عارف من الأول أنه شقته في بيت العيلة
تنهد يعقوب مردفاً باقتصار:
أنا اللي مش عايز اتجوز في بيت العيلة
رمقه عزيز لبرهة ثم تحرك مغادرا دون أن يُعقب، فقال المعلم سالم بلوم :
لما أنت عايز كدا المفروض تعرفه وتفهمه بدل ما تقوله بالطريقة دي قدامي
: حتى لو كنت عرفته قبلها في كل الأحوال أنا كدا بالنسبة لابويا بطلب فوق المستحيل
نظر إليه بضيق مغمغما باقتضاب:
يعني يجي عشان يتكلم في ٤ سنين يقوم يعرف أنك بتخطط تطلع من البيت من غير علمه
واسترسل بحده:
امشي ورا أبوك واتشاور معاه
أومأ يعقوب ودار يخرج، لكنه توقف علي صوته المتسائل :
عايز تطلع من بيت العيلة ليه وأنت عارف أن أبوك متعلق بوجودكم جنبه ؟!
: عايز استقر
قطب سالم جبينه متعجباً من رده المقتصر لباقي الجملة، ولكن ولوج هانم وخلفها أولادها قطع تساؤلاته …. تحرك يعقوب للخارج وهو يتطلع إلى الشباب بتفحص، وكذلك فعلوا وهم يرمقوا ذلك الفارع الذى تشابه طوله مع أخيهم الكبير، ولكن لم يدم تأملهم عندما صاحت هانم وهي تقول بسعادة :
أعرفك يا معلم سالم بولادي أول ما وصلوا صمموا يجوا يتعرفوا على خالهم
ابتسم المعلم سالم بهدوء وأشار إليهم بالدلوف إلى المجلس، فأردفت هانم بخبث :
لا إحنا هندخل المجلس اللي جوه هو في حد غريب عشان ندخل دا
احتفظ ببسمته مردد بجمود:
حُرمة بيتي مفيهاش غريب ولا قريب
واستكمل مشيراً للشباب بالتقدم :
نورتوا مصر
اتبعتهم هانم للمجلس وهي تبتسم بتوتر لتخفي حرجها، بينما تهامس الشباب عن شخصية سالم الذي ولج إلى منزله ليأتي بالضيافة ….
؛**********
في مكان آخر بعيداً عن القرية
دفع الارجيله بعنف وهو يهدر بغيظ :
هو أنتِ مش هتتغيري أبداً
: ولا أنت هتبقا راجل مره
رسم شبه بسمة علي شفتيه مغمغما بسخرية بالغة:
ما دي غلطتي لما قررت اخدك واعالجك قبل ما تموتي
واستطرد بسخط :
فكرت ربنا هدك
نظرت إليه مردده باستهجان :
هو الكام قرش اللي أنتِ جمعتهم في ١٠ سنين طلعولك صوت
حرك رأسه بهدوء مردفاً بوجوم:
ومالو لما ارجعك المستشفى هتعرفي قمتي
حدجته لبرهة متسائلة بشك :
بلاش لف ودوران وقولي بتعمل كل دا ليه ؟! الكلام الحمضان بتاع أننا ولاد عم بلاشه
ضحك الآخر ثم تمتم بحنق :
من كتر شرك مش مصدقه أن في حد بيعمل خير
لم تقتنع بتلك الإجابة فسألته مجدداً:
وخيرك دا مظهرش غير دلوقتي ؟!
وقف يتقدم من فراشها وهو يهمس بريبه:
مش يمكن عايز أعمل فيكي زي ما عملتي في اخوكي
لوهلة شعرت لأول مرة بمعنى الخوف يتغلغل داخل حنايا قلبها، استعمت إلى صوت قهقهته وهو يخرج وكأنه يقصد إثارة القلق والتوتر بداخلها … ولكن كبريائها لا يسمح بوجود شيء يهز ثقتها، لتمحي تلك الفكرة من رأسها وتركز فقط في إتمام علاجها بطريقة مستمرة لتتعافى بسرعة،
؛***********
في الغردقة
وضعت ليلى كوب العصير أمام متسائلة بخفوت :
مش هتحكلي ايه اللي حصلك ؟؟
وضع سيف يده علي وجهه يتحسس الشاش الطبي وأردف بتعلثم:
مش وقته
لم تفهم ما يدور حولها ولكنها تتماسك من أجل الصغار، عادت تنظر إليه متسائلة بحزن :
مزورتش عز ؟!
حرك رأسه بالنفي متمتم بصرامة:
لا ومش ناوي
واسترسل متجاهل تعجبها البادي علي قسمات وجهها:
لكن أنا عايز أعرف أنتِ ناويه علي ايه ؟؟
زفرت بثقل وهي تهتف بفتور :
منتصر صاحب عز تواصل معايا وبيقولي استنى لحد ما الأمور تهدى واسافر
: هتسافري ؟!
ترقرقت العبرات في ملقتيها وهي تقول بنبرة مهزوزة:
مش عارفه أنا بعد عز الدنيا سودت في وشي ومبقتش أفكر غير في الانتحار
ابتسم بسخرية محركا رأسه بتعجب :
معقول عز يستاهل الحب دا كله !!!
رفع كتفيه بلا اكتراث وأردف بجدية :
لو بتفكري تسافري تضمني منين أن منتصر دا هيساعدك ومش هيغدر بيكي
مسحت وجنتيها مردده بصوت محشرج:
بلاش تقفلها في وشي يا سيف أكتر ما هي متقفله
ضحك بخفة مغمغما باستياء:
أنا بقيت في الشارع بعد ما عز طردني ومفيش حد يعرفني إلا واتخلى عني بعد ما عرف ظروفي
: عز سايبلي مبلغ كبير ممكن نقسمه سوا
نظر إليها بقلة حيلة، حالته لا تسمح بالاعتراض بعد أن وجد خيط نجاته من الجوع والنوم في الأزقة…. تطلع إلى زياد ويزيد قائلاً بأسى :
لو هتسافري سيبي زياد ويزيد هنا
رفعت ليلى حاجبيها باستنكار وسألته بدهشة:
اسيبهم مع مين ؟؟ معاك ؟!!
حرك رأسه بالنفي مردد باضطراب:
عمر بحاول يوصل ليهم من يوم ما عز أخدهم، حرام أخته تموت وعيالها يبعدوا كدا
حدجته في صمت وسألته بعدم فهم :
وأنت شاغل بالك ليه ؟!
واسترسلت ببرود :
زياد ويزيد أخوات لوجينا وهيتربوا مع بعض زي ما عز كان عايز
احتقن وجهه سيف بالضيق ونهض مغمغما بتهكم :
أخرتك هتكون زي أماني علي ايد عز دا أن طلع
؛***********
ولج إلى غرفتهم فوجدها تقف أمام المرآة تمشط خصلاتها كون أن تبدل ثيابها، خطى اتجاهها متسائلاً بتعجب:
: لسا مجهزتيش !!
التفت إليه وهو تقول بتوتر :
بصراحة حسيت اني تعبانه فقولت أروح بكرا بإذن الله
ضيق عينيه وهتف بشك :
مش كبرتي علي الكدب يا أم العيال
نظرت مها إليه بخجل ثم تمتمت بفتور:
أنا أسفه بس مش قادرة أكون في مكان مش مقبولة فيه
اعتدل مرتضى في وقفته وسألها بعدم فهم:
ومين قالك كدا ؟؟ : في حاجه أنا مش عارفها ؟؟
حركت رأسها بهدوء، فأخرج هاتفه وهو يتحرك لخارج الغرفة، اعتقدت مها أنه غضب وسيغادر إلى منزل والديه … ولكنها تفاجأت بصوت ضوضاء آتي من الخارج بعد ربع ساعة، انتفضت بخوف واسرعت للخارج ولكنها تسمرت محلها وهي تجده يتجول داخل المطبخ بعد أن أبدل جلبابه لثياب منزلية …..
: أنت بتعمل ايه ؟!
سألته بدهشة طاغية، فرد عليها بسلاسة وهو يخرج الإناء المطلوب من أدراج المطبخ :
طالما مش هتروحي خلينا نقعد مع بعض شوية بعيد عن زن ولادك وبكرا نروح سوا
رفعت حاجبيها باستغراب مردفه بصوت منخفض:
لكن كدا ماماتك هتزعل وهتضايق مني اكتر
بدأ في ترتيب المكونات اللازمة لطهي وجبته المميزة، ومن ثمّ نظر إليها قائلاً بابتسامه صافيه :
متشليش هم
واسترسل متسائلاً بجدية :
وتعالي بقا احكيلي مالك ؟!
ضحكت عندما رأته يرتدي القطعة المخصصة للطهي أثناء الولوج للمطبخ :
الشيف مرتضى هيغدينا مني أيده ولا ايه ؟!
غمز مردد بشغف :
: هو مرتضى عنده أعز ولا أغلى منك
ابتسمت بسعادة وهي تسحب إحدى مقاعد المائدة التي تتوسط المطبخ، وجلست وهي تشاهده بفضول … تطلع إليها لتبدأ في الحديث، فقالت بضيق :
مش عايزاك تزعل بس من فترة وأنا حاسه أن ماماتك مضايقه من وجودي ومش طايقة كلمة مني، مع إني مش عارفه هو اللي حصل
أخذت نفس عميق واستكملت بملل :
غير إن رجوع نسرين طابق علي نفسي مع إني يحاول اتجاهل طريقتها ونظراتها، لكن غصب عني بفكر وبتخنق ودا كله مآثر علي مذكرتي وكل ما معاد مناقشة الرسالة يقرب بحس بخوف وبفكر أقدم تأجيل
التفت إليها مردفاً باستنكار:
: تأجيل !!! بعد كل التعب والسهر دا كله وتقولي تأجيل
: حاسه إني مش مستعدة وخايفه
بدأ في تقطيع الخضار وهو يهتف بهدوء :
عشان شاغله نفسك بأمور تافهه علي الفاضي
نهضت مها تعطيه ما يلزمه من التوابل وهو يسترسل حديثه :
نسرين مين اللي تشغلك ولا تضايقك دي آخر انسانه تفكري فيها أساساً ومش معقول هنوقف حياتنا عشانها
أومأت إليه فسألها بعبث :
إلا لو أنتِ مش واثقه فيا ؟!
رمقته بعاطفة فاضت من نبرتها وهي تتمتم بهمس:
ثقتي فيك حاجه ومشاعري اتجاهك حاجه ودا مش بأيدي
راقت إليه فكرة الذهاب غداً إلى منزل والديه حتي يكون نقاش خليل مع والدته قد انتهى، ربما لو علمت مها أن نسرين تكاد تكون فرد جديد في العائلة لخرجت مها منها قبل أن تتقرب تلك الحرباء منهم أكثر …. آفاق من شروده واضاف بلا مبالاة:
بالنسبة لأمي أنا قايلك أن خليل فرخة بكشك عندها ولما كان مصمم علي خطوبة حسناء وهو من بعدها رافض اي عروسة تانيه وهي مضايقه مش منك لوحدك عمتًا هي زعلانه عشانه
تقدمت منه تأخذ الملعقة وهي تهتف بحده:
: مفيش رز بيتقلب ….
التقط الملعقة من يدها وهو يشير إليها بأن تعود مكانها، ثم قال بغرور :
وسعي بس كدا واقعدي مكانك وأنتِ تتعلمي أصول الطبخ من جديد
بتلك الكلمات وبالحديث الهادئ، جعل الخوف والقلق وكل المشاعر البغضاء تختفي، ويحل محلها مشاعر دافئة، غمرت قلبها لتشق بسمة صافية علي ثغرها وهي تشاركه الحديث في أمور مختلفة …. جلسة لم تأخذ من الوقت ولكنها بدلت مشاعر مضطربة إلى فراشات الحب التي تحوم حولهما،
؛**********
عودة إلى منزل المعلم سالم
جلسوا الفتيات أمام التلفاز لمشاهدة فيلم جديد، فقالت خيريه وهى ترى زجاجة الماء التي تشرب منها مروه :
على فكرا بقا أنا اللي قايله ليه يجبلي ماء زمزم
لوت مروه جانب شفتيها مردفه بسخرية:
يا شيخة !! وأنتِ قابلتيه أمته ؟!
ردت رحمه بتذكر وهي تأكل قطعة من البيتزا، التي صنعتها صباح عندما علمت أنهم يريدوا شرائها من احدي المطاعم :
ايوا فعلاً يوم ما كان بيبلغ بابا أنه مسافر، خيريه طلبت منه يجبلها ماية زمزم ويدعلها لما عرفت أنه مسافر السعودية
تحدثت أمل تلك المرة قائلة:
كتر خيره والله إن بعد المدة دي ولسا فاكر
وضعت حسناء بعض أكياس المقرمشات أمامهم متسائلة بفضول:
صحيح يا أمل شيفاكي اليومين دول بتكلمي سمر كتير وبقيتوا سمنه على عسل ؟!!
: عمي طلب مني أقرب منها لأنها وحيدة وكدا، وبصراحة بعد ما اتكلمت معها صعبت عليا اوي وحسيت أننا ظلمِنها
عقبت مروه علي حديثها بحنق :
ما هي اللي دايما معزولة عننا وبتمسع كلام أمها
واستطردت بتسأل :
هو أنتِ بتكلمي سفيان ؟!
عقدت أمل جبينها باستغراب من سؤالها :
آه كل يوم بيكلمني يطمن، اشمعنا ؟!
حركت رأسها بلا اكتراث مردفه باقتصار:
أصلك مش بتتكلمي زي الأول ففكرت أنكم زعلانين
: عنده ضغط شغل وغير كدا أنا مرتاحة بالمكالمات الصغيرة دي
تحدثت هند تنهي حديثهم :
: مكالمات صغيرة ولا كبيرة أهم حاجة راحتك
صاحت حسناء بضجر من صوتهم :
مش هنسمع الفيلم بهدوء يعني
ألقت خيريه الوسادة في وجهها مردفه بحده :
صوتك لو وصل لبابا في المكتب هيجي يقومنا كلنا
في نفس التوقيت خرج والدهن متجه إلى الخارج تحت نظراتهم المتعجبة … فلن يمضي كثيراً من الوقت علي مغادرة هانم بصحبة أولادها، التي فشلت كل محاولاتها فيما كانت تريد ….
: فيه ايه يا منير ؟!
تقدم منير منه وهو يهتف بفزع :
ساعدني يا معلم
رفع يده يرتب علي كتفه وغمغم متسائلاً بقلق :
مالك يابني ما تنطق
لمعت ملقتيه وهو يتمتم بتعلثم :
:من شهر كان في وظايف عن بنك في المركز اللي تابع ليه قريتنا، روحت وقدمت الملف بتاعي واختبروني وجه الرد من أسبوع إني اتقبلت بس لما روحت لقيت واحد تاني مكتوب مكاني
أشار إليه بأن يكمل، بلع منير غصته وأكمل بصوت محشرج:
جالي موظف وبلغني لو عايز الوظيفة أجهز ٦٠ ألف
ارتعشت نبرته وهو يسترسل بندم :
أول امبارح روحت قابلته واديته ٨٥ ألف
: أنت مش لسا قايل طلب ٦٠ ؟؟
نظر إليه بعجز وأردف بقلة حيلة:
ما هو قالي هياخد ١٥ ليه والباقي للاكبر منه
حدجه بضيق وهدر بغضب :
مين غير ما تكمل باقي القصة معروفة وطبعاً مش عارف الراجل راح فين بفلوسك
أومأ منير مؤكداً صحة حسه، ومن ثمّ أكمل ما يملك من معلومات :
قالي هيرد عليا امبارح لكن متوصلش معايا وكل ما أرن عليه رقمه مقفول، صحيت انهارده وروحت عنوانه صاحب البيت قالي دا كان مأجر ومشي امبارح طلعت علي البنك لما سألت قالوا مفيش حد شغال بالاسم دا
كانت نبرته مرتعشة وهو يتحدث عن سراب آماله، لو كانت آماله فقط كان أهون عليه من مواجهة والدته ويخبرها أن أحلامها للعيش في منزل آدمي اختفى هو الآخر…
: وأنت معندكش عقل تفكر بيه وتسأل قبل ما تدفع المبلغ دا
أخفض منير رأسه دون أن يرد، فسأله المعلم سالم بتفكير:
مين كان خاصر الاتفاق بينكم ؟؟ ولا مين شار عليك ؟!
أجابه باضطراب واضح علي قسمات وجهه:
محدش كان حاضر غيري
: أقولك ايه، علي الأقل اضمن حقك ياخي، خُد ضمان، صورة بطاقته ولا أتأكد من شغله
لم يتحمل كبح دموعه وبكى بحرقة وهو يتمتم بأسى:
أقول لأمي ايه وهي مستنيه ابني البيت بفلوس الجمعية
حوقل المعلم سالم ثم رتب علي كتفه بحنو :
متقولهاش لحد ما ندور عليه، ودا درس ليك عشان تتعلم إن السكك دي مش بتنفع
واستطرد بتفكير :
أرجع بيتكم دلوقتي ولما تهدى تكتبلي كل اللي تعرفه عن الراجل دا والباقي عليا
أنتظر خروجه وصعد إلى الطابق الثاني لأن أصوات الفتيات لن تسمح إليه بالحصول علي وقت راحته بهدوء،
؛******* بقلم حسناء محمد سويلم
مرت ليلة من ليالي الشتاء القارصة، وسطع قرص الشمس بخيوطه الذهبية التي أعطت للطقس قليل من النسمات الدافئة….
توسط جابر مائدة الإفطار التي كسر هدوئها سالم الذي رفع شاشة هاتفه أمام وجه خلود متسائلاً بسعادة:
اي إريك ؟!
نظرت خلود إلى هاتفه لتجد صورة إلى فراش صغير خاص بطفل رضيع باللون الأبيض، توسعت بسمتها وهي تهتف بانبهار :
ما شاء الله، جميل جدا يا سالم
وضع الهاتف بجانبه مردفاً بحماس :
لسا هشوف نظام للاوضة كلها وبعدين احجز السرير
واسترسل بعاطفة:
وأسألي نيره لو في لون معين أو عايزه تختار هي معنديش مشكلة
: بس نيره مش هنا
اختفت بسمة سالم متسائلاً بتعجب:
مش هنا ازاي ؟!!
ردت عليه زينب بتوتر من نظرات زوجها القاتمة :
أصلها بقالها يومين مش مرتاحة وقالت إنها هتروح أول فترة في حملها عند اهلها ومشيت امبارح
وقف سالم مردد باستهجان :
والخروف اللي هي متجوزاه ملوش رأي
أشار جابر إليه بأن يجلس مردفاً بحزم :
ملوش لزوم الكلام دا وأنت شايف الحمل تعبها ازاي
صاح سالم بنفاذ صبر وهو يجول بنظره بينهم :
ايه اللي تعبها يابا دا أنا نزلت هنا وسبتلها الشقة كلها وكل طلبتها مجابة وأمي واختي قعدين تحت رجلين الهانم وفي الآخر تقرطسني وتمشي من غير ما تعرفني
تحدثت خلود بحكمة لعلها تهدأ من غضبه :
مش معقول بعد ربنا ما كرمكم تكون دي طريقتكم، براحه يا سالم هي بس خايفه وأنت المفروض تفهم كدا
لم يُعقب سالم علي حديثها وخرج متجاهل نداء والدته، فقالت دولت كانت تتابع ما حدث في هدوء :
العيب عليكي يا زينب لما تعرفي كدا ومتبلغيش ابنك
هدر جابر بغضب جلي وهو ينظر إلى زينب شزراً:
ولما أموت تمشي كلمتك
نهض هو الآخر فقد بلغ عجزه في علاقة نيره وسالم، اعتقد بعد خبر حملها سيكون الوضع أفضل وينشغلوا في تحضير لطفلهم، ولكن الواقع غير ذلك وكأن السوء كله قادم ..
؛******
في منزل آخر
وضع عبده كوب الشاي من يده وسألها مستفسرا:
فين سالم ؟!
أشارت ندى للأعلى وهي تقول بلا اكتراث:
راغب جه عايزه تقريبًا، محتاجين حاجه من فوق الدولاب
انتفض محمود علي أثر كلماتها وصعد الدرج بعجلة، مما أثار تعجب الجميع…وما هي إلا دقيقة وهبط الإثنين وعلي وجههم علامات الضيق، فهمس سالم إلى محمود بصوت منخفض:
تفكيرك القذر دا ميتكررش معايا
أخفض محمود نظره بحرج، فهو لا يشك في أخلاقه أو أخلاق مياده، ولكن بسبب حديثها آخر مرة جعل التفكير المسموم يحوم داخل رأسه.. عندما صعد وجد سالم يقف علي السلم الخشبي يعيد تركيب المصباح الكهربائي الذي تحرك بسبب لعب راغب بالكرة، وعندما رآه ابنه قال إنه هبط ليخبره بما حدث ولكنه لم يجده، فصعد إلى عمه ليأتي بدلاً منه قبل أن تخرج مياده من المطبخ وتوبخهم، ظناً منه أنها لن تشعر بوجود عمهم في غرفة المعيشة… ضحك سالم علي تفكير ابن أخيه ولكن تطلعت مياده إلى محمود وكأنها علمت ما يدور داخل رأسه، ومن حسن حظهم أن سالم قد انتهى وهبطوا دون أن يعقب أحد ..
: أنت قومت كدا ليه وكأن لدغك عقرب ؟!
أجاب رحاب باقتصار وهو يبعد عن نظرات سالم المقتضبة:
في علبة شايل فيها ورق مهم فوق الدولاب فقولت الحقهم قبل ما ينزلوها وتضيع
أشارت إليه بعدم اهتمام ثم تطلعت إلى ندى متسائلة بملل:
وأنتِ لسا معرفتيش هتجيبي ايه ؟؟
ردت سالم بدلاً منها وهو يهتف بسعادة:
قمر أن شاء الله
أراد سعد استفزازه فقال ببلاهة :
أن شاء الله هتطلع قمر هتسميها ايه بقا
وكزته سميه بخفة في مرفقه مردده بتوضيح :
هيسميها قمر أنت مش واخد بالك، اسم جميل ما شاء الله
ابتسم سالم بسماجة مردفاً بتهكم:
لا هو واخد باله بس عايز يستظرف
تطلعت رحاب إلى ندي متسائلة بضيق :
أنتِ اللي مختاره الاسم المايع دا ؟؟
حركت ندى رأسها بالنفي وهي تتمتم بتلعثم :
لا دا سالم مصمم عليه ..
قاطع عبده تبريرها وأردف مبتسماً:
أنتِ ولا هو، المهم تيجي بالسلامة حبيبة جدو
: ما تسميها سحر
نظر الجميع إلى سعد بذهول، بينما أضاف عبده بجدية :
طيب والله اسم حلو
رمقتهم رحاب بضيق ثم نهضت متمتمه بتبرم :
دا انتوا قعدتكم تجيب أجل الواحد
أشارت سميه إلى سعد خلسة فرآها عبده وسألها مستفسرا:
قولي عايزه ايه وملكيش دعوة بيه ؟
ابتسمت سميه بخجل بينما أردف سعد بتذكر :
صحيح دا أنا كنت ناسي، سميه هتروح عند أهلها انهارده هتبات وتيجي بكرا عايز سالم يوصلها
: ومالو، لو محمود خارج قبل سالم يوصلها
حرك سعد رأسه يميناً ويساراً مردد بسلاسة:
لا بلاش محمود أصلها بتخاف منه
لو أنها تقفد وعيها الآن أهون من موقفها المحرج، شعرت سميه بالخجل الشديد من صراحة زوجها الأهوج، حاولت رفع عينيها بينهم بحياء لتوضيح ما تفوه به سعد، ولكنها لم تستطع فنهضت ودلفت إلى غرفتها بعجلة…
: أنت عندك عقل ؟؟ ولا هنا في قلقاسة ؟!
أنهت سمر سؤالها وهي تدفع رأس سعد، بينما قال عبده بقلة حيلة:
أنا خلاص غُلب حماري معاك
ابتسم محمود واستأذن بالخروج، فطلب سالم من سمر بأن تخبر سميه أنه سينتظرها في البهو …..
؛******
: كان من الأفضل تستنى يومين ولا حاجه
قطب جيبنه باستفهام وسألها مستفسرا:
أنت قلقان ولا أنا بيتهيألي
واستكمل بلامبالاة:
أنا أصلا هرجع أول ما امشي من هنا
زفر الآخر براحة وأردف بهدوء :
متعرفش أنا قلقت ازاي لما لقيت رقمك بيرن قبل الفجر
ضحك عامر بخفة مردد بمزاح :
خوفت لتكون الست العقربة دي فعلاً وصلتلك
: هو أنت فاكر حتى لو وصلتلي أنا هأذي خالي !!!
حرك عامر رأسه بالنفي ثم قال بجدية:
محدش يعرف نواياه ايه ولا هي فعلاً كانت ناويه توصلك ولا لاء
صمت الآخر لبرهة وهو يتطلع إلى المارة من نافذة المقهى، ثم تمتم بشرود :
أوقات كتير بندم اني لسا بتواصل معاك من غير علم أبويا
رمقه عامر باقتضاب وهو يهتف بحده :
خلاص يا يونس اقطعها مستني ايه
ابتسم يونس مغمغما بسخرية:
لو عملت كدا يبقا اخر خيط بأهلي اتقطع
واسترسل بفتور :
مش يمكن رجوعك البلد عشان مشروعك كان سبب أني أرجع أعرف عن أهلي من تاني
: أنت مش قولت أن عمي كتبلك العنوان وعايزك تتواصل معاهم، ما تيجي معايا مره واتعرف عليهم وارجع تاني
حرك رأسه بالنفي وهمس بأسى:
أبويا عمل كدا عشان خايف يموت ويسبني لوحدي، وحكاية العنوان دي أنا قفلتها من زمان عشان ميحسش بالذنب كفايا عليه أنه متحمل ذنب موت أمي
أخذ عامر مفاتيح سيارته وهاتفه وهو يقول بعجلة :
أنا لازم ارجع البلد قبل ما يحسوا بغيابي
أخذ يونس هاتفه واتبعه متسائلاً مستفسرا:
أنت هترجع أمته ؟! عايز أشوفك أول ما تيجي
عانقه عامر مغمغما بمراوغة:
عايز تشوفني برده ولا تعرف الجديد عن خالك
مسكه يونس من معصمه وأردف بحذر :
عامر أوعى توقع بلسانك أو يعرف أنك تعرفني من أساسه
ضربه عامر في كتفه وقال بكدر :
ياخي هو أنا جتلك من آخر الدنيا غير عشان أعرفك أنه بيدور عليك
واستطرد بتفكير:
أنا هقعد يومين تلاته أشيك علي الآلات الجديدة، وبعدين هرجع هنا أسبوع ووقتها هقوله اني مش عارف أوصلكم
خرجوا الإثنين من المقهى واتجه كل منهما إلى واجهته…. علي الجهة الأخرى من الطريق صفت سيارة سوداء أمام نفس المقهى، ولحسن حظه عن الطاولة الخاصة بـ عامر ويونس بجانب النافذة الزجاجية، عند إذًا استطاع التقاط عدت صور لهما بأكثر من جهة …. أخبره بكل ما شاهده منذ أن خرج خلف عامر ليلة أمس حتى وصوله إلى هنا،
: خليك ورا الاتنين وبلغني بكل جديد
رد عليه باقتصار:
تمام
؛**
أغلق المعلم سالم المكالمة ووضع الهاتف علي مكتبه، ثم خرج إلى غرفة المعيشة… وجد سالم يجلس بجانب مروه ويلتهم شطيرة قبل أن يجلس على مائدة الإفطار…
: معندكمش أكل في بيتكم ولا نيره عكننت عليك بدري
بلع ما في فمه وغمغم باستياء:
هي الحريم بيعملوا ايه غير العكننه
نظروا الفتيات إليه في آن واحد، وعلى حين غرة خطفت خيريه الشطيرة من يده وهي تقول بزهو :
معلش أصل العكننه هما اللي محضرين الفطار
احتدت نظراته متسائلاً بوعيد :
أنتِ قد اللي أنتِ عملتيه ؟؟
سحبه عمه من جلبابه ليكون أمام وجهه وزمجر مبتسماً:
آه قده ووريني هتعمل ايه
تمتم بخفوت من بين قبضته :
أنا أصلاً شبعت
ضحكن الفتيات بصوت منخفض، اعتدل سالم في وقفته بعد أن تركه عمه عندما صدح رنين هاتفه، رأي اسم المتصل ثم رفع نظره موجه حديثه إلى مها :
مش برتاح لي جوزك لما يتصل على الصبح كدا
انكمش بين حاجبيي مها بعدم رضا، فابتسم سالم بتسليه وهو يجيب على مرتضى، اختفت بسمته فجأة وتوسعت ملقتيه وهو يردد بصدمه :
الكلام دا حصل أمته ؟؟
بعد أن سمع الرد أغلق الهاتف وهتف وهو يرمق المعلم سالم:
الحكومة مسكت يعقوب وشكلها فيها تأبيده
جحظت ملقتي حسناء وهي تضع يدها علي شفتيها بخضة، فنظر إليها والدها لبرهة ثم اتجه للخارج بصحبة سالم متجهين إلى المحجر كما بلغهم مرتضى،
؛*******

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بنت المعلم الجزء الثاني)