رواية براثن اليزيد الفصل الرابع 4 بقلم ندا حسن
رواية براثن اليزيد الجزء الرابع
رواية براثن اليزيد البارت الرابع
رواية براثن اليزيد الحلقة الرابعة
“لا يكفي حديثه الفظ وأفعاله البغيضة ليكُن
هناك عائلة تُرجمها بالحجارة وكأنها إبليس؟!”
تتساءل هل استمعت لحديثه جيدًا؟، هل كانت كلماته هكذا حقًا؟، ينعت ابن عمها بـ الحقير!.. إذًا ماذا عنه هو وعائلته؟، يسخر من أخلاقها؟، يتهكم في نطقه لكلمة “محترمة” كدليل على العكس؟..
استمعت لصوته الحاد بعدما طال صمتها وهو يطالب مرة أخرى بإجابةٍ على أسئلته لتأخذ نفسٍ عميقٍ محاولة أن تنتقي الحديث جيدًا وتبث الثبات في نفسها قبل أي شيء:
-أولًا تامر مش حقير ده ابن عمي وزي أخويا بالظبط ومش هسمحلك تقول عليه حاجه وحشه أبدًا، ثانيًا أنا آه محترمة غصب عن أي حد، أما ثالثًا فهو كان جاي ياخد شاحن الـ laptop تحب تسأل عن حاجه تانية؟
تُجادل!.. ظهرت مخالب الملاك، تحولت عند نعته بـ الحقير إذًا وهو يستحق أكثر من أن يكون حقير، لا تعلم أنه لا يبغض شيء مثل ذلك الطفل الصغير، كما فعلت هي فعل..
أخذ نفسٍ عميقٍ ثم أخرج سيجارة أخرى أشعلها بهدوء وأخذ يستنشقها بشراهة وكأنه يتسابق مع أحدهم، كم كانت تصرفاته تعاكس بعضها؟، ابتسم ببرود وتحدث بسخرية جلية:
-الساعة اتناشر بالليل بيدخل اوضتك علشان ياخد شاحن؟.. وانتوا بقى متعودين على كده؟، طب ما تنامي في اوضته أحسن.. يعني التواصل هيكون أسهل
وغد، حقًا وغد لا يفقه شيء، كلماته بغيضة مثله الآن تمامًا، تلميحاته كريهة كعائلته، كل شيء جميل يحوله هو إلى آخر تأكله النيران ليصبح رماد لا يساوي شيء، لا يصلح للرؤية ولا الاستخدام..
تسارعت أنفاسها غضبًا بفعل كلماته التي جعلتها تشعر بالاشمئزاز، ماذا لو لم يكن زوجها ماذا سيقول أكثر من هذا؟.. أغمضت عينيها بقوة ثم هتفت قائلة له بحدة:
-يزيد أنا مش هسمحلك تتكلم بالأسلوب الزبالة ده اكتر من كده.. ياريت تحاول تخلينا متفاهمين لأن كده مش أنا اللي هتعب لوحدي
كلماتها صحيحة، عليه أن يكون أفضل من هذا لا يجب أن يجعلها تشتعل نيران من الآن، عليه أن يكون رجل حكيم ليفعل ما يحلو له فقط صبرًا صبرًا يا مروتي..
-معاكي حق.. كلها سواد الليل وهتبقي ملكي بجد، هتنوري بيتي
استكمل حديثه متسائلًا بهدوء محاولًا إلهاء عقلها عن كلماته الغامضة بعد أن أخفض السيجارة من على فمه:
-عملتي تجهيزات لبكرة؟، يعني مش زي ما بيقولوا يوم بتتمناه كل بنت؟
لم يستطيع إلهاء عقلها فهي لم تكن بهذا الغباء يومًا، نعم هو خبيث، ماكر، ولكن هي لم تكن الغبية، تغاضت عن كلماته بإرادتها ثم أجابته متهكمة:
-بس أنا متمنتش اليوم ده معاك يا يزيد!..
تحاول أن ترد له ما يفعله معها ولكن لم تكن تعلم أنها طعنته بخنجر بارد دُفن داخل صدرة بالمنطقة اليسرى منه داخل قلبه تمامًا، خنجر بارد لم يقتله ولن يُشفى من أثاره، بعثرت رجولته بالأرض وهي تسرد رفضها له، ازدادت دقات قلبه وتسارعت أنفاسه بفعل جملةٍ مكونه من ثماني كلمات!.. يا لها من خبيثة هي الأخرى فقد اهلكته كلماتها ولكنه على دراية تامة بأن تلك النبرة المتهكمة لا يوجد خلفها إلا حزن عميق تحاول أن تجعله يُمحى رغمًا عن أنف الجميع..
ابتسم بسخرية لم يستطيع مداراتها وهو يعود بظهره للخلف مستندًا إلى الحائط وتحدث بحزن دفين داخل أعماق قلبه من الليلة الأولى التي قرر بها أن يتزوجها ليقول بصوت خافت:
-ولا أنا اتمنيته بالطريقة دي يا مروة، إحنا اتحطينا في طريق مش بتاعنا ومجبورين نكمله ومش هنحدد النهاية غير لما نوصلها.. سوا نوصلها سوا يا مروة
أغمض عينيه وقد عاد مرة أخرى ضميره يعمل، هل من بضع كلمات عاود من جديد؟، تحدث مرة أخرى بخفوت غير منتظر إجابتها:
-تصبحي على خير.. بكرة يوم طويل أوي ارتاحي شويه أنتِ متعرفيش ايه اللي جاي
أغلق الهاتف وتركها في دوامةٍ تدور بها وحدها، تركها تفكر بحديثه الغامض تارة تكون ملكة وتارة عدم معرفة القادم؟.. هل يراها ساذجة؟ هل يراها طفلة؟، هى فتاة ناضجة تعلم ما الصواب وما الخطأ، تعلم كيف يكون الكذب وكيف يكون الصدق، وهو يمارس ذكائه عليها، يتركها مُشتتة الفكر، يلعب بخبثه ومكره معها، يعتقد أنها لن تفهمه مثلًا؟، يعتقد أنها ستتركه يفعل ما يحلو له؟
لا لم يحذر أبدًا، فهو الذي فُرض عليها، هنا هي لم تختار شيء هو الذي اختار كل شيء لا يحق له الحديث بهذه الطريقة ولا يحق له أن يفعل أي شيء تبغضه هي، هو من اختار ذلك الطريق الذي يتحدث عنه لذلك يجب أن تسير هي كما تريد، ذلك العدل بالنسبة لها..
ولكن هناك ما يأخذ فكرها الآن بعيدًا كل البعد عن ما جال بخاطرها منذ ثوانٍ، غدًا ستكون بمنزله!.. ستكون زوجته حقًا!.. ستعيش مع عائلته الذي تبغضبها بسبب ما فعلوه بمصيرها، ستعيش مع أشخاص لا تعرف منهم أحدًا سوا ابنهم!.. هي حتى لا تعرف ابنهم.. فقط اسمه وبعض العادات مثل العصبية والهدوء والغرور والعنجهية لا تعرف إلا تقلباته المزاجية.. يُكاد عقلها يتوقف بسبب كثرة التفكير وقلبها النابض بشدة خائف مما هو مقدم عليه..
أغلق هو الهاتف ووضعه بجيب بنطاله الأمامي، ألقى بقايا السيجارة على الأرضية ودهسها بقدمه وأخرج غيرها، كانت الثالثة له منذ بداية الحديث معها، أشعلها وسار يستنشقها كما فعل في المرات السابقة بشراهة، يضغط على كف يده الأيسر بشدة وكأنه المذنب بحقه!. جلس على الأرضية من جديد، اتكأ على ركبتيه بساعدي يديه وهو ينظر إلى الأرضية بغضب، حزن، إرهاق، لا يدري ما الذي حدث له من كلمتين فقط، بدايةً من المحادثة وهو لم يستطيع أخذ حقه بدخول ذلك الحقير غرفتها ولكن تلك الكلمات التي أتت مؤخرًا جعلت قلبه ينشق إلى نصفين، حديثها بأنها لم تكن تريده، لم تتمنى يوم زفافها معه، حزنها الدفين الظاهر في كل كلماتها دون دراية منها، جعله كل ذلك مُعذب، قلبه يحترق كالبركان، يتألم بسبب طعنة خنجر، أو أن نبضه توقف عن العمل!. لا يدري أيًا منهم ولكنه لا يستطيع الصمود أمام كل ذلك..
غدًا ستكون زوجته، ستحمل اسمه، ستعيش معه بنفس المنزل بل والغرفة.. هو لا يستطيع أن يخذل أحدًا، هو ليس قاسي كما أُطلق عليه، هو خائف بشدة ويشعر بالعجز من مصيرها معه..
وقف على قدميه وأخذ يسير بحركات غير مدروسة داخل الإسطبل بجوار حصانة، تحدث ضميره الآن إليه بعدما لم يستطع مقاومة نبرتها وحديثها، حدثه بأنها ليس لها ذنب في ذلك، لم تكن هي الجاني، لم تقتل جده ولا والده، حتى لم تتعرف على زاهر الذي قُتل على يد ابن عمها بالخطأ، لم تقتل زوجة عمه، فقط كان عمرهم قد انتهى وكل ما حدث ما كان إلا سبب، هي بريئة كالملاك حقًا دون مبالغة..
يحاول إقناع ضميره وقلبه أنه لم يكن أمامه خَيار آخر ليفعله، يحاول أن يقول بأنه سيُعيد الحق لأصحابه فقط، ليس بالخداع أو الكذب أو المراوغة بل بالحب وقد كان هذا الأسوأ على الإطلاق..
ذهب ووقف أمام حصانة الذي أطلق عليه اسمٍ على مسمى حقًا “ليل” كان أسود اللون، سواده حالك لا يوجد به ولا نقطةٍ من لونٍ آخر، كما كانت عينيه هي الأخرى قاتمة السواد، شكله مُخيف، مُهيب، تخاف الإقتراب منه ولا تستطيع النظر إليه لبضع ثوانٍ ولكنه كان صاحبة يعلم ما يريده، ومتى يجب ترويضه.. كان من أغلى الأشياء على قلبه، وقف أمامه وهو يشعر بالعجز ليقول بصوتٍ خافت خائف:
-تفتكر هحبها يا ليل؟ ولا ده علشان هي ملهاش ذنب؟
يصارح نفسه أم يصارح “ليل”، زجره عقله سريعًا محاولًا محو هذه الفكرة الغبية من رأسه ليعود لما كان يريده سريعًا قائلًا بأن قلبه قد أصبح رقيقًا كثيرًا ليتفوه بمثل تلك الكلمات.
_____________________
“في صباح اليوم التالي”
“عندما تضع أملًا لشيء أعتقدت أنك تستطيع فعله ولا تستطيع لا يُضيع أملك فقط، بل يضيع شغفك معه”
جلست بـ إرهاق على الفراش أمام شقيقتها بعدما تحدثت معها بشأن ذلك الرقم الذي أرسل لها تلك الرسائل في وجود زوجها، هي لم تغفل عنه بل سبب لها الازعاج بسبب ما حدث وودت أن تعلم من فعل ذلك ولكن لم تحصل على معلومة واحدة مفيدة
نظرت إلى شقيقتها “ميار” بقلة حيلة متسائلة مرة أخرى وكأنها ستجاوب بشيء أخر غير الذي قالته:
-يعني طلع مش متسجل فعلًا؟
جلست الأخرى أمامها ثم تحدثت بهدوء مُجيبة إياها مرة أخرى:
-آه والله يا مروة طلع مش متسجل.. بس هو أنتِ يعني تعرفي حد ممكن يعمل كده مهو مش معقولة يعني ده
زفرت “مروة” بضيق شديد ثم اعتدلت في جلستها واضعة يدها الاثنين على ركبتيها تستند عليهم ووجها لا يخلو من تعابير الانزعاج:
-مهو المشكلة أن مفيش حد أعرفه يعمل كده
نظرت إليها “ميار” مترددة، تود أن تقول شيء ولكن تعود مرة أخرى لتصمت فـ الذي تريد أن تقوله يصعُب عليها وعلى قلبها التفوه به فنظرت إليها شقيقتها مشجعة إياها على الحديث:
-أنا شاكه فـ.. بصراحة كده في تامر
وقفت “مروة” على قدميها ثم هتفت قائلة بعد تفكير:
-لأ لأ معتقدش هو بيعاملني كويس واعتقد أنه نسي الموضوع ده أصلًا
لوت “ميار” شفتيها ثم هتفت قائلة بهدوء:
-خلاص يا مروة متفكريش في الحوار بقى واستني شوفي ايه اللي هيحصل ممكن يصرف نظر عن الهبل اللي عمله ده، المهم قوليلي عاملة ايه مع يزيد
ابتسمت “مروة” بسخرية وهي تدير إليها ظهرها تطالع ما خلف النافذة، ثم استدارت قائلة بجدية:
-يعني.. كويسين أنا شوفته مرة واحدة، بس هو ظاهريًا شخص كويس
وقفت “ميار” على قدميها ثم تقدمت من شقيقتها تضع يديها الاثنين كلى كتفيها تمدها بالدعم قائلة:
-النهاردة أنتِ هتروحي بيته، أنا واثقة أنك هتنجحي معاه لأنك قوية وناجحة.. عارفة أنك كان المفروض تظبطي نفسك دلوقتي ونكون كلنا حواليكي بس أنتِ عارفة اللي فيها ومع ذلك هتكوني أحسن عروسة أنا شوفتها في حياتي كلها
أدمعت عيني “مروة” بعد حديث شقيقتها، هل ستتركهم حقًا وتتوجه للعيش مع أشخاص لا تعرفهم أبدًا؟، هل ستبتعد عن عائلتها لأجله؟، يالا سخرية القدر ستبتعد عن موطنها وأهلها لأجل شخص لم تكن تريده يومًا..
ارتمت في أحضان شقيقتها، تخرج دموع عينيها كـ اللؤلؤ بصمت، احتوتها شقيقتها مربتة على ظهرها فتحدثت الأخرى قائلة:
-أنا خايفة أوي يا ميار
ابعدتها “ميار” عنها ثم تحدثت بحزم وجدية شديدة:
-متخافيش أنتِ طول عمرك قوية، إن شاء الله هتنجحي معاه وحياتكم هتكون جميلة، بس اوعديني لو مقدرتيش والجواز ده كان ضغط عليكي قولي على طول وابعدي يا مروة
-أوعدك
احتضنتها مرة أخرى تحاول أن تمدها بالقوة اللازمة لمواجهة القادم بينما الأخرى ارتمت مرة أخرى تتشبث بأحضانها وكأنها هي الملاذ الأخير لنُصرتها وابتعادها عنه.
____________________
“مرت الساعات الأولى من اليوم سريعًا وكأنها تُعاكس ما تريد، دائمًا يحدث ذلك، كل ما تريده ينعكس ليصبح أسوأ مما تتخيل”
ذهب إلى منزلها “يزيد” للمرة الثالثة ليأخذ ما ستحتاج إليه ويضعه في بيته، في عش الزوجية الذي ستنتقل إليه معه بعد أن رفضت زوجة عمها الذهاب إلى منزله معترضه بسبب تعامل والدته مع جميع من هُم من عائلة “طوبار”، فقد رفضت الذهاب لبضع ساعات بسبب تعامل والدته ولم تخاف على من قالت أنها ابنتها لتضعها هناك لبقية عمرها!.. ألم تكُن أنانية في ذلك؟ أم أن الأمومة تفعل ذلك وأكثر؟..
لم يتحدث معها عن أي شيء فقد اكتفى بأخذ أشيائها فـ حديث أمس لم يكُن هينًا عليه سوا كان حديثها أو حديث ضميره، فهذا وذاك أصعب من أن يتذكرهم..
عندما نظر إلى عينيها شعر بالعجز والضعف الشديد، حديثها وحزنها، نبرة صوتها تتردد في أذنه وكأنها تحدثه الآن، يشعر بالذنب لما يفعله، يراها ملاك لا تدري ما يدور من حولها، لا تدري أنه يأخذها سُلم ليحصل على ما يريد، هل هناك شيء أصعب من عذاب الضمير؟! هل هناك أصعب من العجز والضعف وأنتَ الذي لم تعرفه يومًا؟ وهل هناك أصعب من أن تخدع من تُحب دون دراية منك بمحبتك له؟!..
توقعت ألا يحادثها كما فعل بالضبط فـ حديث أمس بالنسبة إليها لم يكن هينًا عليها مثله تمامًا، كما أن مخاوف اليوم تسيطر على كل ذرة تركيز تتحلى بها، الخوف يجعلها تشعر بالبرودة تسري في أنحاء جسدها، تعلم أنه لن يكُن هناك زفاف تتحاكى به ولن يكُن هناك أي شيء يجعلها تشعر بالتوتر كما يحدث في مثل هذه الحالات ولكن كل الخوف والتوتر يتكون في وجودها معه، في وجودها مع عائلته التي لا تعرف للرحمة طريق..
تنتظر أن تُزف إليه لتكن معه بقية حياتها.. مهلًا مهلًا هل حقًا سأنجح في ذلك الزواج لاستكمال بقية حياتي معه؟…
راودها السؤال أكثر من مرة تعلم أن هناك حالات مثلما يقولون عنها “جوازة صالونات” ولكن يكن هناك فترة خطوبة غير أن الطرفين راضيين تمامًا والأهل متحابين لذلك يستمر الزواج ولكن هي.. هي ليست راضية كما أنه كذلك والأهل غير متحابين بل كانت هذه الزيجة تحت الضغط أما هذا أما ذاك، وليست هناك فترة تعارف بل تقابلا مرة ولم يفشل في اخافتها واهانتها وحادثته مرة لم يفشل بها بأن يزرع الخوف بقلبها ويجعل الحزن يتخللها من حديثه.. ولكن هي عزمت أمرها واتخذت القرار الذي وجدته مناسبًا لتسير عليه.
____________________
ترتيبات، تجهيزات، كل ما كان يحدث ما هو إلا لحديث عامة المنطقة كما قال عمة “سابت”، حدث ما قاله بالضبط في اتفاقه مع والدها، الناس تتوالى لتأكل وتقوم بتهنئة كبير العائلة “سابت” وابن أخيه “فاروق” والذين يرسمون الابتسامة على وجوههم كما لو أنهم ملائكة تسير على الأرض سيرًا هادئاً، لا يعلم أحد نواياهم ولا يعلم أحد ما يفعلوه، فقط يظهرون بمظهر الرجال الأغنياء ذو الحكمة والعدل ولكن..
“ليس كل شيء تراه جميل من الخارج يكُن كذلك من الداخل فربما يكُن أسوأ!.”
وأين هو مالك تلك الليلة؟.. يجلس مع حصانه “ليل” يدخن سيجارته بهدوء شديد كما هو في بعض الأوقات، هو إما غاضب إما هادئ، يجلس على أرضية الإسطبل وينظر أمامه بعيون الصقر خاصته، يفكر في القادم عليه كيف سيتعامل معها؟ هو لم يشفى من حديث ضميره معه، يفكر الآن ماذا سيفعل، ماذا سيقول لها ولعائلته، ماذا سيحدث للجميع وله أيضًا.. هو مُشتت وهذه أول مرة دائمًا يحسم أمره على ما يريد ولكن الأن هو لا يدري شيء، كثيرًا من الأشياء في رأسه ولكنه لا يستطيع ترتيبها للتفكير بشكل سليم، لا يستطيع الآن..
عليه أن ينهي هذه السيجارة ثم يذهب لجلب عروسه من منزل أهلها، لجلبها لحظها العثر معه، مع شخص لا يستطيع التفكير حتى!..
وقف على قدميه بعد أن أنهى السيجارة وألقاها تحت قدمه ثم قام بدعسها، عدل ياقة قميصة الأبيض.. مهلًا فقد كان يرتدي يوم زفافه بنطال أسود اللون يعلوه قميصٍ أبيض!، يا له من وغد إلى هذه الدرجة لا يهتم لمشاعرها، فقط كان عليه ارتداء حلة ليريها أنه يوم زفاف!، ولكن حتى في أتفه الأشياء لم يستطيع فعلها..
وقف أمام باب المنزل ومعه عمه وشقيقة وبعض من الأقارب ليأخذ عروسه المنتظرة، يرى الحركة التي تعج المكان من الخارج والداخل استقبله الجميع بالتهاني، استمع إلى أصوات الأغاني الشعبية كما يحدث في منزله الآن، يفكر بها هل هي سعيدة معهم بالداخل لكونها ستتزوج؟ يا له من سؤال غبي وكأنه لا يعلم الإجابة..
دلف إلى الداخل ونساء العائلة تطلق الزغاريد وتعبر عن فرحتها بكل شيء يحدث من حولهم، ولا يدرون أن أصحاب الزفاف يريدون الانتهاء من كل شيء..
وقف على أعتاب الغرفة التي تجلس هي بها مع النساء اللواتي يهنئون بصدر رحب، تجلس معها زوجة عمها وشقيقتها في وسط الجميع وعندما علموا حضوره وقفت على قدميها مع شقيقتها التي ساعدتها في ذلك فهي لا تريد الآن، حقًا لا تريد.. ماذا إذا صرخت في الجميع وقالت أنها لا تريد الزواج منه والدلوف بداخل عائلته هل سيستمع إليها أحدًا؟ ماذا إذا تصنعت الإغماء؟ أو إذا هربت؟ الآن علمت أن الأمر برمته كان صعب، كانت غبية عندما قالت إنها ستضحي من أجل ابن عمها، فليذهب الجميع إلى الجحيم..
دعمتها “ميار” بالنظرات وأخذتها من مكانها عندما وجدتها لا تريد ذلك، حاولت التخفيف عنها بالابتسام في وجهها وحثها أن الأفضل قادم ولكنها لم تكن تعلم المخاوف الذي تمر بها هي الآن.. تقدم والدها ثم أمسك بيدها بعد أن قبل جبينها بحنان بالغ وسار معها إلى حيث يقف “يزيد”
وقفت أمامه رأته بلحيته النامية كما كان، لما لم يزيلها؟ اليوم زفافه، يرتدي بنطال وقميص؟! يا لها من غبية لما ارتدت ذلك الفستان الذي اشتراه لها؟ كان عليها أن تفعل مثله ولكنها لم تكن تتوقع ذلك، لما ينظر إليها هكذا رأته مثبت نظره على وجهها وكأنه شرد به ينظر إلى عينيها مباشرة، ماذا به؟ اخفضت نظرها عندما وجدته مسلط تركيزه ونظره عليها هكذا لتشعر ببعض الخوف من نظرته التي لم تفهم لها معنى..
ألم يقل قبل ذلك أنها ملاك ليست بفتاة، أو سيدة، أو أي شيء هي ملاك فقط، لا يبالغ حقًا لا يبالغ ولكن هي جميلة من دون شيء تضع مستحضرات تجميل رقيقة للغاية فقط تبرز ملامح وجهها الجميل الذي زادته فتنه بها، ترتدي فستان زفاف مما جعلها ملاك حقًا أليس هم يرتدون الأبيض! فستان زفاف رقيق للغاية مثلها تمامًا محتشم ورائع بذات الوقت فقد كان بدايةً من الرقبة وإلى معصم يدها طبقةٍ من الشيفون التي أتت باتساع على ذراعيها ومن أعلى الصدر إلى بداية الخصر يصف شكلها ببراعه ومن ثم ينزلق باتساع، لم يكُن به أي شيء سوا أنه سادة خالص من أي إضافات بل هي كانت الإضافات..
لم يخرج من شروده إلا على صوت شقيقتها “ميار” التي تحدثت بمرح معه:
-ايه يا عريس تُهت في زراق البحر ولا ايه
نظر لها وتصنع الابتسامة التي رسمها ببراعة على وجهه ومن ثم تقدم من “مروة” ممسكًا يدها من والدها الذي قدمها له رافعًا إياها إلى فمه ليقبلها بحنان وود شديد لم تعتاده هي معه..
تحدثت “ميار” مرة أخرى ولكن هذه المرة كانت أكثر جدية في الحديث الذي وجهته له هو وحدة:
-إحنا بنسلمك أمانه غالية أوي عندنا يا يزيد أرجوك حافظ عليها
ابتسم بلباقة مصتنعة كما السابقة ونظر إليها ليتحدث بهدوء خالص وهو يقول كلمات تحثها على الإطمئنان:
-متقلقيش مروة مراتي أنا هحطها جوا عيوني
تحدث والدها هذه المرة قائلًا بنبرة أشبه بالتوسل إليه:
-مروة بنتي غالية أوي علينا، دي وردة حياتنا وأنتَ خدتها اوعى تدبل منك
نظر إليها هذه المرة رأى الدموع تتكون داخل مقلتيها ليعيد نظرة إلى والدها متحدثًا كما السابق:
-وردتك خلاص بقت تخصني وأنا لازم أحافظ عليها علشان تفضل على طول كده وردة زاهية وجميلة.
______________________
تثاقلت الأفكار على عقلها في وسط تلك الضجة المحيطة بيها، الجميع من حولها لا يشعرون، وهو أقربهم، هو لا يشعر بها أو بأي شيء يخصها، لماذا تتعجب أنه حتى لم يقدر يوم مثل يوم زفافه!..
وقفت في ردهة المنزل، الذي جابته بنظرها سريعًا وقد وجدته رائع بكل شيء من نظرة عين ومساحته كبيرة للغاية ثم عادت إلى تفكيرها المحض في مخاوفها، دقات قلبها تتسارع وكأنها تتسابق على جائزةٍ ما، لا ترى أي شخص أمامها أين الجميع؟ أين الضجة التي استمعت عنها أنها متواجدة هنا كما منزلها؟ لا يهم كل ذلك ولكن أين عائلته البغيضة التي لا تعرفهم إلى الآن؟ كل شيء مخيف وغير مرتب إلى الآن، تتسائل هل تستطيع ترتيب أمورها بعد اليوم؟!
هو يقف خلفها من بعد دلوفها للمنزل تشعر به وبأنفاسه، رائحته الرجولية تداعب أنفها، لماذا لم يتقدم منها؟ هل عليها إكتشاف المنزل بنفسها؟ يا له من وغد، ستظل تلقبه بالوغد إلى أن يكف عن التصرف مثله..
استدارت إليه بهدوء محاولة جعله حقيقي بينما هو بعينين الصقر خاصته ميزة وعلم أنها تتصنع ذلك، سألته بشفتي ترتجف وعينين تجوب المكان من حولها:
-هما.. هما فين أهلك؟ ده البيت فاضي تقريبًا
يا ليتها لم تتسائل عنهم، هو لم يجيب فقد كان يقف واضعًا يديه في جيوب بنطاله يقف بشموخ أمامها ولم يستطيع الرد عليها فقد قامت والدته بتلك المهمة عندما خرجت من إحدى الغرف ومن خلفها الجميع لتقول بتعالي ونبرة تحمل قساوة وعنجهية لم تراهم من قبل:
-موجودين يا بت طوبار
استغربت كثيرًا من طريقتها الفظة، الغير مريحة أبدًا، عادت بظهرها للخلف بعدما استدارت لرؤيتها، تراجعت بضع خطوات إلى أن اصطدمت بجسده الواقف خلفها، نظرت إليه والخوف ينهال من عينيها، وكأن الجحيم بانتظارها وهو المنجي لها، تناجيه بعينيها وكأن الواقفون ليس أهله، قلبها يقرع كالطبول خوفًا من خذلانه لها، وكأنه قرأ كل شيء تشعر به ولأول مرة شعرت هي بأنه سند لها بعد تلك النظرة التي أشعرتها بالأمان ومن ثم احتضن كف يدها ونظر إليهم نظرات عادية خالية من أي شيء سوا التحذير:
-إحنا تعبانين هنرتاح وبكره ابقوا اتعرفوا على بعض براحتكم
جذبها من كف يدها إلى الدرج في وسط نظرات الجميع المنزعجة ومن ثم صعد إلى غرفته التي كانت كالشقة الصغيرة في مدخلها غرفة صغيرة بها اثنين من كنبات الانتريه وتلفاز،
ترك كف يدها ودلف إلى مكان آخر لا تعرف ما هو داخل الغرفة، ربما هو حمام، تفكر بطريقته معها منذ يومين وبالأمس واليوم أيضًا والآن، هل هو مُختل؟ أم هي المُختلة؟
نهرت نفسها على تفكيرها الآن فهي لا تريد غير تبديل ذلك الفستان وأن تنال قسطًا من الراحة، ولكن مهلًا ليس كل ما نريده نلقاه..
فور أن ولجت إلى الغرفة المجاورة شهقت بفزع وجحظت عينيها على ما رأته، لم تكن تتوقع ذلك أبدًا فهي عروس وليست جثة، انسابت الدموع من عينيها سريعًا من دون مجهود ثم استندت بيدها على ايطار باب الغرفة فلم تستطع أن تتحمل تلك الصدمة وكأنهم يقولون لها أهلًا بك في الجحيم.
______________________
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية براثن اليزيد)