رواية بأمر الحب الفصل السادس عشر 16 بقلم تميمة نبيل
رواية بأمر الحب البارت السادس عشر
رواية بأمر الحب الجزء السادس عشر
رواية بأمر الحب الحلقة السادسة عشر
منذ عدة أيام.
كان جالسا بجوارها على أحد مقاعد البحر، وكان ينظر اليها متعاطفا مع شهقاتها الباكية العنيفة و التي جذبت أنظار المارة اليهما…
كانت تبكي بصوتِ اللوعة و الألم لدرجة أنه لم يجد سبيلا سوى أن يدعها تفرغ بعضا من شحناتها، بعد الموقف الذي تعرضت له…
لذا بقى ساكنا بجوارها وهو يمسك حافة المقعد بكفيه، يراقبها بصمت الى أن نفخت بقوةٍ في منديله القماشي…
رفع مالك أحد حاجبيه وهو يفكر، أنه ثاني منديل، ومن المؤكد أنها لن تعيده كالأخر …
أخفت أثير وجهها في المنديل المطوي و هي تبكي بغزارة، وبعد عدةٍ شهقات، تجرأ مالك على السؤال ببطء (الم تكتفي من البكاء بعد؟، اهدئي قليلا لنتكلم)
هتفت أثير من بين شهقاتها المختنقة بصوتٍ لا يكاد يكون مفهوما منه كلمة (أنا أبكي على حالي، أبكي الغلب الذي اعيشه كل يومٍ و كأن الدنيا قد رسمته طريقا لي).
قال مالك بخفوت يقاطعها (استغفري ربك و لا تقولي مثل هذا الكلام)
بكت أثير مرة أخرى بحرقةٍ و هي تستغفر الله همسا، ثم قالت بصوتٍ مختنق من الدموع (لقد اشفقت على نفسي مما تعرضت له، لأنني ضعيفة لم أستطع أن أنال حقي من ذلك الحقير)
سكت مالك قليلا وهو ينظر الى وجهها المتورم قهرا، ثم قال بهدوء (أخبريني مرة أخرى ماذا فعلتِ به بعد أن تطاولت يده عليكِ).
رفعت وجهها و هي تهتف بشراسةٍ مفاجئة على الرغم من عينيها المتورمتين (أمسكت بالزجاجة الموضوعة على أقرب طاولة، ثم ضربته بها على أم رأسه)
سكت مالك قليلا وهو يومئ برأسه متفهما، ثم قال مرة أخرى (لقد أصيب بإرتجاج في المخ، و حصل على عشرة قطبات)
عادت أثير لتبكي بصوتٍ عالٍ، ثم صرخت بإختناقٍ و نشيج (لم أشف غليلي منه بعد).
قال مالك و هو يحاول أن يهدئها (احمدي ربك على أن الموضوع تمت تسويته، و الا لكنتِ محتجزة الان)
بكت أثير مجددا لكن بحدةٍ أقل، فنظر مالك اليها بعطف، لكن حانت منه التفاتة يجد أن بائع غزل البنات يسير مناديا من خلفهما وهو يحمل ذلك العدد الهائل من الأكياس المنتفخة الشفافة و التي تحتوي على الحلوى القطنية.
فأشار له مالك بسرعةٍ وهو يعرف أن حلوى غزل البنات هي الحل السحري لإسعاد الفتيات طبقا لمعرفته بحور و حنين…
اقترب الرجل بسرعةٍ منهما، فطلب مالك منه اثنين من اللون الأبيض…
الا أن أثير نفخت في منديله مرة أخرى وهي تقول في منتصف بكائها (أريد الوردي)
عبس مالك قليلا ثم قال (من قال أنني سأبتاعه لكِ)
عبست أثير هي الاخرى من بينِ بكائها و قالت بامتعاض (لا أريد منك شيئا، اعطني يا عم اثنين ورديين).
ثم اخرجت من حقيبتها، عملتين معدنيتين، الا أن مالك امسك بيدها قبل ان تمدهما الى الرجل و أخذ يضحك و هو يقول (كنت امزح معك فقط، توقفي عن هذا المزاج الساحلي، لا نريد أن تنطحي شخصا آخر لليوم على الأقل)
لكن أثير لم تسمع كلمة مما قالها، فقد تاهت تماما في يده الممسكة بيدها، الغريب أن برائته ظاهرة للأعمى و أنه يبدو وكأنه يتعامل مع أحد أصدقائه…
الا أنها ضاعت من لمسة يده، و لم تدرك أنه كان قد أعطى للرجل نقوده و أخذ منه عدة أكياس وردية…
ناولها الاكياس بين يديها مبتسما وهو يقول (هيا اضحكي، كفاكِ كآبة، لم أركِ يوما الا و بكيتِ فيه، لا بد أن يمنحوكِ الجائزة الذهبية في النكد)
ابتسمت بشرود وهي تتشرب ملامحه التي أصبحت تحفظها عن ظهر قلب، محتنضة الأكياس بين ذراعيها برقة.
بعد فترةٍ طويلة، كانت أثير تقضم من الحلوى في صمت و هي تطلع اليه بين لحظةٍ و أخرى، ثم وجدت نفسها تريد أن تحتل مساحة شروده…
فقالت برقة و قد صار البكاء في فعلٍ ماض (أنت أخٌ رائع)
أفاق مالك من شروده وهو ينظر اليها ثم ابتسم و هو يقول بمرح (شكرا، أتمنى أن يكون ذلك راي حور و حنين كذلك، الا أنهما ناكرتي الجميل في معظم الأوقات)
قالت أثير بدهشةٍ وهي تمضغ الحلوى (هل لديكِ شقيقتين؟).
قال مالك ببساطة، (بل لدي واحدة وهي حور متزوجة و لديها كائن صغير طريف اسمه معتز، أما حنين فهي ابنة عمي رحمه الله و قد تربت معنا في البيت)
فترت ابتسامة اثير و أصبحت في جمود الجليد وهي تقول ببرود (لا بد أنها قريبة لك).
اتسعت ابتسامة مالك وهو ينظر الى البحر الممتد أمامه قائلا بعفوية (حوور، إنها مجنونة و ذات قرون أحيانا و لها القدرة على إخراج العاقل من ملابسه، لكنها قطعة الحلوى لدى الجميع، فهي ضعيفة من الداخل و تحتاج الى رعاية باستمرار)
أصبحت ملامح أثير اكثر برودا وهي تحاول القول بعفوية (وماذا عن، ابنة عمك؟، هل هي قطعة حلوى هي الأخرى؟).
ضحك مالك عاليا وهو يقول (حنين، حنين تلك شخصية متفردة في نوعها، إنها تبدو كالمقبلات الحارة، وجودها في البت له مذاق خاص وهي أحد أهم أركانه، لكنها مجنونة هي الأخرى كذلك، بطريقة مختلفة)
مطت أثير شفتيها وهي تبتسم ببرود و امتعاض، ثم قالت (حقا؟، تبدو لطيفة)
قال مالك مؤكدا (نعم هي لطيفة جدا).
نظرت أثير أمامها الى البحر وهي تطلع للشمس التي تستعد للهبوط تدريجيا، وهي تتسائل عما بها، ما تلك النار التي تدب في أعماقها كلما تخيلته مع واحدة أخرى…
هل جُنت؟، فيما تفكر؟، إنها تلعب بالنار و تحاول التعلق بالنجوم الا أن نهايتها ستكون أنها ستقع على جذور عنقها…
قالت أثير بلهجةٍ مرحة زائفة قبل أن تتمكن من منع نفسها (امممممم، ومن غير حور و، حنين، هل لديك صديقات أخريات؟).
ضحك مالك مرة أخرى و هو ينظر اليها بدهشةٍ من جرأتها، فعضت على شفتها و احمر وجهها و هي تهمس متلعثمة (كنت أمزح معك فقط)
قال مالك برفق (لا بأس أعلم، ليس لدي أي صديقات حاليا)
صمتت اثير قليلا و لم تجد القدرة على منع نفسها من السؤال همسا (وهل، أحببت من قبل؟).
لم يجب مالك، بل ظل جالسا و هو ينظر الى البحر المشتعل بلونٍ ذهبي، حينها انتفض قلب أثير لوعة لمنظر عينيه الشاردتين، وقبل أن تعتذر للمرة الثانية كان مالك يقول ببساطة خافتة (أحببت مرة، منذ سنين)
التوى قلبها ألما على لهجته الشاردة، فهمست بصوتٍ مختنق (و ماذا حدث؟).
ابتسم مالك دون أن ينظر اليها و ظل ناظرا الى آخر امتداد البحر، و بقت اثير تنظر الى جانب وجهه تريد أن تربت على أحزانه و تريد أن تنتزع الذكرى من صدره، لكنها ناقضت نفسها و همست بخفوت (هل كانت جميلة؟)
لم يرد مالك لفترة و ظنت أنه سيتجاهلها، الا أنها فوجئت به يُخرج محفظته من جيب بنطاله و يفتحها…
نارا دبت في أعماقها و هي تفكر بأنه لازال يحمل صورتها في محفظته، الهذه الدرجة يعشقها و لا يقوى على فراقها؟..
مد مالك يده بالمحفظة اليها مبتسما برفق…
فظلت مسمرة عينيها على عينيه الحنونتين، تريد أن تصرخ به، أنها لا تريد رؤيتها، لا تريد أن ترى الوجه المرافق أحلامه و حياته رغم الفراق…
لكنها اضطرت الى ابعاد عينيها أخيرا لتنظر ببطء شديد الى المحفظة المفتوحة أمام وجهها…
ولعدة لحظات لم تستوعب الصورة أمامها، تلك العينين الزرقاوين، و خصلاتِ الشعر الشقراء النحاسية، الفم الأحمر المتورد و الوجنتين في جمالِ تفاحتين، بدت كالدمى الموضوعة في واجهات محلات لعب الأطفال
ظلت تنظر الى الصورة القديمة المتآكلة للطفلة أمامها لعدة لحظات، الى أن أفلتت ضحكة مقترنة بتنهيدة ارتياح خرجت رغما عنها…
ثم قالت من بين ِ ضحكتها السعيدة بمنتهى الغرابة (يالهي، لقد صدقتك لفترة طويلة).
ثم نظرت اليه بعتابٍ رقيق زادها جمالا و رقة، وهمست برفق (امممممم، وماذا حدث لحبيبتك الصغيرة؟، هل أعجبها طفلٌ آخر غيرك في نفس الصف؟)
ضحك مالك برفق هو الآخر ضحكة خافتة بعيونٍ فيها نظراتٍ حنونة أدفئت قلبها، ثم أغلق المحفظة و أعادها لجيبه وهو يعاود النظر للبحر ثم يقول بحزمٍ ناعم، (دعينا نعود اليكِ الآن، لقد انتهى الأمر و مر على خير، أعلم تماما أنكِ تشعرين بالإمتهان، وذلك ما حذرتك منه من قبل).
احمر وجه أثير بشدةٍ وعادت اليها في لحظةٍ واحدة، مشاعر الذل و الهوان حين تحرش بها ذلك الحقير…
قاطع مالك أفكارها وهو يقول بجدية (أثير، أعلم أن ذلك سيكون قاسيا عليكِ الآن، لكن لابد و أن كوني قد أدركتِ مجازفة عملٍ كهذا)
قالت أثير بمرارة وحزنٍ على النفس (لا تقلق، لقد خسرت عملي على كلِ حالٍ من الأحوال)
قال مالك برفق (هذا أفضل لك، لقد خرجتِ بأقل الخسائر، المهم الا تخسري مجددا).
أغمضت أثير عينيها وهي تسمح لنسيم البحر أن يداعب وجهها و شعرها ليبعده قليلا، ثم همست بضعف (أشعر بالمرارة على ما آل اليه حالي يا مالك، لم تكن تلك أثير التي حلمت بها قديما، اشعر، اشعر بالوحدة، اشعر بوحدةٍ تقتلني كل يوم، حتى أنني بت أكلم القطط أمام البيت و على نافذة غرفتي)
تألم مالك من لهجتها التي تنزف ألما و غُربة، و قال بخفوت بعد فترة صمت طويلة (ما رأيك أن أعرفك على صديقةٍ غالية عندي للغاية؟).
نظرت اليه بحيرة ثم همست (المزيد من الصديقات؟)
ابتسم مالك و قال (وهي في الواقع أروعهن)
بهتت ابتسامة أثير، لكنها كانت على إستعدادٍ تام على إتباعه لآخر العالم لو اقتضى الأمر، يبدو أنها قد هوت و قُضي الأمر…
سارت أثير بجوار مالك في ذلك الحي الضيق القديمة بيوته، ومن تفرعٍ لآخر أكثر ضيقا كانت تتبعه في صمت و هي تتطلع حولها، ذلك الحي البحري رغم قدمه الا أن سحره لا يزال طاغيا عليه، و رائحة البحر القوية تتخلل أنفاسها لتنعشها و تهدىء من توترها و نبضات قلبها، إنها من أكثر الناس تهورا حتى أنها قد تصل الى حد الحماقةٍ أحيانا، وها هي تتبعه الى أحد الأحياء القديمة دون حتى أن تمانع أو أن تسأله، لكن ما تعرفه هو أنها اصبحت تثق به ثقة عمياء، دون أن تعلم السبب لتلك الثقةوصل بها مالك إلى بيتٍ قديم من قدم الزمن الذي مر على هذا الحي، لكنه جميل و يحمل طابعا خاصا، توقفت قليلا عند مدخله وهي تنظر الى مالك الذي ابتسم اليها و سبقها داخلا فتبعته الى الداخل بصمت، و كانت هناك سيدتانِ واقفتانِ تتحدثان و تتضاحكان عند جانب البيت كلا منهما تحمل حقيبة منزلية تحوي بعض مشترايتها حيث التقت جارتها ككلِ يوم فلا تكتفيانِ من التسامر عند الباب أو من الشرفات، لكنهما توقفتا عن الكلام قليلا وهما تنظرانِ بإهتمام الى مالك و أثير أثناء دخولهما، وقف مالك أمام الباب الخشبي القديم ذو الشراعتين الحديديتين و النافذة الزجاجية، و خلف تقف أثير متوترة و هي لا تعلم من سيقابلا تحديدا، فجأة فُتح الباب، لتطل منه سيدة مبتسمة بطبيعية و كأن الابتسامة هي ملمحا منحوتا من ضمنِ ملامحى وجهها، سيدة في الأربعينيات، ملائكية الوجه الذي يبدو شديد الرقة بشحوبه الطبيعي، و يلتف حول رأسها شالا مربوطا خلف عنقها الا أنه لم يخفى مقدمة الخصلات الشقراء الداكنة التي تخللتها بعض الشعيرات البيضاء فزادت مظهرها هشاشة و نعومةبعض الخطوط الدقيقة هي فقط من دلت على عمرها بصعوبة، اتسعت ابتسامتها قليلا و رقت عيناها و شعت حنانا وهي ترى القادم فقالت بمودةٍ و نعومة (مالك؟، يا أهلا. يا أهلا، طالت غيبتك هذه المرة).
ابتسم مالك وهو يقول برقةٍ بالغة (كيف حالك يا أحلام)
فتحت أحلام الباب وهي تقول ببشاشة (ادخل، ادخل، لكنى لازلت مكسورة الخاطر منك، حتى مكالمة الهاتف اصبحت عسيرة عليك؟)
دخل مالك، ثم توقف وهو ينظر خلفه الى أثير المرتبكة، ومنها نظر الى أحلام ليقول برقة (معي صديقة جلبتها لتتعرف اليكِ)
قالت أحلام بمودةٍ وهي تميل ناظرة الى أثير بفضول (مرحبا بك و بصديقتك).
دخل مالك وهو يشير لأثير أن تتبعه، فدخلت بخجل و هي تبتسم لتلك السيدة الجميلة، و كبيتٍ من البيوت القديمة، كان ذو سقفٍ مرتفع للغاية و جدرانِ خضراء فاتحة اللون، و أرائك مغطاةٍ بأغطيةٍ مفصلة ذات نقوشٍ وورود، جلس مالك و أثير الى أقرب أريكةٍ، فاتقربت أحلام لتجلس أمامهما و هي تتطلع لأثير بحب فقال مالك (هذه أثير يا احلام، صديقتي وعزيزة علي).
ابتسمت احلام اكثر، و هي تتطلع لوجه اثير الذي احمر خجلا، فهمست احلام؛ (مرحبا مرحبا بها، ما أجملها يا مالك).
ازداد احمرار وجه أثير اكثر، و خاصة ومالك ينظر اليها مبتسما وكأنه يؤكد على كلام أحلام، ثم لم تلبث أن دخلت في حالةٍ من الرقة و المودة خلال الساعة التي تلت، حيث بدأت الأحاديث بين مالك و أحلام و بعض الطرائف حتى أن أثير لم تستطع أن تمنع نفسها من الضحك في كثيرٍ من القصصلكنها كانت تنظر اليهما وهي لم تعلم بعد ما درجة القرابة بينهما، ما استنتجته هو أنها أحد جيران مالك حين كان يسكن هنا قديما، و أنها تعيش وحيدة، ليست تماما حيث تأتي تلك السيدة التي أعدت لهما القهوة و قدمت لهما الحلوى، يبدو أنها تأتي الى أحلام يوميا لتؤنس و حدتها، لكن اليست لها أسرة أو عائلة، إنها جميلةٍ و ناعمة و أكثر هشاشة من أن تبقى بمفردها طويلا، رن هاتف مالك أثناء حديثه الرقيق الباسم مع أحلام، فاستأذن منهما وهو يأخذ هاتفه ليخرج قليلا من باب البيت المفتوح و يتكلم بحريةٍ عند أعلى السلم، بقت أثير جالسة مكانها وهي تتلاعب في حقيبتها الصغيرة على ركبتيها، تنظر الى أحلام فتجدها هي الأخرى تراقبها مبتسمة بحنان فائق، فتبتسم لها أثير وهي تخفض نظرها بخجل كطفلةٍ صغيرة، رفعت أثير عينيها تنظر حولها و كأنها تتفرج على البيت من جديد و هي تشعر بجوٍ حالم يحيط بجدران هذا البيت القديم فيعطيه غموضا غريب، لكنها فجأة ثبتت نظرها على صورةٍ صغيرة في اطارٍ مذهب موضوعة على طاولةٍ صغيرة بين الأريكة و المقعد، للوهلةِ الأولى رمشت بعينيها، اليست تلك هي نفس صورة الطفلة التي أراها مالك لها؟، نست أثير نفسها تماما وهي تنظر الى الصورة بتمعن، حتى قالت أحلام بهدوء (إنها نوار، ابنتي).
أجفلت أثير و ارتبكت، لكنها ابتسمت وقالت بتردد (إنها جميلة جدا، أين، أين هي الآن؟)
لم تختفي ابتسامة أحلام، و لم تختفي الخطوط الدقيقة على جانبي عينيها الحنونتين و هي تهمس برقة (لقد رُدت الأمانة الى خالقها)
للحظةٍ لم تستوعب أثير ما سمعته، ثم انتفضت بداخلها، يالهي تلك الطفلة الجميلة، تحت التراب الآن، رفعت عينيها المصدومتين من الصورة إلى أحلام لتهمس بندم (أنا آسفة، أنا آسفة جدا، لم أكن أقصد أن).
ابتسمت أحلام برقةٍ حزينة و هي تقول بتأكيد (إنها في مكانٍ أفضل منا بالتأكيد)
نعم، نعم، و أثير خير من تعلم ذلك، فهمست مواسيةٍ بتأكيد (نعم، إنها في مكانٍ أفضل بكثير)
الا أن في قلبها كانت تدور دوامة غريبة، من عطفٍ و حيرة و فضولٍ و كأن للقصة أبعادا أخرى…
ما هذا الذي تفعله؟).
لم يهتم نادر بسؤالها المتعجب من خلفه، بينما هو واقفا في الشرفة ممسكا بسلة التوصيل يثبت بها ما يثبته دون أن تراه حور جيدا، فركت حور عينيها و هي لا تزال تشعر بالنعاس قليلا، الا أن حركات نادر المريبة في الخارج جعلتها تستيقظ مبكرا أكثر، فخرجت من غرفتها، تبحث عنه لتجده في الشرفة ممسكا بالسلة التي تستخدمها لإحضار طلباتها من الشارع، استدار نادر دون أن ينظر اليها فأصدرت السلة صوت رنين جعل حور ترفع حاجبيها دهشة و هي تراه يربط جرسا صغيرا في ذراع السلة، وضعت حور يديها في خصرها و هي تقول بغباء (ما هذا تحديدا؟).
قال نادر بجدية دون أن ينظر اليها، (إنه جرس، لقد ربطه لكِ في السلة، كل ما عليكِ هو أن تدليها وهو سيقوم بالواجب، و طلباتك اكتبيها في ورقة صغيرة ضعيها بداخله)
رفعت حور حاجبيها بدهشة، ثم هتفت برفض (ماذا؟، سيكون شكلي غبيا جدا)
رفع نادر رأسه و هو يقول بصرامة (هذا هو ما لدي، الأمر منتهى، وإياكِ أن تنادي بصوتك في الطريق هكذا مرة أخرى، و لا أريد أن أنبهك لملابسك مرة أخرى).
ظلت حور متخصرة وهي تنظر بعبوس الى السلة التي هزها بين يديه فأصدرت صوت رنين الجرس، يالهي ستكون مهزلة الحي، قالت حور بتبرم (لكن أمي كانت تنادي من الشرفة، ما المشكلة؟)
قال نادر وهو يضع السلة في مكانها في الشرفة، (أمك في عيني و فوق رأسي، لكن أنا لن أقبل أن تقفي في الشرفة و يجلجل صوتك في الطريق).
ابتسمت حور رغما عنها لكنها عضت على ابتسامتها حتى لا تظهر جلية، هل يغار عليها فعلا؟، لكنه دان دائم النقد لملبسها فلماذا اذن موضوع بسيط مثل صوتها العالي يثير فيها مثل هذه السعادة البدائية أكثر من انتقاده لملابسها، تنهدت حور دون صوتٍ تقريبا، ثم ابتلعت تنهيدتها قبل أن تكتمل، و تنحنحت قائلة بهدوء (نادر، الم يحن الوقت لنبدأ صفحة جديدة أنا و أنت؟).
توقف نادر قليلا عن الحركة، الا أن ملامحه لم تتغير و هو يسمع نفس السؤال، سؤال كل فترة، لذا قال بهدوء و إن كان بجفاء قليلا (و ها قد بدأناها يا حور، نحن معا و معنا ابننا معتز وهو الأهم، فماذا ينقصك بعد؟)
اتسعت عيناها قليلا، ثم تلعثمت على الرغم من جرأتها المعهودة الا أنه ألجمها بسؤاله، فهمست (ينقصني، ينقصني، أنت تعلم ماذا ينقصني).
ثم أخفضت رأسها قليلا وهي غير قادرة على مواجهة نظراته، فقال نادر بهدوء (ماذا أهم من وجودنا مع ابننا؟، قولي ما ترغبين به).
احمر وجهها و قد ضاعت منها الكلمات، ماذا يريدها أن تنطق؟، أنها تموت شوقا اليه؟، لكن حتى وإن قالتلها فسيجيبها أنه هنا معها فماذا ينقصها بعد؟، هل يريد تفسيرا أكثر جرأة؟، ألم يكفي عرضها المذل له حين رفضها في غرفته و طردها منها؟، يريدها أن تنطقها كذلك ليكون ذلها أعظم؟، تاهت أفكارها قليلا، وماذا إن أخبرته بصراحةٍ أنها ترغبه ثم وافق على طلبها و منحها ما تطلب في التو و اللحظة بناءا على رغبتها،؟ هل حينها ستكون راضية؟، هل حينها ستحصل على الإرضاء العاطفي الذي تنشده؟، طاف هذا السؤال طويلا في فكرها، الى أن قفزت الكلمات من حيث لا تعلم الى شفتيها وهي تهمس بكل روحها، (أريدك أن تثق بي، أريدك أن تعود صديقي من جديد، أريدك أن تحبني).
تعلقت نظرات نادر طويلا بعينيها، وكأن كلمتها كانت الحد الفاصل بينهما، ولم تدرك كم مر من الوقت قبل أن يتكلم ببطءٍ شديد (الثقة لا تمنح يا حور بل تكتسب، و الصداقة منحتها لكِ ذات يومٍ و لم تكوني أهلا لها، أما الحب، فهو لا يُطلب هو يُمنح دون الحاجة للسؤال)
امتلأت عينا حور بالدموع المحتجزة، وهي تهمس مندفعة (وماذا ينقصني لأنال كل ذلك؟)
قال نادر بهدوء (لا ينقصكِ شيء، إن أردتِ ستنالين).
همست حور شوقا و لوعة من كل قلبها (وأنا أرييييييد)
ابتسم نادر قليلا، ثم قال ببساطة (اذن اتعبي قليلا للحصول على كل ما تريدين، اتعبي قليلا ليكون ابنك هو اغلى ما تهتمين به)
تشوشت رؤيتها بسبب دموعها، لكنها همست بضعف و بعض الغيرة رغما عنها (الا أساوي شيئا كحوور؟، لا كأم معتز؟).
بعض الألم طفا على سطح ملامح نادر، و رغما عنه قال بجفاء (أحيانا أجد نفسي غير قادرا على نسيان أنكِ لم تكوني راغبة في معتز من الأساس، كنت تمنعين نفسك عن الحمل دون إخباري، غير قادر على نسيان جمودك الذي رأيته بنفسي حين علمتِ بحالة معتز، جفاءك من ناحيته وهو في أمس الحاجة لكِ أكثر من باقي الأطفال)
تساقطت الدموع رغما عنها، وهمست و هي تشعرأن صفعاته تتوالى دون رحمة (و أنا ندمت على كل ذلك، صدقنييييييي).
فقال نادر بعد عدة لحظات صمت (اتعنين أنكِ تريدين الحصول عل إخوةٍ لمعتز؟)
اتسعت عينا حوور قليلا و هي تتلجلج هامسة (إخ، أخوة؟، ن، نعم، بالطبع)
ابتسم نادر قليلا بإستهزاء خفيف، الا أن عينيه لم تكونا قاسيتين كالعادة ثم قال (لا بأس، لا تقلقي، سننتظر قليلا على الأقل لنهتم بمعتز أكثر).
ننتظر قليلا؟، هل يعني ذلك أنه تقبل وجودها في حياته كلها و ليس فقط بيته؟، أخذ قلب حوور يخفق بجنون و همست قبل أن تستطيع منع نفسها (اذن لما لا، الى أن)
الا أن وجهها احمر بشدةٍ وهي تدرك ما همست به، وكأنها لازالت فتاة صغيرة و ليست زوجة و أم، قال نادر بجديةٍ الا أنه بدا وكأنه يكتم ضحكة (لما لا، ماذا؟)
انعقد حاجبيها قليلا، و تكورت شفتاها وهي تهمس بكبت (لا، لا شيء).
اقترب منها نادر قليلا، حتى صار ملاصقا لها تقريبا ثم رفع يده ليرفع ذقنها و ينظر الى وجهها، ثم نظر إلى عينيها وهو يقول بجديةٍ وبطء (أنتِ جميلة)
اتسعت عينا حور بذهول، دائما من بين لومه و تقريعه تنبث منه كلمة أنها جميلة، تجعلها ترتجف من أعمق أعماقها، نزع نادر يده وهو يتنفس بعمق ثم قال بصوتٍ خافت (يجب أن اذهب الآن، لقد تأخرت على العمل).
قالت حور بسرعةٍ و احباط (لا تقل تأخرت تلك، معظم البشر لم يستقيظو من نومهم بعد)
ابتسم نادر قليلا وهو يقول بحزم (ومع ذلك تأخرت على الطبيب الآخر الذي بقي خلال الليل، يكفي أن الغير متزوجين هم من يأخذون مناوبات الليل كرما منهم).
تذمرت حور بداخلها وهي تفكر بحنق، وكأن ذلك يشكل فارقا معي، وهو يحفظني فوق الرف كالمخللات قال نادر وهو يعدل من قميصه النظيف الأنيق، دائما يبدو رائع المظهر، تنهدت حور بداخلها بيأس (سأذهب الآن، السلام عليكم)
ردت حور بوجوم (وعليكم السلام)
التفت نادر ينظر الى وجومها، ثم قال بحزمٍ و صلابة (لا أريد أن انبهك لملابسك مرة أخرى، حين تخرجين الى الشرفة و حين تفتحين الباب لأحد).
أومأت حور برأسها بحنق، ثم قالت على مضض (سأ ستخدم السلة الجرسية، لأبدو كالحمقى)
استدار نادر ليخرج و لم ترى ابتسامته الصغيرة…
نادر يحب الملوخية، اذن لماذا لا يأكلها؟، وماذا ينقصها لتعد بعضا منها، حسنا، كل شيء متاح، اتجهت حور الى الشرفة خلال الصباح يتبعها معتز كالعادة، ثم تذكرت السلة ذات الجرستوقفت و هي تعض شفتيها إحراجا، يالهي كم ستبدو غبية، لكن ما باليد حيلة، أنزلت السلة ببطءٍ وهي تنظر يمينا و يسارا، الى أن وصلت الى الطابق الأرضي، نظرت حور بغضب الى معتز وكأنها تشكو له، فضحك معتز بلا سبب و كأنها تبدو طريفة، لم تجد حور بدا، فأسندت مرفقها الى السور، ثم بإحباط بالغ أخذت تهز الحبل، حينها أنطلق صوت الجرس الذي يبدو وكأن موجاته الصوتية قد تزايدت على غير المعتاد إمعانا في الفضيحة، نظر الناس من كل جانب الى السلة ذات الجرس، حتى أن بعض السيدات قد خرجن من الشرفات اعتقادا منهن أن عربة الفول قد وصلت، ومن شرفةٍ قريبة سمعت حور هتافا واضح (لا يا أمي، ليست العربة، إنها زوجة الطبيب).
أغمضت حور عينيها يأسا و هي ترغب في الإختفاء، و حين قررت الهرب كان عم جلال قد خرج من متجره ليأتي الى السلة، فقال بصوتٍ صبوحٍ عالٍ (صباح الأنوار يا زينة الصبايا، فلتأمريني).
في الواقع العم جلال يدللها للغاية، وقد وضع على عاتقه أن يجلب لها كل أغراضها من كل مكانٍ محيط في الأزقة المجاورةلم تجب حور، الا أنها أشارت الى السلة بابتسامة اعتذارنظر عم جلال الى السلة و التقط الورقة الصغيرة، ليقرأ فيها (أريد ملوخية خضراء منتقاة بتركيز يا عم جلال، و شكرا).
ابتسم العم جلال وهو يشير بسبابته من عينه لعينه الأخرى ثم نادى من مكانه (يا ولد يا ابراهيم، ركضا الى خالتك أم عزيز، و أفضل حزمة ملوخية خضراء للغالية أم معتز).
، وضعت حور الطاولة ذات الأقدام القصيرة على الأرض أمام الشرفة، ففرشت عليها الملوخية، ثم تربعت أرضا و بدأت في تقطيفها بعشوائية و معتز يجلس أمامها وهو ينثر ما يتم تقطيفه، في أثناء ذلك كانت حور قد وضعت سماعة هاتفها الجوال الحديث في أذنها لتتمكن من مكالمة أمها أثناء تقطيفها الملوخية، وما أن ردت الحاجة روعة حتى قالت حور مبتسمة (صباح الخير يا روعة، اليست لديكِ ابنة لتسألين عنها؟، أم أن ست الحسن و الجمال زوجة الغالي سرقت منا الأجواء؟).
سمعت حور الحاجة روعة وهي تتأفف قائلة (يا رب ارحمني من البنات، و ذرية البنات، هل سأجدها منكِ أم من حنين؟)
رفعت حور حاجبها الأنيق الرفيع و هي تمط شفتيها المكتنزتين خبثا، ثم قالت (بالتأكيد حنين تريد قتلها، اليس كذلك؟، فقد حلت محلها على حجرك يا روعة)
قالت الحاجة روعة وهي تهتف غضبا كالأطفال (أنتِ تقولين أنني أدلل حنين أكثر، و حنين تقول أنني أدلل صبا أكثر، وإن أردتِ الحق فأنا أريد أن أتخلص منكن جميعا).
ضحكت حور و هي تمضغ علكتها، ثم قالت بمكر (المهم أخبريني، كيف هي صبا معكِ؟)
ردت الحاجة روعة برقة (إنها طيبة و ابنة حلال و على قدر يدي، الحمد لله أنه أكرمنا بها)
ثم سكتت قليلا تتنفس بسرعةٍ حتى وصل صوت تنفسها عبر الهاتف، فأحس رادار حور مباشرة أن هناك ما تخفيه روعة، فقالت بخبث (أمي، ما الأخبار عندكم؟)
تلجلجت الحاجة روعة وهي تقول (الحمد لله، بألف خير، كيف حالك أنتِ ومعتز؟).
حينها ثبت شك حور، فروعة لا تستطيع أن تخفي عنها شيئا أبدا، يكفي أن تسحبها حور قليلا في الكلام لتصب كل ما في جعبتهاقالت حور بدلال أنثوي فتاك (أمي، ما الأمر؟)
تلعثمت الحاجة روعة ثم بعد فترة صمت قالت بحزم طريف (اممممم، اسمعي يا حور، من آخر الموضوع و دون أي كلمة غبية لاني لم أعد أحتمل تعب الأعصاب أكثر من ذلك، من الآخر، أخوكِ خطب حنين).
شهقت حور و هي تضرب صدرها مذهولة، ثم هتفت مصدومة و مستنكرة؛ (عاصم خطب حين؟، سيتزوج ثانية بهذه السرعة؟، وحنين؟، حنين؟، يبدو أن صبا تلك قد سودت حياته و جعلته مجنونا)
صرخت الحاجة روعة بغضب (انتظري، انتظري يا خائبة الرجا، مالك، مالك هو من خطب حنين).
سكتت حور من هتافها فجأة، الى أن استوعبت الأمر جيدا، ثم ضربت صدرها مرة أخرى و هي تهتف بغضب (مالك؟، مالك خطب حنين؟، كل صديقاتي كن يضعنه نصب أعينهن، انه صيد ثمين لأرقى فتيات المدينة يا أمي، طيب عاصم قلت أنه سيتزوج زيجة ثانية فلا بأس بها، أما مالك؟)
صرخت الحاجة روعة بغضب (اخرسي يا حور. ابنة عمك لا يعيبها شيء، إنها تربية يدي، إياكِ أن تخطئي بحقها خاصة وأنها ستصبح زوجة أخيكِ).
هتفت حور باستنكار (لكن يا أمي، مالك كل الفتيات يتمنينه)
قالت الحاجة روعة و هي تتميز غيظا (ولا كلمة أخرى يا حور، ولا كلمة)
سكتت حور و هي تعود لتقطيف أوراق الملوخية شر تقطيف و هي تهمهم بغضب، فهتفت الحاجة روعة بصرامة من الجهة الأخرى (ماذا تقولين، أسمعيني؟، قسما بالله أن آتي اليكِ و أضربك أم أنكِ قد كبرتِ علي؟).
تأففت حور و هي تنتقم من أوراق الملوخية شر انتقام، ثم حاولت القول بهدوء (وما سبب هذا القرار المفاجىء؟، لم اشعر يوما أن مالك يكن أي مشاعر لحنين)
قالت الحاجة روعة بسذاجة (لولا مصيبة الحيوان الذي عاد).
ثم سمعت حور شهقة عالية و صمت،!، الحيوان الذي عاد؟، هل في الأمر حيوانات؟، يبدو أن الموضوع كبير قالت حور بصرامة وهي ترفع حاجبا شريرا و تعض عضا على علكتها (أي حيوان يا أمي؟، اخبريني و الا قسما بالله لن تسمعين صوتي مجددا)
أخذت الحاجة روعة تهمهم أسفا و ندما على زلة لسانها، ثم قالت على مضض (حسنا سأخبرك، لكن اقسمي يا حور الا تخبرين أحدا، و لا حتى زوجك)
قالت حور بتشديد (انجزي يا امي).
و خلال عدة دقائق كان الموضوع كله عند حور بكل حيثياته و أبعاده و تفاصيله، وكانت تسمع مذهولة تمضغ علكتها و تقطف أوراق ملوخيتها باهتمام، وما أن انتهت أمها حتى همست حور بذهول (جاسر عاد؟، وأكثر ثراءا من الأول؟، و مالك خطبها؟، يا بنت المحظوظة يا حنين، دائما ما كنت أقول أنها ماءٌ من تحتِ تبن)
فجأة طرق الباب عاليا جعلها تصمت، ثم قالت بتذمر (لحظة يا أمي، هناك من يطرق الباب، لحظة لأرى من بالباب).
ثم و من مكانها ودون أن تنهض، صرخت عاليا (من؟)
سمعت صوتا نسائيا مجلجلا يقول من الخارج (أنا أم مصطفى آآآآ)
اتسعت عينا حور ثم همست، لا، لا، المزيد من عائلة مصطفىثم أمسكت السماعة بيدها و هي تتكلم فيها بلهجة المحقق السري (حسنا يا أمي سأقفل معكِ الآن لأن أم مصطفى على الباب).
ثم ابعدت الهاتف و نهضت و هي تتأفف غضبا، و قفت أمام الباب و الشياطين تتلاعب أمام عينيها، فأخذت نفسا عميقا ثم فتحت الباب على اتساعه و هي ترسم على شفتيها ابتسامة سحر و دلال و تقول بأنوثة (ام مصطفى، مرحبا).
هجمت عليها الشابة النحيفة، ذات العباءة السوداء و هي تجذبها من ذراعيها لتقبلها أربع قبلاتِ على الخد الأيمن بصوتٍ كالممصات، جعل حور تنظر بإرتياع و هي متجمدة بين ذراعي ام مصطفى وهي تقبلها أربع قبلاتٍ أخريات على الخد الأيسرهاتفة بود و محبة و ابتسامتها تصل من الأذن اليمنى الى الأذن اليسرى (مرحبا يا غالية، يا زوجة الغالي و أم الغالي).
بعد أن أفرجت عن حور أخيرا و أطلقت سراحها، ابتسمت حور بشحوب من هول الهجوم ثم قالت بتوجس (أهلا يا أم مصطفى، تفضلي)
دخلت ام مصطفى و هي تضحك عاليا دون سببا وجيه، ثم هتفت من خلف ظهرها (ادخل يا مصطفى آآآآآ).
دخل مصطفى ضاحكا وهو يحمل وعاءا مغطى و ممتلئا، فأغمضت حور عينيها يأسا و هي تفكر وعاء أم مصطفى من جديد، إنها دائرة مغلقة، دائرة شريرة مغلقة فتحت عينيها وهي تنظر لمصطفى شزرا، ثم أخرجت له لسانها فقال مصطفى بفرحة (مرحبا يا حور، لقد أحضرت أمي معي)
ابتسمت حور من تحت الضرس و هي تقول (ياللفرح، ياللهناء).
الا أن صوت ام مصطفى جاء غاضبا من خلفها وهي تقول (حور دون ألقاب يا قليل التربية؟، تعالى، تعالى لأضربك، افسحي يا ام معتز).
للوهلة الأولى ابتعدت حور من طريقها خوفا، وهي تعتقد أن مصطفى سيهتف معللا بأن حور هي من طلبت منه ذلك، لكنه و ياللعجب ظل صامتا مطأطئا برأسه و كأنه يخاف عليها من لوم أمه إن عرفت الحقيقة المهمةحسنا يبدو أن الطفل لديه عرق شهامة على الرغم من سماجته، تدخلت حور وهي تخلص اذنه من يد أمه وهي تقول؛ (لا بأس يا أم مصطفى، أنا من طلبت منه ذلك).
هتفت ام مصطفى (لا تداري عليه، أنا اعرفه جيدا، دائما ما يفضحني أمام الناس)
قالت حور و قد بدأ صبرها ينفذ (يا أم مصطفى أنا من طلبت منه، ادخلي رجاءا)
دخلت أم مصطفى بوجه خجول و هي تقول (لكن ربما أتى حضرة الطبيب و يريد أن يرتاح أو يأكل لقمة)
قالت حور بفتور (السيد زوجي لا يأتي الا ليلا، وها هي اللقمة كنت أقوم بإعدادها).
انشرحت ملامح ام مصطفى و هي تنظر بسرور الى الطاولة الأرضية الصغيرة و الملوخية المفروشة عليها، ففكت عباءتها و هي ترميها عشوائيا و تتربع في حركةٍ واحدة و هي تقول بمودة (اذن فلنعدها معا، اجلسي يا أم معتز، اجلسي يا أختي)
تربعت حور أمامها و هي بملامحٍ غبية من شدة الوجوم و كأن وجهها مصنوعا من مادة الجبس، قالت أم مصطفى بحيرة (أين الجانب الذي تم تقطيفه؟).
أشارت حور الى الجانب دون أن تنطق بكلمة، فنظرت اليه أم مصطفى بذهول و شهقت قائلة و هي تلتقط الأوراق الممزقة (هييييييييه، هل هذا تقطيف؟، انهضي انهضي، احضري المخرطة لنعالج ما فعلتيه).
و بعد قائق، كانت أم مصطفى تقوم بتخريط الملوخية و هي تضحك و تتكلم و قد بدت هي و المخرطة كآلةٍ واحدة تتحركان بسرعةٍ و تناغم، قالت أم مصطفى و هي مبتسمة بود (سلمت يداكِ يا أم معتز على الأرز بالحليب، كان يستحق فمك، حتى أن والد مصطفى أكله كله، أرزة أرزة).
مطت حور شفتيها غضبا و هي تفكر هل هذه هي نهاية أرزي بحليبي؟، يأكله الوغد ضارب النساء؟، و الحزينة زوجته تبدو سعيدة أنه ملأ بطنه الجشعة تكلفت حور بابتسامة وهي تقول بفتور (بالهناء على قلبه يا أم مصطفى)
ظل الحال على ما هو عليه و حور في المطبخ تقوم بإضافة الملوخية المخروطة الى الحساء، فهتفت أم مصطفى من خلفها برعب (لا انتظري، ستكون خفيفة و ستسقط في قاع القدر و تصبح فضيحة).
نظرت حور اليها وهي تقول بدهشة (فضيحة؟)
قالت أن مصطفى بمنتهى الجدية و العبوس (؛ طبعا، الملوخية الساقطة في قاع القدر فضيحة للمرأة أمام زوجها)
قالت حور رافعة حاجبا واحد (لهذه الدرجة؟)
ردت عليها أم مصطفى بأمانةٍ علمية (طبعا، كما أقول لكِ، مهارة المرأة تظهر في وعاء الملوخية الخاص بها، والا، فإن تذوق زوجك أخرى متقنة فلتترحمي اذن على زواجك).
أومأت حور باهتمام ثم أمسكت القدر و سكبت قليلا من الحساء، وما أن جاء دور التقلية، حتى هتفت أم مصطفى برعب؛ (انتظري، أين الشهقة؟)
ضحكت حور وهي تقول (هل أنتِ مثل أمي تؤمنين بهذه الخرافات)
نظرت أم مصطفى اليها بمنتهى الجدية دون أن حتى أن تتكلف عناء الرد عليها، فشعرت حور بالغباء و قالت معتذره بإحراج (حسنا، حسنا كنت أمزح فقط).
ثم استدارت الى الموقد و سكبت التقلية بيدٍ وهي تضرب صدرها بيدها الأخرى ذات الأساور شاهقة بقوة (هيييييييييييييييه).
دخل عاصم إلى غرفته صباحا، كعادته اليومين الماضيين، ليرتدي ملابسه ثم يغادرها دون أن ينظر لصبا إن كانت موجودة، و طبعا لم يكن يبيت فيها و كأنه يعاقبها. لكن ذلك الصباح، وبعد أن انتهى عاصم من ارتداء سترته أمام المرآة، وجد صبا واقفة خلفه من على بعد، فالتقت عيناهما في المرآة، كان عاصم هو أول من أبعد عينه و هو يتناول مفاتيحه ليستعد للخروج، الا أن صبا و عن سابق تصميم و قفت مستندة على الباب لتمنعه عن الخروج مكتفة ذراعيها و هي تنظر اليه بصلابةوقف عاصم مكانه شامخا و بملامح متصلبة، قال بجفاء (ابتعدي عن الباب).
الا أن صبا رفعت ذقنها عاليا و نفضت شعرها للخلف و هي تقول بحزم (ليس قبل أن نتكلم، أنا أرفض هذا الإسلوب في التعامل)
لمعت عيناه ببريقٍ للحظةٍ ثم عادت لتتجمد نظرته وهو يقول بفظاظة (إن أردت الكلام عن حنين، فالموضوع منتهى و لا دخل لكِ به من الأساس)
ابتلعت صبا تلك الإهانة، و قالت بقوة (عاصم، ما تفعلونه هو منتهى الجنون، حنين يستحيل أن تتزوج مالك).
كتف عاصم ذراعيه ووقف يشرف عليها بعينين غاضبتين أخافتاها قليلا الا أنها رفضت الإستسلام، فقال عاصم بصوتٍ جليدي (تتكلمين و كأنني أظلمها، أتعرفين من هو مالك رشوان؟، إنه الوحيد في العالم الذي أتمنه على ابنة عمي)
اسبلت صبا جفنيها و هي تأخذ نفسا ثم عادت لتنظر اليه وهي تقول بقوةٍ (المشكلة ليست في مالك يا عاصم، المشكلة في الإسلوب، أنتم تحكمون عليها دون حتى أن تسمعوها).
مد عاصم يده و ربت بقوةٍ و إستهانة على ذراعها وهو يقول بجفاء (أخرجي أنتِ فقط من الأمر وهو سينجح)
اشتعلت عينا صبا غضبا و شعورا بالمهانة، و حين حاول عاصم دفعها عن الباب ليخرج، تسمرت مكانها وهي تقول بعندٍ أحمق (هل يمكن أن أعلم الى متى سيستمر هذا الحجز؟، أريد البدء في عملي من جديد، كما أريد، اريد الذهاب للإطمئنان على فتحية، مرت عدة أيام منذ كنت عندها لآخر مرة).
اخفضت صبا عينيها و ارتعشت قليلا و هي تتابع بهدوء (كما أريد الذهاب الي، الى بيتي، إن تركته مهجورا لفترةٍ أطول، قد يحتلونه بوضع اليد)
اشتعلت عينا عاصم غضبا و انتفض قلبه خوفا وهو يقول هادرا (لن تعودي الى ذلك البيت أبدا مرة أخرى، أبدا يا صبا)
هتفت صبا بإنفعال؛ (لن أتخلى عن بيت والدي و أدعهم يحصلون عليه، لم نتفق على ذلك حين تزوجنا يا عاصم، بيتي و عملي خطا أحمر).
أمسكها عاصم من ذراعيها و هو يجذبها اليه قائلا من بين أسنانه؛ (كفى، كفى يا صبا أنتِ تدفعيني بما يفوق قدرتي على التحمل، و قد أنفجر في وجهك و أنا لا أريد لهذا أن يحدث)
نزعت صبا ذراعيها من يديه بعنف و هي تهتف (لا تهددني، ليس لك الحق في أن تدخل حياتي و تتحكم فيها بتلك الصورة كما تفعل بحنين المسكينة التي ظلمتموها قديما و تريد ظلمها مجددا).
مد يده اليها و كأنه يريد أن يخنقها الا أن قبضته انغلقت أمام وجهها حتى ابيضت مفاصل أصابعه، ثم أغمض عينيه و هو يأخذ نفسا عميقا، و بعد لحظتين عاد ليفتح عينيه و هو ينظر اليها بمشاعر مشتعلةٍ أخافتها، ثم همس بخشونة (اشتقت اليك، اشتقت اليكِ بغباء، و أنتِ لا تمنحيني الفرصة لأهدىء من شوقي اليكِ).
احمر وجهها بشدة ٍ و أخفضت عينيها بإرتباك، هل هذا وقته، أم يريد أن يغير الموضع، أمسك عاصم بخصرها يجذبها اليه حاولت المقاومة قليلا، الا أنها توقفت اخيرا و أبقت رأسها منخفضة، أخفض عاصم رأسه حتى لامس مقدمة شعرها الناعم بشفتيه، وهو يهمس (لما لا تجربين من باب التغيير و تثقين بي)
قالت صبا بصوتٍ أكثر خفوتا، (و أين الثقة التي منحتها لي، لأردها لك؟).
تنهد عاصم بعمق حتى لامس صدره صدرها بكل ما يعتمل فيه من ضغط، ثم قال بصوتٍ أجش؛ (لقد أخطأتِ خطأ كبيرا، جدا)
همست صبا (و اعتذرت لك)
قال عاصم (و الآن ترين انني أظلم حنين؟)
قالت صبا ببساطة و بوضوح (نعم)
زفر عاصم بنفاذ صبر، ثم انحنى اليها هاسما (تعالي الي).
ليمنحها بعضا من ثقته بالطريقة الوحيدة التي يعرفها، حتى ذابت مقاومتها و اشتعل الدم في عروقها، رفعت صبا ذراعيها بتردد و بطء شديد، حول كتفيه، ثم ارتفعتا حتى عنقه، و بينما هو يقبل عنقها همست صبا بخفوت و ارتعاش (الن تعود لغرفتك بعد؟)
أومأ عاصم وهو يدفن وجهه بين عنقها و كتفها هامسا بصوتٍ أجش (الليلة، لم أكن لأستطيع النوم بدونك أكثر).
ارتجفت أكثر فشدد ذراعيه من حولها اكثر و أكثر، فهمست توضح نفسها (لأن، لأن، منظرنا مُخجل أمام عمتي، وهي غير راضية عن هذا الوضع)
ضحك عاصم و شفتيه تتلمسانِ وجنتها، ثم قال بانفعال عاطفي (طبعا، وأنا لا يهن على غضب امي أبدا، اذن لأجل عيون الحاجة روعة، ستنامين بين ذراعي الليلة، فليحفظكِ الله لنا يا حاجة روعة).
افلتت من صبا ضحكة صغيرة تكاد تكون همسة لكنها قتلتها بقوةٍ من شدة الخجل، و سمعها عاصم فشدد عليها ذراعيه أكثر وهو يرفعها اليه بقوة، ثم همس في اذنها (سنذهب إلى فتحية سويا، وعسى أن يكتب الله الشفاء لها سريعا)
نظرت اليه صبا ثم همست بتضرع (وحنين؟).
قاطعها عاصم بحزم (بالنسبة لذلك الحقير، لا تخشين منه شيئا، انا سأوقفه عند حده، أما خطبة مالك و حنين، فلا تشغلين بالك بها، حيث أن حنين نفسها لم تنطق كلمة رفضٍ واحدة حتى الآن، ومن تلك التي ترفض مالك رشوان؟، أنا متأكد أن حنين راضية من داخلها كل الرضا).
ثم ابتعد عنها على مضض بعد أن طبع قبلة طويلة على وجنتها، ثم ابتعد عنها بتكاسل وهو يرميها بأحدى نظراته المربكة و الجائعة بيأس، الا أن صبا كانت في وادٍ آخر تماما، بالفعل هي تنوي المحاربة بشراسةٍ من أجل حرية حنين من تلك الخطبة المفروضة عليها و من تلك الزيجة الفاشلة التي لازالت مقيدة بحبائلها الى الآن…
الا أن حنين بالفعل لم تنطق كلمة رفض واحدة، اذن ماذا؟، هل نسيت أم أنها تتعمد الغباء؟..
في الصباح الباكر، حيث الشمس دافئة في أواخر الصيف، مرحبة ببوادر نسيم الصباح البارد قليلا لشتاءٍ يقترب على الأبوابحيث جلست حنين في أحدى مقاعد الحديقة الخيرزانية الضخمة رافعة ساقيها على المقعد وهي تضم ركبتيها الى صدرها بقوةٍ و تستند بذقنها إلى ركبتيها تستمع الى صوت أوراق الأشجار، كانت و كما كانت منذ يومين، وهي شاردة متبلدة المشاعر، لا يظهر أي إنفعالٍ عليها منذ أن أُعلنت خطبتها لمالك، لم تسمع تلك الخطوات الهادئة من خلفها، لكنها انتفضت حين سمعت السؤال الهادىء (هل مسموحا لي بأن أجلس؟).
استدارت حنين بسرعةٍ في مقعدها و هي تنظر الى مالك المبتسم من خلفها، فابتسمت برقةٍ حزينة وهي تنزل قدميها عن المقعد و تعتدل في جلستها، ثم همست بضعف (هل تطلب الإذن يا مالك؟)
اقترب مالك ليجلس على الكرسي بجوارها، ثم أجاب برقةٍ وهدوء (طبعا، يجب أن أعتاد أخذ الإذن منذ اليوم، فالأمور قد تغيرت تماما).
ابتلعت حنين ريقها وهي تبتسم له بإهتزاز، ثم أطرقت برأسها غير قادرة على مواجهته وهي تقول هامسة (لما قبلت بهذه الخطبة يا مالك؟، لقد فرضوني عليك و أنت قبلت)
اتسعت عينا مالك بإستنكار وهو يقول رافضا (فرضوكي علي؟، إياكِ أن تكرري تلك الكلمة أبدا، مهما بحثت يا حنين لن أجحد من هي أفضل منك).
ابتسمت حنين بمرارةٍ وهي تمتنع عن إخباره بأنها سمعت رفضه القاطع بأذنها، لكنها همست بديلا عن ذلك (لولا موضوع ال، لولا الموضوع القديم، لما فكرت في خطبتي أبدا).
شعر مالك وكان احدهم قد ضربه بحجر مسنن في منتصف صدره، كيف يخبرها، كيف يخبرها أن ذلك الموضوع القديم الذي تتحاشى ذكره، هو ايضا السبب فيه. كل ما تبع ذلك اليوم المأسوي كان بسببه، بسببه ماتت طفلة صغيرة في تفتح الزهور، بسببه فقدت أم وحيدتها التي لم تنجب غيرها في الدنيا، وبسببه، بسببه كانت حنين كبش الفداء والذي تحمل عقوبة الأمر كله، أغمض مالك عينيه وهو يفكر كيف يخبرها بما يشعر، كيف يخبرها بالخزي الذي يشعر به من يوم أن تحملت حنين الصغيرة ثمن الذنب الذي ارتكبه بدون قصد، مال مالك الى الأمام في حركةٍ واحدة مندفعة، ثم التقط يدها دون اذن و ضغط عليها بين كفيه، وهو يقول بعزمٍ قدر استطاعته (؛اسمعي، لن نستطيع أبدا فهم الكثير من الحكم في هذه الدنيا و التي تسير حياتنا دون أن نختار، و قد يكون ما حدث هو بالفعل السبب في جمعنا معا، ولولاه لما فكرنا في الارتباط كما قلتِ بالفعل، لما لا تنظرين للأمر بهذا الشكل؟، لما لا نفكر أن ما حدث رغم صعوبته، الا أنه سيكون السبب في بناء بيت سنملأه أنا وأنتِ بالحب).
ابتسمت حنين بحنانٍ رقيق وهي تنظر الى أخاها الحبيب، ليس هناك من هو مثل مالك أبدا، وقد يكون هو من يستطيع مداواة جروحها، فجأة قاطع أفكارهما صوتِ خطواتٍ كأداة الحرث، تحفر في العشب و هي تقترب منهم بعنفٍ تقطع الحديقةرفع كلا من مالك و حنين رأسيهما، ليجدا أن صبا آتية تجاههما بكل قوةٍ، وأثناء سيرها المندفع التقطت أقرب كرسيٍ خيرزاني في يدٍ واحدةٍ، ومشت به الى أن وصلت اليهما ثم ضربته أرضا أمامهما بكلِ اندفاع حتى أنهما انتفضا الى الخلف قليلا وهما ينظران اليها بتوجس، وهي تجلس عليه بقوة، واضعة ساقا فوق الأخرى، مكتفة ذراعيها، مصوبة عينيها عليهما كالصقر، ترك مالك يد حنين بتردد، وهو يبتسم لصبا بارتياب، ثم قال بتهذيب (مرحبا يا صبا).
ابتسمت صبا بطبيعيةٍ وهي تقول بمودةٍ رغم صلابة عينيها (مرحبا يا مالك، كيف حالك؟)
ضحك مالك قليلا وهو يتنحنح، و يجلي حنجرته ثم يقول (بخير، الحمد لله يا صبا، شكرا لكِ).
ابتسم مالك وهو يتأمل الأشجار المحيطة و السماء، و يعد نوافذ البيت المجاور، بينما كانت صبا ترمق حنين بنظرات تهديد ووعيد، وكأنها تسألها مالذي تفعل و هي لازالت متزوجة، ابعدت حنين نظراتها بإرتباك عن صبا، نظر مالك إلى صبا بعد فترةٍ و قال مبتسما ( نوّرتِ يا صبا)
ابتسمت صبا بودٍ وهي تقول بسماجة (إنه نورك يا مالك).
و استمرت الجلسة عدة دقائق، و الصمت رابعهم، الى أن وصل عاصم اليهم بعد أن لملم أوراقه و هم بالذهاب إلى سيارته، وما أن وجد صبا تجلس كالغفير بين حنين و مالك، حتى عبس و اقترب اكثر منهم وهو يقول بصرامة (صبا، تعالي، أريدك في شيء).
زمت صبا شفتيها و ظلت تنظر الى مالك المبتسم بتوجس، و حنين المتهربة من نظراتها، و أوشكت أن ترفض القيام من مكانها، الا أنها قامت على مضض و ذهبت الى عاصم بسرعةٍ لتتمكن من العودة اليهما بسرعةوصلت اليه لتقول همسا بتذمر (ماذا يا عاصم؟، الم نودع بعضنا في الأعلى؟، ماذا تريد؟)
عبس عاصم أكثر وهو يقول بصرامةٍ اكبر (ابتعدي عن مالك و حنين يا صبا، لا تقتربي منهما، و لا تجلسي لهما كالمحقق هكذا؟).
زفرت صبا نفسا غاضبا، وهي تنظر اليه من طولها الأقصر منه بمراحل، ثم اقتربت أكثر وهي تهمس بتحذير (أنسيت أن الوضع اختلف الآن، هل تريد وضع البنزين بجوار النار و تتركهما ليستنشقا الهواء معا؟)
نظر اليها عاصم مفكرا غاضبا عابسا، ثم رفع رأسه عاليا و نادى بصوته الجهوري (مااالك، تعال معي، أريدك في عملٍ مهم)
تنهد مالك وهو يهز رأسه بيأس، ثم ابتسم لحنين و همس لها (سنكمل كلامنا فيما بعد).
و بعد أن انصرف عاصم و مالك، اقتربت صبا من حنين لتديرها اليها بقوةٍ وهي تقول بغضب (ما هذا الذي تفعلينه يا حنين؟، أنتِ تلعبين بالنار، لماذا لم تعترفي بالحقيقة حتى الآن، يا حنين لا تخافي، أصعب مرحلةٍ مرت على خير دون خسائر، أما عن يمين الطلاق فأنتِ لم تخطئي في شيء لتخافي، بل هم من أخطأوا في حقك، لذا اعترفي لهم و كما أخبرتك سأطلقك منه في جلسةٍ واحدةٍ).
استدارت حنين قليلا بعينين مكسورتين، ثم همست بفتور (لست خائفة يا صبا، مالك إن عرف، فأنا متأكدة أنه سيقف بجواري حتى أكثر من الآن)
عقدت صبا حاجبيها ثم قالت بحيرة (اذن ماذا تنتظرين؟، أتريدين أن يتعلق بكِ مالك قبل أن نحل مشكلتك؟، الأمر كله خاطىء يا حنين، أم، أم أنكِ، تفكرين في الأمر؟).
التفتت اليها حنين بقوةٍ وهي تهتف (نعم، نعم يا صبا أفكر في الأمر، وأزن الفرص، اليس من حقي؟، هل أخطأت و ارتكبت جريمةٍ إن فكرت في مصلحتي ولو لمرةٍ واحدة؟)
ازداد عبوس صبا ثم هتفت بذهول (أتفكرين في قبول جاسر؟، هل جننتِ؟، هل جننتِ تماما؟).
نظرت اليها حنين بشراسةٍ توازي شراسة صبا، وكاد الجو أن يشتعل لولا أن أقبلت الحاجة روعة وهي ترمقهما بقلق، ثم مدت يدها الى حنين بالهاتف الأرضي المتنقل وهي تقول (حنين، خذي، إنها رنيم، تريد أن تطمئن عليكِ)
التقططت حنين الهاتف وهي تتنهد بنفاذ صبر، ثم قالت لزوجة عمها؛ (شكرا عمتي)
وضعت السماعة على اذنها، الا أنها وجدت الحاجة روعة لا زالت تنظر اليها هي و صبا بقلقفقالت حنين مرة ثانية (؛ شكرا عمتي).
ابتعدت الحاجة روعة بعد أن رمقتهما بنظرةٍ أخيرة، ثم قالت (سترك يا رب)
وضعت حنين الهاتف على اذنها وهي تقول بخفوت (مرحبا رنيم)
جائها الصوت العميق الذي سود حياتها، (هل أنتِ بخير؟).
، كانت رنيم جالسة في الصباح الباكر في مكتبها وهي تنظر إلى بعض الخرائط أمامها لتبدأ العمل، ففوجئت بجاسر يدخل الى المكتب ثم يغلق الباب خلفه بكل وقاحة، نظرت اليه رنيم بدهشة ثم همست بلهجةٍ ناخزة (؛مرحبا يا سيد جاسر، دمرت الدنيا و ارتحت الآن؟).
تسمر جاسر مكانه ثم اقترب من المكتب ليستند بقبضتيه على سطحه، فاندفعت رنيم الى الخلف برعب و هي تعتقده سيضربها أو يقذفها بشيءٍ من على المكتب، الا أنه قال بخشونة (الا تعرفين شيئا عن حنين؟)
قالت رنيم وهي تمدد شفتيها لوما و استياءا (لا، لا أعرف عنها شيئا، من المؤكد أن المسكينة قد نالت ما نالته، فابن عمها عاصم لا يرحم و أنا أعرفه جيدا).
عقد جاسر حاجبيه، لم يكن الأمر سهلا عليه كما تصور، منذ يومين وهو يتخيل كل صفعة و كل ضربة، و اليوم إن لم يعرف عنها شيئا فسيأخذ رجاله و يخرجها من هناك بالقوةكان يتخيل أنه بنفس القلب الميت الذي لا يأبه، لكن منذ أن انصرفت حنين تحت انظاره وهو يشعر بأن الضربات موجهة له هو، قال جاسر (هاتفها مغلق دائما)
ردت رنيم بحزن (من المؤكد أن أول شيء سيفعل عاصم هو أنه سيسحب منها هاتفها).
ظل جاسر يتحرك ببطء و يديه في جيبي بنطاله، ناظرا الى الأرض بشرود ثم التفت اليها ليقول بحزم (اسألي حور عنها)
عقدت رنيم حاجبيها بتفكر وهي ترد (لا حور، منفصلة عن اخبارهم تماما منذ ان، لحظة واحدة، من أين لك أن تعرف حور؟)
عبس جاسر وهو يقول بنفاذ صبر، (؛ ليس مهما الآن، المهم اسأليها، ربما عرفت شيئا).
كانت رنيم تنظر اليه بحيرةٍ وهي لا تفهم شيئا إطلاقا، الا أنها رأفة به على كل حال التقطتت هاتفها و طلبت حور (حوووور، حبيبتي، لا أصدق انك مستيقظة الآن؟، يبدون أن زوجك قد علمك الأدب بعد كفاح)
نظر جاسر إلى سقف المكتب منتظرا بيأس، بينما تابعت رنيم (مشتااااااااااااااااقة لكِ بما يفوق الوصف، يا ناكرة الجميل، لكن ماذا أقول؟، من لقي أحبابه نسي أصحابه).
ضرب جاسر وجهه بكف يده وهو يمسحه بقوةٍ حتى لا يتهور، فقالت رنيم (لدي أخبار تكفي مجلدات أريد أن أخبرك بها، نعم، نعم، ههههههههههه، كامل الأوصاف).
عادت لتضحك من جديد، و في تلك اللحظة لم يقوى جاسر على تحمل المزيد، فاندفع للمكتب يستند ليه مرة أخرى وهو محركا بشفتيه فقط دون صوت، وهو يهددها تهديد صريح، فأومأت رنيم برأسها باتزان و حكمة، ثم قالت بهدوء (حور، أردت أن أسألك عن شيء، حنين متغيبة عن العمل منذ يومين، وأنا أردت الإطمئنان عليها)
ظلت رنيم. تستمع و تستمع و تستمع، الى أن اتسعت عينيها و فغرت شفتيها بغباء وهي تقول (هااااا؟).
نظر جاسر الى فم رنيم المفتوح فقال همسا بقلق (ماذا؟، ماذا فعلو بها؟)
ابتسمت له رنيم باهتزاز ثم ودعت حور بسرعةٍ و أغلقت دون أن تسمع الرد، ثم قالت مشجعة (إنها بألف خير، لم يصبها خدش واحد)
نظر اليها جاسر دون أن يصدق حرفا مما نطقت به، ثم قال آمرا و كأنه في أملاك والده (اطلبيها على الهاتف الأرضي)
، (هل أنتِ بخير؟)
ردت حنين بعد فترة (؛ أنا بخير) (؛أريد أن اراكِ، اليوم).
صمتت حنين طويلا، ثم قالت بهدوء (لا داعٍ، سأطلب منك طلب، إن نفذته، سأكون لك)
صمت، صمت، صمت، ثم جاء صوته خشنا وهو يقول (تكلمي)
أخذت حنين نفسا، ثم قالت تحت أنظار صبا المذهولة (إن ألقيت على يمين الطلاق أمام شاهدين، دون أن يعلم أحد، فسأوافق عليك و أحارب ما أن تتقدم لطلب يدي من عاصم).
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)