رواية بأمر الحب الفصل السابع والعشرون 27 بقلم تميمة نبيل
رواية بأمر الحب البارت السابع والعشرون
رواية بأمر الحب الجزء السابع والعشرون
رواية بأمر الحب الحلقة السابعة والعشرون
اخذت نفسا عميقا، عميقا جدا، و همت بأن تطرق باب مكتبه، الا إنها عادت و حاولت ترتيب خصلات شعرها للمرة العاشرة منذ أن غادرت بيتها صباحا…
لم ترى نفسها جميلة من قبل، كما رأت نفسها اليوم…
منذ أن استيقظت وهي تشعر بشعور غريب من الحرية و الانطلاق، أنها حرة، حرة و مستعدة تماما لتتقبل حبه بكل سرور…
علي الرغم من بكائها الطويل ليلا على حالتها التي آلت اليها، و الإهانة التي لحقت بها، الا أنها حين فتحت عينيها صباحا. لم يكن متبقيا في عقلها سوى فكرة واحدة، هي أنها أصبحت حرة، و من حقها التفكير بعمر و انتظار خطوته دون تأنيب ضمير…
لذا اهتمت بنفسها كما لم تهتم من قبل، و قضت وقتا أمام المرآة وهي تكاد تقبل صورتها…
لكنها ما أن وصلت للعمل حتى انتابها عدم الثقة كمراهقة صغيرة. وهي تتأكد من خصلات شعرها الذي استطال مؤخرا لينسدل على كتفيها و ظهرها بنعومة حريرية…
و ثوبها الصوفي الأنيق تحت المعطف الذي يماثله طولا، حتى بدت بأناقةٍ ناعمة و ناضجة في نفس الوقت
أخذت نفسا عميقا للمرة الأخيرة، ثم طرقت الباب بهدوء بينما قلبها يقرع كالطبل، و ما أن سمعت صوته حتى ابتسمت برقةٍ و لهفة و دخلت…
حاولت قدر الإمكان تعديل مشيتها كي لا يظهر عرجها الخفيف بالرغم من أنه يكاد يكون غير ظاهر في الكثير من الأحيان
الا أنها رغبت أن تكون في صورةٍ كاملة، وماذا عن جرح شفتيها؟، كيف ستخفيه؟، فهو لا يتوقف عن النظر اليه ابدا مما يشعرها دائما بالحرج و الضيق، لكنها مستعدة على تقبل أي شيء منه، حتى وقاحة النظر إلى جرحها دون لباقة…
رفع عمر نظره ببطء، ثم توقف على رؤية نسمة صباحه…
كم هي جميلة، تشرق بشعاعٍ خاص هذا الصباح. تقترب منه بابتسامة جعلتها انسانة أخرى تماما غير تلك التي كانت تبكي أمامه بالأمس…
قالت رنيم بنعومة حالمة (صباح الخير)
رد عمر بعد لحظات بخفوت (صباح الخير، يبدو أنكِ في حال أفضل هذا الصباح)
ابتسمت رنيم أكثر وهي تقول بنعومة و اشراق (نعم، أنا اليوم في افضل حال، و قد جئت لأعتذر اليك عن مزاجي الدرامي بالأمس).
ابتسم عمر هو الآخر، ثم قال بمرح مفتعل ليداري الحنان المتدفق من عينيه (لا بأس، يمكنني تحملك قليلا خلال نوبات كآبتك)
ضحكت رنيم بخفة قليلا ثم همست وهي تفرك أصابعها أملا (حسنا، سأذهب الآن)
و ما أن استعدت لتستدير و هي تعض على شفتها. حتى سمعت صوت عمرالمتردد يقول من خلفها (رنيم، أين، خاتم خطبتك؟)
استدارت رنيم اليه و قلبها يصرخ، لقد لاحظ، لقد لاحظ، لو لم يكن مهتما لما لاحظ من أول مرة.
همست تلجلج و قلبها يخفق اضطرابا و هي تدعو سرا بأن يفاتحها بأمرهما (لقد فككت خطوبتي يا عمر، ليلة أمس)
ظل عمر في مكانه مسمرا لعدة لحظات وهو يستوعب ما تقوله، ثم نهض ليقترب منها، وخلال خطواته اليها كانت أصبحت ترتجف بعنف، هل سيأخذها بين ذراعيه و يرفعها ليدور بها؟..
وقف عمر أمامها و على بعد خطوةٍ منها، يحني رأسه إلى رأسها الذي ارتفع اليه بالرغم من ارتجافها…
يتحقق من ملامحها بقوة. ثم قال أخيرا بصوت خافت عميق (هل أنتِ بخير؟)
أومأت رنيم ببطء. وهي غير متفهمة لهذا السؤال الغبي، ليس هذا هو رد الفعل الذي كانت تتوقعه تماما…
فتابع عمر بصوتٍ مواسيا لكن قويا (هل كان هذا القرار بسبب حديثي معك بالأمس؟)
بماذا تجيب؟، ما هي الأجابة النموذجية لمثل هذا السؤال؟..
هل تجيبه بالنفي؟، و أنها كانت قد قررت ذلك من قبل؟، لكنها تكذب، وهي لم تقرر أبدا من قبل أن تترك نائل، و أيضا تخشى أن تظن بأن لا وجود له وجود في قرارها
أم هل توافق؟، لكن هل ستبدو خائنة في نظره وهي تترك خطيبها ما أن لمح لها هو بذلك.؟..
هزت رأسها بارتباك ثم همست بصوتٍ مهزوز (ل، لا، إنها عدة أسباب مجتمعة، و أنا).
سكتت قليلا، ثم قررت أن تنطق بالشيء الصادق الوحيد، فهمست تتنهد من أعماقها (و أنا كنت متعبة، كنت متعبة لفترة طوييلة)
ظل عمر صامتا لفترة يتأمل ملامحها يقرأها جيدا، ثم ابتسم أخيرا وقال بهدوء حنون (اذن، لا أملك سوى أن أقول لكِ، أحسنتِ، أحسنتِ يا رنيم، و أنكِ تستحقين الافضل)
اهتزت ابتسامتها قليلا، وهي تهمس بضعف (حقا؟)
رد عمر بقوة و ثقة (بالطبع، إياكِ و أن يكون لديكِ شك بذلك أبدا).
هزت رنيم رأسها نفيا وهي لا تعلم تحديدا ماالذي تنفيه، ثم همست دون وعي (حسنا، أنا، سأذهب الى مكتبي)
أومأ عمر برأسه مبتسما وهو يقول مشجعا (حسنا)
اتجهت رنيم الى الباب ببطء محنية الرأس، تعض شفتيها بقلق، ولم ترى نظرته التي كادت ان تلتهمها بحنانٍ جائع…
ارتمت رنيم على مقعدها بغضب، تريد أن تحطم شيئا ما، لماذا لم يفاتحها بشيء؟..
او حتى على الأقل. لماذا لم تلمح نظرات اللهفة و الشوق في عينيه…
حتى الآن كل الأمر هو مجرد امل ينمو بداخلها، لكن هل تتوهم؟..
امسكت بهاتفها تطلب حور ضاربة على اسمها بغضب، وما ان ردت حور عليها بصوتٍ باهت حتى هتفت رنيم بغضب وهي تلف شعرها بعشوائيةٍ لتثبته فوق رأسها، بقلمٍ كان ملقيا على سطح المكتب (لم ينطق بكلمة، ماذا افعل الاآن؟)
همست حور ببؤس (يا فتاح يا عليم يا رزاق يا كريم، من. لم ينطق بماذا؟).
قالت رنيم بيأس (عمر، لقد أخبرته بأنني قد فككت خطبتي، لكنه تمنى لي التوفيق بمنتهى السفاقة)
قفزت حور من مكانها وهي تهتف بذهول (هل فككت خطبتك من متقن الكي؟، متى و كيف؟)
عقدت رنيم حاجبيها وهي تقول بحيرة (ألم أخبرك بالأمس؟، نعم نعم. كنت منشغلة بالبكاء على حالي، المهم، أخبرت عمر اليوم و لم يظهر أي تأثر، تصرفي)
قالت حور بحيرة (متى فككتِ خطبتك؟)
هتفت رنيم بغضب (يا حور ركزي قليلا، أخبرتك بأنني فككتها بالأمس).
صمتت حور قليلا ثم قالت بلا تعبير (و تنتظرين من عمر أن يفاتحك بشيء اليوم صباحا، اغلقي الخط يا رنيم)
هتفت رنيم (حور، انتظري، حور)
الا أن حور كانت قد اغلقت الحور دون حتى القاء السلام عليها، و كان الهاتف لا يزال على اذنها حين طرق الباب و دخل عمر حاملا بعض الرسوم اليها، فوضعت الهاتف جانبا وهي ترسم على شفتيها ابتسامة رقيقة و تعتدل جالسة.
ها هو قد جاء يتحجج بالعمل، لو فقط تتعلم الصبر، لكانت وفرت على نفسها الكثير من عواقب الغباء
جلس عمر أمامها مبتسما، ليقول برقة (هل لديكِ بعض الوقت؟)
أومأت رنيم مبتسمة وهي ترتجف بعنف، ففتح عمر ورق الرسوم ليفرده على المكتب وهو يقول ناظرا للتصميم باهتمام (حسنا انظري إلى ذلك التعديل الذي اضفته لرسومك و أخبريني السبب)
فغرت رنيم شفتيها قليلا، ثم حاولت الهمس لنفسها. ركزي، ركزي، ركزي…
فمالت للأمام وهي تحاول قدر الإمكان التركيز على ما تراه، و بينما هي تحاول عصر تفكيرها قال عمر بعفوية و هو منشغل بالنظر الى الرسم أمامها (مع من كنتِ تتكلمين على الهاتف؟)
ردت رنيم بتفكير منشغل و ذهن شارد كئيب دون أن تنظر اليه (ها؟، نعم، كنت أهاتف صديقتي حور).
جلست حور في النادي تراقب معتز و هو يضحك و يركض خلف رامز الدالي و يزحف من بين ساقيه. و بين كل خطوةٍ و أخرى كان رامز يحمله فوق أكتافه مرة، و يطوحه مرة أخرى…
الى أن وصلا اليها فارتمى رامز على الكرسي المقابل لها، ينظر اليها وهي تغطي عينيها بنظارة سوداء بينما شعرها الأسود كذلك يتطاير جاعلا منها صورة للجاذبية المطلقة…
مدت حور ذراعيها دون كلام الى معتز فانطلق اليها ليرتمي في حضنها بعد أن تعب من الركض و اللعب…
فاخذت تلاعب خصلات شعره شاردة وهو يستكين على ركبتيها مستندا إلى صدرها
قال رامز بهدوء (بم أنتِ شاردة؟، فكرك ليس معنا وحتى أنكِ لم تشاركينا اللعب)
لم تتغير ملامحها الجامدة وهي تقول بعد لحظات (لست شاردة، أنا فقط متعبة قليلا).
مال رامز للأمام وهو يقول مبتهجا (اذن أنتِ فقط محتاجة الى بعض التغيير، ما رأيك أن آخذك أنتِ و معتز الى مكان لم تذهباه من قبل؟)
زمت حور شفتيها ثم قالت بصبر (رامز، أخبرتك من قبل، لن أستطيع قبول أي دعوات خارج حدود هذا النادي، أنا لست حرة تماما كالجميع هنا)
قال رامز دون أن يتأثر (تشعريني بأنني سيء النوايا، هل فعلت من قبل ما أثار ريبتك تجاهي).
ابتسمت حور ابتسامة صغيرة، ثم قالت بعد فترة (الحقيقة يا رامز، و ياللعجب، أنت بالفعل صديق جيد، و أنت أصبحت تمثل شخصا مهما في حياة معتز، بعد أن تجاهلنا الجميع هنا، على الرغم من سمعتك الغير محمودة)
ضحك رامز وهو يرجع ظهره إلى الخلف واضعا ساقا فوق الأخرى رافعا احدى حاجبيه وهو يقول ببساطة (هل أنتِ ممن يهتمون بتلك الإشاعات؟).
رفعت حور حاجبا واحدا بسخرية ثم ضحكت وهي تقول باستفزاز (اشاعات؟، حسنا لا بأس، لكن بقائك مع معتز مطولا هو من سيسيء الى سمعتك الطويلة أمام صديقاتك، خاصة حين ترينك و أنت تركض خلفه بالكرة الحمراء الصغيرة)
عاد رامز ليضحك وهو يتأملها بنهم لم تلاحظه، صامتا قليلا، فترددت حور أمام صمته، دائما ما يلاحقها بعينيه، و حين تضبطه تجد في لمح البصر أن نظراته لا تتعدى نظرات صداقة مرحة…
أحيانا تشعر بأن عليها أن تتخذ حذرها أكثر، و أحيانا أخرى تحاول إقناع نفسها بأن تكف عن هواجس كونها انثى خرافية تجذب مطلق البشر، انه مرض نفسي أن تظن أن أي رجل يتعامل معها بالضرورة هو معجبا بها و له غرض سيء، يجب أن تكون أبسط من ذلك و تقتنع بأنها الآن مجرد أم بسيطة و أن الرجال لن يتركون الفتيات الجميلات المستقلات دون حملٍ أو مسؤلية، ليقفون عند قدميها هي…
صحيح أن نظرات العديد من الرجال في هذا النادي الذي يمثل طبقة محددة، لا تحتمل الشك، و كأنها أصبحت سلعة مباحة كونها من طبقةٍ مختلفة عنهم…
لكن بالتأكيد ليس الجميع كذلك، و هي قد وصلت من العمر ما تستطيع به أن تفرق بالتأكيد، لذا فلتهون على نفسها هذا القلق…
آخر ما تحتاجه الآن هو نوع آخر من القلق، يكفيها العذاب الذي تحياه حاليا، و هي ترى بداية نهاية زواجها تقترب بسرعة الريح وهي تحاول مقاومتها بقدر استطاعتها…
اغمضت حور عينيها من تحت نظارتها الداكنة، تتنفس بصمت…
هل من المعقول أن تتركه أخيرا، بعد كل مافعلته لتكون بقربه (حوور).
أفاقت حور على صوت رامز يناديها فنظرت اليه مجفلة، لتجده يبتسم لها ابتسامته الغامضة وهو يقول بهدوء و تشدق (حسنا، لنعد الى موضوعنا، ما دمتِ لا تريدين الذهاب لمكان رائع، رائع بحق، و أنتِ الخاسرة…
ما رأيك في الذهاب لطبيب صديق، جاء من الخارج مؤخرا و يعمل في اكبر مركز طبي في البلد)
عقدت حور حاجبيها غير مستوعبة، ثم قالت بعدم فهم (أي طبيب؟، و لماذا؟).
قال رامز بهدؤه المستفز (طبيب للسمع و الأذن، كنت قد سألته من قبل عن حالة معتز و طلب رؤيته)
ازداد انعقاد حاجبي حور بشدة، ثم مالت للأمام وهي ترفع نظارتها فوق رأسها مزيحة بها الخصلات الكثيفة السوداء المتطايرة حول وجهها بعشوائية، ثم قالت متلعثمة غير قادرة على الفهم بعد (ماذا تقصد؟، هل اخبرك هذا الطبيب أن معتز من الممكن أن يسمع؟).
ابتسم رامز قليلا وهو يتطلع إلى عينيها المتوسلتين و العاجزتين عن الفهم، تماما كما توقع، و ها هي النظرة التي كان يريد رؤيتها قد رآها…
ثم قال بتمهل متعمد (طلب رؤيته)
تراجعت حور في مقعدها وهي تضم معتز بين ذراعيها و قد بدأ يشعر بالنعاس فقلبته شاردة على جبهته وهو مستند الى أحضانها ثم قالت بتردد (زوجي طبيب)
رفع رامز حاجبيه يتصنع تحيره من الأمر ثم قال (و ما لا أفهمه، لماذا لم يعرضه على أحد من قبل؟).
قالت حور بوجوم (و ما أدراك أنه لم يعرضه على طبيب مختص؟)
رد رامز مبتسما ببساطة (هل فعل؟)
لم ترد حور وبقت تتلمس شعر معتز بذقنها شاردة، ثم نظرت الى رامز و قالت بتردد (يجب أن أسأل زوجي أولا، لكن هل يمكن أن تعطيني اسمه؟)
هز رامز رأسه أسفا، ثم قال (كما تريدين، لكن إن ذهبتِ بدوني سيكون عليكِ الأنتظار في قائمة طويلة. )
عضت حور على شفتيها قليلا ثم همست (حسنا، سأفكر).
و تابعت بامتنان (رامز، أشكرك على اهتمامك، لم أظن أنك قد تهتم لحالة معتز، حتى و إن لم يسفر الأمر عن شيء، لكن أشكرك جدا، إنها لفتة غالية عندي جدا)
ابتسم رامز دون أن يرد و هو يلاحقها كلها، في نظرةٍ ملتهمة و في ظاهرها لطيفة، الا أن حور توترت رغما عنها…
فجأة انتفض معتز من بين أحضانها و قفز متهللا وهو يركض مبتعدا، استدارت حور وهي تهتف منادية عليه محذرة رغم أنه لن يسمعها، لكنها توقفت فاغرة شفتيها وهي ترى نادر مقتربا من بعيد، عيناه مثبتتان عليها و لا تعبير ظاهر على وجهه…
الا أنه تكفل ابتسامة جميلة حين لاقى معتز في نصف الطريق وهو يركض اليه قافزا في خطواته و ما أن وصل اليه حتى رفعه نادر ليقبله على وجنته متمتما له ببضع كلمات…
ثم حول عيناه الى حور لتعود تعابيره الى التجمد من جديد وهو يقترب منها ببطء حتى وصل اليها دون ان تغادرها عيناه للحظةٍ…
نهضت حور من مكانها ببطء وهي تشعر بتوتر و قلق من تعابيره الغامضة، و ما أن وصل اليها حتى ابتسمت باهتزاز (مرحبا، انها مفاجأة)
قال نادر بلا مقدمات (هيا لأصحبك للبيت، فلدي عمل).
رمشت حور باحراج من منظره الملفت و قلة تهذيبه الواضحة، فتعمدت البرود و هي تنبهه عمدا على الرغم من القلق النابع بداخلها من افتعال مشهد فضائحي محرج و هنا تحديدا، (نادر، اعرفك على، رامز، رامز، نادر زوجي)
لم يحاول رامز النهوض من كرسيه وهو متكئا واضعا ساقا فوق أخرى، ينظر لنادر باستهزاء واضح، …
بينما لم ينظر اليه نادر كذلك وهو يقول (هيا الآن، يجب أن نذهب).
ابتلعت ريقها رغم الغضب الناري الذي شعرت به في تلك اللحظة، لكنها آثرت المضي معه بدلا من تفاق الأمر وهي تعلم نوبات غضبه خير معرفة…
فأومأت برأسها ملوحة لرامز مبتسمة بقلق، بينما تأخذ معطفها و سترة معتز من على الكرسي لتتبع نادر مسرعة و قد أكتشفت أنهما قد أصبحا بالفعل محط أنظار للجميع، دون أن يحدث شيء في الواقع…
لكن الكل ينظر اليها باهتمام و فضول…
بقى نادر صامتا طوال الطريق دون أن ينطق بحرف و هي أيضا لم تهتم لأول مرة لغضبه، بل بقيت صامتة ببرود تنظر إلى النافذة للبحر على طول الطريق، الى أن وصلا لبيتهما…
و ما أن اوقف سيارته أمام البيت حتى أمسكت مقبض الباب و هي تقول بفتور (سلام)
ثم خرجت و أغلقت الباب خلفها، لكنها فوجئت به يخرج هو الآخر و يخرج معتز من كرسيه مقبلا خلفها.
فاتجهت الى السلم دون عناء سؤاله، شعرت بالدوار المعتاد وهي تصعد الا إنها تحاملت على نفسها وصعدت درجة درجة. تشعر به خلفها تماما، حتى أنها ما أن توقفت قليلا لتلتقط أنفاسها حتى شعرت به يكاد يلامسها.
لا. بل لامسها بالفعل و كأنه يدعمها بمرفقه، فتابعت الى أن وصلت للباب، وما أن فتح الباب و مد يده في اشارة صامتة لتدخل حتى دخلت بخيلاء دون أن تتكلم متجهة إلى غرفتها، لكن صوته قصف خلفها بقوة (انتظري).
توقفت مكانها دون أن تستدير اليه، فتجاوزها نادر لينزل معتز أرضا وهو يشير اليه أن يذهب إلى غرفته…
ثم التفت الى حور و ها قد ظهر الغضب الأحمق على وجهه بعد أن كان يقنعه بقناع البرود طوال الطريق.
أمسك بذراعها بقوة وهو يجذبها اليه هادرا بغضب أفزعها (كيف سمحتِ لنفسك بأن تجلسين مع ذلك المدعو ابن الدالي بمفردكما؟، ألم تدركي مبلغ سوء منظركما).
عقدت حاجبيها ناظرة اليه بعدم تصديق و هتفت (سوء منظرنا؟، ما هذا الذي تقوله؟، لقد كنا بين الجميع)
امسك بذراعها الأخري فقيدها تماما وهو يهزها بعنف (كنتما على طاولة واحدة بمفردكما، بينما صديقاتك جميعا على طاولة أخرى)
هتفت حور بغضب و أسنانها تصطك من هزه لها (لم يعدن صديقاتي، و أنا لم أفعل أي شيء غريب أو منتقد هناك).
هزها نادر مرة أخرى و عيناه محمرتان غضبا بجنون. حتى تسائلت بهذيان عن كيفية سيطرته على هذا الغضب أمام الناس…
صرخ نادر (وماذا تعرفين أنتِ عن المنتقد، انتِ دائما وقحة، غير مدركة لما لا يصح و ما لا يجب)
نفضها بقوة حتى اندفع راسها للخلف وقال بغلٍ قديم (ام نسيتِ رقصة الطاولة؟)
اتسعت عيناها للحظة ثم دفعته في صدره بغضب هاتفة ؛ (دعني، لا تلمسني).
الا أنه أحكم قبضتيه اعلى ذراعيها حتى ادركت بان اصابعه ستترك علامات زرقاء عليهما في الغد، و على الرغم من أن بعض لمحات الندم قد ظهرت على وجهه من تسرعه و رغبته في ايذائها كما تأذت كرامته من ذلك المشهد الذي رآه و رفع الدم ساخنا لرأسه
لكن قبل أن يتارجع عما قاله، همست هي لنفسها بمرارة، رغما عنها و من اعماق قلبها (منافق)
عقد حاجبيه و هو غير متأكد مما همست به للتو، فشدد عليها يقول بخطر (ماذا قلت؟).
الا أنها كانت قد اكتفت من إهانته لها و جرحها خاصة مع معرفتها بخيانته لها، فدفعته بأكثر عنفا و هي تصرخ بقسوة و عجز في نفس الوقت (ابتعد عني يا نادر، ابتعد، لست قادرة حتى على رؤيتك في تلك اللحظة، ابتعد و لا تلمسني)
وصلت هيستيريتها لحد مفزع فحاول تشديد ذراعيه من حولها بقوة وهو يهتف بصوت قوي ليعلو فوق صراخها (اهدئي يا حور).
الا أن مقاومتها كانت تضاعفت بقوة رهيبة و تهدج صوتها و هي تنخطر في بكاء عنيف، لم يفهم من خلاله سوي كلمات (ابتعد عني، لا أريد أن تلمسني بعد الآن)
لكنه تمكن أخيرا من السيطرة عليها و جذبها لصدره وهي تبكي و تبكي، بينما هو ثبت رأسها الأسود الناعم الى كتفه بيده، يتخلل شعرها الهائج…
وهو أيضا كان يلهث، و غضبه لم يهدأ بعد، لا يعلم إن كان غضبه أساسه المشهد الذي رآه في النادي، أم صراخها الغير واعي بألا يلمسها و لا يقترب منها، بل إنها حتى لا تريد أن تراه…
للحظات تلاعب الشك في قلبه، لا يعلم شك يقوده لأي اتجاه تحديدا…
كان متأكدا من انها قد سمعت صوت سلمى على هاتفه، و ظل منتظرا انفجارها، الا أن هدوءها أثار حيرته، الى أن صدق بأنها لم تكن هي من طلبت سلمى و ربما الأمر كله كان مجرد لبس…
لكن الآن الحيرة انقلبت لسؤالٍ هائج في أعماقه، ماذا لو كانت قد عرفت بسلمى و، ببساطة لم تهتم…
و ما الذي يجعل زوجة لا تثور و تغضب عند معرفتها بوجود أخرى في حياة زوجها…
لا، بل تذهب للنادي تضحك و تتخذ صديقا أيضا، في الوقت الذي هجرتها فيه جميع صديقاتها…
و أي صديق، الأسوأ سمعة في البلد كلها…
احتدت عيناه فوق شعرها الاسود و الغضب الأسود يدور بأعماقه كشيطان خبيث…
قال اخيرا بصوتٍ لا ملامح له، (كانت هذه هي آخر مرة تذهبان فيها للنادي).
للحظة لم تتحرك، ثم انتفضت فجأة وهي تدفعه بقوة و تمكنت من تحرير نفسها منه لتبتعد عدة خطوات، واقفة في مواجهته و شعرها متناثر بجنون حول وجهها الاحمر، و عينيها، عينيها وحديهما كانتا قصة في القسوة و الغضب…
واقفة امامه تلهث وهو يلهث ايضا و كانهما خصمان سيهجم احدهما على الآخر…
فتحت فمها لتنطق، ثم اغلقته قليلا و قالت بصوتٍ جليدي (كما تريد).
ثم استدارت دون كلمة واحدة لتدخل غرفة معتز التي يبدو انها اصبحت غرفتها مؤخرا، صافقة الباب خلفها بقوة…
بينما وقف نادر مسمرا مكانه طويلا، يشعر برغبة قاتلة في تحطيم المكان فوق راسها، بينما روحه هائجة لا تهدأ و لا يبدو أنها ستهدأ في القريب…
دخل الى مكتب والده في قصره العظيم ليلا، متمهلا، ساخرا، لا مباليا، في حضرة ذلك الرجل العظيم الذي يناسب عظمة مكتبه و قصره…
فجلس دون اهتمام الى الكرسي المقابل لمكتبه. رافعا ساقيه الى الطاولة الصغيرة أمامه، ثم قال دون مقدمات (حسنا يا سعادة الدالي. الى ماذا اسفرت المراقبة هذه المرة، فأرسلت في طلبي).
ترك ذلك الرجل المحيطة به العظمة من كل اتجاه. ما بيده و رفع نظره الى رامز ليرمقه طويلا قبل ان يقول بلا مقدمات هو الآخر (الن تتوقف عن تلك العادة القذرة في ملاحقة المتزوجات تحديدا، الى متى ستستمر في تلك الفضائح؟، كم مرة الى الآن اضطررت الى استرضاء زوج غاضب، أو تهديده، أو مداواة فضائح علنية و محاولة معالجتها.
أريد أن أعرف ماذا ينقصك لتتعرف على فتاة حرة مثلك، الفتيات لا أكثر منهن، أختر ما يعجبك دون أن تحتاج إلى سرقة ما يملكه غيرك)
ابتسم رامز بعبث وهو يميل برأسه جانبا ثم قال ضاحكا بخفوت (لم أعتد منك النصائح الأخلاقية، لقد كبرت على ذلك قليلا يا والدي)
ضرب الدالي على سطح مكتبه وهو يقول بغضب (كبرت، أذن يجب أن تتعلم تحمل المسؤولية، هناك انتخابات و صفقات، و كلها تعتمد على السمعة أكثر من أي شيء آخر).
ضحك رامز وهو يغطي عينيه بيده ليقول هازئا من بين ضحكاته، (وهل علاقاتي هي ما سيسيء إلى سمعتنا يا والدي؟، صدقا أضحكتني)
هدر الدالي بغضب (نحن الآن في فترة حرجة و يجب أن تخشى على موقفنا و تتوخى الحذر في علاقاتك، و دون أي جدل، أريدك أن تقطع علاقتك بتلك السيدة التي تعرفها حاليا)
خفت ضحكة رامز، الا أن الإبتسامة الساخرة لم تختف من على وجهه ثم قال (لم تتحول إلى علاقة بعد، وهي تعجبني، إنها مختلفة).
صرخ الدالي رافعا عينيه الى السماء (أعرف أنك لم تصل لغايتك و الا لكنت رميتها بعد ان تنتهي منها، لذا اتركها حالا و أوقف تلك المهزلة، ثم أخبرني من تكون هذه المرة؟، إياك أن تكون زوجة رجل معروف).
ضحك رامز بخفوت وهو يسأل مدعيا الدهشة (الم يوصل اليك المحقق الذي تكلفه بمراقبتي المعلومات كاملة؟، يجب أن تختر من تتعامل معهم بعناية فيما بعد، عامة، لا تخف، انها حور رشوان، من عائلة ثرية لكن لا أعتقد أنها تهمك بشيء)
عبس الدالي قليلا مفكرا، ثم سأل بحيرة (من عائلة رشوان؟، هل تربطها قرابة بعاصم رشوان رجل المعمار في المدينة؟)
قال رامز بلا مبالاة (نعم، إنها اخته).
ارجع الدالي ظهره للخلف، يحدق إلى ابنه دون تعبير ظاهر، و حين نطق أخيرا، لم ينطق سوى بكلمة واحدة هادئة (اخرج)
في مكتبه كان عاصم جالسا يعمل بصمت، الى ان طرق الباب و دخل مساعده ليقول مستأذنا (سيد عاصم، الشيخ ابراهيم يريد مقابلتك)
رفع عاصم رأسه متفاجئا ليقول بحيرة (الشيخ ابراهيم امام جامع الحي القديم؟، هل هو في الخارج؟)
أومأ مساعده برأسه، فنهض عاصم من كرسيه ليقول بحيرة (دعه يتفضل مباشرة).
دخل امام الجامع وهو رجل وقور تبدو عليه سيمات الطيبة و الاحترام. فاندفع اليه عاصم مسلما بحرارة مبتسما (صباح الخير يا شيخ ابراهيم، و ما أسعده من صباح بقدومك)
ابتسم الشيخ ابراهيم وهو يربت على ذراع عاصم ليقول (ما دمت لم تأت إلى صلاة الجمعة في جامع الحي منذ عدة اسابيع كما عودتنا السنوات الماضية، فما من سبيل الا أن نأتي لرؤيتك بنفسنا).
ابتسم عاصم معتذرا وهو يقول (بعض المشاغل هي التي أخرتني يا شيخ ابراهيم، لكن الجمعة القادمة باذن الله، سأكون بينكم، تفضل، تفضل)
ابتسم الشيخ ابراهيم بحرج وهو يقول برفق (زاد الله من فضلك يا بني، لكن، انا معي ضيف)
قال عاصم دون مقدمات (أهلا بك و بضيفك يا شيخ ابراهيم، و لم لم يدخل؟)
اقترب الشيخ ابراهيم من الباب خطوة ليقول (ادخل يا ولدي، مكان عاصم ابن الحاج اسماعيل رشوان لا يغلق بابه في وجه أحد ابدا).
انتظر عاصم متحيرا، الى أن فوجىء بوجه مألوف يطل من الباب مبتسما بود…
فعقد عاصم حاجبيه بقسوة وهو يدرك خيوط الامر ما أن رأى وجه عمر الذي تبدو عليه ملامح البراءة و المودة…
فقال عاصم عابسا (سيد عمر، أن ذلك لم يعد يحتمل)
قال الشيخ ابراهيم برفق أبوي (اذن، نستأذن أنا وهو و نترك يا ولدي لعملك، السلام عليكم).
قال عاصم بغضب (انتظر يا شيخ ابراهيم، انت لن تذهب الى اي مكان، لكن اعذرني، فالموضوع الذي يريد السيد عمر فتحه مجددا انتهى و قضي الأمر)
قال الشيخ ابراهيم رافعا سبحته (أدخل أنا وهو، أو نخرج سويا)
زم عاصم شفتيه رامقا عمر بغضب بينما لم تهتز ابتسامة عمر الواثقة و كأنه قد حصلل للتو على توصية كبيرة كتلك التي كان يرفض من يتعاملون بها…
كانت خطوة موفقة بعد البحث و التنقيب عن افضل الشخصيات المساعدة، فخور هو بنفسه حاليا لأبعد الحدود…
دخل عاصم الى غرفة أمه مساءا بعد أن نال منه الغضب مناله، كان حديث الشيخ ابراهيم مطولا وهو يعمل بكل تفاصيل الأمور، ناصحا موعظا، مترجيا، و حازما في حق جاسر رشيد كزوج
بالاضافة إلى اسهابه في ذكر مصير الطفل المسكين و الذي ليس له ذنب في كل ما فات من عند و تهور من كل الاطراف…
كم كان يود أن ينهال على وجه المدعو عمر و يهشمه و الذي كان يومىء برأسه موافقا، بملامح آسفة و عقل متزن، وكأنه يتعجب من حماقتهم و سوء تصرفهم…
قال عاصم بوجهه مكفهر دون مقدمات (سأقتل ذلك الحقير إن أرسل المزيد من الوسطاء)
أجفلت الحاجة روعة وهي تقول بقلق (بسم الله الرحمن الرحيم، من أرسل من؟).
صرخ عاصم (سليل الحسب و النسب، ابن رشيد، ارسل مرساله اليوم إلى مجددا و في مكتبي، ليس هذا فحسب، بل اصطحب معه الشيخ ابراهيم حاكيا له كل التفاصيل، جاعلا مني الظالم الوحيد في القصة كلها)
صعقت الحاجة روعة و هي تقول (الشيخ ابراهيم؟، الا الشيخ ابراهيم)
ازداد عاصم غضبا وهو يذرع الغرفة هاتفا (امي بالله عليكِ لا تزيدي من حنقي)
قالت روعة رافعة يدها (الا الشيخ ابراهيم)
رفع عاصم حاجبيه وهو يكرر (امي).
قالت روعة بحسم و قوة (الا الشيخ ابراهيم يا عاصم، وهو لا يسعى الا في الحق)
وقف عاصم يلهث قليلا من الغضب واضعا يديه في خصره، ثم قال أخيرا من بين أسنانه (أيظن أنه سيجبرني بتلك الطريقة؟، لا والله لن يحدث)
ربتت روعة على صدرها برفق لتسترضيه قائلة بتضرع (انبذ العند يا عاصم، من أجلي و من أجل والدك رحمه الله، و فكر في مصلحة بنت عمك).
نظر اليها عاصم يائسا غاضبا وهو يهتف (يا أمي، أنا رفضي من الأساس من أجل مصلحة ابنة عمي، كيف أئتمن عليها ذلك الوغد الذي لم نرى منه غير كل شر!)
قالت روعة بترجي مستعطفة (ماذا لو كان نادما، و يريد أن يصلح غلطته، خاصة و بعد موافقة الشيخ ابراهيم و توسطه في الأمر)
رفع عاصم عينيه، مغمضهما بيأس و هو يعلم بأن لا جدوى من الكلام…
ثم استدار لينصرف دون كلمة أخرى، الا أنه اصطدم بحنين وهي تنوى الدخول إلى غرفة روعة، شاردة حزينة…
فصرخ عاصم فيها وهو يتجاوزها (على جثتي يا حنين، على جثتي أن أتقبل ذلك الحقير بيننا)
تبعته حنين بعينيها بصمت، وهو يغادر شاتما غاضبا و كأن العفاريت تلاحقه…
ثم دون كلام اتجهت الى الحاجة روعة الجالسة في فراشها حزينة مبتئسة…
اندست حنين تحت الغطاء بجوارها لتضع رأسها على ركبتي روعة، و التي أخذت تمشط شعرها بأصابعها متنهدة ثم همست بحنان حزين (لم أضفر لكِ شعرك منذ فترة طويلة)
ردت حنين بخفوت (منذ أن عاد إلى حياتي، منذ أن عاد توقفت عن فعل أشياء كثيرة)
قالت روعة بحزن (لقد تسرعتِ، و تهورتِ يا حنين، ولو كان بيدي لكنت ضربتك كما كنت أضربكم و أنتم أطفال، لكن صحتى لم تعد تحتمل).
ضحكت حنين بينما أغروقت عينيها بالدموع ثم همست (يا ليتك ضربتني و كسرتِ ساقي قبل أن أخرج من باب البيت)
همست روعة بأسى (بعيد الشر عنك يا حبيبتي)
ثم ربتت على رأسها وهي تهمس بلهجة من يفشي سرا حربيا (ان شاء الله ستحل الأمور قريبا، عاصم سيوافق على رجعوك اليه أمام الناس جميعا، لكن هذا سر بيني و بينك، فلا تستفزيه مؤقتا، لقد توسط له الشيخ ابراهيم بنفسه، فاطمئني).
ابتسمت حنين بمرارة من بين دموعها، كم هي بسيطة و بريئة زوجة عمها، تظن أنها تريده و أنها فضلته على الجميع و أولهم مالك، لكن ما فائدة التبرير الآن…
علي الأقل لا داعى لأن تكئبها أكثر و هي تعلم بأنها ستعود اليه كمن يعود الى حبل المشنقة…
يكفيها أن تألمت مرة بسبب ما فعلته بمالك، لا داعي لأن تتحمل المزيد من الهموم…
تعود اليه، تعود اليه…
هل فعلا نطق تفكيرها بهذه الجملة و التي أصبحت واقعا؟..
أغمضت عينيها وهي تهمس بصوتٍ ضعيف يثير الوجع (لا أريد أن أتركك عمتي)
ابتسمت روعة بحزن و أسى و عادت لتتنهد هامسة (على عيني يا حنين، و أنا لا أريدك أن تفارقيني، كنت دائما أتمنى أن تتزوجي هنا في بيت عمك.
أنا لا أعلم كيف سيكون للبيت طعم بدونك، أنتي أكثر من تقضي معي الوقت من بين أولادي جميعا…
ان اردتِ الحق، لم أفكر يوما في خروجك من هذا البيت، هي أنانية مني، لكني لم أتخيل خروجك منه أبدا، أنتِ من تأخذين بحسي دائما)
ابتسمت حنين بمرارة و دموعها تنهمر على وجهها من قسوة ما تشعر به، بينما تابعت روعة وهي تربت على شعرها (دائما كنتِ ابنة مطيعة، و لم تتعبيني أبدا، مثلك مثل مالك حبيب قلبي، أنتما الاثنان كنتما نسمتان في حياتي و لم أشعر بالسنوات في تربيتكما…
بينما عاصم وحور!، يا ويلي أنا، رأيت منهما الويل و سهر الليل)
ضحكت حنين عاليا و هي تشهق باكية في نفس الوقت، ضحكت الحاجة روعة كذلك الا أن الحزن كان يجمعهما في تلك اللحظة، فرفعتها إلى حضنها كما كانت تفعل منذ أن أتت إلى بيتها طفلة صغيرة يتيمة و قالت بأنين فوق شعرها (والله على عيني خروجك من هنا يا حنين، في المرة الأولى لم يكن ألم فراقك بنفس مقدار الألم الآن بعد كل تلك السنوات التي قضيتها بين أحضاني).
بكت حنين بصمت ثم همست باختناق (أريد أن انام بجوارك اليوم يا عمتي، أرجوكِ)
ضمتها الحاجة روعة بقوة بين أحضانها و هي تقول بحنان (نامي حبيبتي، نامي)
بعد مرور شهر.
اخذت تنظر إلى الهاتف وهو يرن بتلك النغمة مجددا، لقد محت الاسم، الا أنها تحفظ الرقم عن ظهر قلب…
كانت تزفر غضبا و ضيقا، لكن تفرك أصابعها بتوتر فظيع.
الن يكف عن ملاحقتها، لقد تعبت منه، تعبت و ملت، و ازداد قلقها…
مر شهر الآن على حصولها على حريتها و عمر لم يفاتحها في شيء، و لم يلمح حتى بأي شيء، و عاملته لم تتغير في شيء…
نفس تهذيبه، و نفس رقته، و اهتمامه بها و بعملها، دون أي عواطف خاصة…
هل كانت تتوهم؟، نفس السؤال، و الذي تسأله لنفسها كل يوم منذ شهر…
اليوم عيد ميلادها السابع و العشرين، كانت قد وضعت لنفسها خطة بأن تتزوج و هي في الحادية و العشرين ما أن تتخرج…
ابتسمت بحزن و هي تتذكر مدى برائتها و طفولتها أثناء دراستها الجامعية، حيث أن الشيء الوحيد الذي كان يشغل بالها في ذلك الوقت هو ثوب الزفاف الأبيض…
حتى أكثر من من سترتديه له…
أما الآن فلم يعد يهم لا الثوب، و لا الفرح، و لا أي شيء آخر…
فقط أن تجد من يتقبل عاهتها، و حين ظنت أنها وجدته، . أصبح كحلمٍ تحلم به ليلا ليعود و يتسرب من بين أصابعها نهارا…
عضت شفتها بحزن، ليست عاهة فقط، بضع تشوهات، و عرج بسيط، و احتمالات الخطورة أثناء الحمل…
كم شعورها الآن مختلفا عن أول يوم في هذا الشهر، حيث كانت تظن نفسها الأجمل فوق الأرض…
لكن بعد ثلاثين يوما، لا ترى في نفسها غير انسانة عاجزة مشوهة ببشاعة، بل هي كائن قبيح…
تنهدت بأسى و هي تنظر إلى شاشة الهاتف الذي عاد للرنين مجددا بإصرار…
و حين أوشكت أعصابها على الإنهيار، عقدت العزم على أن توقفه عند حده، فأمسكت الهاتف قبل أن تتردد و هتفت بقوة، (نعم يا نائل؟)
رد عليها بصوتٍ متلهف لم تسمعه من قبل (أخيرا رددت ِ، رنيم أرجوكِ أعطني فرصة، لأصلح ما فعلته)
ردت رنيم بحزم (يا نائل، كل ما أردت قوله، قاله والدي لك و أعطاك خاتمك و كل هداياك).
لكنه لم ييأس وهو يقول بصوتٍ مترجي (لا، لا حبيبتي، ليس هذا هو كل ما تريدين قوله، لوميني و عاتبيني، لكن لا تبتعدي عني أبدا)
هتفت و هي تغمض عينيها (اللوم و العتاب يكن في الأمور الطبيعية يا نائل، أما الخيانة و الضرب لا عتاب لهما، فقط فوضت أمري لله)
هتف نائل مجددا (أنا آسف، آسف، يالهي. كنت مجنونا، يا ليت يدي قطعت قبل أن أمدها اليكِ، أرجوكِ أعطني الفرصة لأصلح ما فعلت).
هتفت رنيم و هي تهز ساقها بعصبية (مستحيل، مستحيل، من فضلك يا نائل توقف عن ملاحقتي، و صدقا أنا أتمنى لك التوفيق لكن بعيدا عني)
قال بصوتٍ أبح (لو كان هذا ما تريدينه حقا لكنتِ أخبرتِ والدك بما حدث، لكن ما فهمته أنه يظن أنكِ فقط لستِ مرتاحة، لماذا لم تخبرين والدك يا رنيم لقتص لكِ مني؟، الا ترين، إنكِ تريدين منحي فرصة قبل احراق جميع الجسور بيننا).
عضت على شفتها أكثر، لقد سألت نفسها مرارا عن السبب في اخفائها عم فعله بها نائل عن والديها، و أكتفت بكلمة واحدة. لا نصيب، و هما من ناحيتهما تنفسا الصعداء و ارتاحا للأمر و دعماها في قرارها…
حاولت تغيير الموضوع بعصبية فقالت أول ما خطر في بالها (ثم لماذا تهاتفني في هذا الوقت من النهار؟، لم تفعلها قبلا).
سمعت صوت ضحكة خافتة منه، ثم قال بصوتٍ متملق (أعرف بأنكِ تنامين للظهيرة، لكني كنت مصرا اليوم على إيقاظك، لأقول لكِ كل عام و أنتِ بخير يا وردتي)
اتسعت عيناها قليلا ثم رمشت بهما، هل تذكر عيد ميلادها أيضا؟..
لكنه تابع قبل أن ترد (هل أعجبكِ الورد؟)
همست عابسة بحيرة (أي ورد؟)
قال لها (الورد الذي أرسلته لكِ، لا بد و أن يكون قد وصل الآن).
ترددت طويلا، ثم قالت كاذبة بنفاذ صبر (أنا، لم أخرج من غرفتي بعد، لقد أيقظتني من النوم، أنسيت)
قال بترجٍ لحوح (هل يمكنني أن آتي اليكِ لأعطيكِ هديتك؟)
هتفت بسرعة (لا، لا)
ثم تداركت الموقف و هي تقول بحزم (نائل، توقف عن ملاحقتي و الا أخبرت والدي و أيضا عن سبب تركي لك).
عاد ليلح عليها، الا أن تفكيرها توقف حين رأت عمر يدخل المكتب، فأشارت له بالصمت دون وعيا منها، توقف عمر مكانه وهو ينظر بتعبير غير مقروء الى اشارتها بالصمت، الا أن قساوة مفاجئة ظللت نظراته
الا أن رنيم كانت في حالة من التوتر و هي تهمس (يجب أن اذهب الآن، وداعا، و شكرا على الورود)
أي غباء دفعها لتنطق الكلمة الأخيرة أمام عمر، لماذا فعلت ذلك عمدا؟..
نظرت رنيم الى عمر مبتسمة برقة و هي تقول هامسة (تفضل يا عمر، لماذا تقف عندك؟، لقد اشرت لك بالصمت، لا بالخروج)
ثم ضحكت برقة و هي تتابع (احساس رائع أن يمتلك الانسان مكتب خاص، بعد أن طردني زملائي من مكتبهم، أتتذكر؟، بسبب فتنتي عليهم بشأن موقع التواصل الذي أغلقته للجميع).
الا ان عمر لم يكن في مزاج يسمح له بالمزاح، اقترب منها ببطء ووجه مرتدٍ قناعٍ من صلب، ثم جلس على الكرسي أمامها يدقق النظر بها، بكلِ ذرةٍ من وجهها بصرامة. إلى ان استقرت نظراته كالعادة على جرحِ شفتيها، و رغما عنها هذه المرة لم تستطع التحمل فرفعت يدها لتغطي بها شفتيها و هي تتشاغل بالنظر بعيدا عنه
الا ان صوته الصارم قصف ليفاجئها (أبعدي يدك عن شفتيكِ).
انتفضت رنيم قليلا في مكانها و احمر وجهها. الا أنها أزاحت يدها دون و عيٍ منها
بينما تابع عمر وهو يقول بخفوت (مع من كنتِ تتكلمين؟)
بصراحة أن الشعور الذي طغا عليها حاليا هو الغيظ الشديد، و أول إجابة خطرت ببالها، هي
و ما دخلك أنت؟
الا أنها سيطرت على شحنة غضبها و التي ما هي الا شحنة قلق و خوف من أن تكون قد عاشت الوهم…
فتدبرت ابتسامة خجولة مترددة و هي تهمس مطرقة برأسها (انه، خطيبي السابق، لا يتوقف عن الإلحاح على في العودة اليه)
لم يرد عمر طويلا، حتى رفعت عينيها اليه، و تخيلت أن جليد عينيه قد زاد أضعافا…
ظلت عيناه مسمرتان عليها دون ان تسمحا لعينيها بالهرب، ثم قال أخيرا بلا تعبير (و أنتِ، ماذا كان ردك؟)
ترددت رنيم قليلا قبل أن تهمس بضعف مقصود (أنا حتى الآن رافضة بالطبع).
رد عمر بنفس اللهجة الغير مقروءة و التي تثير غضبها بشدة (حتى الآن؟)
أخذت رنيم نفسا عميقا و قالت أخيرا (لا أدري يا عمر، لقد آذاني كثيرا، لكن أنا، أخشى أن أضعف)
أيضا فترة صمت طويلة، فنظرت اليه مجددا، ليقول ما أن قابلت عيناها عينيه (أتريدين أن أتصرف أنا معه، حتى، لا تضعفي )
هل شدد على الكلمات الاخيرة و كأن بها لمسة احتقار؟..
دققت النظر اليه بخوف، هل تكون قد تمادت بالفعل؟، لكن تمادت بماذا؟، فهو حتى الآن يرفض أن يرسيها على بر…
فقالت بتردد (لا، لا يا عمر، عامة الأمر ليس بتلك الخطورة، فأنا حاليا متقدم إلى شاب مناسب من أسرة طيبة و، سأدع الأمور للمستقبل).
أغلق عمر شفتيه، و تحول وجهه الى وجه تمثال، ثم قال أخيرا بصوت خافت (أنتِ تتسرعين كثيرا يا رنيم، لم يكد يمر شهر على فك ارتباطك الفاشل البائس، و ها أنت تسرعين لمقابلة الخطاب، و كأنك في سبق، لما تفعلين ذلك؟)
تعالت أنفاسها قليلا و كأنها تلهث من الغضب، منه، ومن نفسها…
حيلتها الرخيصة لم تكن كذبة، بل هي حقيقة و قد تقدم اليها شاب بالفعل بطريقة تقليدية تماما…
لكن ما أغفلت عن ذكره هو أنها قابلته كنوع من رفض لضياع أي فرصة مناسبة، لكنه بعد شرح وافٍ و صريح لعاهاتها الداخلية…
رحل بعد المقابلة الأولى و لم يعد…
هل تذكر له بأن هذا الحدث التافه قد سبب لها ألما يفوق ألم فك خطبتها…
لكنها أخذت جزء من الحقيقة و نمقته كي يناسب غرضها، لعله يسرع و يفاتحها في طلب يدها…
إن كان يريدها…
تصنعت الضحك قليلا ثم قالت برقة و هي تطرق على سطح مكتبها بقلمها، تضع خصلة شعر ناعمة خلف اذنها و هي تتجنب النظر اليه (سبق؟، لا ليس سبق أبدا، أنا فقط رأيته من باب الفضول، فربما كان النصيب)
نهض عمر من مكانه ببطء و هدوء، و أشرف عليها من طوله الفارع ثم قال أخيرا بصوت متزن (لا بأس يا رنيم، انه حقك أن ترين كل الفرص المناسبة، فليقدم الله لكِ الخير).
ثم خرج دون كلمة أخرى، تاركا المكتب خلفه يبدو كقمة جبل جليدي، صقيع، هذا ما تركه خلفه، و رنيم تتبعه الى أن اختفى اثره من الباب…
فليقدم الله لكِ الخير!..
بينما سار عمر بهدوء في الممر الطويل، مخرجا من جيبه ذلك السلسال الذي كان ينوي اهداؤه لها بمناسبة عيد ميلادها، ناظرا اليه بوجوم، ثم أعاده إلى جيبه من جديد…
حين كانت مرتبطة طرق كل الأبواب لينبهها لخطأها الفادح، أما الآن، فالقرار قرارها هي بعد أن أصبحت حرة…
دون أن يكون مجرد فرصة مناسبة، من بين باقي الفرص التي تقوم بدراستها
أكمل سيره بعد أن اكتسى وجهه بملامح القسوة و الإحباط…
و بعدها باسبوع، كانت رنيم قد سلمت بحصونها حين شعرت بمدى ابتعاد عمر عنها و انشغاله تماما. اما بعمله و اما بلقائاته المتكررة مع جاسر رشيد…
و لم تجد سوى شخص واحد، سيسمعها ما تريد هي أن تسمعه…
حوور…
استلقت على فراشها ليلا و الهاتف على اذنها لتهمس بأسى (لقد عيشت نفسي في الوهم طويلا يا حور، لم أظن يوما بأنني من هاؤلاء الفتيات اللواتي يتخيلن حب رجل دون أي أساس من الواقع…
حتى أنه على ما يبدو قد شعر بذلك فبدأ يبتعد عني)
ظلت حور صامتة تستمع اليها، دون أن تقاطعها ثم قالت أخيرا بصوتٍ متزن (من بعض ما حكيته لي، فإن تصرفاته لا يخطئها انسان مدرك، لذا فإما هو فعلا معجب بكِ و ينتظر أمرا ما، و إما هو يتلاعب بكِ في سبيل اسقاطك في حبائله)
ثم تابعت و بحزم أكبر (أنتِ تريدين العودة إلى نائل يا رنيم، و لذلك لم تخبريني حتى الآن بالسبب الحقيقي لإنفصالكما، اليس كذلك؟).
همست رنيم و هي تغطي عينيها بيدها (يا حور أنتِ لا تفهمين، لا يوجد غيره)
تنهدت حور ثم قالت بحسم (حسنا، لكن لا داعي للخسارة من جميع النواحي، يمكنك مسك العصا من نصفها)
همست رنيم بحيرة (كيف؟)
ردت حور مباشرة دون لف أو دوران (اقبلي بالعودة إلى نائل، لكن بشروطك و بأسس جديدة عليه أن يقبل بها، لكن، دون أن تخبري عمر بذلك
كل ما عليكِ هو خلع الخاتم حين تذهبين للعمل، و إن حدث و كلمك مباشرة بشيء ما…
حينها يمكنك فك الخطوبة من جديد إن أردتِ)
خرج عاصم من مكتبه ليلا متجها إلى سيارته، لكن و قبل أن يفتح الباب لمح بطرف عينه الشبح الواقف على بعدٍ منه، اعتدل عاصم ببطء لينظر اليه و يتحقق من شخصيته في الظلام على الرغم من معرفته الحقة بهويته، فقال بصوتٍ كالفحيح (هل تنوي على موتك؟، صدقا، صدقا هل تختبر صبري معك؟).
لم يتحرك من وقفته و لم يخرج حتى يديه من جيبي بنطاله و لم تهتز له شعرة وهو يقول بخفوت (أريد زوجتي و ابني يا عاصم، و أنا لن أمل عن المطالبة بهما)
وقف عاصم في مواجهته، ينظر اليه طويلا قبل أن يقول (ما فعلته، لا يفعله رجل لزوجته، بل ل)
قاطعه جاسر هادرا (إياك أن تنطقها، إياك).
قال عاصم وهو يقترب منه أكثر (لقد أخطأنا في حقها، نعم، لكن ما فعلته أنت مع فتاة يتيمة كان من أقذر ما رأيت في حياتي، و الأشد قذارة هو أنك تحت حماية ورقة، مجرد ورقة تجعلك زوجها، و هذا ما يكبلني عن قتلك
مجرد ورقة جعلتك تنتهكها بكل الطرق الحقيرة الممكنة و الغير ممكنة…
تلك الصغيرة التي كانت تلعب دوما في بيتنا، الآن أقف أمامها عاجزا و هي تحمل في أحشائها طفل متزوجة و غير متزوجة…
أفضحها أو القيها لك…
أي خيارٍ تركته لي؟)
لم يرد جاسر طويلا و هو يستمع لكل كلمة كانت تنهش روحه و تتركها نازفة بغزارة دون أن يرتاح الألم…
و حين تكلم أخيرا قال بصوتٍ لا حياة فيه (أنا الآن زوجها شرعا و قانونا، و بإمكاني أخذها، لكني اريد أن أصحح ما كان)
ضحك عاصم ضحكة يائسة غاضبة بجنون، وهو ينوي أن يهشم أنفه مجددا، الا أن كلمة واحدة سمرته (ارجوك).
نظر عاصم الى جاسر و كان الإثنان دون أي تعابيرٍ تعلو وجهيهما، بينما بداخلهما يغلي كحمم البراكين.
اخيرا قال عاصم بكره (صدقني، لست أرفضك لأتلذذ بسماع رجائك، لكني أحميها من نفسك المريضة، أنا لن أثق بك أبدا).
رد جاسر بقوة، بكل قوة (لا أطلب منك الثقة في، لكن فقط من أجلها هي و من أجل الطفل أولا، أعطني الفرصة لبدء زواجنا بطريقة صحيحة هذه المرة، و سترى أنني سأقضي عمري محاولا تعويضها، لو كنت مكاني يا عاصم لفعلت أكثر من ذلك، لقد نشأنا في بيئةٍ العدل فيها قليل و الضعفاء فيها مقهورين، فلا تلمني على شيء متأصل بداخلي و أحاول الآن جاهدا تهذيبه، و كم هذا شاق، شاق لدرجة الرعب من أن أخطىء و أخسرها من جديد).
ظل عاصم ينظر اليه طويلا، دون كلمة، و دون رد فعل، لكن كلماته كانت تموج في داخله كطوفانٍ هادر
قلبه كان يحترق شفقة عليها و هي تعض اصبعها و الهاتف على اذنها، لا تترك الهاتف هذه الأيام و القلق يكاد يفتك بها…
حبيبتي يا بنت السلطان، رغما عني ما فعلته، أنتِ أغلى عندي من حياتي نفسها
لكن لسانه لم يقدر على النطق بها، وهو يتطلع اليها بأسى، هل من الممكن أن تتخلى عنه؟، حينها تكون حياته قد انتهت…
وضعت صبا الهاتف على الطاولة بقوة وهي ترتجف قلقا، تفكر بكل النواحي و الجهاد حتى بدت شاحبة بشكل مؤلم…
فتح عاصم ذراعيه وهو يهمس برقة ذكورية (تعالي)
اتجهت اليه بسرعةٍ وهي تجلس بجواره لتلقي رأسها على صدره فضمها اليه بقوة…
همست صبا بخوف (شهر كامل لم أسمع عنه شيئا يا عاصم، و لا يرد على اتصالاتي، حتى الإجراءات التي كان من المفترض أن يبدأ بها لم يتم بها شيء، ماذا لو كانو قد انتقموا منه؟).
ضمها عاصم اكثر وهو يمرغ وجهه في شعرها الحريري مستعذبا عطره الأخاذ عله يهدىء من وجعه…
ثم قال بصوت خافت (لا تخافي)
همست صبا بأنين (كيف لا أخاف؟، لا أريد أن يتأذى أحد بسببي مجددا، صحيح أن حاتم كان يعلم المخاطر، لكن عند اختفاؤه شعرت بالرعب، لا أريد أن يصيبه مكروه يا عاصم)
قال عاصم بهدوء مجددا (لا تخافي، انه بخير).
رفعت صبا رأسها عن صدر عاصم وهي تقول بلهفة (عاصم، سأذهب إلى بيته، أنا أعرف عنوانه، سأسأل والدته، جيرانه، أي أحد)
عقد عاصم حاجبيه وهو يقول بصرامة (لن تذهبي الى أي مكان)
لكن صبا كانت قد بدأت في تبديل ملابسها بالفعل و كأنها لم تسمعه، فكرر عاصم بقوة أكبر وهو ينهض واقفا (أسمعتني يا صبا، لن تذهبي لأي مكان).
الا أنها كانت بالفعل تغلق أزرار قميصها و تنحني لتلتقط حذائها، تلقي بعض الأشياء المبعثرة في حقيبتها الصغيرة…
وجهها أحمر، خوفا و قلقا، تتنفس بصوت عالٍ وهي تتحرك متعثرة هنا و هناك، تبدو كفرسةٍ متوترة خائفة، و شعرها الطويل يتناثر ليشارك في روعة صورتها في عينيه، و ألمها في قلبه…
صرخ عاصم بصرامة وهو لا يتحمل أكثر (صباااا)
التفتت اليه صبا بسرعةٍ مجفلة من صوته. ثم همست خائفة بوداعة (نعم).
ابتلع عاصم ريقه من عمق احساسه بها في تلك اللحظة، فقال بخشونة مختنقة (لن تذهبي لأي مكان)
اتسعت عينا صبا و هي تقول بحيرة (هذا ليس وقت تسلط يا عاصم، حياة انسان اعتمد على في خطر و يجب أن أطمئن عليه)
ثم تابعت ماكانت تفعل و هي تجمع شعرها الطويل عشوائيا في كومةٍ ملفوفة في مؤخرة رأسها، أمام المرآة و حاجبيها معقودان بقلق.
فما كان منه الا أن اقترب منها ليحيط خصرها بذراعيه من الخلف بقوةٍ ليشدها إلى صدره ناظرا لعينيها المتحيرتين اللتين تبادلانه النظر في المرآة…
فهمس بخشونة في اذنها (اخبرتك أنه بخير)
رفع يده ليضعها على قلبها المتوتر ليهدئه، فقالت محاولة الإستيعاب (عاصم، هل تعرف شيئا عنه؟، أرجوك أخبرني)
ضمها عاصم اليه أكثر وهو يقول بوجوم و قد حانت لحظة الحقيقة بكل مساوئها (لقد سافر يا صبا).
عبست صبا بعدم فهم، و هي تنظر اليه في المرآة، ثم قالت أخيرا (سافر إلى أين، و كيف عرفت؟)
أخذ عاصم نفسا قويا، ثم قال بهدوء زائف (نال فرصة عمل لم يستطع مقاومتها، لذلك قرر التخلي عن كل ما يخص قضيتكما وهذا هو أنسب قرار كان ليتخذه، بعد أن فكر في والدته و في مستقبله)
ازداد عبوس صبا و هي تهز رأسها قليلا، ثم قال بخفوت (لا يمكن، لا أصدق أن حاتم باع القضية بمثل هذه السهولة، و ماذا عن الأدلة التي حفظتها عنده؟).
سكتت قليلا ثم تابعت بهمس وهي تنظر لعينيه في المرآة (و كيف عرفت انت كل ذلك؟)
لم تحيد عيناه عن عينيها في حوار صامت قبل أن يقول بصوت خافت جدا علها تقرأ ما بداخله أوضح (أنا أعرف كل ما يخصك، و كل ما يحيط بكِ، حياتك كلها أصبحت حياتي منذ أن رأيتك)
ظلت تنظر اليه بصمت و بدون أي تعبير ظاهر على وجهها، لكن ارتفاع و انخفاض نفسها اللاهث تحت راحة يده جعله يهمس محاولا (صبا).
تسللت من بين ذراعيه وهي تهمس بدون وعي (يجب أن أذهب لأتفقد بيتي، و أقابل من نقلت اليهم الملكية)
ثم جرت لتلتقط وشاحها و هي تلفه حول رأسها بعفوية، الا أن عاصم أسرع خلفها ليجذبها من ذراعها بقوةٍ يديرها اليه لترتمي على صدره وهو يقول بخشونة و عينين حزينتين (لم يعد يفيد الآن يا صبا)
صرخت صبا فجأة بجنون و هي تدفعه في صدره (ابتعد يا عاصم، يجب أن أذهب لأرى بيت والدي).
الا أنه كبلها بقوة مقيدا حركتها العنيفة وهو يقول بصوتٍ عالٍ و صدر لاهث (لم يعد يفيد يا صبا، انتهى الأمر)
نظرت اليه بذهول و قد اتسعت عيناها العسليتان اليه بعدم تصديق لتقول بصدمة (ماذا حدث لبيتي؟، و أنت، أنت، ماذا)
رفع يديه ليحيط بهما وجهها بقوة يرفعه اليه، ثم همس بمرارة (لقد كانو من معارفي أنا يا صبا، و أنا بعت البيت إلى من يريدونه و انتهى الأمر).
اتسعت عيناها أكثر و أكثر، هزت رأسها نفيا بعدم تصديق، رافضة بكل جوارحها أن تصدق بما نطقه للتو…
صرخت عاليا جدا وهي تضربه في صدره بأقصى قوتها (ابتعد عني، ابتعد، سأذهب إلى بيتي)
تمكنت من الإفلات منه و جرت إلى باب الغرفة الا أنه لحقها و ضمها اليه بقوة رغم مقاومتها المستميتة و العنيفة
و أخذ يهدر بجانب أذنها (لقد بدأو في هدمه بالفعل يا صبا و انتهى الأمر).
صرخت صبا عاليا و هي تبكي و تبكي و تقاومه الا أنها كانت كمن يزيح جدارا حجريا…
لم تشعر بساقيها وهما تتخاذلان لتسقط ببط اثناء بكائها العنيف ال ارض الغرفة و هو معها يضمها إلى صدره حتى استند الى باب الغرفة و هي على حجره تبكي و تبكي و تضربه على صدره…
صرخ عاصم و قلبه يتمزق دون أن يحررها، ، (لم يكن بيدي، لم يكن بيدي، أنتِ عندي أهم من الف قضية و من كومة حجارة).
لم تسمع كلمة واحدة مما قالها و هي تصرخ أكثر و تبكي بقهر ٍ، ضاربة صدره بقبضةٍ ضعفت و تعبت من شدة المقاومة و الإعياء…
بعد فترةٍ طويلة، كانت صبا بملامح من حديد، تتحرك و هي تجمع ملابسها في حقيبتها، و قد تجمدت روحها كما تجمد قلبها…
و كأن انسان عزيز عليها قد قتل على يد من تحب…
نظرت إلى باب الغرفة لتجده واقفا هناك بلا تعبير، مكتفا ذراعيه ينظر اليها بوجوم، فقالت بصوتٍ يقطر كره (سأرحل من هنا، و لا سبيل لمنعي، اياك أن تظن بأن أسالبيك الهمجية في الإحتجاز تستطيع أن تمنعني)
لم يرد لفترةٍ طويلة، و لم تتغير ملامحه، الى أن قال في النهاية بصوتٍ متعب (لن أحتجزك)
ثم ابتعد عن الباب مادا يده وهو يقول (لن أمنعك بعد الآن، تستطعين المغادرة، ليس أنتِ يا بنت المستشار من أستطيع منعها…
معك لا أكون عاصم رشوان…
ارحلي، لكن اعلمي أنكِ ستكونين تحت أنظاري، و انسي كل ما ذكرته عن الطلاق، فلن أهتم حتى بمثل هذا الهذيان، أنتِ زوجتي لآخر يوم في عمري…
سأنتظر إلى أن تأتين إلى بنفسك…
فقط أريد أن أخبرك شيئا، لو عاد الزمن فسأكرر ما فعلته مجددا دون أي ندم، لكن يبدو أنكِ لم تحبي يوما لتلك الدرجة التي تفعلين بها المستحيل في سبيل الدفاع عمن تحبين…
ارحلي يا صبا).
أغلقت الحقيبة بعنف و حملتها بصعوبة و مشت بشراسةٍ ناحية الباب و ما أن تجاوزته حتى قالت بصوتٍ كالنيران المشتعلة (ستنتظر طويلا يا عاصم رشوان، لأنني لن أعود يوما الى خائن)
بداية الربيع…
ما أجمله من صباح، بجوه مابين برودة النسمات في الظل و سخونة أشعة الشمس، و أشجار الحي الخضراء بدأت تتلون بأوراقٍ حمراء و برتقالية براقة…
نوع من الشجر على الجانبين أخضر الأوراق، لكن أوراق القمة حمراء برتقالية مشتعلة…
كم تعشق هذه الأشجار في هذا الوقت من العام…
دائما ما كانت تثمل من رؤيتها و هي تسير في هذا الحي الراقي متجهة الى الحافلة لتذهب إلى عملها…
كانت من أكثر المناظر التي سرقت روحها يوم أن انتقلت مع عمها إلى هذا الحي الراقي
منذ فترة، سمح لها عاصم أخيرا بأن تخرج كل يوم صباحا لتمشي لفترة في طريق الحي الراقي، بعد جهد و اقناع من زوجة عمها…
خاصة بعد الإكتئاب الذي اصاب الجميع بعد رحيل صبا…
حتى عاصم نفسه لم يعد كما كان، أصبح انسان منعزل و كئيب، لا تعرف له الابتسامة طريقا…
و كان القرار الوحيد الذي اتخذه، هو موافقته على عودتها إلى جاسر، منذ عدة أيام ليخبرها بأنه قد وافق بشروطٍ معينة، مهرٍ ليس كأي مهر، و حقوقٍ لم تكن تعرف بوجودها من الأساس
لكن مع صعوبة اقامة حفل زفاف نظرا الى أن اعداده سيستغرق وقتا و هي قد قاربت الشهر الرابع و بدأت بطنها في الإنتفاخ قليلا، و لم يعلم أحد بحملها بعد…
سيتم تلفيق قصة معينة عن رد جاسر لها أثناء سفره بموافقة عاصم…
و تهديد، بأن يقتله ان مس منها شعرة بسوء…
ابتسمت حنين بمرارةٍ أثناء سيرها الصباحي، هل هكذا انتهى الأمر؟، و ارتضى جميع الأطراف…
و حلت المشكلة القديمة، مجددا…
تنهدت بحزن، لقد انتهى الأمر بالفعل يا حنين، و خلال أيام ستكونين ملكه، امام الجميع…
ابتسمت و هي تتذكر دهشة عاصم حين أعلنت له شرطها هي الأخرى، نعم حنين تملي شروطها حتى و لو لم يعجبهم، أن يسجل جاسر بيته باسمها، …
لكن عاصم لم يتردد لحظة في الموافقة، و هو ينتظر اي شيء ليذل به جاسر أو يكدره به…
و لم تتأخر موافقة جاسر، و بعد أيام ستتجه معه لتسجيل البيت باسمها و تعود اليه…
رفعت يدها تتلمس بطنها و هي تهمس (الآن سيكون لكِ بيت، ليس كأي بيت، ملكك وحدك، و لن تكوني ضيفة عند أحد، حتى والدك سيكون ضيفا عندك، سيكون بيتك هو التعويض الذي سأمنحه لكِ عن مجيئك للحياة بهذه الطريقة…
التعويض عن نشأتك في أسرةٍ لن تعرف الحب و السعادة يوما، لكن صدقيني، التعويض كبير، كبير جدا. و حين تكبرين، ستعرفين معنى أن تنشأي في بيتك، لا ضيفة عند أي احد)
(حنين).
تسمرت حنين مكانها حين سمعت صوته من خلفها، تنهدت بغضب و قست عيناها، ثم التفتت اليه ببطىء
لتجده يقف خلفها مبتسما بتعبير شارد غريب، به لمسةٍ من شيء مجهول لا تستطيع تحديده…
قالت بصوتٍ بارد (ماذا تريد؟، لو رآك عاصم لن تكون العواقب سليمة)
ضحك جاسر بخفوت، ضحكة خافتة حانية و عيناه تلتهمانها شوقا بطريقة أرسلت القشعريرة في أوصالها…
ثم همس أخيرا بصوتٍ عميق (أشعر وكأنني مراهق، يتسلل لرؤية حبيبته من دونِ علمِ أهلها)
عقدت حاجبيها قليلا، حبيبته!، لم تسمع هذه الكلمة منه من قبل…
لكنه يقولها ليهزأ بها، يهزأ من المرأة التي سيتزوجها فقط لتصليح غلطته أمام الناس، يالهي كم يشبه وضعها وضع فتاة وقعت في الخطيئة و الجميع يتنكر من عارها
ابتلعت ذلها و إهانته…
ثم قالت بغضب (ابتعد من هنا قبل أن يراك أحد رجال عاصم).
لكنه اخذ يقترب منها ببطىء، حتى وصل اليها على بعدِ خطوة واحدة، عيناه تفترسانها و تجعلها ترتعب بذكريات تحاول جاهدة أن تنساها…
لكنها رفضت اظهار رعبها له وهي ترفع رأسها اليه بكبرياء رغم قلبها المرتجف كأرنب مذعور.
أخيرا و بعد أن تأملها بدءا من شعرها الطويل المنسدل و الذي جمعت بعض الخصلات بنعومة من جانبي وجهها، الى وجهها نفسه الذي ازداد بياضا و نعومة…
و جسدها الذي امتلأ بصورةٍ خفية و كأنها قد قامت بعدة جراحات تجميل لتصبح متفجرة الأنوثة في بعض المناطق…
ابتسم جاسر بعبث وهو يهمس (تبدين رائعة)
أغلقت معطفها بقوةٍ و غضب بينما احمر وجهها بشدة وهي تهتف (ابتعد من هنا، و اتركني لحالي، توقف عن أفعال المجرمين تلك)
الا أن ابتسامته الغريبة لم تختفِ وهو يبدو متسليا بحنقها، ثم علا صوت رجل خشن من خلفهما (هل يضايقك هذا الرجل يا آنسة؟).
التفت جاسر ببطء ينظر بطرفِ عينه الى رجل يحاول أن يلعب دور الشهامة الآن تحديدا، قاطعا عليه صفو تلك اللحظات و التي يتمتع فيها باثارة جنون صغيرته
ثم قال بلهجةٍ آمرة ٍ (اذهب لحال سبيلك، لا مشاكل هنا)
الا أن الرجل كان مصمما وهو ينظر إلى حنين ليقول بأكثر خشونة (آنسة)
نظر جاسر بتعبير غير مقروء الى حنين، و التي كانت واقفة في صمت، ثم همست أخيرا بفتور (لا بأس شكرا لك، انه، زوجي).
لم يرى الرجل قبل أن يبتعد مومئا برأسه، ابتسامة جاسر الصغيرة، و ذلك البريق المشتعل و الذي أضاء عينيه
الى أن قالت حنين أخيرا بغضب (هلا ابتعدت الآن و كفى مشاكل)
الا أنه اقترب منها أكثر، و رفع يده ببطء و مر دهر قبل أن تصل الى وجنتها المحمرة الناعمة، أغمض عينيه بابتسامة متنهدة وهو يتلمس تلك النعومة قبل أن يقرصها بخفة من وجنتها…
ابتعدت حنين نافرة بغضب منه و هي تغلي كرها، فقال جاسر محاولا السيطرة على نفسه (كيف حال الصغير؟)
هتفت حنين الكلمة في وجهه بحنق (إنها فتاة)
ضحك جاسر بقوة، ثم نظر اليها ليقول بعطف و كأنه يراضي طفلة صغيرة (حسنا كيف حال الصغيرة؟، الا زالت شقية كأمها؟).
ثم ازداد صوته عمقا وهو يقول بنظرةٍ غريبة (أظننتِ، أن طلبك للبيت سيزعجني و يجعلني أنفر منكِ؟، الا تعلمين ما شعرت به و أنى أراكِ تريدين بيتي و تريدنه يصبح ملكك لمزيد من التأكد)
قست عيناها و اشتعلتا وهي تقول بصوتٍ خافت مرير (لا تخدع نفسك يا ابن رشيد، انه مجرد ضمان آخذه ما نالني منك سابقا).
و دون أن تعطيه الفرصة للرد كانت قد تركته لتعبر الطريق، و فجأة حدث كل شيء دفعة واحدة، وهي ترى طفلة صغيرة على الجهة المقابلة، تركت يد أمها و هرولت إلى الطريق لتعبره…
و صرخة أمها الجزعة جعلت حنين تتسمر في مكانها بعينين مرعوبتين، و صوت مكابح عالية لسيارتين…
احداهما توقفت على بعد خطواتٍ من الطفلة التي لم يصبها أذى في الجهة المقابلة من الطريق…
و مكابح السيارة الأخرى، الأعلى صوتا، و الأقرب منها، الأقرب جدا…
الا أنها لم تستطع التمييز جيدا و هي تشعر بغياب الوعي رغم عينيها المفتوحتين، وهو ما كان يحدث لها حين ترتعب أو تشاهد حادثا…
صوت زلزل كيانها من خلفها برعب رجولي مرعب في نفس الوقت (حنيييييييييين)
هل نادى حنين أم نوار؟، هذه الصرخة كانت مرتبطة في عقلها دائما باسم نوار، و بنفس صوته…
لم تشعر بالمزيد من حولها غير معدن قوى صدم جانب خصرها قبل أن تتمكن السيارة من التوقف…
و أسفلت قاسِ جدا خدش بشرتها حين سقطت على الأرض…
كان الوعي يعود اليها كل فترة، ترمش بعينيها و هي تلمح الناس يتدافعون من حولها…
انها بخير، تريد أن تهتف بهم أنها بخير حقا، الآن تذكرت…
كل ما في الأمر أن السيارة ضربتها ضربة خفيفة قبل أن تتوقف، و أسقطتها أرضا…
لكنها بخير الآن…
صوت رجولي صارخ زلزل المكان (انها زوجتي، يجب أن أكون معها، لن أتركها)
ألوان بيضاء من حولها جعلها تستوعب أنها في المشفى، لما كل ذلك؟ و ما الداعي للمشفى؟، أنها بخير و مستوعبة لكل شيء و تشعر بكل أطرافها سليمة، انها حتى تستطيع تحريكهم…
لكن ألم حاد في بطنها و ظهرها جعلها تشهق عاليا وهي تضع يدها على بطنها بذعر صارخة فجأة (طفلتي).
و بعد صرختها بثانيةٍ واحدة، شعرت بذراعين قويتين يلتفانِ حولها بقوةٍ ليشدها الى صدرٍ قوي رحب و صوته يهمس بجزع في اذنها (لا تخافي حنين، أنتِ بخير، لا تخافي لن أتركك للحظة واحدة)
أخذت حنين تصرخ وهي تتشبث برعب و توسل في عنقه (طفلتي، طفلتي، أنا أريدها أرجوك، أرجوك، لا أريد فقدانها. ، أرجوك، لم تتح لي الفرصة لأخبرها بأنني أريدها…
لم أكن أقصد حين أخبرتها بأنني غير متحمسة لمجيئها…
أرجوك، أنا أريدها، لا تدعني أفقدها)
ضمها جاسر بقوة أكبر وهو يقبل كل ذرةٍ من وجهها بهوس بينما عيناه تصرخان ألما و خوفا
وهو يهمس (ستكون بخير، ستكون بخير)
كان يضمها بذراعٍ واحدة إلى صدره، بينما بيده الأخرى يمر على بطنها ليهدىء ألمها وهو يستدير برأسه للخلف صارخا (أريد طبيبا هنا حالا)
و كانت يده تمر على بطنها و ساقها كلما صرخت ألما، الى أن رفعها قليلا ينظر الييها.
فوجدها مغطاة ببعض الدم، نظر مرعوبا إلى ساقيها ليجد أنها كانت تنزف بغزارة…
ضمها بقوةٍ الى صدره كي لا تنظر إلى ساقيها و عيناه تدمعاه بسرعة وهو يسمعها تشهق ببكاءٍ مرير
وهي تتعلق بعنقه (أنا آسفة، أنا آسفة، سأكون أكثر حرصا، لكن لا تدعني أفقدها، أرجووووووك).
أخذ يقبلها بشراسةٍ وهو يضمها اليه إلى ان ابعدوه بقوةٍ عنها و الممرضة تصرخ بقوة، انها من الممكن أن تكون مصابة في اعضائها الداخلية و لا يجب عليه تحريكها هكذا…
ابتعد جاسر بظهره وهو يلهث الى أن ارتطم بجدار الغرفة وهو يراها تستلقي على الفراش باكية بمرارة و ترفع يدها لتغطي بها عينيها و كانها لا تريد أن تراهم يتدافعون من حولها، يفحصونها و يخبرونها بأنها فقدت الطفلة، و قد كانت فتاة فعلا…
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)