رواية بأمر الحب الفصل الخامس والعشرون 25 بقلم تميمة نبيل
رواية بأمر الحب البارت الخامس والعشرون
رواية بأمر الحب الجزء الخامس والعشرون
رواية بأمر الحب الحلقة الخامسة والعشرون
(اذن أنا بين خيارين، إما أن أفقد الأمل تماما في الزواج و الخروج من سجني، و إما أن أقبل بمن اغتصبني، ليغتصبني كل ليلة، لو كنت مكاني، أي الطريقين ستختار؟)
هل يمكن أن تكون للكلمات وقع الرصاص الحي؟..
للحظةٍ شعر و كأن طلقا ناريا قد اخترق أذنه و نفذ إلى عقله، حتى أن رأسه مالت عدة شعريات في حركةٍ خاطفة. و أهتز الهاتف في قبضته، بينما انقبضت أصابعه عليه حتى كاد أن يسحقه شر سحقة…
فتح فمه مرة دون أن يجد القدرة على الرد في نفس اللحظة، ليغلقه كما أغلق الصقيع أبواب صدره و شعر بألمٍ غريب كاد يقسم أنه على وشكِ الإصابة بذبحة صدرية…
رفع يده ببطء و ارتجاف يتلمس بها صدره في حركةٍ غير ملحوظة، قبل أن تمضي عدة لحظات لم يسمع بها سوى صوت هدير الرياح بينهما…
وما أن وجد القدرة على النطق حتى قال بصعوبة وبتحشرج (اغتصاب؟).
لم يسمع منها ردا، و لم يرى لمحة تحرك في جسدها الذي بدى في هذه اللحظة و كأنه قد تجمد في هيئة تمثال رخامي فقد الروح و الحياة، الا أن البرودة و القسوة تشع من كل جزء فيه…
فعاد ليقول بأكثر تشديدا و غضب مجنون يهدر في كل حرف (اغتصاب؟، هل هذا ما تقنعين به نفسك لتبرري تحررك مني؟).
للحظاتٍ لم ترد عليه و توقع أن تهرب إلى الداخل لكنها ثبتت مكانها و عينيها لا تزالان مثبتتين على عينيه و هي ترد بفتورٍ ميت (هل كنت راضية؟)
و حين لم يرد عليها تابعت دون أن تنتظر رده تبثه كل ما تستطيع من سمٍ سبق أن دفعه في عروقها من قبل (إن كنت تظن بأنني كنت راضية بك و أنت تنهشني قاضيا على كل ذرة من احترامي لنفسي، اذن فأنا أشفق عليك).
اتسعت عيناه و تعالى لهاثه قليلا حتى وصلها عبر الهاتف لكنها لم ترأف بحاله و هي تتابع بلهجةٍ أكثر حقدا حتى أنها مالت قليلا من النافذة و هي تتشبث بإطارها و كأنها تهاجمه (قلت لي من قبل أنني لم أقاومك كما يجب إن كنت رافضة، و لم أجد وقتها الجرأة للرد عليك، أما الآن و بيني و بينك حاجز حديدي، و بعده أهلي وهم لن يرحموك إن حاولت تجاوزه…
لذا فأنا أستطيع الرد عليك بكل قوةٍ، كنت أموت رعبا منك، كنت أغمض عيني و أنا أنتظر تلك اللحظات أن تنقضي و تتركني بأقل ما يمكن من أذى، لوهلةٍ ظننت أنك ستقتلني بعدها، أتتخيل ذلك؟
كنت مرتعبة منك لدرجةٍ شلت حنجرتي، و أكررها لك يا ابن رشيد، إن كنت تظن أن هذا هو الرضا الذي يرضي رجولتك فأنا أشفق عليك).
انقبضت أصابعه قليلا على عضلات صدره التي كانت لا تزال تمسدها، وهو يبتلع غصة في حلقه بصعوبة بينما هو يسمع صوتها في نهاية كلماتها و قد تهدج بدموعٍ حبيسة أبت أن تذرفها أمام أسماعه مباشرة، و بانت به المرارة واضحة جلية في نبراتها التي تلاشت مع آخر حروفها.
مر الصمت بينهما طويلا لا يقطعه سوى صوت تهدج أنفاسها، و الذي كان يجلده السياط، و ما أن تمكن من الكلام حتى قال بصوتٍ لا تتضح نبراته من شدة خشونته و تكسره (ارجعي اليا و، و سأبدل كل ذكرى تعيسة عشتِها لأخرى سعيدة، سأبذل ما في وسعي لأعوضكِ عن بداية زواجنا التي كانت، التي كانت من المفترض أن تكون، أجمل ذكرى لكِ).
ازداد تهدج أنفاسها و ازدادت ملامحه ألما و خشونة، فتابع بإصرار (ارجعي الي، فقط ارجعي إلى و اقبلي بقدرك، و حينها سترين وجها لي لم تريه من قبل).
هنا وصله صوت بكائها الناعم واضحا وهي تهتف بصوتٍ خافت ذليل (أكرهك، أكرهك، الا تفهم ذلك؟، أكرهك، كنت محقا في أنني استسلمت لك منذ أول لحظةٍ مأساوية عدت فيها إلى حياتي، استسلمت بكل ذل و خنوع لكل خططك القذرة خوفا منك، و على الرغم من ذلك وثقت بك مرة بعد مرة، و قد كنت مثالا للحقارة في كل مرةٍ منهم).
سكتت قليلا تبتلع دموعها بصعوبة ثم قالت بقوةٍ أكثر قليلا (الآن، لم يعد لدي ما أخشاه، و الفضل الأول و الأخير لك في ذلك، الآن أصبحت في حماية عائلتي، و لن تتجرأ على المساس بي بعد الآن).
عقد جاسر حاجبيه، و ازداد تغضن وجهه، حتى كاد أن يبدو كشخصٍ يكابد الألم، و أصابعه تزداد ضغطا على صدره، ثم همس أخيرا باختناق صلب، صلب و كله اصرار و خشونة (أنا أريدك، أنت زوجتي و أنا، أريدك، أكثر مما أردت أي شيء آخر في حياتي، الا يعني ذلك لكِ شيئا؟)
همست ببرود الجليد (لا يعني أكثر من أنني مجرد شيء).
فتح فمه ليصرخ بها، نعم كان على وشكِ الصراخ بها و بقوة و بجنون لو تحتم الأمر، لكن ما منعه هو رؤيتها و هي تستدير بسرعة، فكاد أن يهتف بها، لا، لا ترحلي، لا تتركيني الآن
لكنه سكت حين لمح طيفها و هي تعطيه ظهرها تقريبا دون أن تتحرك بعيدا و من أهتزاز جسدها الطفيف أدرك أنها تتكلم مع أحدهم، ليلمح يدها وهي تسقط الهاتف خلف ظهرها، أو ربما هكذا ظن وهو لا يستطيع التحقق أكثر من الأمر…
استمرت في نطق بضع كلمات، وقلبه يزداد خوفا من أن يكون قد علم أحد بكلامها معه، فربما أذاقوها المزيد من الضرب و الإهانة، لكنه لن يرحل من هنا أبدا حتى ولو وقف دهرا إلى أن يطمئن عليها…
لكن لم تطل اللحظات المخيفة له و أعقبتها لحظات احباط و لوعة وهو يراها تبتعد مطأطأة الرأس عن النافذة، و ما لبث أن ظهر ظلا آخر محلها…
اتسعت عينا جاسر حتى بدا مذهولا بينما انعقد حاجبيه بشدة و الجنون يتمكن من كل أعصابه وهو يتعرف على هذا الظل الضخم حق المعرفة…
احمرت عيناه جنونا و هدر الدم في أوردته و هو يرى عاصم رشوان بهيئته المهيبة الضخمة يمد ذراعيه ويغلق زجاج النافذة التي تركتها حنين مفتوحة، ثم لم يلبث أن جذب الستائر الخفيفة و الثقيلة ليسد الطريق الوحيد بينه و بين زوجته…
اخذ صدره يعلو و يهبط بصعوبة بينما ألمه يزداد، و غضبه يتصاعد، و يتصاعد و يتفاقم…
عاصم رشوان بغرفة زوجته بكل حميمية، و هو هنا واقفا تحت النافذة يرمقها بذلِ العاجز و غضب الرجل المقهور…
ودون وعيٍ منه ضغط على ازرار الهاتف الذي كان لا يزال مسكينا يتحمل ضغط أصابعه الجبارة، ووجهه في تلك الحالة كان يبدو من الشر مخيفا، مخيفا لدرجة تفوق الوصف.
العجيب في الأمر أنها كانت هادئة تماما، على الرغم من البرودة التي تغلف قلبها الا أن ذلك الأحساس الجديد بتبلد المشاعر كان افضل، أفضل بكثير…
حين سمعت طرق الباب على غرفتها، ظنتها صبا كالعادة بكل هدوء، لكن ما أن سمعت صوت عاصم ينبهها إلى دخوله حتى تفاجأت من رباطة جأشها، وهي تسقط الهاتف بمنتهى الهدوء داخل حاجز النافذة الضيق و تأذن له بالدخول، دون حتى أن تهتم بمسح الدموع التي كانت منسابة على وجنتيها بنعومة على الرغم من تجمد عينيها بلا تعبير…
كانت تظن أن دموعها قد نفذت عن آخرها، الا أن بعضا منها على ما يبدو لايزال قابعا في زوايا قلبها لينساب في كل مرةٍ تتذكر فيها كل ما تعرضت له خلال حياتها القصيرة حتى الآن…
دخل عاصم الى الغرفة بهدوء، ليشغل حيزا كبيرا منها بوجوده المهيمن، كما هو مهيمنا على حياتها منذ أن أبصرت الواقع بكل آلامه، دائما ما كان عاصم يلي عمها في تحمل مسؤوليتها، و بعد رحيل عمها أصبح هو المسؤول الأول و الأخير عنها، على الرغم من محاولاتها الواهية في اقناع نفسها بأن عملها البسيط يحقق لها شيئا من الإستقلالية، لكنها كانت تخدع نفسها، فهي منذ رحيل والديها وهي دائما ما تكون تابعة لشخصٍ ما…
نظرت اليه بعينيها المبللتين بدموعها و هي تتذكر تلك الأيام التي كانت تنتظر فيها أن ينعم عليها عاصم رشوان بتحسين وضعها الاجتماعي و رفع الحرج بوجودها الأبدي في هذا البيت، و ذلك بمنحها اللقب السامي
حرم عاصم رشوان …
لم تفكر طويلا في المعاني المترتبة على تلك العبارة القصيرة، و لم تداعب خيالها أي صور عن تلك الحياة المستقبلية لها مع عامود هذا البيت…
و مع ذلك كانت تنتظر اللقب يوما بعد يوم، و كأنها عاطلة تنتظر جواب التعيين ليحسن حالتها البائسة…
ومما زاد هذا الشعور هو تغذية عمها و زوجته لهذا الأمل أكثر و أكثر يوما بعد يوم، حتى ظنت أن الحياة لن تستقيم الا بحصولها على اللقب…
كانت تائهة النظرات تماما في ملامح عاصم الخشنة الصارمة و التي لم تؤثر الصرامة على ذرةٍ من وسامته…
حتى التقت عيناه بعينيها فعبس و هو يلاحظ للمرة الأولى دموعها، فقال بخشونةٍ خافتة (هل لازلتِ تبكين الى الآن؟، و بماذا يفيد البكاء؟ لو كان يصلح من وضعك لجعلتك تبكين لنهاية عمرك)
لم ترد حنين و لم تتغير ملامحها، وحتى لم تذرف المزيد من الدموع دون أن تحيد بعينيها عن عينيه…
فتنهد عاصم بغضب و يأس قبل أن يلمح النافذة المفتوحة و التي تتطاير ستائرها باعثة الصقيع إلى اركان الغرفة الصغيرة.
فقال عاصم بخشونة و تثاقل وهو يتجه الى النافذة (كيف تتركين النافذة مفتوحة في هذا الوقت من الشتاء)
نظرت حنين إلى ظهره وهو يتجه الى النافذة، لو القى نظرة خاطفة الى الشارع الجانبي خلف سور البيت فسيرى جاسر بكل وضوح…
لكنها و ياللعجب لم ترتعب و لم تفزع، كانت هادئة تماما وهي تنتظر ثورة جديدة من ثورات جنونه ما أن يلمح جاسر…
لكن مرت الثلاث لحظات التي استغرقها في غلق النافذة و إغلاق الستائر، ثم استدار اليها بنفس خشونة ملامحه و صلابتها
ليتجه بعدها دون اذن و يجلس على المقعد الوحيد في غرفتها، ثم رفع رأسه اليها آمرا (اجلسي، أريد أن أتكلم معك)
اتجهت حنين ببطء لتجلس على حافة سريرها، ناظرة اليه بهدوء و بعينين بهما الكثير و الكثير من الأفكار المتلاطمة و على الرغم من ذلك تبدوان غاية في التجمد…
أخذ عاصم نفسا متجهما قبل أن يبدأ قوله بتصلب (هل لديكِ أي فكرةٍ عما سنفعله حيالك الآن؟)
بقت حنين صامتة ناظرة اليه، وهي تدرك بأنه لا يسألها مشورتها أو رأيها في حياتها في واقع الأمر، بل هي مجرد مقدمة استهلالية لابد منها، لذا آثرت الصمت منتظرة دون أن تتغير ملاحها…
و لم تخب توقعاتها، فتابع عاصم وهو يميل الى الأمام متجهما مستندا بذراعيه إلى ركبتيه (ليس أمامنا خياراتٍ عديدة الآن، بل على الأصح ليس لدينا سوى أن نبدأ في رفع قضية الطلاق، لقد انتظرت فترة لتهدأ الفضائح التي تسبب فيها الحيوان زوجك، و الذي منحتيه أنتِ تلك السلطة ليتسبب لنا في كل ما فعل بعد أن عاد إلى حياتنا فجأة).
لم ترد حنين، فزفر عاصم بنفاذ صبر و هو يحاول الزام نفسه بالسيطرة كما اقنع نفسه طويلا قبل دخوله اليها.
و بعد عدة لحظات نظر اليها بصرامة ليقول (لكن الأمر الآن قد طال، و أنا شخصيا أتوقع أي تصرف قذر من تصرفاته في اي لحظة، لذا، أريد توكيل منكِ لنرفع قضية الطلاق).
و حين ظلت صامتة و لم تسارع بإبداء فروض الطاعة و الولاء، قال عاصم بحسم (وهذا أمر منتهى يا حنين، لا يقبل النقاش، هذا إن كنتِ صادقة في ما ذكرته عن كونك قد غُصبتِ في كل ما حدث، أم أن لكِ رأي آخر؟).
أيضا دون رد، تنظر إلى عاصم و ينظر اليها، فقد قال كلمته و رمى في نهايتها التحدي كي تخشي الجدل، فقد يساء فهم دوافعها إن جادلت، لذا فيجب عليها أن تقر على سلامة و ضعها و تبرئة نفسها بالأقرار و الإصرار على طلب الطلاق لدفع الشبهة عنها…
حين ظلت حنين صامتة أعتبر عاصم أن هذا هو الرد الذي يحتاجه فنهض قائلا بهدوء و عزم (غدا ستوقعين التوكيل و سنبدأ برفع القضية).
و ما ان أتجه إلى الباب حتى ودعه صوت حنين مناديا بهدوء خافت (عاصم)
التفت عاصم اليها، و قبل أن يسأل ادركته هي قائلة بنفس الهدوء (أنا حامل)
استمرت النار تأجج بداخله و دمائه تغلي و تفور في عروقه، لدرجة أن انتفخت أوداجه و ظهرت عروقه نافرة في عنقه بوضوح، و أحمرت عيناه بشدةٍ وهو ينتظر واضعا الهاتف على أذنه…
وما هي الا لحظات حتى سمع صوت عمر الهادىء يجيب بالرد، فهدر جاسر محاولا كبت ذبذبات صوته على قد استطاعته و هذا الكبت جعل وجهه يشتد أحمرارا و ضغطا، (سأدخل اليهم و أحطم البيت على رؤوس الجميع، الحقير في غرفتها، في غرفة زوجتي بينما أنا أقبع هنا في الطرقات كالمتسولين، سأقتحم البيت و ليحدث ما يحدث).
نهض عمر من مكانه مندفعا وهو يقول بمنتهى ضبط النفس كي لا يتهور ذلك المجنون، (اهدأ يا جاسر و لا ترتكب أيا من حماقاتك)
فلم يسمع عمر سوى صوت جاسر يهدر داخل أذنيه مباشرة حتى أنه اضطر لأن يبعد الهاتف عن اذنه مغمضا عينيه وقد اهتزت رأسه بفعل الموجات المجنونة و الألفاظ النابية التي تبعتها كلمة واضحة المعالم لا تقبل الجدل (سأدخل).
فما كان من عمر الا أن اتجه في غمضة عين إلى باب شقته يلتقط مفاتيحه ليخرج وهو يقول بكل قدر ممكن من الأقناع و الحسم بينما في داخله يشعر أن مصيبة على وشكِ الحدوث (جاسر، اسمعني جيدا، ابقى مكانك ولا تتحرك، أنا في طريقي اليك، و تذكر إن هممت بارتكاب احدى حماقاتك بأن حنين هي من سيدفع الثمن، مجددا).
ثم أغلق عمر الخط و كان قد وصل إلى سيارته خلال لحظات، صدره يعلو و يهبط بغضب وكأنه في سباقٍ مع الزمن للقبض على مجنون يوشك على الإضرار بالمزيد من المواطنين الآمنين…
أحيانا يتسائل هل صداقتهما تستحق أن يغفر له كل ما يفعله في سبيل رغباته الأنانية، و بعد التساؤل يعود و يذكر نفسه بأن جاسر ليس بمثل تلك الأنانية القذرة، فهو لم يرى منه القذارة الا في التعامل مع حنين فقط، فهل يخبره ذلك بشيء؟..
لكن مهما كان السبب الذي يرفض جاسر الإعتراف به حتى الآن، هل ذلك يعطيه الحق ليتلاعب بحياة انسانة ضعيفة لمجرد أنه يريدها؟، أو في أحسن الفروض لمجرد أن ما يفعله إنما هو. بأمر الحب…
للحظاتٍ حلت صورة رنيم بعينيها اللوزتين محل صورة حنين، و أوقع ذلك في صدره شعورا مظلما…
لا، لا، بالتأكيد لا، أنه ينقذها مما هي فيه، أما جاسر فيؤذي حنين في كل مرة يقترب منها…
زفر عمر بنفاذ صبر وهو يدير عجلة القيادة بمنتهى القوة متجها في طريقه إلى بيت آل رشوان…
التفت عاصم الى حنين ببطء ليطالعها بعينين مذهولتين، و مرت لحظات صمت بينهما وهو غير قادر على استيعاب الكلمة من ابنة عمه الصغيرة التي تربت في بيته لسنواتٍ طويلة…
وهي تقف الآن لتنطق بالكلمة بمنتهى البساطة أمامه و كأنها تخبره بأنها مصابة بنزلة برد…
قال عاصم أخيرا بهمس بخطورة (ماذا قلت؟).
أعادت حنين بهدوء و عينيها في عيني عاصم (أنا حامل)
للحظاتٍ أخذت تتأمل انطباعات وجهه وهو يعقد حاجبيه بعدم تصديق، ثم تدقيقه فيها ليتبين إن كانت تكذب، هزة رأسه النافية الغير ملحوظة الا بصعوبة و كأنه ينفي ما قالت، ثم في النهاية تأجج النيران المعتادة في عينيه اللتين اتسعتا ذهولا وهو يهدر قائلا (كيف؟).
صمت وهو يغلق عينيه رافعا يده ليتتخلل بها خصلات شعره يكاد ينزعها من جذورها وهو يأخذ نفسا عميقا مرتجفا و كأنه يحاول استيعاب الصدمة الجديدة الغير متوقعة، فهمست حنين بفتور (لا أظنك متشوق لسماع التفاصيل)
فتح عاصم عينيه و قد بان فيهما شر العالم كله و هو يصرخ بحنق (اخرسي يا حنين، اخرسي).
ثم اقترب منها في خطوةٍ ليمسك بكلتا ذراعيها نافضا رأسها للخلف وهو يقول بوحشية (الآن ماذا؟، اخبريني بالله عليكِ كيف سأتصرف. و ماذا ستكون سمعتك أمام الناس خلال الأيام المقبلة؟).
لم ترد عليه حنين وهي تتطلع لمظاهر الغضب المجنون على وجهه وهو يتابع (الآن. حتى من لم يعلم بزواجك سرا، سنضطر صاغرين لإشهاره أمام العالم أجمع، و ليس فقط في المحاكم. كي لا تطولك المزيد من الأقاويل، هل هذا ما يسعدك الآن؟، هل هذا يشفي غليلك مما ارتكبه عمك بحقك قديما)
ترك ذراعيها بقوةٍ يدفعها عنه وهو يدير ظهره اليها لاهثا بغضب، بصدمة…
و عاد ليكرر و كأنه يكلم نفسه (والآن ماذا؟).
همست حنين بصوتٍ ميت لا حياة فيه (لم يكن ذنبي أنكم استخدمتموني و أنا أكبر بقليل من طفلة كمجرد وثيقة صلح)
التفت عاصم اليها وجهه الغاضب لكنه لم يتكلم وهي تتابع (لم يكن ذنبي أنكم قبلتم لي بما رفضتموه لحور، و لم يكن ذنبي أنكم لم تفعلو أكثر من مجرد تمزيق ورقة عرفية، دون التحقق من طلاقي شرعيا، أنا وقتها كنت مجرد طفلة، أما أنتم فما هو عذركم لتتهاونوا في الثقة بهم لتلك الدرجة).
لم تتغير ملامح عاصم سوى أنها شحبت قليلا دون أن يقاطعها وهي تكمل (أتعلم أن كل غضبك الآن على موقف أبسط بكثير، و أكثر شرفا، مما لو كنت الآن أحمل طفل رجلا آخر و أنا لازلت في عصمته، ربما كنت أحمل طفلك أنت مثلا لو تحقق لعمي ما أراد ليريح ضميره من ناحيتي)
اتسعت عينا عاصم بذهولٍ أكبر وهو يستمع إلى كلماتها الفجة لدرجة أن احمر وجهه من وقاحتها التي يقف أمامها مذهولا الآن…
الا أن حنين قالت بهدوء الأموات (أخبرني شيئا، لماذا لا أشك بنواياك؟، لطالما رفضت الزواج مني و باصرار غريب دون علمي و في النهاية بمواجهتي حين انقطع الأمل نهائيا بخطبتك لأبنة الراجي…
لماذا لا أشك بأنك كنت تعرف أنني لازلت على ذمة جاسر رشيد، و بدلا من التعمق في الفضائح تركتني معلقة كالبيت الوقف، و ماذا سيحدث إن بقيت حنين دون زواج و حتى ولو كان اسمها مرتبطا باسم رجلا لن يعود أبدا، كله يهون في سبيل أن يظل اسم عائلة رشوان ناصع البياض، اليس كذلك؟)
كان ذهول عاصم يتزايد و يتضاعف وحاجباه ينعقدان بعدم تصديق، ليهمس مجرد همسة مذهولة مصدومة (أنا؟).
ابتسمت حنين بألم، وهي تنظر لعينيه المصعوقتين ثم همست بمرارة (اطمئن يا ابن عمي، لم أشك في ذلك ولو للحظةٍ واحدة، لكن فقط كنت أبين لك كم من السهل قلب الأدوار لأكون أنا الضحية، و على الرغم من أنني لم أمثل هذا الدور أبدا، دائما كان جميل رعايتكم لي فوق رأسي و سيظل يأسرني العمر كله…
لكن ربما ستسمعها منى للمرة الأولى و الأخيرة…
لقد ظلمتموني كثيرا يا ابن عمي، كثيرا جدا).
و حين فقدت حنين القدرة على المتابعة استدارت تعطيه ظهرها وهي تغطي وجهها بكفيها لتنخطر في نحيبٍ هادىء، قاتل في خفوته…
ظل عاصم ينظر اليها مبهوتا طويلا ثم و دون كلمة خرج من غرفتها مغلقا الباب خلفه بكل هدوء…
لم يرى الممر أمامه إلى أن وصل إلى غرفته أخيرا، حيث كانت صبا تنتظره بقلق و ما أن رأته و رأت ملامحه حتى بادرته لتقول (اين كنت يا عاصم؟).
نظر اليها عاصم طويلا قبل أن يقول بوجهٍ شاحب أخافها عليه (كنتِ تعلمين بأن حنين حامل)
لم يكن سؤال، بل كان اقرار بالواقع، فتحت صبا فمها لتتكلم بصعوبة بينما قلبها قد وقع بين قدميها. (لم، كنت)
قال عاصم أخيرا بصوتٍ مجهد (لا حدود لكذبك عليا أنا تحديدا).
و دون أن ينتظر منها ردا اتجه إلى حمام غرفته، تاركا صبا واقفة تنظر في اثره بحزنٍ ووجل، أما من نهاية لكل ما يمر بهما، الى متى ستظل الحواجز تفرقهما دون ذنب لهما فيها…
المهم الآن أنه عرف بتلك الكارثة الجديدة دون أن يعقب معرفته الإنفجار الذي توقعته.
ظلت تنتظره و تنتظره و حين أطال المكوث بالداخل، انتابها القلق عليه، فطرقت الباب برفق و هي تناديه بخفوت، لكنه لم يرد عليها، فظلت مرابطة بجانب الباب تستمع إلى صوت جريان الماء طويلا، الى أن خرج بوجهٍ صلبٍ لم يلن بعد، و علامات التعب بادية عليه بوضوح…
اخذت صبا نفسا مرتجفا و حين حاول تجاوزها، وقفت أمامه تسد طريقه بإصرار ووضعت يدها على كتفه الرطب و همست بيأس (عاصم، أرجوك، كفى، لقد تعبت من تحميلي لذنوبٍ لم أرتكبها و خاصة فيما يخص حنين، لقد تعبت من كثرة اتهاماتك لي).
نظر اليها عاصم بعينين حمراوين غاضبتين و يائستين، و ظنت أنه لن يبذل الجهد حتى في الرد عليها لكنه قال بعد فترة (و أنا تعبت من اعتبارك لي بأنني دائما العدو، دائما الغريب الذي تنقذين منه نفسك أولا و ابنة عمي ثانيا، لكن على ما يبدو فإنكِ لست مخطئة، فابنة عمي نفسها و التي تربت تحت سقف بيتي و تحت أنظاري تلومني على كل ما حدث لها، بل و حتى تلومني على تصرفاتها، يبدو أنني بالفعل كنت العدو دون أن أدري).
و قبل أن يسمح لها بالرد ازاح يدها و تجاوزها مبتعدا، فنظرت صبا بإحباط الى ظهره، و كم شعرت بتلك اللوعة التي ما كانت تعرفها من قبل، و هي أن يتقلص قلبها وجعا على حبيبها المتعب، و كأنه طفلها الوحيد، بل هو كذلك بالفعل
اقتربت صبا منه ببطء وهو يجفف شعره بنشفةٍ صغيرة دون أن ينظر اليها في المرآة، فقالت صبا بخفوت (ماذا قالت لك حنين و أتعبك لهذه الدرجة؟، أعلم أن حملها ليس هو سبب الألم الذي أراه في عينيك).
مضت فترة قبل أن يلتفت عاصم إلى صبا لينظر إلى عينيها الحانيتين في وجهها الذي يماثل اكتمال القمر في عينيه ثم همس بتثاقل (حنين تلومني على كل شيء، و على كل ما فات، و طبعا لا تستثني أبي مما ارتكبه في حقها قديما…
و نحن من كنا نظن أنها مجرد ذكريات من الطفولة وأنها قد نسيتها مع مرور السنوات)
ثم عاد ليستدير عنها مرة اخرى بكتفين محنيتين…
لم تشأ صبا أن توجعه أكثر، بل لم تكن تظن من الاساس أن عاصم رشوان من الممكن أن يتألم بهذا الشكل بسبب حنين، دائما ما كانت تظنه مفرغا من المشاعر الإنسانية، و تأنيب الضمير ليس له وجود في حياته…
اقتربت صبا منه لتلف خصره بذراعيها بقوةٍ و كأنها تريد احتواءه بداخل ضلوعها، بينما أراحت وجنتها على ظهره وهي تهمس (يجب أن تقدر موقفها يا عاصم، حنين مرت بحياتها مواقف شديدة الصعوبة، منها ما كان من تصاريف القدر كفقدانها والديها معا، ثم منظر صديقتها و هي تموت أمام عينيها وهي لاتزال طفلة…
ومنها ما كان من قرارات صارمةٍ لا تملك في سنها أن تعترض عليها، و مازالت تعاني من اثر تلك القرارات حتى تلك اللحظة…
قد لا تكون المخطىء في حقها بالفعل، لكنها)
تابع عاصم وهو يمرر أصابعه على بشرة ذراعها الملتفة حول خصره و كأنه يستمد منها المسكن لآلامه، (لكنها تلومني لعدم منعي لما حدث، و تلومني حين عارضت والدي للمرة الأولى كان ذلك برفض الزواج منها، على الرغم من مصيبة زواجها الذي لم ينفصم أبدا لو صحت رواية ذلك الحقير، لكن مع ذلك لن تنسى أبدا رفضي لها).
ارتجفت صبا قليلا وهي تستند إلى ظهره، مازال ذلك الأمر يؤرقها و يؤلمها كلما جاء ذكره…
فكرة أن يتزوج عاصم رشوان من ابنة عمه في نهاية المطاف، هي تعلم تماما الآن أن اي امرأةٍ لن تأخذ مكانها في قلبه أبدا، قلبها يخبرها بذلك، لكن بعض القواعد في هذا البيت تجعلها على غير يقين بما سيحمله لها المستقبل على يد عاصم…
حين بقت شاردة في أفكارها السوداء، التفت عاصم اليها لينظر لعينيها ثم همس وهو يحيط وجهها بكلتا كفيه ليرفعه اليه (أتعلمين، لقد عارضت أبي مستميتا في زواجي بحنين، و مع ذلك فكرت في الإرتباط بابنة الناجي دون مجهود يذكر، على الرغم من أنني لم أستطع يوما منحها قلبي، لم تكن للمشاعر أي أهميةٍ في حياتي و لم تكن من أولوياتي في الارتباط أبدا…
حنين أيضا لم أستطع يوما على النظر اليها سوى كأختي الصغيرة، لذلك لم أتخيل حتى مجرد التخيل أن تكون زوجتي…
و كان معي كل الحق، فحين رأيتك للمرة الأولى، حين فتحتِ باب بيتك لي، و نظرتِ الي، قلبتِ كل موازين حياتي، عرفت لحظتها بأن قدري معك، و حياتي ستكتمل بكِ
أتراني اذن كنت مخطئا حين رفضت حنين؟، وكأن قلبي كان يعلم، و كأنه كان ينتظرك).
أسبلت صبا جفنيها وهي تشعر بالغيرة تكوي أعماقها من ذكر ابنة الناجي التي ارتبط بها دون اي جهدٍ يذكر، حتى مع متابعته التي اذابت كيانها، الا أن الغيرة لا تزال كامنة بداخلها…
و بعد فترة صمت همست صبا بصعوبة دون أن تجد القدرة على النظر اليه، (و ماذا ستفعل الآن؟)
تنهد عاصم بقوةٍ و هو لا يجد الرد على نفس السؤال منذ شهرين كاملين، أيقتله و يرتاح ممن تسبب لأسرته في كل تلك الأزمة…
قال عاصم أخيرا بتعب وهو يجذبها من معصمها إلى السرير (الآن، لا أنوي أن أفعل شيئا سوى أن انام، أنام طويلا و بعمق)
استلقت صبا بجواره وهي تريح رأسه إلى صدرها، تمشط خصلات شعره القصيرة بأصابعها مبتسمة رغما عنها، كم تحب تلك الخصلات الناعمة…
لكن الهدوء أبى أن يتركههما في تلك اللحظة، ليرن هاتف عاصم و الموضوع على الطاولة الجانبيه له…
تنهد عاصم بيأس دون أن يفتح عينيه، فمالت صبا عليه لتلتقط الهاتف و ما أن نظرت اليه حتى قالت لعاصم (أنه أحد رجالك عند البوابة، هل أرد أنا عليه؟)
أومأ عاصم برأسه مع علمه بأنه من المؤكد سيكون خبرا كئيبا كما هي عادتهم في مثل هذا الوقت، ردت صبا برقة، تستفهم قليلا، ثم نظرت إلى عاصم ومنه إلى الساعة لتقول بحيرة (هناك شخصا ما على البوابة يريد أن يقابلك، المهندس عمر، و يقول أن الأمر مهم، أتعرفه؟).
عقد عاصم حاجبيه و تنهد بقوةٍ أكبر، لا يعرفه و لا يريد أن يعرف ذلك البائس في تلك اللحظة بالذات…
منذ عدة دقائق…
كانت سيارة عمر تدخل إلى الشارع الجانبي لبيت رشوان، وما أن أبصر جاسر حتى زفر بغضب وهو يوقف السيارة بسرعة لينزل منها وما أن فعل حتى وجد جاسر و كأنه قد اتخذ قراره، شاحذا همته و غبائه، متجها ناحية البوابة بكل عزم و وجهه ينضح بإمارات الجنون…
و في خطوتين كان عمر قد هجم عليه ليتشبث به، و كأنه يمنع جرارا زراعيا من الحركةٍ في الأرض بينما جاسر يقول بعنف مجنون (يجب ان أدخل يا عمر، زوجتي بالداخل، و الاحمق يجلس معها في غرفتها بكل راحة، و أنا هنا أوشك على أن ينمو لي قرنين، ابتعد يا عمر عن طريقي، ابتعد).
تمسك به عمر بقوةٍ أكبر وهو يحاول أن يهدءه قدر المستطاع فإن لم يفلح فسيقيده و يكممه لو لزم الأمر و يلقيه في السيارة عائدا به، لا يصدق مدى سيطرة فراشة رقيقة كحنين على ذلك الكائن المجنون الهمجي فتجعله يتصرف كالمجرمين…
قال عمر بهدوء ضاغطا على أسنانه، (توقف يا جاسر، انسيت كل كلامنا و اتفاقنا، وأن المزيد من التصرفات المتهورة فحنين هي من ستدفع ثمنها).
هدر جاسر بقوة (لن تجد الوقت لتدفع أي ثمن، فأنا سأدخل و أجرها من شعرها لو اقتضى الأمر، أنها زوجتي شرعا و قانونا و سأرى من سيمنعني)
هدر عمر هو الآخر بغضب (هذا إن أرادت العودة معك يا مجنون، لكن إن لم ترد ذلك فلا أنت و لا عشرة مثلك يستطيعون أخذها بالقوة. )
صرخ جاسر بغضب (سآخذها و لو رغما عنها، مكالمة واحدة لرجالي و سندخل ذلك البيت و نهدمه فوق رؤوسهم و نخرج بها).
أمسكه عمر من تلابيب قميصه وهو يهزه بغضب هاتفا بصوت خافت (اخفض صوتك يا غبي، كفى فضائح للمسكينة التي أوقعها حظها العاثر معك…
لو فعلت ما قلته للتو فما هي الا لحظات و تكون أنت و رجالك متشرفين على أرض الزنزانة من جديد، أنسيت أن حبر أمر عدم التعرض لم يجف بعد، بالإضافة الى كل الرجال اللذين سيصابون من جديد من تحت رأس رغباتك و أوامرك، الم تعتد تمتلك ذرة من ضمير؟، هذه زوجتك و تلك هي معركتك وحدك، فلا تقحم أحدا بها).
هتف جاسر بقوة، متحركا للأمام وهو على ما يبدو قد اتخذ قراره بفهم كل كلام عمر من ما قبل النهاية كالمعتاد (سأدخل و أحضرها، وحدي، فتلك هي معركتي)
هتف عمر وهو يرفع رأسه للسماء بغضب و نفاذ صبر (؛ يا صبر أيوووووب، توقف يا بني آدم و لا تضطرني للتغابي عليك).
توقف جاسر بالفعل، لكن توقفه جعل عمر ينظر اليه و يعقد حاجبيه بقلق وهو يراه يكاد يترنح قليلا، واضعا يده على صدره، فتمسك به عمر قائلا بقلق (ماذا بك يا جاسر؟، هل أنت مريض؟)
قال جاسر بصوتٍ مجهد (لا، أنا بخير، يجب أن أدخل اليها)
ثم رفع عينيه إلى عيني عمر وهو يعيد بقوة على الرغم من الإجهاد الظاهر على محياه (يجب أن آخذها يا عمر، سأموت و أنا هنا بينما هناك رجلا آخر في غرفتها).
قال عمر يحاول أن يثنيه (انه ابن عمها يا جاسر، و قد تربت في بيته منذ سنين طويلة، فما الذي اختلف الآن؟)
هتف جاسر بغضب و إجهاد (اختلف أنها أصبحت زوجتي، اصبحت زوجتي أنا)
قال عمر بهدوء (و قد كانت زوجتك لأكثر من عشر سنوات، فما الذي اختلف الآن؟)
لم يرد عليه جاسر، للحظات لم يجد ما يرد به، أو لم يجد القدرة على أن يخبره، بأن امتلاكه لها من قبل كان مجرد وهم، كان حبرا على ورقة سهل تمزيقها، أما الآن، الآن…
قال جاسر بصعوبة (يجب أن آخذها يا عمر)
ظل عمر صامتا لعدة لحظات و هو ينظر لجاسر بعجز، ثم قال أخيرا بصوتٍ حاسم (حسنا اليك الخطة، سنبدأ التحرك الآن، لكن وفق شروطي، مفهوم؟، و الا فوالله سأتركك لمصيرك على ارض الزنزانة و في أقل من بضعة شهور ستكون حنين حاصلة على لقب زوجتك السابقة بمنتهى البساطة، و بعدها لن تتمكن من مجرد النظر لحيها و لو من بعيد، فما كنت تمسكه عليها و تذلها به قد انتهى).
حين ظل جاسر صامتا، أكد عليه عمر قائلا (لم أسمع ردك، مفهوم؟)
أومأ جاسر صامتا، فاستقام عمر و أسنده قليلا حتى سيارته وهو يقول بحزم (اجلس في السيارة قليلا، أنا سأدخل، و ليقدم الله ما فيه الخير)
لم يرد جاسر وهو ينظر الى عمر بتجهم، غير أن عمر لمح من بين زاويتي عينيه بعض الأمل، لم يكن ليلاحظه غيره…
فاستقام في وقفته و دعا الله أن يجعل في وجهه القبول، ثم عدل من قميصه البيتي الرياضي قدر المستطاع و أخذ نفسا عميقا، و اتجه إلى عرين الأسد…
لم يعرف حينها بأن عينان زيتونيتان متسعتان، تنظران الىيه من بعيد، وهمسةٍ معذبة كانت قد شقت طريقها من قلبٍ مكدوم لتصعد متسللة من بين شفتين ناعمتين، همستا بالكلمة و هما تتذوقانِ ملوحة الدمعة التي انسابت ما بين زاويتهما، (عمر!).
نزل عاصم على مضض بعد أن أوصى بفتح الباب، والآن يوجد من يسمى بالمهندس عمر و الذي لم يسمع عنه قبلا…
و ما أن وصل إلى البهو حتى انعقد حاجبيه قليلا وهو يرى ذلك الرجل الذي يبتعد عن الأناقة كليا و كأنه أحد المشردين، و الذي ما أن شعر بوجود عاصم حتى رفع رأسه بثقةٍ و هو يقترب ببطء مادا يده مصافحا ليقول بمنتهى العملية، (سيد عاصم، اعذرني على القدوم في مثل هذا الوقت دون انذار سابق، و أعرفك بنفسي أولا، أنا عمر توفيق، مدير الآنسة، السيدة، مدير الزميلة حنين).
لم يمد عاصم يده إلى يد عمر الممدودة للحظات، بينما ارتفع احد حاجبيه بتوجس، و انحدرت عيناه على هيئة ذلك الرجل المشكوك به، و ما وجد أمامه سوى رجل يقترب منه عمرا، غير حليق الذقن، على الأرجح لم يعرف شعره طريق المشط اليوم…
يرتدي بنطال رياضي بيتي، و عليه قميص رياضي بيتي أيضا من لونٍ آخر…
ثم توقفت عيناه و اتسعتا على الخف الجلدي المفتوح الذي ينتعله و الذي يذهب بمثله لصلاة الجمعة…
عاد عاصم لينظر إلى عمر بتوجس و هو يستعد لطرده في أي لحظةٍ ما أن يتحقق من أنه نصاب منتحلا لشخصية غيره…
فتنحنح عمر حين رأى بوضوح تعاقب الاحتمالات فوق ملامح عاصم الغاضبة و المتوجسة خاصة حين نطق اسم حنين، فأدرك للوهلة الأولى أنه ربما كان من الأفضل لو هذب مظهره قليلا…
لكن لم يكن هناك وقت، وهو يعلم جيدا أي تهور من الممكن أن يرتكبه جاسر…
لذا و بما أن ما حدث قد حدث، وها هو الآن في حضرة عاصم رشوان و في موقفٍ مخزٍ تماما، لذا أن أقصر الطرق هو الطريق المستقيم، فقال بهدوء و هو يسحب يده (سيد عاصم، بعد اعتذاري للمرة الثانية، هل يمكن أن أتكلم معك في موضوعٍ هام، و لا يحتمل التأجيل)
نطق عاصم أخيرا بعد صمتٍ مشحونٍ طويل قائلا بنفس مظهر التوجس (هل معك اثبات شخصية؟).
رفع عمر يده يمشط بها شعره الأشعث بتوتر، قبل أن يقول مبتسما بحرج (الحقيقة، لقد كنت في عجلةٍ من أمري، فلم أحضر حافظتي معي، لكني أؤكد لك بأنني مدير حنين الغير مباشر، وهي تعرفني جيدا، لو أحببت أن تسألها، ولو أني أفضل أن نتكلم أولا)
ظل عاصم صامتا طويلا وهو يتمعن في عمر قبل أن يتنازل اخيرا و يقول بمضض مشيرا إلى مكتبه (تفضل).
ما ان جلس عاصم الى كرسي مكتبه، حتى وجد عمر لا يزال واقفا مكانه، فقال بهدوء و ان لم يكن مرحبا تماما (تفضل، اجلس)
لكن عمر لم يتحرك من مكانه فنظر عاصم اليه بتساؤل، ليتابع عمر (قبل أن أجلس أريد منك وعد، وعد بأن تسمعني للنهاية دون أن تقاطعني، و أنا أحكي لك قصة تعارفي بصديق قديم)
شبك عاصم يديه أمام وجهه وهو يرجع ظهره للخلف، و ظل مدققا لعمر فترة طويلة، قبل أن يقول بغموض (لك وعدي، اجلس).
نزلت حنين حافية القديمين و هي تتسلل على درجات السلالم، ما أن سمعت من الممر صوت عاصم وهو يطلب من عمر الدخول إلى مكتبه…
فانتظرت عدة لحظات و لم تقوى على الإطالة عليها فتسللت جريا على السلالم تكاد تلامس الأرض بأصابع قدميها…
حتى الآن لا تصدق بأن عمر هنا، في بيتهاو على بعد عدة خطوات منها…
كانت تظن أنها فقدت القدرة على الحياة، لكن وما أن رأته حتى فقد قلبها أحدى خفقاته، لتضطرب باقي الخفقات و كأنها مجموعة من الأرانب المتقافزة…
نفس ردة الفعل القديمة حين كانت تراه من بعيد، يبدو أن قلبها لازال يحمل قبسٍ من الحياة على الرغم من كل شيء…
كانت قد وصلت إلى باب المكتب، و لحسن الحظ لم يكن هناك أحدا وهي تدير رأسها يمينا و يسارا، حتى و إن تواجد أحد، فلن يمنعها هذا عن سماع صوته ربما للمرة الأخيرة…
مدت يدها لتلامس سطح باب المكتب و هي تقرب أذنها، لتغمض عينيها وهي تسمع صوته الخافت الهادىء الذي عشقته دائما و أبدا…
و صلتها أولى عبراته و هو يقول
و أنا أحكي لك قصة تعارفي بصديق قديم.
و بدأ في حكايته، و مع كل كلمةٍ كانت الدموع تنساب على وجنتيها دون أدنى صوت، اهتزازة جسدها بين حين و آخر…
وهو يحكي عن صديقه الذي يمتلك زوجة بعيدة، كان ينوي الرجوع اليها يوما، لكن ما أوقفه هو دين سيظل قيدا في عنقه تجاه صديقه لآخر العمر…
و هو من كان يحميها و يتأكد من عدم اقتراب ايا كان منها، كان يشعر بالخزي و تأنيب الضمير، لكنه كان متأكدا من أن صديقه يستحق فرصة في استعادة زوجته…
يستحق فرصة في أن تكون متواجدة حين يعود و يبرر نفسه أمامها…
يستحق فرصة في أن يعوضها عن كل ما نالها قديما، سواء ما كان على يدي أهلها و أهله، أو ما نالها على يديه، أو ما نالها بعلمه أو بدونه…
بإختصار، أنه يستحق فرصة أخرى للحياة، فبدونها كان يبدو كالضائع، وقد ضاعت منه طفلة صغيرة منحوها لقب زوجته يوما ما…
وضعت حنين يدها على قلبها المذبوح وهي تنشج و تنتحب، و ما أقسى من أن تكتم صوت نشيجها ليرتد الى أعماقها كسكينٍ بارد يمزق أوصالها…
الآن، الآن فقط يريد أن يبدو بمظهر الضحية، بمظهر البطل المغوار…
ليرسل الإنسان الوحيد الذي عرفت الحب فقط حين عرفته…
ليكون هو دونا عن البشرأجمعين من يدافع عن احقية صديقه في نيل فرصة أخرى للحياة.
رفعت يدها إلى فمها المرتجف بكاءا لتكتم آهٍ تريد أن تخرج من بين شفتيها لتقصف جدران هذا البيت…
ظل عاصم يستمع دون أن يقاطعه ولو بكلمةٍ كما وعده، بملامحٍ حجرية، لم يظهر عليها أي أثر لمشاعر انسانية أو أي تأثر من أي نوع…
فقط عيناه هي التي كانت تضم عمق لا يمكن اختراقه أو الوصول لآخره…
أنهى عمر كلماته دون أي تعبير من عاصم يريح به نفسه…
نظر عمر إلى عاصم بهدوء ثم قال أخيرا (ربما لم يكن من المفترض أن أذكر موضوع السجن هذا، و الآن تحديدا و أنا أحاول أن أقنعك بجاسر و باستعادته لحنين، لكن، اولا أنا أعرف أنك ابن بلد و أنك لو كنت مكانه لتصرفت مثله تماما و هذا هو ما أبعده عن حنين لخمس سنوات إضافية).
رفع عاصم رأسه اخيرا ينظر لعمر بلا أي تعبير غير القسوة الجليدية الواضحة ثم قال بهدوء (تركها على ذمته لعشر سنوات. دون أن يفكر أنه كان من الممكن أن تتزوج غيره، و تريد أن تقنعني به؟)
أخذ عمر نفسا عميقا قبل أن يقول (لقد كان مخطئا وهو يعلم ذلك جيدا، لكن لو كان أخبركم وهو هناك لكنتم حصلتم على حكم بطلاقها بمنتهى البساطة دون أن يجد القدرة على الدفاع عن نفسه أو حتى محاولة استعادتها…
أعرف أنه أخطأ كثيرا، وهو أيضا يعلم، لكن عذره الوحيد انه كان متمسكا بحنين أكثر من أي شيء آخر في حياته، و لم يهرب منها كما كان يظن الجميع)
رد عاصم بصوت جليدي بعد فترة صمت مشحونة (و ما فعله منذ عودته؟، انتهاكه لحرمة بيتي و خطفها غصبا تحت مسمى أنها زوجته، هل هذه هي الطريقة التي من الممكن أن يبدأ بها حياته معها؟، و هل من المفترض أن أرجو منه خيرا الآن؟).
ظل عمر صامتا وهو يحدق في عاصم بثبات، و قد اسقط في يده، فهو محق تماما، لكنه لن يتراجع الآن بعد ان وصل إلى تلك المرحلة و بعد أن جعل عاصم رشوان يسمعه للنهاية دون طرده على الأقل…
و ما أن فتح فمه ليتكلم كان عاصم قد سبقه قائلا بمنتهى الهدوء (سيد عمر، هل لديك شقيقات؟)
توقف عمر قليلا، ثم لم يجد بدا من الإجابة بخفوت (نعم، لدي ثلاث شقيقات).
رفع عاصم حاجبه ليقول (اذن ربما ستكون مفتفهما لحقيقة وضعي الآن، كيف ستكون ردة فعلك حين تتعرض اختك لما تعرضت له حنين، و تكون مجبرا على تقبل يد الشخص الذي انتهك حرمة بيتك صاغرا، راميا بها الى المجهول).
ظل عمر صامتا طويلا و طبعا ظهرت صورة علا الصغيرة أمامه، تماما كما كانت حنين تذكره بها دائما، و ما أن استجمع سيطرته حتى قال (كانت ردة فعلي لتكون مثلك تماما، و أنا أتفهم كل ذلك، لكن فقط، الفرق، ان حنين متزوجة من جاسر منذ عشر سنوات و أنتم رضيتم بذلك، وهو يظن بأنه يستعيد حقه…
ذلك ما لا يمكنني لومه عليه، لقد فرض عليه هذا الطلاق الوهمي وهو في غربته و دون علم منه…
و حين عاد تصرف بكل التصرفات الهوجاء الخاطئة، أنا لا أنكر ذلك، لكن كرجل أعلم بأن استعادته لزوجته كانت مسألة حياة أو موت، و قد أفقدته كل القدرة على التفكير السليم)
حين ظل عاصم صامتا، ظن عمر أن المعجزة أوشكت على التحقق لذا مال على سطح المكتب ليقول بلهفة (فقط أعطه الفرصة ليصحح ما فعل، و مصلحة حنين هي الأهم من كل الإعتبارات حاليا و أنا أعلم أن مصلحتها مع جاسر).
حين تكلم عاصم أخيرا، قال بمتهى الهدوء (سيد عمر، يبدو من منظرك أن شيئا ما قد احضرك على وجه السرعة، دون أن تجد الوقت على الأقل لتهذيب مظهرك من أجل أقناعي بالمستحيل…
لذا، أبسط ما أستطيع تصوره دون الحاجة للذكاء، هو أنه لم يتغير البتة، ولازال يحاول انتهاك حرمة بيتي مجددا، مرة بعد مرة، لكن من حسن حظه و سوء حظي، انه لم يحاول حتى الآن، والا لكنت قد تخلصت منه للأبد…
فقط أردت ان أبين لك أن لا أمل مرجو من هذا الشخص، فأنا أعرفه جيدا و منذ سنوات طويلة…
قضيتك خاسرة يا سيد عمر)
نهض عمر ببطء واضعا يده على سطح المكتب، تنهد بقوة قبل أن يقول بتهذيب (لا، ليست خاسرة بعد يا سيد عاصم، قد تكون معرفتك بجاسر قد امتدت لسنوات طويلة، و مع ذلك فمعرفتي القصيرة به تجعلني أكثر دراية به منك…
القضية ليست خاسرة بعد، و أنا لن أيأس، لقد اسرني بجميله من قبل، و لن يهدأ لي بال حتى ارد اليه جميله، ودون المساس بحرمة بيتك.
و أعدك، أنه في اليوم الذي ستضع حنين يدها في يد جاسر، ستكون أنت من سيسلمها له على مرآى من العالم كله، بعد اذنك و آسف على أخذ الكثير من وقتك).
لكن قبل ان يتحرك عمر كان عاصم يقول من مقعده دون أن يتحرك أو يقف (بالمناسبة، و بما أنني لست من مستواه المتدني، لذا وجب عليك بأن أطلعك على شيء، أي شخص في مكاني كان ليخفيه متعمدا، لكن و بما أنني اعلى منه و أكثر شرفا، بإمكانك أن تخبره بأن حنين تنتظر طفلا منه، و ذلك لن يغير في الأمر شيء، شرفت يا سيد عمر).
كانت العينان الزيتونيتان متسعتان من خلف الباب، و اليد الصغيرة تكمم الفم المرتجف بينما الدموع تنساب على تلك الكف لتروي بشرتها و تحرقها، و كأنها نارا ذائبة…
أخبره، أخبر عمر بأنني.!، أخبره.
و لم تدري الا وهي تستدير لتجري بكل قوتها لتهرب من كل الدنيا بكل قسوتها، لتهرب لغرفتها و تدفن نفسها فيها للأبد…
وقف جاسر بصعوبةٍ ما أن شاهد عمر مقبلا عليه، لكنه استطاع التحرك على الرغم ما يشعر به من إجهاد، و ما أن وقف أمامه حتى لم يستبشر من وجه عمر المتجهم…
فظهرت في لحظة علامات الغضب على وجهه وهو يعلم بأن مصير خطة عمر كانت الفشل قبل حتى أن تبدأ…
لكن قبل أن يفتح فمه أو ينطق بكل الحماقة التي ينتويها، كان عمر قد سبقه وهو يضربه بخفةٍ في كتفه قائلا بهدوء دون أن يفقد وجهه علامات تجهمه (مبارك لك يا أحمق).
اتسعت عينا جاسر بذهول وهو لا يستوعب للحظات تلك الكلمة الغريبة على مسامعه، هل هذا صحيح؟، عاصم رشوان وافق على أن يمنحه حنين بمثل هذه البساطة؟
هل من الممكن أن يطول به الحلم ليمتد و يتصل بالواقع فيجد نفسه مغادرا هذا المكان و في يده تقبع كف حنين الصغيرة!، الليلة؟، الليلة سيرحل بها من هنا عائدا بها الى أحضانه؟، الآن!
لكن عمر تابع كلامه بهدوء (ستصبح أبا).
توقفت أحلامه، وإن كان لم يستوعب عبارة التهنئة الأولى أولا، فهو بالتأكيد الآن لم يستوعب حرفا مما نطق به عمر للتو و كأنه يهذي أو ينطق بلغةٍ غريبةٍ عليه…
فعقد حاجبيه و همس مستفهما بذهول (م، ماذا، تقصد؟)
مد عمر يديه بإستسلام وهو يقول بجفاء (وهل هناك أي شرح أو توضيح آخر؟، حنين حامل أيها الدنيء).
ازداد انعقاد حاجبيه بعدم فهم، بينما انسلت منه ضحكة صغيرة مذهولة تؤكد استيعابه، لكن تلك الإنطباعات المذهولة و الغير مستوعبة لم تلبث أن تحولت فجأة الى انطباع واحد وهو الألم، و رفع يده ليضعها على صدره مجددا…
حينها أدرك عمر أن هناك خطبا ما، فأسرع ليسند جاسر وهو يهتف بلهفة (جاسر ماذا بك؟، جاسر)
استطاع جاسر النطق أخيرا بصعوبة (أشعر بألم في صدري يا عمر، ألم شديد).
فهتف عمر وهو يحاول الإتجاه به إلى السيارة (سنذهب إلى المشفى حالا)
لكن جاسر حاول المقاومة وهو يلهث بصعوبة (لا، مستحيل، لن أترك حنين الا وهي بين يدي، لن أرحل من هنا الا وهي معي يا عمر. أتفهم، مستحيل أن يمنعوها عني بعد الآن)
أمسكه عمر و أدخله السيارة بالقوة وهو يقول بحزم، (لن يفيد وقوفك هنا الأمر شيئا، سنذهب للمشفى حالا ولو اضررت لحملك فوق كتفي حملا. ).
كان جاسر على وشك الأعتراض و المقاومة لولا أن هاجمته نوبة ألم مفاجئة مجددا و تصببت جبهته عرقا، حينها كان عمر قد انطلق بالسيارة بسرعةٍ وهو ينظر الى جاسر الذي استسلم مسندا رأسه للخلف…
مغمضا عينيه بألم…
بعد ساعتين كان جاسر يرقد في فراش المشفى و قد هدأت آلامه قليلا. فأغمض عينيه ليستريح عله يجد الراحة بالفعل لقلبه المجهد، و ما أن انتهى الطبيب من قياس نبضه حتى توجه بالكلام الى عمر قائلا بهدوء حذر (حسنا، من رسم القلب الذي أجريناه، اخشى أن هناك بعض المؤشرات التي تقلقني، هي لن تكون خطيرة اذا اتبع التعليمات المطلوبة، لكن التهاون فيها قد يؤدي حينها الى منطقة خطرة، وهذا ما اخشاه).
كان عمر يقف مكتفا ذراعيه بتوتر ينبض من كل خلية من خلايا وجهه…
و ما أن انصرف الطبيب حتى اقترب من جاسر الذي لم يفتح عينيه بعد بينما شحوب وجهه قد تزايد بدرجةٍ غريبة و كأنه قد كبر في العمر عشر سنواتٍ إضافية…
انحنى عمر ليربت على كتفه برفق وهو يقول بحزن (و ماذا بعد يا جاسر؟، لماذا تفعل بنفسك كل ذلك؟، انك تقتل نفسك حيا، ربما إن هدأت و أعطيت نفسك فرصة لإرتحت و أرحتها معك، انت لم تعد صغيرا على مثل تلك التصرفات، خاصة و قلبك المجهد الآن بدأ يعطي اشاراته).
لم يرد جاسر لفترةٍ طويلة، حتى ظن عمر أنه قد نام من انتظام أنفاسه، لكن بعد فترةٍ تكلم أخيرا بصوتٍ متعب النبرات (نعم، لقد بدأ يعطي اشاراته، و يخبرني بما يريده، فإما أن أحقق له طلبه، و إما أن يقرر وضع حد لحياتي بدونها، بدونهما).
لم يفهم عمر تماما ما كان جاسر يتفوه به، فقد بدا و كأنه يهذي، و ما أن زاد قلق عمر و تضاعف حتى فتح جاسر عينيه اللتين ناقضت عزيمتهما شحوب و ضعف ملامحه وهو يقول بحزم (يجب أن أسترد زوجتي و ابني يا عمر، حتى لو كلفني ذلك حياتي).
ظل عمر ينظر اليه مندهشا لعدة لحظات ثم لم يلبث أن ابتسم على الرغم من خوفه الذي كاد يتحول لرعب من هول الساعتين الماضيتين، و قال مبتسما بعطفٍ ساخر (هل اختزلت الأشهر و جعلته صبيا أيضا؟)
ابتسم جاسر بضعف وهو يرجع رأسه للخلف محدقا في سقف الغرفة و كأنه يرى صورا متلاحقة أمامه، ثم همس أخيرا ضاحكا بشرود (قلبي يحدثني بأنه صبي، سيرث عيني أمه، ليسحر بهما الفتيات).
ضحك عمر برفق وهو يقول مندهشا (هل جاسر هو من أسمعه، يكاد يلقي على مسامعي قصائد في الغزل؟، لا أصدق أذني يا عم العاشقين)
اختفت ابتسامة جاسر و نظر إلى عمر بطرف عينيه ليقول بضيق (حقا يا عمر أنت لا مكان لك حاليا في مثل هذا الموقف، لكن دائما ما تحشر أنفك في أدق مواقف حياتي)
امتعض عمر وهو يمنع نفسه عن تذكيره بصوته الصارخ بغباء في الهاتف وهو يستنجد به ليمنعه عن أي تهور جديد سيرتكبه كما يفعل دائما…
قال جاسر بعدها و قد فقد سعادته كليا (لن أرتاح الا وهي تحت سقف بيتي، ماذا سيفعلون بها الآن بعد أن علموا بحملها؟)
قال عمر مهدئا (لا تخف يا جاسر، لو كان أهلها ينوون التخلص من الجنين لما كان عاصم رشوان أطلعني على حملها لأخبرك به و هو يذكر بأنه يفعل ذلك مكرها).
انتفض قلب جاسر رغما عنه حين سمع عبارة التخلص من الجنين و التي بدت كلكمة له، أي صلة تلك التي تصله بها بكل جنون لتمتد منها إلى ابنه في أحشائها و الذي سيربطها به للأبد، كم هو القدر كريم معه!..
قال جاسر بخشونة (لكني لن أنتظر و أجازف بتركها هناك لفترة أطول).
اخذ عمر نفسا طويلا و انحنى إلى جاسر مرة أخرى ليقول بلهجةٍ جادة و صوت يبدو عليه الأهمية (إن أردت الحق، لقد شعرت من لهجة عاصم رشوان بأنه يريد أن يحل الموضوع حفاظا على سمعة حنين، خاصة و هي تحمل ابنك الآن، لكن كرامته هي التي تجعله يكابر، لذا فقط يحتاج بعض الوقت ليأقلم مع الأمور، و تخيل حينها. ستأخذ حنين في العلن و برضاء أبناء عمها، لترد لها كرامتها أمام الجميع، بدلا من أن تتهور الآن دون جدوى).
عقد جاسر حاجبيه و هو يبدو و كأنه يقلب الأمور في رأسه، بينما كان عمر يفكر في أن العكس تماما هو الواقع. فلم يخبر جاسر بأنه خرج شبه مطرودا من بيت رشوان، و أن الطريق لا يزال طويلا جدا لنيل رضا عاصم رشوان، و الأهم أن الطريق أطول لنيل رضا حنين نفسها…
كم تتمنى أن تهتدي بمعرفة ما يؤرقها، و معرفة ما يشغل باله، لعلها ترتاح حينها.
ليس هو زوجها أبدا، و الذي تحفظ تفاصيل عن ظهر قلب، لكن، هل فعلا تعرفه أم كانت تخدع نفسها بمعرفة من أحبته فقط، دون أن تهتم بمعرفة ذلك الأنسان الذي لم تطل معرفتها به سوى سنوات قليلة…
كانت صلتها به خلالها لا تتعدى ربع المدة أو أقل…
لماذا الآن ترفض السعادة طرق بابها بعد أن نالت حياتها معه من جديد؟، لكن هل نالتها بالفعل؟ أم هو مجرد وهم؟..
ارهفت السمع الى أن اطمئنت لصوت جريان الماء في الحمام آخر الممر خارج الغرفة، حينها بدأت خطواتها الخفية و هي تتنقل ما بين أغراضه التي وضعها بإهمال فوق طاولة الزينة…
ففتحت محفظته و هي تتطالع ما بها من نقود و أوراق و كروت، فلم تجد اي شيء مريب، ماذا ستجد؟، هي لا تعلم، لا تعلم عما تبحث تحديدا…
لكن رادار الزوجة بداخلها ينبض بقياساتٍ مرعبة…
تركت المحفظة و هي تزفر بغضب، قبل أن تنتقل للحل الأكبر أملا، هاتفه…
ودون تردد أمسكت الهاتف وهي ترفع نظرها للباب بين كل لحظةٍ و أخرى، خوفا، بل رعبا من أن يراها نادر فيعلم أنها تبحث في أغراضه الخاصة دون علمه…
لكن ذلك لم يمنعها من المتابعة و هي تقلب بين الأرقام المتراصة أمامها، معظمها تحت القاب اطباء، لا شيء مريب، و بعض الارقام التي لا تحمل اسماء، متناثرة بعفويةٍ بين الأيام…
أخذت تقارن بينها، الى أن وجدت رقم بينهم يتكرر تقريبا كل يوم، و منذ فترة قصيرة و هذا الرقم يطلب هاتف نادر بكثرةٍ مبالغ فيها، تقريبا ستكون عدة مرات في اليوم الواحدى…
عقدت حور حاجبيها و هي تشعر بعدم ارتياح لهذا الرقم، كثرة طلبه لنادر في مدة قصيرة غير مريح…
بينما نادر لم يطلبه ابدا حتى الآن…
هل يكون مريضا من مرضاه يهاتفه في الفترة الماضية؟، لكن بمثل تلك الكثافة؟..
انتقلت عابسة الى الرسائل، و كانت كلها رسائل مهنية عادية، الا إنها وجدت عدة رسائل من نفس الرقم. ففتحتها دون تردد و قلبها متوجس…
عبست حور اكثر من محتوى تلك الرسائل التي بدت فيها إلحاح لكن دون خصوصية، (هاتفتك لكنك كنت مشغول، هاتفني ضروري، هل أستطيع أن أطلبك الآن، أين أنت حاليا).
و رسائل من هذا القبيل، لا تدل سوى على لجاجة مرسلها، لكن دون رد من نادر! و هذا تحديدا ما أثار قلقها أكثر، فلو كان حالة مرضية من حالاته فلماذا لا يرد على المرسل…
وإن كانت مجرد معاكسات فلماذا لم يضع حدا للأمر و هو يرى تلك الرسائل منذ فترة كافية ليمل الأمر!..
أخفضت حور الهاتف وهي تنظر لصورتها المواجهة في المرآة، و تعجبت من منظرها اللاهث ووجهها العابس الذي يبدو و كأنه يتآكل قلقا…
حاولت المقاومة، و حاولت التجاهل، الا أن غزيرتها كانت أقوى منها. و دون ان تفكر طويلا كانت تسرع بطلب الرقم لتضع الهاتف على أذنها. و اسنانها تحفر بقلق في شفتها السفلى…
لكنها لم تنتظر لينهشها القلق طويلا، فبعد رنتين فقط، كان الصوت الناعم ذو النبرات الرقيقة يصلها بلهفةٍ طعنت روحها بخنجرٍ مسمم، (أخيرا اتصلت!)
شهقت حور عاليا، الا أن يدها أسرعت لتكتم الشهقة بقوةٍ كي لا تصل إلى مسامع صاحبة الصوت الحريري، لم تصدق. لا، لابد أنه سوء تفاهم و أن زوجها ليس المقصود أبدا…
لكن الصوت الناعم بدا و كأنه قد قرأ أفكارها بكل سهولة و قرر أن يسخر منها و هو يشدو بكلمةٍ ناعمةٍ واحدة بها التساؤل و الحيرة (نادر؟)
دون أن تدري حور ما تفعله أسرعت يدها بالتنفيذ وهي تغلق الهاتف لتضعه مكانه بقوة ثم تبتعد ناظرة اليه بذهول و كأنه كائن مخيف على وشك أن يلدغها…
انتفضت حور وهي تسمع صوت قفل باب الحمام واضحا في هذا الوقت من الليل الهادىء، ليتبعه صوت خطوات نادر المتزنة، فرفعت نظرها إلى إطار الباب لتجده واقفا ينظر اليها بحيرة، عاقدا حاجبيه، وهو يناديها بخفوت و قلق (حووور؟، ماذا بكِ؟)
لم ترد حور و قد تجمدت عيناها على عينيه باتساع خفيف، فاقترب منها نادر حتى أمسك بكتفيها برقةٍ وهو يرفع ذقنها اليه معاودا سؤالها (حوور، هل أنتِ مريضة؟، هل هناك مايؤلمك؟).
نعم، نعم هناك ما يؤلمنى، فكرت بهوس.
هيا اصرخي، اصرخي به وواجهيه بما سمعتِ للتو، مابك ساكنة و الكلمات لا تستطيع عبور حلقك، حتى الدموع و هيستيريا البكاء المعهودة قد تراجعت و حل محلها اتساع عينيها المحدقتين بعينيه القلقتين الحائرتين…
مد كلتا كفيه حين طال صمتها فأحاط بهما وجهها مبعدا شعرها الكثيف عنه وهو يرفعه أكثر اليه لعله يعرف سبب ملامح الصدمة المرتسمة على وجهها تلك فقال عابسا بخفوت (تكلمي يا حوور، على الأقل أخبريني بما يؤلمك)
فتحت شفتيها المرتجفتين قليلا لتهمس بشيء ما. الا أنها عادت و أغلقتهما من جديد مما اضطره لأن يخفض رأسه لشفتيها هامسا (ماذا قلتِ؟).
هزت رأسها نفيا و هي لا تعلم ما هو ذلك الشيء الذي تنفيه، ثم حين وجدت صوتها أخيرا همست باختناق و بدون تركيز تقريبا (لا، شيء، أنا متعبة قليلا)
فقال وهو يقربها منه أكثر (بم تشعرين؟)
هزت كتفيها و ابتلعت ريقها ثم همست تكاد أن تختنق بكلماتها (مجرد أمور نسائية، لا تشغل بالك)
ابتسم نادر وهو يقربها لصدره قائلا برفق (هل تخجلين مني؟).
لم ترد حور وهي تدفن وجهها بكتفه، مفكرة هل كان في سؤاله سخريةٍ و استهزاء؟، هل منحته الكثير و أكثر مما ينبغي إلى هذه الدرجة؟..
لدرجة أن ينهل من كل ما منحته ثم يتجه بعدها لغيرها؟..
دائما ما كانت تغير عليه في كل نظرة و كل التفاتة من التفاتاته. حتى أنها أوشكت على قتل حنين ذات يوم حين سمعت نادر وهو يمدحها معجبا بطريقها الخاص الذي تشقه على الرغم من ظروفها المعنوية الصعبة. إن لم تكن مادية…
لكنها و على الرغم من كل تلك الغيرة الخانقة، الا أنها لم تشك به يوما، ابدا لم تفقد الثقة به…
لم تتخيل يوما أن المشكلة بينهما تكمن في وجود امرأة أخرى…
حتى غيرتها من حنين، كانت من أجل احساسها المحرق باعجاب نادر بشخصية حنين و قوتها و مساندتها لزوجة عمها دائما دون أن تفكر بمصلحتها الشخصية…
كانت غيرة على أساس أن نادر يرى صفات محمودة في امرأة غيرها، و ليس بها هي، بل على العكس، كان دائما ما يرى عيوبها بكل وضوح…
لكن أن تشك به و بإخلاصه؟، أبدا لم يحدث ذلك، و لم تتخيل حدوثه يوما…
آآآآآه صرخت بداخلها بقوةٍ و أغمضت عينيها بشدة تعصرهما عصرا لتمنع بكائها العنيف، الا أن الصرخة أبت أن تختفي فأفلتت منها كتأوه مختنق…
فما كان من نادر الا أن رفع رأسه مقطبا وهو ينظر اليها بقلق ليقول (لهذه الدرجة؟، أخبريني يا حور عما يؤلمك)
ابتلعت ريقها و رمشت بعينيها عدة مرات قبل أن تبتسم باهتزاز و تهمس (لا شيء، صدقني، لا، شيء، أريد فقط أن أنام)
و دون أن تسمع منه إجابة كانت قد اتجهت الى السرير لتدفن نفسها تحت الغطاء مديرة ظهرها الى جانبه تكاد ترتجف من هول ما سمعته على هاتفه و الذي لم يتعد ثلاث كلمات، بصوتٍ خلاب…
شعرت بضوء الغرفة يختفي من امام جفنيها المطبقين، و ما هي الا لحظات حتى التفت ذراعاه من حولها يضمها لصدره، فازداد انطباق جفنيها، و ما أن شعرت بشفتيه على عنقها حتى صرخت بتوتر (لا أريد الليلة يا نادر).
شعرت بكل عضلاته تتصلب و أنفاسه تتوتر فوق رقبتها، و ساد صمت كئيب بينهما فأغمضت عينيها تمنع دموعها، الى أن سمعت صوته يأتيها صلبا فاقدا الحنان الذي كان منذ لحظات (لم أكن أنوي أن أفعل شيئا و أنتِ متعبة، كنت فقط أساعدك على النوم، تصبحين على خير).
ثم دون كلمة أخرى تركها ليستدير مبتعدا عنها. مستلقيا على ظهره وهو يرفع ذراعه فوق عينيه لينام ببساطة، تاركا إياها تبكي بصمت، و كل دمعة صامتة كانت تذبحها قهرا، بينما بإمكانها أن تصرخ الآن قاذفة بحمم غضبها و عذابها في وجهه، لكن شيئا ما جعلها تصبر، فلتصبر قليلا فقط، و عليها الآن أن تتعامل مع ذلك العذاب وحدها…
رفع نادر جهاز الضغط عن ذراع مريضته المتقدمة في السن الجالسة في فراشها، و أزال السماعة من أذنيه وهو ينظر اليها مبتسما
ثم قال أخيرا برفق (حسنا يا منيرة، أنتِ تتدللين كثيرا و ضغطك لا يعجبني، لقد عدت لكل الأطعمة التي منعتك عنها سابقا اليس كذلك؟).
نظرت اليه المرأة المسنة و هي تبتسم حتى تشقق وجهها بفعل التجاعيد، لتقول بدلال (و كيف تجرؤ يا ولد على أن تحاسبني بينما لم تأتي لزيارتي منذ عام تقريبا؟، هل هانت العشرة عليك يا نادر؟)
ظل نادر مبتسما بهدوء ثم قال بلطف (الحياة ألهتني يا منيرة صدقا، لكنني كنت أطمئن عليكِ من زميلي باستمرار و كنت أعلم اولا بأول بكل تجاوزاتك في التعليمات التي وضعتها لكِ).
تذمرت منيرة و برمت شفتيها و هي تقول بغضب (هكذا فقط؟، تريد الإمضاء على التعليمات كما تمضي على روشتات باقي مرضاك؟، بعد أن تعودت عليك و تمكنت من قلبي؟)
ضحك نادر بخفة واقترب منها هامسا بمزاح (كفى كلامك هذا يا منيرة، من يسمعك ماذا سيظن بنا؟)
ضحكت بخفة وهي تقول بقوة (و إن يكن، فليسمع من يسمع، أنت دائما كنت حبيبي و ستظل، أخبرني اذن عما ألهاك عني كل تلك الفترة؟ لم يكن عملك ليلهيك عني أبدا).
و ضع نادر جهازه بحقيبته مبتسما صامتا، ثم قال أخيرا بهدوء و لطف (انشغلت بابني الفترة الماضية، فقد اصبح كل حياتي، كلما كان يتوفر لي بعض الوقت كنت أخصصه له)
اتسعت ابتسامة منيرة و برقت عيناها بلهفةٍ وهي تقول (و كم أصبح عمره حاليا؟، هل يشبهك؟)
ابتسم نادر و قد بان الحب جليا في عينيه وهو يقول برقة (انه في الرابعة، وهو جميل بدرجة لا توصف، انه في الحقيقة يشبه أمه أكثر مما يشبهني).
صوت قرقعة قاطع كلامه، فأطلت منيرة من خلف كتفيه و هي تقول مبتسمة (تعالي يا سلمى)
حين استدار نادر اليها، كانت قد عدلت نظرتها من وجعٍ ذائب في بركتي عينيها العسليتين، و بلمح البصر اصبحتا ناعمتين مبتسمتين وهي تدخل حاملة الصينية و عليها كوب الشاي الفخاري، نفس الكوب الذي كان يحبه و ينظر اليه ضاحكا منذ سنوات…
و لم يخف على نادر ذكراه وهو يتطلع اليه و كأنه يتطلع لصديق قديم، لكنه تجنب قصدا التطلع إلى صاحبة الكوب، وهو يتناوله شاكرا بخفوت…
ردت سلمى بصوتها الشجي (كوبك الفخاري موجود دائما، أحافظ عليه بحياتي كي لا ينكسر)
ارتشف نادر رشفة منه و هو يكتم تنهيدة مكبوتة، ثم تمكن أخيرا من الرد بصوته الهادىء (انه كوبك أنتِ يا سلمى).
ابتلعت تجاهله المتعمد لتقول مبتسمة على الرغم من قلبها النازف (و كنت تقول أنه يشبهني، لذا كنت تحبه، أنسيت ذلك أيضا؟)
نهض نادر من مكانه واضعا الكوب على الطاولة الجانبية، لينظر الى منيرة مبتسما وهو يقول (لقد تأخرت جدا يا منيرة، لقد خرجت من عملي خصيصا لكي أراكِ فتوقفي عن تصرفاتك اللامبالية و التزمي بتعليماتي، و إن كنتِ طيبة فسأتي لزيارتك كلما استطعت).
ضحكت منيرة وهي ترجع رأسها للخلف بجفنين ناعسين يكادان أن ينطبقا و هي تقول بسعادة (لولا أنني على وشك السقوط في احدى غيبوبات نومي لكنت تشبثت بك لتطعمني بنفسك كما كنت تفعل دائما، و أنا لا أريدك أن تراني و قد نمت أمامك تاركة فمي مفتوحا)
ضحك نادر برقة وهو ينحنى ليربت على كتفها قائلا (أنت جميلة في كل الأحوال، هيا اغمضي غينيك و توقفي عن مقاومة النوم).
لم تستطع منيرة الصمود طويلا قبل أن تغمض عينيها و تنام في لحظة واحدة، حينها خرج نادر متجاوزا سلمى. لكنها كانت قد لحقت به و نادت عليه و كأن صوتها لا يتجاوز الهمس كما هو دائما (نادر)
توقف مكانه قليلا ثم التفت اليها، ناظرا لعينيها دون أن يقوى على منع نفسه، يوم ما فيما مضى، كانت هاتين العينين هما مبلغ عشقه، كان يحب النظر اليهما طويلا ليغرق في رقتهما، لها رقة لم يرها في امرأةٍ غيرها أبدا…
كانت كل حياته و كان على استعدادٍ تام لمنحها تلك الحياة و بكل طيب خاطر…
بادرت سلمى و نطقت همسا بصوتها المهلك في عذوبته (لماذا لم ترد عليا بالأمس؟)
تنهد نادر بقوةٍ قبل أن يقول بحزم رغم نبضاته التي لا يستطيع تفسيرها تماما، (سلمى، أعتقد أنه ليس من المناسب أن تهاتفيني مجددا، أنا، أحاول إنجاح زواجي من جديد).
اقتربت منه خطوة وهي تهمس بعذاب (تحاول؟، لم تكن يوما تحتاج لتلك المحاولة معي، كنت تحبني مرارا، أتتذكر ذلك؟، كنت دائما تخبرني بأنك لم تحبني مرة واحدة، بل تحبني كل مرةٍ أقوى من سابقتها، كنت دائما ما تقول أنك فقدت عدد المرات التي أحببتني فيها، هل نسيت يا نادر؟).
نظر نادر لعينيها مجددا ثم قال هامسا وهو يشعر بذكرياتٍ بعيدة تتقافز إلى روحه تكاد أن تضعفه مجددا (لم أنسى، لكنه أصبح من الماضى، و يجب أن تكون مجرد ذكرى لنا ليس أكثر)
رغما عنها دمعت عيناها بقهر و هي تهتف غضبا مبعثه ألمها (و مادامت ذكرى اذن لماذا هاتفتني بالأمس؟، و حين سمعت صوتي فقدت قدرتك على النطق بكلمة و خانتك شجاعتك، لانك تعرف نفسك ضعيفا غير منيعا امامي، لا تخدع نفسك و تعذبنا سويا).
لكن عقل نادر كان قد توقف عند نقطة واحدة لم يتجاوزها فقال حائرا عاقدا حاجبيه (أنا لم أهاتفك بالأمس؟)
مسحت دمعتها بقوةٍ و غضب و هي تقول مشددة على كل حرف (بلى كلمتني، رقمك مسجلا عندي بالأمس يا نادر، أتظنني أنني سأترك الأمر يمر كأنني لم ألحظ؟)
قال نادر باستنكار (أنا لم)
ثم توقف عن الكلام وهو يقول بتوتر (في أي ساعةٍ وجدتِ إتصالا مني؟).
و حين ردت عليه بخفوت لم يكن من الصعب إدراك أنه نفس الوقت حيث وجد حور بحالتها الغريبة ليلة أمس…
تشنج مكانه تماما و نوبة غريبة من البرد و التوتر غلفت كيانه دون أن يعرف لها سببا…
و كأنه خوف غريزي لم يعرفه من قبل، خوفا من أن تكون حور قد سمعت بالفعل صوت سلمى…
لقد أغضبها كثيرا من قبل، فعل بها الكثير دون ندم. لأن ما ناله منها كان أكثر…
لكن خوفه من معرفتها بوجود سلمى هو الامر الجديد عليه، لم يكن ذلك عقابا كأيٍ من عقاباته السابقة لها، بل سيكون طعنة غدر لها، لأم ابنه، لحوور…
أفاق نادر من شروده وهو يتجه سريعا إلى الباب بعنف قائلا بحزم (أنا راحل يا سلمى)
و أيا من ندائاتها له لم تنجح في ايقافه وهو ينزل الدرج مندفعا، و كل فكره مشغول بشيءٍ واحد…
حوور، سيذهب اليها، ربما سيعنفها بقوةٍ على تفتيشها المؤذي لكرامته و رجولته، سيصرخ بها و يتوعد أن يريها الويل ان كررت فعلتها مجددا…
سيفعل و يفعل، المهم هو أن يمحو صوت سلمى من اذنها…
توقف نادر امام باب سيارته، ثم استند بكفيه إلى سقف السيارة مخفضا رأسه وهو يلهث…
لكن لماذا لم تقل شيئا؟، ليس ذلك طبع حور التي تثور على اتفه الأسباب لتحيل حياته الى جحيم…
فكيف سكتت و تجاهلت الأمر؟، هل هو غير مهم لها؟، ليس في مثل أهمية الأمور التافهة التي كانت تفجر غضبها سابقا؟..
أم أن الأمر مجرد وهو وحور لم تتصل بسلمى أبدا؟..
اسم سلمى ليس مسجلا لديه، فلماذا تشك في رقم غريب و تطلبه ليلا؟..
احتمال أن الأمر مجرد سوء تفاهم، و فضحه الآن سيدمر أقل القليل مما بينهما و ما يحاولان انجاحه…
نعم هو على الأغلب سوء تفاهم، لكن ما لا يعرفه هو سبب تسارع دقات قلبه و التي أصبحت أسرع منها حين رأى سلمى مجددا…
ينظر اليها وهي تتجول أمامه جيئة و ذهابا، يتشرب كل تفصيلةٍ دقيقة بها، تتكلم في الهاتف و هي تومىء برأسها بين حين و آخر…
تحرك يدها الحرة أثناء التحدث…
انعقاد حاجبيها الطفوليين و اللذين يمنحانها مظهر قوة الشخصية و الصلابة…
وشاحها الملتف حول رأسها بنعومة مرتخية، مما حال دون حجب خصلة عسلية على جانب وجهها الوردي…
انحناءة ثغرها الحازمة، و التي تغيظه بذلك الحزم حين يتذكر مذاقهما جيدا…
كل ما بها يشع بروح مشاكسة تثير روحه دائما، منذ أن رآها للمرة الأولى و سكنت قلبه من يومها…
جالسا على أرجوحتهما المفضلة فوق سطح البيت المظلل بالسقيفة الخشبية.
. وقت الغروب (وقتهما الدافىء الخاص).
كما تحب أن تسميه، و الذي لم يخلفاه مرة منذ أول مرةٍ جلس بجوارها على تلك الأرجوحة ليقنعها بالزواج منه…
يومها كانت قد خلبت لبه بجمالها، تماما كما تخلبه الآن…
الا أن شعورا بالغضب الحارق و الغيرة الجامحة يقتله، وهو يجمع كل ذرة من سيطرته على نفسه كي يمنع طفو تلك الغيرة على سطح ملامحه، مهدئا نفسه بأن هناك أمور أهم من تلك الغيرة حاليا توجب عليه أن يجلس متظاهرا بالهدوء بينما هي، تحدث غيره منذ أكثر من عشرين دقيقة…
عشرين دقيقة وهو يتلوى بداخله على صفيحٍ ساخن وهو يراها تشرح بهدوء، ثم تحتد و تدافع و كأنها في أروقة المحاكم، الى أن تضحك بخفةٍ مجاملة طاعنة كرامته و رجولته، فتجعله يود لو ينهض ليضربها ضربا لم تذقه من قبل، حينها ستعرف كيف تجيد التصرف و كيف تمتنع عن الضحك تماما مع غيره، حتى ولو كانت ضحكة مجاملة رقيقة، آآآه من تلك الرقة المختلطة بقوة شخصيتها و عندها الغبي…
خليط كخليط العسل و القهوة…
اخيرا ظهر على ملامحها علامات قرب انهاء المكالمة فأنهت كلامها متنهدة برقة وهي تقول (فليقدم الله ما به الخير يا حاتم، حسنا، حاتم، لا أعلم كيف أشكرك، حقا شكراجدا، أنت تتحمل معي الكثير، لا بأس، لن أعيدها مجددا، فقط أردت أن شكرك، حسنا، السلام عليكم و رحمة الله)
وضعت هاتفها على الطاولة، و اقتربت بسرعة منه لتجلس على الأرجوحة فاهتزت بهما بنعومة وهي تهمس مبتسمة (لقد تأخرت عليك، لقد أوشك وقتنا على الإنتهاء).
عقد عاصم حاجبيه ليقول بصوت خافت لكن به توتر غامض (لا تقولي تلك الجملة مجددا، لا أحب سماعها)
ابتسمت برقة و مداعبة وهي تمد اصبعها لتداعب تلك التكشيرة بين حاجبيه حتى ارتخت وهي تهمس بنعومة (توقف عن القلق الغير مبرر ذلك، حفظك الله لي يا عاصم و جعل يومي قبل يومك، هكذا كانت تقول أمي لأبي دائما)
هتف عاصم بقوة (اصمتي يا صبا، اصمتي، لا اريدك أن تتحدثي بهذا الشكل).
ابتسمت وهي تقول بوداعة (لا مهرب من ساعة القدر يا عاصم، أتعلم، حين توفت أمي ظن والدي أنه سيموت بعدها خلال أيام الا إنه تمكن من الحياة ما تبقى من عمره و مضى في رسالته، كان كلما نجح في تحقيق العدالة يوما، كان يقول أن يومه الذي عاشه بدون أمي لم يذهب هباءا).
ازداد انعقاد حاجبي عاصم و نظر أمامه دون أن يرد عليها، وهو يعلم جيدا أن لو مكروها أصاب صبا فلن يحيا بعدها أبدا و لو قدر الله له الحياة فسيكون حطام رجل، لذا كان ذلك هو نقطة الدفع له ليخمد ضميره الذي يئن خاصة حين سمعها تتلكم عن ذكرى والدها…
التفت أليها أخيرا وهو يقول بلهجةٍ بدت طبيعية (حسنا ألن تخبريني عم كنتما تتحدثان أم أنني لست أهلا لثقتك؟).
تأوهت صبا وهي تقول بنعومة و دلال (توقف عن ذلك يا عاصم، الى متى ستظل تعاقبني؟، كان لي عذري وقتها، ثم أنني طبعا سأخبرك حتى أنني اريد أن آخذ رأيك أيضا).
أخذ عاصم نفسا و هدأ نفسه قبل أن يسمعها تكمل بقلق و اهتمام (بيت والدي، انه مهجور منذ فترة و أنت تعلم أنه العثرة الوحيدة في مشروع سيتكلف المليارات، لأناسٍ لا يرحمون، لذا من السهل جدا أن تحدث اي حركة دنيئة بوضع اليد أو هدم البيت و نحن في غفلها و حينها سيكون على المتضرر أن يلجأ للقضاء، لذا أنا أعيش أسوأ حالة قلق الآن على البيت أكثر بكثير ممن الوقت الذي كنت أعيش فيه).
ابتلع عاصم ريقه منتظرا وهو يومىء برأسه متفهما بينما تابعت صبا تقول (و منذ عدة أيام تفاجأت بحاتم ينبهني لنفس الشيء، و حين وافقته عرض على الحل، الا أنه حل صعب جدا يا عاصم، لكن أنه لا بديل أفضل أمامي)
قال عاصم بصوت باهت دون حياة (وما هو الحل؟)
تنهدت صبا وهي تقول (أن أقسم ملكية البيت بين عدة أفراد أثق بهم، على أن يعيدوه لي وقت أن تنتهي الأزمة)
قال عاصم بنفس الصوت (ومن تستطيعين الثقة فيه لتلك الدرجة؟).
ردت صبا بهدوء (حاتم سيتكفل بالأمر، سيحضر عدة أشخاص يثق بهم، و ما يطمئنني هو أن حصول أي فرد على جزء صغير من ملكية البيت لن ينفعه بشيء لذا لن يستطيع بيعه او التصرف به، لذا من سيفعل ذلك سيفعله مساعدة، ليس أكثر، بالإضافة لأن حاتم أخبرني بأنني سأحصل منهم على أوراق تضمن لي حقي)
رد عاصم بعد عدة لحظات (وهل تثقين في حاتم نفسه لتلك الدرجة؟)
قالت صبا ببساطة (أثق به أكثر من نفسي).
توقفت الجملة بينهما طويلا و كأنها جمدت الهواء برياح جليدية، الى أن تمكن عاصم أخيرا من النطق بصوتٍ لا حياة به (و أنا؟، الا تثقين بي للدرجة التي تجعلك تبيعين البيت لي لأكون أنا في مواجهتهم؟).
توترت صبا و هتفت بسرعة (الأمر ليس كذلك يا عاصم أبدا، أنا أثق بك طبعا، خاصة بعد أن خلصت شراكتك بهذا المشروع، لكن الأمر كله بأنك لا زلت شريكهم في عدة أعمال و التي تتعسر معك حاليا و أنت تخلصها، مما يجعلك في وجه النار و أنا لن أقبل أبدا بذلك، قد يتمكنون من الضغط عليك بشتى الوسائل)
فكر عاصم دون أن يرد عليها.
الا تدرك بأنهم يضغطون عليه الآن بأفظع الوسائل، تذكر جملة وحيدة من اسم تشيب له الأطفال وهو يحدثه محادثة مختصرة (نريد البيت و المستندات يا عاصم و سننسى كل مافات، و لن تخسر أنت شيئا، أما إن عاندت فستخسرها)
أفاق عاصم من شروده على صوت صبا القلق (عاصم، فيم شردت؟)
أخذ عاصم نفسا عميقا، ثم قال بصوتٍ خافت (صلي صلاة استخارة، ثم قرري لكن تذكري شيئا واحدا، أنني دائما موجود بزاوية أراقبك لأحميكِ).
ابتسمت صبا أجمل ابتسامة متسعةٍ رآها من قبل، بينما تلألأت عينيها بأحجارٍ ماسية من الدموع، ثم همست باختناق (هل أخبرتك بأنني أحبك من قبل؟)
رد عاصم بإختناق مماثل (ليس بما يكفي للقادم يا صبا)
رمت صبا نفسها على صدره فتأرجحت بهما الأرجوحة و ضمها هو لقلبه الخافق بعنف تحت شفتيها الهاتفتين (أحبك، احبك، أحبك)
لم يرد عاصم وهو ينظر إلى السماء المظلمة، التي غابت عنها ألوان الغروب تماما…
كانت تصعد درجات السلم الحجري القديم و هي تعي خطواته المخيفة خلفها، السلم يزداد ظلمة و سوادا حتى أنها لم تعد ترى خطوات صعودها فتتعثر على درجاته و تجرح ركبتيها…
ثم تعاود الصعود من جديد، وهي تلتفت اليه بين كل طابق و آخر لتهمس بخوف لهيئته الضخمة المظلمة و التي أخفى الظلام ملامحه عنها تماما فبدا مخيفا بدرجةٍ رهيبة (ألم نصل بعد؟).
ليقول بصوته العميق العابث الذي يشق الظلام و يجعله مرعبا أكثر (ليس بعد، غرفتي فوق، و أنت تعلمين ذلك)
فتعاود الصعود، طابق بعد طابق، و عثرة بعد عثرة، جرح بعد جرح…
الى أن وجدته أمامها فجأة، يفتح لها بابا على ظلمة أكثر سوادا وهو يقول مبتسما بشراسة فبانت أسنانه البيضاء من الظلام، (ادخلي).
و ما أن دخلت حتى التفتت اليه لتسأله شيئا ما لا تتذكره، الا أن ذراعيه أطبقتا خصرها حتى كان أن يقسمها إلى نصفين وهو يدور بها في الظلام و يدور، ضاحكا بوحشية…
بينما هي تصرخ و تصرخ بأن يرحم سنوات عمرها التي لم تتجاوز أربعة عشر…
لكنه لم يسمعها وهو يسقط بها الى هوةٍ سحيقة، ينهل منها ومن كل ذرةٍ من روحها و كيانها قبل جسدها…
إنها تتذكر هذا الموقف تماما، و اطمئنت، فهناك شيءٍ ما سيوقفه، لا تتذكره تحديدا…
لكنه سيتوقف عند نقطةٍ ما…
الا أن الوقت يمر ولم يتوقف، ولم يوقفه شيء، و يديه و شفتيه تنهشانها نهشا…
فبدأت تصرخ من جديد، عاليا، لكن صوتها لا يخرج أبدا، حاولت لكن لا صوت، وهو يتابع ما يفعل دون أن يرحم برائتها، و حين رفعت عينيها المذعورتين إلى عينيه اللتين تحولتا من الشراسة إلى بركتين عميقتي السواد لم تتبينهما جيدا…
شعرت به يضع يده على بطنها ليهمس في اذنها (أنتِ تحملين ابني)
هزت رأسها نفيا بعنف، و حاولت الصراخ مجددا. وهذه المرة نجحت، فخرج صوتها مدويا وهي تنتفض جالسة في سريرها، و العرق يتصبب من جبهتها، حتى التصقت خصلات شعرها بجانبي وجهها الشاحب كالأموات…
لترى أنها لازالت في غرفتها، فهمست دون أن تفيق تماما (لقد كان مجرد كابوس، أنا لا أحمل ابنه، وهو لم ينجح في نيلي أبدا، كان مجرد كابوس).
لكن شيئا ما جعلها تفيق تماما وهي تسمع صوت رسالة على هاتفه الذي قيدها به…
كان الهاتف ينير في الظلام في ذلك الممر الضيق لإطار النافذة، حيث تركته لحظة دخول عاصم لغرفتها، و قد أغلق النافذة و قد عميت عيناه عن رؤية الهاتف…
فنهضت اليه وهو ترتجف رعبا و كأنه وحش على وشكِ التهامها، وحين وجدت الشجاعة فتحت الرسالة لتقرأها بأصابعٍ مرتجفة (أنتِ تحملين ابني، ذلك اختصار لكل ما كان، ودعوة جديدة لتقبل قدرك، قدرك الذي أنصفني أكثر من مرةٍ وهو يحمل لكِ الرسائل عسى أن تفهميها، أنتِ لي يا حنين، و لن تكوني لغيري أبدا، و هناك حياة تنبض في احشائك من دمي، فاقبلي ووفري على المزيد من الحروب، لأنني لن أستسلم).
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)