روايات

رواية بأمر الحب الفصل الخامس عشر 15 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب الفصل الخامس عشر 15 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب البارت الخامس عشر

رواية بأمر الحب الجزء الخامس عشر

بأمر الحب
بأمر الحب

رواية بأمر الحب الحلقة الخامسة عشر

أمسك جاسر بكلتا يديها و نزعهما بقوةٍ عن سترته ثم امسك بكتفيها يجذبها اليه وهو يهدر في وجهها (ولك الجرأة على النطق بعد ما سمعته للتو منك، تحبينه؟، تحبينه و اعترفتى له بذلك؟، سأفسد لك كل لحظة من حياتك بسبب هذا الاعتراف يا حنين، أعدك) صرخت حنين بجنون وهي تضرب صدره بقبضتيها، (أكثر مما أفسدتها؟، أنت مجنون و أنا أكرهك، أنا أكرهك، أنا أكرهك).
جذبها اليه بقوةٍ لينهي صرخاتها بشفتيه المجنونتين بينما أخذت تضربه و تضربه بقبضتيها و ركبتيها الا أنه قضى بقوته على كل مقاومتها، بعد عدة لحظات مت الشغف الغاضب ضمها بذراعه إلى صدره اللاهث و امسك بذقنها يرفع وجهها اليه ليقول بصوت مرعب و عينين تضاهيانه رعبا في الظلام (أنا اعتذرلك، اعتذر عن تركك وحيدة صغيرة في مواجهة الجميع، لكن غير ذلك ليس لك شيا عندي، أنتِ ملكي و هذا غير قابل للنقاش و سأدمر من يجرؤ على الإقتراب من زوجتي، أتفهمين؟).
كانت عيناها متسعتان رعبا و هي تلهث هي الأخرى، أين ضاعت فورة الشجاعة؟، لكن أي شجاعة و هي بمفردها هنا مع ذلك المجنون الذي يبدو على وشكِ افتراسها ثم قتلها و رميها على جانب الطريق، وقد يذهب ليقتل الحقير الآخر صديقه بعد أن يقتلها، و حين وجدها صامتة مذهولة برعب أعاد شادا على ذقنها بقوة (أتفهمين؟، أجيبي).
أومأت برأسها رعبا، حينها أقترب منها ليعيد حرارة اشواقه لكن هذه المرة بأقل عنفا نوعا ما، وأعمق عاطفةكانت حنين ترتجف بين ذراعيه بمشاعر غريبةٍ لم تعرفها الا على يديه، الى أن رن هاتفها فانتفضت بقوةٍ وهي تبتعد عنه بشراسةٍ مرعوبة، فضحك جاسر قليلا على الرغم من عمق العاطفة في عينيه و التي لم يغادرها الغضب بعد، حاولت حنين الوصول إلى هاتفها بشتى الوسائل من بين ذراعيه وهو ينظر اليها متسليا مقيدا حركتها، الى أن استطاعت النظر الى اسم مالك أخيرا، فنظرت إلى جاسر برعب وهي تهمس بترجي (ابتعد، ارجوك ابتعد قليلا، يجب أن أرد، لقد تأخرت في العودة ولا بد أن عمتى ستموت قلقا الآن).
سمح لها جاسر أن ترد على الهاتف بخوف، دون أن يتركها تماما، فقالت حنين بسرعةٍ وهي ترتجف قبل أن يتكلم مالك (نعم يا مالك، أعرف أنني تأخرت أنا آتية حالا) قاطعها مالك ليقول بصوت غريب يحاول التمسك بالهدوء (أين أنتِ الآن يا حنين؟، أنا أعرف أنك مع جاسر) توقف قلب حنين، و اتسعت عيناها برعبٍ أكثر وأكثر، ثم همست ترتجف (م، من؟، ماذا، تقصد؟).
قال مالك وهو يتنهد غاضبا (أين أنتما يا حنين؟، لقد ذهبنا الى الحفل و علمنا أنكِ قد غادرتِ بصحبته) أخذت حنين تشهق شهقات رعبٍ متقطعةٍ صغيرة على هيئة أنفاسٍ قصيرة، ثم همست دون وعي (من، معك؟) رد مالك بإيجاز و اقتضاب (عاصم معي).
ضربت حنين وجنتها بقوةٍ أصدرت صوتا من قوة ضربتها، ولم تستطع النطق، حينها أخذ جاسر الهاتف من يدها دون أن تجد القدرة على الحركة، رد جاسر على الهاتف بهدوء مثير للأعصاب بينما الابتسامة القاسية تلوي شفتيه (حنين بأمانٍ معي، منذ فترةٍ طويلة لم نتكلم، أنا وأنت).
، شدد مالك قبضته على الهاتف وهو يستمع الى الصوت العائد من ذاكرته، كان يسير هائما على وجهه في شارع حارتهم الضيقة ليلا، يبحث عما يجعله يتنفس من جديد، عما يجعله يجد القدرة على نسيان مارآه أمام عينيه. لا تزال أصوات البكاء و النواح تصم اذنيه، لازال السواد يكسو ملابس السيدات المجاملات لعائلة رشيد، لا يزال الحزن يرمي سواده على الجميع، بسببه هو، لأنه فرض في زهرةٍ صغيرة سقطت من بين يديه، لو كانت برفقة أي شخصٍ آخر لكانت الحياة أمامها طويلة بكل مباهجها، لكن هو. ضيعها، هو السبب في موتها، السبب في موتها وأنها لن تعود لحياته تضحك و تملأها مرحا من جديد، كان تائها في أفكاره، الى أن انعطف في الزقاق الضيق، وأكمل سيره الهائم دون هدف، (كنت أنتظرك، لنصفي حسابنا أنا وأنت).
رفع رأسه ليرى جاسر واقفا مستندا الى الحائط القديم ناظرا الى الأرض دون أن يرفع نظره الى مالك، رافعا ساقا واحدة ليسندها الى الحائط من خلفه، ثم صوت مدية حادة تستل لتفتح بسرعةٍ، رفع مالك يده يتلمس أثر جرحا قديما في فكه، وهو يسمع صوت جاسر على هاتف حنين، أغمض عينيه لحظة ببأس ثم قال بهدوءٍ قوي النبرات (أين أنتما الآن؟، ما تفعله الآن قد يكلفك حياتك).
مد عاصم يده بقوةٍ جبارة جعلت السيارة تطيح من يده للحظةٍ وهو يختطف الهاتف من مالك ليقول صارخا بجنون (أسمع يا () ، إن لم تخبرني أين انتما حالا فقسما بالله لن أرحمك ولتترحم على نفسك منذ الآن).
سمع صوت ضحكةٍ شرسة متسلية زادته جنونا و غضبا ثم قال جاسر بهدوء، (لا داعي لمثل هذا الغضب، أنت لم تعد صغيرا على مثل هذا الضغط يا عاصم، خاف على نفسك من المرض، بكل بساطة و أدب اسأل و أنا سأجيبك، على العموم نحن عند طريق البحر السريع، كنا نستمتع ببعض ذكرياتنا القديمة).
، صرخ عاصم كالمجنون بكلامٍ غير مفهوم معظمه و شتائم و الفاظٍ صعبة، فأبعد جاسر الهاتف عن اذنه قليلا وهو ينظر مبتسما الى حنين التي كانت ملتصقة بظهرها الى باب السيارة، بعينين متسعتين رعبا، و يدٍ على وجنتها و فمٍ مفتوح، بينما كانت تلهث بقوةٍ حتى أنها شعرت ببوادر إصابتها بنوبةٍ قلبية، أغلق جاسر الخط و عاصم لا يزال يصرخ و يشتم ثم وضعه في حجرها بكل هدوء، همست حنين وهي ترتجف بشدةٍ و رعب (ل، لماذا؟، سيقتلني، سيقتنلني).
ازدادت ملامحه قسوة، ثم قال بخشونة (لن يجرؤ على أن يمسك بسوء، إن آجلا أو عاجلا كانو سيعرفون بعلاقتنا) همست حنين و هي تضحك عابسة و بوجهها الملطخ سوادا (علاقتنا؟).
قال جاسر بمنتهى الهدوء و هو يستند بظهره الى مقعده و يخرج سيجارة ليشعلها فأضاءت جانب وجهه القاسي، (وماذا تسمين الفترة الماضية؟، كم مرةٍ قبلتِ بالركوب معي في سيارتي، ذهبتِ إلى بيتي، كم مرة كلمتك على هاتفك، كم مرة، قبلتك فيها؟، أنتِ لست شديدة الحزم يا حنين).
اظهرت ملامحه علامة الأسف المزيف و هو يقول، أنت لست شديدة الحزم يا حنين، فمضى و قتا طويلا وهي تنظر اليه مذهولة مما يقوله، ثم أومأت برأسها بحركاتٍ لا ارادية و كأنها تهذي، و همست؛ (نعم، نعم، معك حق، أنا أستحق ما سيفعله بي عاصم).
ثم التفتت و هي ترتجف جالسة باعتدال في مقعدها، منتظرة مصيرها البائس، نظر اليها جاسر في الظلمة وهي جالسة تنظر أمامها بينما ترتجف لدرجة أنه يكاد يشعر بإرتجافها عبر المقعدين، ليست غلطته إن عرف عاصم بالأمر بهذه الطريقةمن المؤكد أن كل ذلك حدث بسبب غباءها هي و زوجته الحمقاء التي جاءت تمثل دور الحامي، نفث دخان سيجارته بقوةٍ، لو كان بيده لكان أخذها عنوة لبيته، الا أن المشاكل ستنهال عليه يوما بعد يوم لذا فمن الافضل أن المشاكل قد بدأت الليلة من نفسها، إن كان قد نوى توريطها بعرضه في الحفل، لكنه لم يكن يتخيل أن تخدمه الظروف بهذا الشكل دون أن يثقل ضميره، سبحان من رحمها منه الآن بعد أن سمع اعترافها لعمر، و على الرغم من أنه كان يعرف بمشاعرها مسبقا الا أن سماعها وهي تعترف بها لرجلٍ غريب جعله على وشكِ أن يقتلها، لقد حاول أن يبرر لنفسه مشاعرها السخيفةٍ تجاه أول من مد لها يد الصداقة، حيث انها لم تكن تعلم بأنه سيعود لها يوما، الا أن اعترافها جعل منه مجنونا، لذا كانت صفعتها له هي أفضل فرصة له ليرد لها الغضب الناري الذي يشعر به تجاهها، حتى ان شدة غضبه تجعله الآن متلذذا بخوفها الظاهر عليها الآن، وهو يفكر بشماتة. اين ذهبت تلك العاشقة الشجاعة التي لا تأبه لشيٍ في أعلانها لحبها، ومن هي تلك التي تجلس مرتجفة رعبا الآن فجأة غمرهما ضوء قوي من خلفهما أقترب حتى أغشى بصريهما، ثم صوت مكابح قويةٍ لسيارةٍ وقفت خلفهم بكل سرعتها، التفتت حنين إلى جاسر و قالت بصوتٍ مرتجف الا أن بعض من الشجاعة نبعت من حروف كلمتها البسيطة (لن أسامحك أبدا يا جاسر، إن كان هذا من الممكن أن يؤثر بك).
ثم دون كلمةٍ نزلت من السيارة، تاركة جاسر مكانه لحظة واحدة فقط وهو يتسائل أين ذهبت الشماتة، نزل عاصم من سيارته ودون حتى أن يهتم بالنظر إلى مالك الذي أخذ يناديه و هو يلحقه جريا، و ما أن استقام جاسر في وقفته حتى هجم عاصم عليه ليلكمه في منتصف وجهه لكمة كادت أن توقعه أرضا، صرخت حنين بقوةٍ و هي تغطي وجهها بيديهااعتدل جاسر مرة أخرى مبتسما وهو يلمس أنفه ليرى أن الدم قد غطى أصابعه، فأمسكه عاصم بكلتا قبضتيه من قميصه وهو يجذبه اليه صارخا (ماذا تريد منها يا حيوان؟، و كيف تمتلك الجرأة على العودة بعد ما فعلته قديما).
ابتسم جاسر و قال بهدوء، (لما لا ننسى الماضي و نبدأ من جديد، لأنني عدت لإسترداد حنين) و في حين غرة كان قد أرجع رأسه للخلف ليعود بها ناطحا جبهة عاصم، الذي تمايل قليلا من قوة الضربة، حينها هجم مالك عليه وهو يخلصه من قبضتي عاصم ممسكا بقميصه رافعا ركبته ليضرب بها جاسر في معدته صارخا بغضب (أيها الحقير).
كانت حنين واقفة على جانب الطريق وهي ضامة ذراعيها إلى معدتها منحنية و هي تصرخ لهم بأن يتوقفو، بينما كان جاسر و مالك قد تشابكا معا بجنون، فتدخل عاصم ليبعد مالك عنه وهو يدفع جاسر بكل قوته ليرتطم بسيارته، ثم اقترب منه ليمسكه من قميصه من جديد هادرا فيه (ابتعد عن أهل بيتي، والا قسما بالله سأطلق رجالي عليك و لن يعثر لك احد على أثر).
ضحك جاسر عاليا، على الرغم من وجهه المكدوم، ثم نظر إلى حنين التي كانت واقفة تبكي و تصرخ برعب، و منها نظر إلى عاصم ليقول بهدوء على الرغم من لهاثه (حنين لي منذ زمن، ولن أتنازل عنها بعد اليوم) هجم عاصم عليه مرة أخرى ينوي سحقه، الا أن مالك أمسكه بقوةٍ وهو يهتف بغضب (دعه يا عاصم، هذا يكفي فهو لا يستحق أكثر).
ابتعد عاصم و هو يلهث و عيناه تحترقانِ غضبا، بينما اقترب مالك من جاسر لينظر اليه طويلا و بادله جاسر كرها بكره، ثم قال مالك بهدوء (اليوم عاصم معي، لذا لن تكون حربا عادلة، لكن يوما ما، أنا و أنت سيكون لنا حسابا لنصفيه سويا) ثم ابتعد بهدوء يتبع عاصم الذي أمر حنين صارخا بأن تركب السيارة، حينها همس جاسر لنفسه وأنا سأكون في انتظارك يا ابن رشوان.
كانت الحاجة روعة جالسة تبكي كعادتها في انتظار عودة أبنائها من أحدى مصائبهم، خاصة بعد أن حكت لها صبا عن ملخص الموضوع الذي جعل عاصم يخرج كالمجنون، ومن لحظتها و هي جالسة تبكي و بجوارها صبا تربت على كتفها دون أن تتركها للحظةٍ واحدة، و فجأة فتح الباب، ودخل منه عاصم بمنظرٍ مخيف، جاذبا حنين خلفه من شعرها ليدفعها بكل قوته الى الداخل، جرت حنين الى الحاجة روعة وهي تبكي و تشهق برعب و قد اسود وجهها بمنظرٍ مخيف من الكحل الأسود الذي لطخ وجهها، ضمتها الحاجة روعة إلى صدرها وهي تبكي هي الأخرى، الا أن عاصم لم يدعها وما أن أغلق الباب حتى هجم عليها ليسحبها من شعرها من بين حضن والدته، فصرخت حنين بقوةٍ وهي تبكي بينما كان عاصم يصرخ كالمجنون (أنا؟، أنا تتسببين لي بمثل هذه الفضيحة؟، منذ متى وأنتِ تقابلينه؟، انطقي).
صرخت حنين من بين بكائها العنيف (فقط، فقط، عدة مرات، أنا لا ذنب لي، هو يريد، أن يردني اليه، و انتم السبب، أنتم جميعا السبب) صرخ عاصم بوحشية؛ (و لكِ الجرأة على الجدال) رفع يده عاليا يريد ضربها الا أنه في لحظةٍ واحدة ٍ وجد صبا بينهما وهي تصرخ بثورةٍ عارمة (إياك، إياك يا عاصم أن تمد يدك عليها) صرخ عاصم بقوة؛ (ابتعدي يا صبا) عادت صبا لتصرخ (إن أردت ضربها عليك أن تضربني أولا).
صرخ عاصم وهو يمسكها من ذراعها بقوةٍ يحاول أن بعدها عن حنين، بينما صبا مرجعة ذراعيها خلفها لتشبكهما بخصر حنين بمنتهى القوة، وهي تبدو كدرعٍ بشري لها، (قلت لكِ يا صبا ابتعدي، لا تدعيني آذيكي) عادت صبا لتصرخ بكل قوتها وهي متمسكة بحنين من خلفها (قسما بالله يا عاصم لن تضربها، الا أن تضربني أولا).
ظل عاصم ينظر اليها طويلا، وهو يتنفس بصعوبة، حينها قالت الحاجة روعة من بين بكائها العنيف (والله يا عاصم إن ضربتها لا أنت ابني و لا أنا أعرفك) نظر عاصم إلى أمه الباكية بعنف، حتى أنها لم تقل ما قالته للتو يوم أن ضرب حور، ابتعد للخلف ثم نظر إلى صبا و حنين المتشبثتين ببعضهما، وقال بصرامة وتعب (أنتما الإثنتين، لا خروج لكما من باب هذا البيت).
ثم صعد الى غرفته دون أن ينظر اليهما، بينما هما الاثنتين يفكران في شيء واحد، أن ما خفي كان أعظم، نزلت حنين صباحا كمن محكوم عليها بحكم الإعدام، فبعد أحداث الليلة الماضية، لم تنطق كلمة واحدة و فرت الى غرفتها. ملاذها الآمن لتختبيء فيها و هي تشعر بأن كل ما حدث كان فوق طاقتها، وما أن خلعت ثوب حور الأحمر حتى رمته أرضا و أخذت تدهسه بقدميها و هي تبكي وتبكي، الى أن ارتمت على سريرها تبكي ضياع حياتها و سمعتها وأحلامها و، وحبها، و حين حل الصباح بعد ليلة فظيعة لم تذق خلالها النوم للحظةٍ واحدة، سمعت طرقا خفيفا على الباب ثم دخلت الحاجة روعة، في عينيها العطف الا انه يحمل العتاب الشديد على كل ما أخفته حنين عنها خلال الفترة الماضيةلكنها لم تكلمها في الأمر، بل أخبرتها أن عاصم يرغب في رؤيتها و أن مالك أيضا بالأسفل بعد أن قضى ليلته في البيت القديم، نزلت حنين حيث وجدت عاصم جالسا على احد الكراسي الضخمة، دون أن تختفي القسوة عن ملامحه بعد، الغريب أن حنين لم تعد تشعر بالخوف، حالة من التبلد قد أصابتها، وجعلتها تبدو كمن يشاهد من بعيد، وكأنها انفصلت عن واقعها تماما، ها قد نصبت المحكمة، عاصم يجلس في الكرسي الضخم كالقاضي الذي سيحكم عليها بالإعدام، و مالك يقف مستندا إلى المدفئة وهو ينظر اليها بوجوم مع بعض التعاطف. بينما الحاجة روعة كانت تقف في أحد الزوايا و هي تبدو قلقة لكن تنظر الى حنين نظرة تشجيع، صبا الوحيدة التي كانت واقفة بعيدا و تبدو عليها علامات عدم الفهم، يبدو أن عاصم لم يقض الليلة في غرفته عقابا لها، الا أنه لم يسمح لها بأن تذهب بأن تبيت ليلتها معها في غرفتها، وقفت حنين أمامهم بلا تعبير، تتفرج عليهم و تراقب كل نفسٍ من أنفاسهم، و كان عاصم هو أول من بدأ الكلام حيث قال بجفاء لكن بهدوء (تعالي يا حنين).
اقتربت حنين خطوة و كانها تتقدم من منصة الحكم، ثم قال عاصم بخشونة (حنين، منذ الآن، سنتعاهد أن ننسى كل ما حدث و لن نذكره أبدا بعد الآن) نفس العهد القديم، ذلك الذي قطعوه بعد رحيل جاسر قبل زفافهما، و بعد أن اشتعلت الدنيا نارا و بعد أن ظنو أنهم قد أخمدوها بفسخ العقد للابد، ها هو العهد يتجدد، تابع عاصم بمنتهى الهدوء (حنين، ليس هناك من سيرعاكِ أفضل من ابن عمك وهو أولى بك، مالك خطبك مني، وأنا وافقت).
انتفضت و هي تتلقى تلك القذيفة فنظرت الى مالك بذهول، فابتسم لها ابتسامة ضعيفة متعاطفة و كانه يشجعها و يخبرها أنه موجودا بجوارها، اتسعت عينا صبا هي الأخرى ذهولا وهي تهتف بصوتٍ هامس وصل حنين، (ماذا؟، هذا جنون).
نظرت حنين الى مالك، وهي تعلم ما سمعته منذ أيام، أنه من المستحيل أن يفكر بها كزوجةٍ يوما ما، و أكد على ذلك على مسمعٍ منها، اذن، أن الجلسة العائلية أسفرت عن أن عاصم قد أمر، وبأمر عاصم وجدو أن أفضل حل حفاظا على سمعتها هو أن يخطبها مالك، وطبعا مالك الشهم وافق، مضحيا بسعادته، نظرت صبا اليها بتصميم و كأنها تأمرها بأن تنطق الآن، لكن حنين كانت تنظر اليها دون أي اشارة على الإستجابة. و ظلت صامتة حتى أوشكت صبا على الإصابة بالجنون، قال عاصم بقوة حين طال صمت حنين المتجمدة (لا مجال للمناقشة يا حنين).
فكرت حنين في نفسها بغباء وكأنها تشاهد عرضا لا يخصها وهل ناقشت شيئا؟، وضع مالك يده على كتف عاصم ليمنع عن المتابعة، ثم تقدم الى حنين و أمسك بيدها وهو يقول برفق (بإمكاننا أن نُنجح الأمر يا حنين، لا تخافي، لن أخذلك أبدا) ، وفي حين أن بيت آل رشوان كان على وشكِ الإشتعال منذ ليلة أمس، كان هناك شخصا آخر من آل رشوان في عالمٍ آخر تماما و هو يمر بأقصى درجات الحيرة، (وعاء أم مصطفى).
وقفت حور بفستانها القصير حافية على أرض المطبخ، وهي تضع يديها في خصرها، تمط شفتيها المكتنزتين على جانبٍ واحد وهي تعضهما في نفس الوقت، ناظرة الى الوعاء. انه لديها منذ عدة أيام، و لقد تأخر عندها جدا، لذا يجب ان تعيده، لكن لتعيده، يجب أن تعيده و هو ممتلىء بصنفٍ قامت بصنعه بيديها، تلك هي القوانين، نعم هي تتذكر هذه القوانين جيدا الا أنها لم تأبه بها أبدا و لم تتخيل أنا لازالت مهمة حتى يومنا هذا، لكن من نبهها هو مصطفى نفسه، فحين أعطته الوعاء الفارغ ليسلمه الى أمه، نظر مصطفى الى الوعاء بحيرة ثم قال بإندهاش (الن تملئيه بشيء؟).
اتسعت عينا حور بدهشةٍ ثم قالت غاضبة (ألن تتعلم الأدب؟).
قال مصطفى بحيرةٍ (وماذا فعلت؟، أنا أخبرك بما يحدث، أنا آخذ الوعاء ممتلئا الى الجيران، و بعد يوم أعود به ممتلئا الى أمي، خالتي أم سعيد مرة وضعت به لقمة القاضي، خالتي نبيهة وضعت به مرة أخرى بلح الشام، خالتي أم سهير وضعت به محشو كوسة و باذنجان، أما الخالة علية فوضعت به كنافة بالمكسرات صنعتها بنفسها و بعثت معها الغذاء، بعثت سمكا مشويا و آخر مقليا، و فواكه البحر، لكن كنافة الخالة علية كانت الأروع من بين باقي الخالات).
قالت حور بحنق وهي تهتف (فهمنا يا سيدي فهمنا، لكن من عندي أنا ستأخذه فارغ، هل لديك مانع؟) هز مصطفى كتفيه بلامبالاة وكأنه يخبرها، أنتِ حرة، لكن حور أكملت العبارة الوهمية في بالها، لكن سيدات الحي سيضعنكِ في القائمة السوداء، لذا جذبته من ياقة قميصه من الخلف قبل أن يخرج، لتعيده، ثم أخذت منه الوعاء وهي تقول بخيلاء (سأفكر في الأمر، هيا انصرف).
وها هي الآن تقف أمام الوعاء، ماذا بإمكانها أن تضع فيه؟، لما لا تشتري أي شيء و تضعه؟، لا، لا لن ينطلي الأمر عليهن، إنهن مصائب، حسنا يا حور، دعينا نرى في ذاكرتك، ما هو الشيء الوحيد الذي تجيدين صنعه؟، ابتسمت حور، وقد أضاء المصباح المحروق في عقلها، أرز بحليب، نعم، نعم، الوعاء عميقا نوعا ما و سيصلح، صحيح أنهم سيضطرون الى غرفه كما يتم غرف الحساء لكن لا بأس، المهم أن يكون مزينا بطريقةٍ فنية تبهر النظر، حسنا كل شيء موجود لديها، ينقصها، القشدة، الكثير من القشدة، اتجهت الى الشرفة فجرى خلفها معتز تلقائيا، ففقرته المفضلة قد بدأت، حيث تقفز أمه وهي تلوح بيديها و تكلم الهواء، ثم تقذف ذلك الشيء من الشرفة، وقفت حور في الشرفة مستندة الى السور، ثم مالت بنفسها وهي تنادي بصوتٍ رنان، (يا عم جلااااال، يا عم جلااااال).
(ماهذا الذي تفعلينه؟) انطلقت تلك الصيحة الغاضبة المذهولة من خلفها مما جعلها تشهق مفزوعة وهي تستدير ضاربة صدرها الأبيض الظاهر جزءا منه من قميصها البيتي المزركش، عقد نادر حاجبيه بغضب وهو ينظر اليها من أولها لآخرها بفستانها القصير، فجذبها من ذراعها دون كلمة إلى الداخلثم هدر فيها (ما هذا الذي تفعلينه؟، وكيف تخرجين الى الشرفة بهذا الشكل؟).
كانت حور لازالت لم تستوعب بعد ما الذي أعاده، لكنها بعد أن هدأت نفسها من تلك الإنتفاضة، قالت بتردد (كنت أنادي على عم جلال ليبعث صبيه الى محل الألبان في الزقاق المجاور لأني أريد، قشدة).
قالت كلمتها الأخيرة وهو ينظر إلى فستانها المفتوح قليلا، تزامنا مع كلمتها، فخفتت ثم سكتت، بينما رفع نادر عينيه المصدومتين الغاضبتين اليها ليهتف غضبا وهو لا يستوعب كل هذا الكم من المعلومات ثم هتف (كيف تخرجين بهذا ال، هذا ال، ال) رفعت حور يديها في الهواء تقول بحذر (اهدأ، اهدأ، هدىء أعصابك، انظر لقد فرشت ملاءة على السور الحديدي حتى لا تظهر ساقي، كلما خرجت).
صرخ نادر و هو يلا زال مذهولا مما يسمعه (و شكلك و أنت تميلين من فوق السور؟، و صوتك و أنت تنادين؟) قالت حور وهي متعجبة منه (كل النساء هنا يخرجن من شرفاتهن لينادين، أمر عادي) هتف نادر بغضب (لا دخل لي، لن تخرجي بعد الآن بهذا المنظر أبدا، و لن تنادي بصوتك من الشرفة أبدا، مفهوم؟) قالت حور بتبرم كالأطفال (مفهوم).
بينما بداخلها كانت ترقص طربا، هكذا هن النساءقال نادر بعد أن هدأ غضبه قليلا، (ولماذا أصلا كنتِ تريدين القشدة) ردت حور ببراءة (كنت أريد أن أعد أرز بحليب لأرسله لأم مصطفى لتتذوقه) كان نادر ينظر اليها مستفهما، تعد ماذا؟، لمن؟، أين؟، وكيف.؟، حوور؟، قال نادر بجفاء قليلا (ومنذ متى تعلمتِ صنعه؟) ردت حور بعذوبة (أنا ماهرة فيه منذ زمن، هل تحبه؟) قال نادر بنفس الجفاء (الآن تسألين؟، يكفي أن ترسلي لأم مصطفى).
رفعت حور حاجبيها و ابتسمت ثم همست برقةٍ تذيب الحجر (لا، ماذا تقول أنت؟، والد معتز هو الأساس) نظر اليها باستهانة، بينما عيناه كانتا شبه مبتسمتين، ثم تنحنح أمام ابتسامتها الخلابة ليقول بجفاء (أنا سأنادي على عم رشاد ليجلب لكِ ما تريدين) قالت حور بهمس (عم جلال) قال نادر تائها قليلا في شفتيها الهامستين كأنها تنفخ ريشة لتطير، (ماذا؟) أعادت حور برقةٍ (اسمه عم جلال).
قال نادر بخشونة (حسنا، رشاد، جلال، لن تنادين أحدا مرة أخرى) همست حور بدلال وهي تهتز كعادتها، فهي لا تستطيع أن تقف ثابتة أبدا، لا بد وأن تتمايل في مكانها، (حاضر) تأفف نادر بنفاذ صبر، لكن حور كانت قد شبكت ذراعيها خلف ظهرها و هي تتمايل ثم همست بدلال (نادر، أريد أن أطلب منك طلب، أريد أن أذهب الى النادي) عقد نادر حاجبيه ثم قال بخشونة (هل اشتقتِ لحياة النوادي من جديد؟).
قالت حور بسرعة (بل سأخذ معتز معي، سأسأل هناك إن كان بإمكانه أن ينتظم في رياضةٍ بالنسبة لحالته) نظر اليها نادر عدة لحظات، دون أن تفهم شيئا من ملامحه ثم قال أخيرا (حسنا، غدا سأقلك اليه، وفي منتصف اليوم سأعيدك).
ابتسمت حور شاكرة برقةٍ دون افتعال، ثم استدارت و دخلت الى المطبخ دون أن تنطق حرفا آخر، فقلبها المجروح كاد أن يسلم راياته، كادت أن تسقط على ركبتيها أمامه و تهمس، احبني، أرجوك أحبني، نظر اليها نادر وهي تبتعد، شاعرا بغضب، بوجوم، برفضٍ لنفسه قبل أن يكون لها، يشعر بالتخاذل و كم يشعره هذا التخاذل بالحنق على نفسه، لماذا لا يحررها؟، لماذا يبقيها رهينته بهذا الشكل؟، لا شيء أبدا أرغمه على حور، وهو يعلم ذلك في قرارة نفسه، و يكره أن يعترف بأنه دائما ما يحاول الإبقاء على شعرة الربط بينهما، أحيانا، أحيانا يشعر بأنه يريد أن يمنحها صداقته فربما تحتاجها، الا أنه يعود و يهزأ من الفكرة، ليست حور، ليست حور أبدا، لا يعلم لماذا أحيانا كثيرة يشعر بالإشفاق عليها، و يريد أن يمنحها بعضا من ثقته، لكن أكثر ما يخشاه أن يكون مجرد شيئا مرغوبا وما أن تحصل على اهتمامه حتى تزهده كما تفعل مع كل من تعرفهم و كل ما تمتلكه، نظر نادر إلى معتز و رق قلبه له و هو يراه يهتز و يتمايل كأمه، ثم همس له مبتسما بحنان (ماذا تفعل؟، هل تريد أن تشترك في رياضة كما تقول والدتك؟).
الا أن معتز كان يميل بخصره يمينا و يسارا وهو يحرك أردافه بينما ذراعيه تتراقصان في الهواءقطب نادر جبينه، وهو ينظر إلى معتز بريبةٍ وهو يميل بجذعه للخلف ثم يهزه بقوة، فرفع نادر حاجبا و نظر بعيد ثم أعاد نظر ه الى معتز مرة أخرى مرتابا من حركاته التي لا تبدو غريبة على ذاكرته، أمسكت حور بكف معتز وهي تسير به في النادي متجهة الى أحد المدربين، و مرت على مجموعةٍ من الشباب جالسين الى أحد الطاولات، فتعلقت عينان خضراوان، بذات القوام الساحر في بنطالها الاحمر و قميصها الأبيض و هي تسير كفرسٍ عربيٍ أصيل و شعرها الأسود الطويل خلب لبه وهو يتطاير من خلفها، مال على من يجلس بجواره ليهمس (من تلك ذات البنطال الأحمر و الخلخال؟).
نظر صديقه الى من يشير، ثم ابتسم مسحورا وهو يقول (إنها حور رشوان، كانت ساحرة الجميع هنا اثناء سفرك، لكنها متزوجة وعلى ما يبدو هذا ابنها معها، فلا مجال للوصول اليها) عاد صاحب العينين الخضراوين الى مكانه وهو يلتهم كل ذرةٍ من صاحبة الخلخال و البنطال الأحمر وهو يهمس لنفسه مبتسما (ربما).

أمسك جاسر بكلتا يديها و نزعهما بقوةٍ عن سترته ثم امسك بكتفيها يجذبها اليه وهو يهدر في وجهها (ولك الجرأة على النطق بعد ما سمعته للتو منك، تحبينه؟، تحبينه و اعترفتى له بذلك؟، سأفسد لك كل لحظة من حياتك بسبب هذا الاعتراف يا حنين، أعدك) صرخت حنين بجنون وهي تضرب صدره بقبضتيها، (أكثر مما أفسدتها؟، أنت مجنون و أنا أكرهك، أنا أكرهك، أنا أكرهك).
جذبها اليه بقوةٍ لينهي صرخاتها بشفتيه المجنونتين بينما أخذت تضربه و تضربه بقبضتيها و ركبتيها الا أنه قضى بقوته على كل مقاومتها، بعد عدة لحظات مت الشغف الغاضب ضمها بذراعه إلى صدره اللاهث و امسك بذقنها يرفع وجهها اليه ليقول بصوت مرعب و عينين تضاهيانه رعبا في الظلام (أنا اعتذرلك، اعتذر عن تركك وحيدة صغيرة في مواجهة الجميع، لكن غير ذلك ليس لك شيا عندي، أنتِ ملكي و هذا غير قابل للنقاش و سأدمر من يجرؤ على الإقتراب من زوجتي، أتفهمين؟).
كانت عيناها متسعتان رعبا و هي تلهث هي الأخرى، أين ضاعت فورة الشجاعة؟، لكن أي شجاعة و هي بمفردها هنا مع ذلك المجنون الذي يبدو على وشكِ افتراسها ثم قتلها و رميها على جانب الطريق، وقد يذهب ليقتل الحقير الآخر صديقه بعد أن يقتلها، و حين وجدها صامتة مذهولة برعب أعاد شادا على ذقنها بقوة (أتفهمين؟، أجيبي).
أومأت برأسها رعبا، حينها أقترب منها ليعيد حرارة اشواقه لكن هذه المرة بأقل عنفا نوعا ما، وأعمق عاطفةكانت حنين ترتجف بين ذراعيه بمشاعر غريبةٍ لم تعرفها الا على يديه، الى أن رن هاتفها فانتفضت بقوةٍ وهي تبتعد عنه بشراسةٍ مرعوبة، فضحك جاسر قليلا على الرغم من عمق العاطفة في عينيه و التي لم يغادرها الغضب بعد، حاولت حنين الوصول إلى هاتفها بشتى الوسائل من بين ذراعيه وهو ينظر اليها متسليا مقيدا حركتها، الى أن استطاعت النظر الى اسم مالك أخيرا، فنظرت إلى جاسر برعب وهي تهمس بترجي (ابتعد، ارجوك ابتعد قليلا، يجب أن أرد، لقد تأخرت في العودة ولا بد أن عمتى ستموت قلقا الآن).
سمح لها جاسر أن ترد على الهاتف بخوف، دون أن يتركها تماما، فقالت حنين بسرعةٍ وهي ترتجف قبل أن يتكلم مالك (نعم يا مالك، أعرف أنني تأخرت أنا آتية حالا) قاطعها مالك ليقول بصوت غريب يحاول التمسك بالهدوء (أين أنتِ الآن يا حنين؟، أنا أعرف أنك مع جاسر) توقف قلب حنين، و اتسعت عيناها برعبٍ أكثر وأكثر، ثم همست ترتجف (م، من؟، ماذا، تقصد؟).
قال مالك وهو يتنهد غاضبا (أين أنتما يا حنين؟، لقد ذهبنا الى الحفل و علمنا أنكِ قد غادرتِ بصحبته) أخذت حنين تشهق شهقات رعبٍ متقطعةٍ صغيرة على هيئة أنفاسٍ قصيرة، ثم همست دون وعي (من، معك؟) رد مالك بإيجاز و اقتضاب (عاصم معي).
ضربت حنين وجنتها بقوةٍ أصدرت صوتا من قوة ضربتها، ولم تستطع النطق، حينها أخذ جاسر الهاتف من يدها دون أن تجد القدرة على الحركة، رد جاسر على الهاتف بهدوء مثير للأعصاب بينما الابتسامة القاسية تلوي شفتيه (حنين بأمانٍ معي، منذ فترةٍ طويلة لم نتكلم، أنا وأنت).
، شدد مالك قبضته على الهاتف وهو يستمع الى الصوت العائد من ذاكرته، كان يسير هائما على وجهه في شارع حارتهم الضيقة ليلا، يبحث عما يجعله يتنفس من جديد، عما يجعله يجد القدرة على نسيان مارآه أمام عينيه. لا تزال أصوات البكاء و النواح تصم اذنيه، لازال السواد يكسو ملابس السيدات المجاملات لعائلة رشيد، لا يزال الحزن يرمي سواده على الجميع، بسببه هو، لأنه فرض في زهرةٍ صغيرة سقطت من بين يديه، لو كانت برفقة أي شخصٍ آخر لكانت الحياة أمامها طويلة بكل مباهجها، لكن هو. ضيعها، هو السبب في موتها، السبب في موتها وأنها لن تعود لحياته تضحك و تملأها مرحا من جديد، كان تائها في أفكاره، الى أن انعطف في الزقاق الضيق، وأكمل سيره الهائم دون هدف، (كنت أنتظرك، لنصفي حسابنا أنا وأنت).
رفع رأسه ليرى جاسر واقفا مستندا الى الحائط القديم ناظرا الى الأرض دون أن يرفع نظره الى مالك، رافعا ساقا واحدة ليسندها الى الحائط من خلفه، ثم صوت مدية حادة تستل لتفتح بسرعةٍ، رفع مالك يده يتلمس أثر جرحا قديما في فكه، وهو يسمع صوت جاسر على هاتف حنين، أغمض عينيه لحظة ببأس ثم قال بهدوءٍ قوي النبرات (أين أنتما الآن؟، ما تفعله الآن قد يكلفك حياتك).
مد عاصم يده بقوةٍ جبارة جعلت السيارة تطيح من يده للحظةٍ وهو يختطف الهاتف من مالك ليقول صارخا بجنون (أسمع يا () ، إن لم تخبرني أين انتما حالا فقسما بالله لن أرحمك ولتترحم على نفسك منذ الآن).
سمع صوت ضحكةٍ شرسة متسلية زادته جنونا و غضبا ثم قال جاسر بهدوء، (لا داعي لمثل هذا الغضب، أنت لم تعد صغيرا على مثل هذا الضغط يا عاصم، خاف على نفسك من المرض، بكل بساطة و أدب اسأل و أنا سأجيبك، على العموم نحن عند طريق البحر السريع، كنا نستمتع ببعض ذكرياتنا القديمة).
، صرخ عاصم كالمجنون بكلامٍ غير مفهوم معظمه و شتائم و الفاظٍ صعبة، فأبعد جاسر الهاتف عن اذنه قليلا وهو ينظر مبتسما الى حنين التي كانت ملتصقة بظهرها الى باب السيارة، بعينين متسعتين رعبا، و يدٍ على وجنتها و فمٍ مفتوح، بينما كانت تلهث بقوةٍ حتى أنها شعرت ببوادر إصابتها بنوبةٍ قلبية، أغلق جاسر الخط و عاصم لا يزال يصرخ و يشتم ثم وضعه في حجرها بكل هدوء، همست حنين وهي ترتجف بشدةٍ و رعب (ل، لماذا؟، سيقتلني، سيقتنلني).
ازدادت ملامحه قسوة، ثم قال بخشونة (لن يجرؤ على أن يمسك بسوء، إن آجلا أو عاجلا كانو سيعرفون بعلاقتنا) همست حنين و هي تضحك عابسة و بوجهها الملطخ سوادا (علاقتنا؟).
قال جاسر بمنتهى الهدوء و هو يستند بظهره الى مقعده و يخرج سيجارة ليشعلها فأضاءت جانب وجهه القاسي، (وماذا تسمين الفترة الماضية؟، كم مرةٍ قبلتِ بالركوب معي في سيارتي، ذهبتِ إلى بيتي، كم مرة كلمتك على هاتفك، كم مرة، قبلتك فيها؟، أنتِ لست شديدة الحزم يا حنين).
اظهرت ملامحه علامة الأسف المزيف و هو يقول، أنت لست شديدة الحزم يا حنين، فمضى و قتا طويلا وهي تنظر اليه مذهولة مما يقوله، ثم أومأت برأسها بحركاتٍ لا ارادية و كأنها تهذي، و همست؛ (نعم، نعم، معك حق، أنا أستحق ما سيفعله بي عاصم).
ثم التفتت و هي ترتجف جالسة باعتدال في مقعدها، منتظرة مصيرها البائس، نظر اليها جاسر في الظلمة وهي جالسة تنظر أمامها بينما ترتجف لدرجة أنه يكاد يشعر بإرتجافها عبر المقعدين، ليست غلطته إن عرف عاصم بالأمر بهذه الطريقةمن المؤكد أن كل ذلك حدث بسبب غباءها هي و زوجته الحمقاء التي جاءت تمثل دور الحامي، نفث دخان سيجارته بقوةٍ، لو كان بيده لكان أخذها عنوة لبيته، الا أن المشاكل ستنهال عليه يوما بعد يوم لذا فمن الافضل أن المشاكل قد بدأت الليلة من نفسها، إن كان قد نوى توريطها بعرضه في الحفل، لكنه لم يكن يتخيل أن تخدمه الظروف بهذا الشكل دون أن يثقل ضميره، سبحان من رحمها منه الآن بعد أن سمع اعترافها لعمر، و على الرغم من أنه كان يعرف بمشاعرها مسبقا الا أن سماعها وهي تعترف بها لرجلٍ غريب جعله على وشكِ أن يقتلها، لقد حاول أن يبرر لنفسه مشاعرها السخيفةٍ تجاه أول من مد لها يد الصداقة، حيث انها لم تكن تعلم بأنه سيعود لها يوما، الا أن اعترافها جعل منه مجنونا، لذا كانت صفعتها له هي أفضل فرصة له ليرد لها الغضب الناري الذي يشعر به تجاهها، حتى ان شدة غضبه تجعله الآن متلذذا بخوفها الظاهر عليها الآن، وهو يفكر بشماتة. اين ذهبت تلك العاشقة الشجاعة التي لا تأبه لشيٍ في أعلانها لحبها، ومن هي تلك التي تجلس مرتجفة رعبا الآن فجأة غمرهما ضوء قوي من خلفهما أقترب حتى أغشى بصريهما، ثم صوت مكابح قويةٍ لسيارةٍ وقفت خلفهم بكل سرعتها، التفتت حنين إلى جاسر و قالت بصوتٍ مرتجف الا أن بعض من الشجاعة نبعت من حروف كلمتها البسيطة (لن أسامحك أبدا يا جاسر، إن كان هذا من الممكن أن يؤثر بك).
ثم دون كلمةٍ نزلت من السيارة، تاركة جاسر مكانه لحظة واحدة فقط وهو يتسائل أين ذهبت الشماتة، نزل عاصم من سيارته ودون حتى أن يهتم بالنظر إلى مالك الذي أخذ يناديه و هو يلحقه جريا، و ما أن استقام جاسر في وقفته حتى هجم عاصم عليه ليلكمه في منتصف وجهه لكمة كادت أن توقعه أرضا، صرخت حنين بقوةٍ و هي تغطي وجهها بيديهااعتدل جاسر مرة أخرى مبتسما وهو يلمس أنفه ليرى أن الدم قد غطى أصابعه، فأمسكه عاصم بكلتا قبضتيه من قميصه وهو يجذبه اليه صارخا (ماذا تريد منها يا حيوان؟، و كيف تمتلك الجرأة على العودة بعد ما فعلته قديما).
ابتسم جاسر و قال بهدوء، (لما لا ننسى الماضي و نبدأ من جديد، لأنني عدت لإسترداد حنين) و في حين غرة كان قد أرجع رأسه للخلف ليعود بها ناطحا جبهة عاصم، الذي تمايل قليلا من قوة الضربة، حينها هجم مالك عليه وهو يخلصه من قبضتي عاصم ممسكا بقميصه رافعا ركبته ليضرب بها جاسر في معدته صارخا بغضب (أيها الحقير).
كانت حنين واقفة على جانب الطريق وهي ضامة ذراعيها إلى معدتها منحنية و هي تصرخ لهم بأن يتوقفو، بينما كان جاسر و مالك قد تشابكا معا بجنون، فتدخل عاصم ليبعد مالك عنه وهو يدفع جاسر بكل قوته ليرتطم بسيارته، ثم اقترب منه ليمسكه من قميصه من جديد هادرا فيه (ابتعد عن أهل بيتي، والا قسما بالله سأطلق رجالي عليك و لن يعثر لك احد على أثر).
ضحك جاسر عاليا، على الرغم من وجهه المكدوم، ثم نظر إلى حنين التي كانت واقفة تبكي و تصرخ برعب، و منها نظر إلى عاصم ليقول بهدوء على الرغم من لهاثه (حنين لي منذ زمن، ولن أتنازل عنها بعد اليوم) هجم عاصم عليه مرة أخرى ينوي سحقه، الا أن مالك أمسكه بقوةٍ وهو يهتف بغضب (دعه يا عاصم، هذا يكفي فهو لا يستحق أكثر).
ابتعد عاصم و هو يلهث و عيناه تحترقانِ غضبا، بينما اقترب مالك من جاسر لينظر اليه طويلا و بادله جاسر كرها بكره، ثم قال مالك بهدوء (اليوم عاصم معي، لذا لن تكون حربا عادلة، لكن يوما ما، أنا و أنت سيكون لنا حسابا لنصفيه سويا) ثم ابتعد بهدوء يتبع عاصم الذي أمر حنين صارخا بأن تركب السيارة، حينها همس جاسر لنفسه وأنا سأكون في انتظارك يا ابن رشوان.
كانت الحاجة روعة جالسة تبكي كعادتها في انتظار عودة أبنائها من أحدى مصائبهم، خاصة بعد أن حكت لها صبا عن ملخص الموضوع الذي جعل عاصم يخرج كالمجنون، ومن لحظتها و هي جالسة تبكي و بجوارها صبا تربت على كتفها دون أن تتركها للحظةٍ واحدة، و فجأة فتح الباب، ودخل منه عاصم بمنظرٍ مخيف، جاذبا حنين خلفه من شعرها ليدفعها بكل قوته الى الداخل، جرت حنين الى الحاجة روعة وهي تبكي و تشهق برعب و قد اسود وجهها بمنظرٍ مخيف من الكحل الأسود الذي لطخ وجهها، ضمتها الحاجة روعة إلى صدرها وهي تبكي هي الأخرى، الا أن عاصم لم يدعها وما أن أغلق الباب حتى هجم عليها ليسحبها من شعرها من بين حضن والدته، فصرخت حنين بقوةٍ وهي تبكي بينما كان عاصم يصرخ كالمجنون (أنا؟، أنا تتسببين لي بمثل هذه الفضيحة؟، منذ متى وأنتِ تقابلينه؟، انطقي).
صرخت حنين من بين بكائها العنيف (فقط، فقط، عدة مرات، أنا لا ذنب لي، هو يريد، أن يردني اليه، و انتم السبب، أنتم جميعا السبب) صرخ عاصم بوحشية؛ (و لكِ الجرأة على الجدال) رفع يده عاليا يريد ضربها الا أنه في لحظةٍ واحدة ٍ وجد صبا بينهما وهي تصرخ بثورةٍ عارمة (إياك، إياك يا عاصم أن تمد يدك عليها) صرخ عاصم بقوة؛ (ابتعدي يا صبا) عادت صبا لتصرخ (إن أردت ضربها عليك أن تضربني أولا).
صرخ عاصم وهو يمسكها من ذراعها بقوةٍ يحاول أن بعدها عن حنين، بينما صبا مرجعة ذراعيها خلفها لتشبكهما بخصر حنين بمنتهى القوة، وهي تبدو كدرعٍ بشري لها، (قلت لكِ يا صبا ابتعدي، لا تدعيني آذيكي) عادت صبا لتصرخ بكل قوتها وهي متمسكة بحنين من خلفها (قسما بالله يا عاصم لن تضربها، الا أن تضربني أولا).
ظل عاصم ينظر اليها طويلا، وهو يتنفس بصعوبة، حينها قالت الحاجة روعة من بين بكائها العنيف (والله يا عاصم إن ضربتها لا أنت ابني و لا أنا أعرفك) نظر عاصم إلى أمه الباكية بعنف، حتى أنها لم تقل ما قالته للتو يوم أن ضرب حور، ابتعد للخلف ثم نظر إلى صبا و حنين المتشبثتين ببعضهما، وقال بصرامة وتعب (أنتما الإثنتين، لا خروج لكما من باب هذا البيت).
ثم صعد الى غرفته دون أن ينظر اليهما، بينما هما الاثنتين يفكران في شيء واحد، أن ما خفي كان أعظم، نزلت حنين صباحا كمن محكوم عليها بحكم الإعدام، فبعد أحداث الليلة الماضية، لم تنطق كلمة واحدة و فرت الى غرفتها. ملاذها الآمن لتختبيء فيها و هي تشعر بأن كل ما حدث كان فوق طاقتها، وما أن خلعت ثوب حور الأحمر حتى رمته أرضا و أخذت تدهسه بقدميها و هي تبكي وتبكي، الى أن ارتمت على سريرها تبكي ضياع حياتها و سمعتها وأحلامها و، وحبها، و حين حل الصباح بعد ليلة فظيعة لم تذق خلالها النوم للحظةٍ واحدة، سمعت طرقا خفيفا على الباب ثم دخلت الحاجة روعة، في عينيها العطف الا انه يحمل العتاب الشديد على كل ما أخفته حنين عنها خلال الفترة الماضيةلكنها لم تكلمها في الأمر، بل أخبرتها أن عاصم يرغب في رؤيتها و أن مالك أيضا بالأسفل بعد أن قضى ليلته في البيت القديم، نزلت حنين حيث وجدت عاصم جالسا على احد الكراسي الضخمة، دون أن تختفي القسوة عن ملامحه بعد، الغريب أن حنين لم تعد تشعر بالخوف، حالة من التبلد قد أصابتها، وجعلتها تبدو كمن يشاهد من بعيد، وكأنها انفصلت عن واقعها تماما، ها قد نصبت المحكمة، عاصم يجلس في الكرسي الضخم كالقاضي الذي سيحكم عليها بالإعدام، و مالك يقف مستندا إلى المدفئة وهو ينظر اليها بوجوم مع بعض التعاطف. بينما الحاجة روعة كانت تقف في أحد الزوايا و هي تبدو قلقة لكن تنظر الى حنين نظرة تشجيع، صبا الوحيدة التي كانت واقفة بعيدا و تبدو عليها علامات عدم الفهم، يبدو أن عاصم لم يقض الليلة في غرفته عقابا لها، الا أنه لم يسمح لها بأن تذهب بأن تبيت ليلتها معها في غرفتها، وقفت حنين أمامهم بلا تعبير، تتفرج عليهم و تراقب كل نفسٍ من أنفاسهم، و كان عاصم هو أول من بدأ الكلام حيث قال بجفاء لكن بهدوء (تعالي يا حنين).
اقتربت حنين خطوة و كانها تتقدم من منصة الحكم، ثم قال عاصم بخشونة (حنين، منذ الآن، سنتعاهد أن ننسى كل ما حدث و لن نذكره أبدا بعد الآن) نفس العهد القديم، ذلك الذي قطعوه بعد رحيل جاسر قبل زفافهما، و بعد أن اشتعلت الدنيا نارا و بعد أن ظنو أنهم قد أخمدوها بفسخ العقد للابد، ها هو العهد يتجدد، تابع عاصم بمنتهى الهدوء (حنين، ليس هناك من سيرعاكِ أفضل من ابن عمك وهو أولى بك، مالك خطبك مني، وأنا وافقت).
انتفضت و هي تتلقى تلك القذيفة فنظرت الى مالك بذهول، فابتسم لها ابتسامة ضعيفة متعاطفة و كانه يشجعها و يخبرها أنه موجودا بجوارها، اتسعت عينا صبا هي الأخرى ذهولا وهي تهتف بصوتٍ هامس وصل حنين، (ماذا؟، هذا جنون).
نظرت حنين الى مالك، وهي تعلم ما سمعته منذ أيام، أنه من المستحيل أن يفكر بها كزوجةٍ يوما ما، و أكد على ذلك على مسمعٍ منها، اذن، أن الجلسة العائلية أسفرت عن أن عاصم قد أمر، وبأمر عاصم وجدو أن أفضل حل حفاظا على سمعتها هو أن يخطبها مالك، وطبعا مالك الشهم وافق، مضحيا بسعادته، نظرت صبا اليها بتصميم و كأنها تأمرها بأن تنطق الآن، لكن حنين كانت تنظر اليها دون أي اشارة على الإستجابة. و ظلت صامتة حتى أوشكت صبا على الإصابة بالجنون، قال عاصم بقوة حين طال صمت حنين المتجمدة (لا مجال للمناقشة يا حنين).
فكرت حنين في نفسها بغباء وكأنها تشاهد عرضا لا يخصها وهل ناقشت شيئا؟، وضع مالك يده على كتف عاصم ليمنع عن المتابعة، ثم تقدم الى حنين و أمسك بيدها وهو يقول برفق (بإمكاننا أن نُنجح الأمر يا حنين، لا تخافي، لن أخذلك أبدا) ، وفي حين أن بيت آل رشوان كان على وشكِ الإشتعال منذ ليلة أمس، كان هناك شخصا آخر من آل رشوان في عالمٍ آخر تماما و هو يمر بأقصى درجات الحيرة، (وعاء أم مصطفى).
وقفت حور بفستانها القصير حافية على أرض المطبخ، وهي تضع يديها في خصرها، تمط شفتيها المكتنزتين على جانبٍ واحد وهي تعضهما في نفس الوقت، ناظرة الى الوعاء. انه لديها منذ عدة أيام، و لقد تأخر عندها جدا، لذا يجب ان تعيده، لكن لتعيده، يجب أن تعيده و هو ممتلىء بصنفٍ قامت بصنعه بيديها، تلك هي القوانين، نعم هي تتذكر هذه القوانين جيدا الا أنها لم تأبه بها أبدا و لم تتخيل أنا لازالت مهمة حتى يومنا هذا، لكن من نبهها هو مصطفى نفسه، فحين أعطته الوعاء الفارغ ليسلمه الى أمه، نظر مصطفى الى الوعاء بحيرة ثم قال بإندهاش (الن تملئيه بشيء؟).
اتسعت عينا حور بدهشةٍ ثم قالت غاضبة (ألن تتعلم الأدب؟).
قال مصطفى بحيرةٍ (وماذا فعلت؟، أنا أخبرك بما يحدث، أنا آخذ الوعاء ممتلئا الى الجيران، و بعد يوم أعود به ممتلئا الى أمي، خالتي أم سعيد مرة وضعت به لقمة القاضي، خالتي نبيهة وضعت به مرة أخرى بلح الشام، خالتي أم سهير وضعت به محشو كوسة و باذنجان، أما الخالة علية فوضعت به كنافة بالمكسرات صنعتها بنفسها و بعثت معها الغذاء، بعثت سمكا مشويا و آخر مقليا، و فواكه البحر، لكن كنافة الخالة علية كانت الأروع من بين باقي الخالات).
قالت حور بحنق وهي تهتف (فهمنا يا سيدي فهمنا، لكن من عندي أنا ستأخذه فارغ، هل لديك مانع؟) هز مصطفى كتفيه بلامبالاة وكأنه يخبرها، أنتِ حرة، لكن حور أكملت العبارة الوهمية في بالها، لكن سيدات الحي سيضعنكِ في القائمة السوداء، لذا جذبته من ياقة قميصه من الخلف قبل أن يخرج، لتعيده، ثم أخذت منه الوعاء وهي تقول بخيلاء (سأفكر في الأمر، هيا انصرف).
وها هي الآن تقف أمام الوعاء، ماذا بإمكانها أن تضع فيه؟، لما لا تشتري أي شيء و تضعه؟، لا، لا لن ينطلي الأمر عليهن، إنهن مصائب، حسنا يا حور، دعينا نرى في ذاكرتك، ما هو الشيء الوحيد الذي تجيدين صنعه؟، ابتسمت حور، وقد أضاء المصباح المحروق في عقلها، أرز بحليب، نعم، نعم، الوعاء عميقا نوعا ما و سيصلح، صحيح أنهم سيضطرون الى غرفه كما يتم غرف الحساء لكن لا بأس، المهم أن يكون مزينا بطريقةٍ فنية تبهر النظر، حسنا كل شيء موجود لديها، ينقصها، القشدة، الكثير من القشدة، اتجهت الى الشرفة فجرى خلفها معتز تلقائيا، ففقرته المفضلة قد بدأت، حيث تقفز أمه وهي تلوح بيديها و تكلم الهواء، ثم تقذف ذلك الشيء من الشرفة، وقفت حور في الشرفة مستندة الى السور، ثم مالت بنفسها وهي تنادي بصوتٍ رنان، (يا عم جلااااال، يا عم جلااااال).
(ماهذا الذي تفعلينه؟) انطلقت تلك الصيحة الغاضبة المذهولة من خلفها مما جعلها تشهق مفزوعة وهي تستدير ضاربة صدرها الأبيض الظاهر جزءا منه من قميصها البيتي المزركش، عقد نادر حاجبيه بغضب وهو ينظر اليها من أولها لآخرها بفستانها القصير، فجذبها من ذراعها دون كلمة إلى الداخلثم هدر فيها (ما هذا الذي تفعلينه؟، وكيف تخرجين الى الشرفة بهذا الشكل؟).
كانت حور لازالت لم تستوعب بعد ما الذي أعاده، لكنها بعد أن هدأت نفسها من تلك الإنتفاضة، قالت بتردد (كنت أنادي على عم جلال ليبعث صبيه الى محل الألبان في الزقاق المجاور لأني أريد، قشدة).
قالت كلمتها الأخيرة وهو ينظر إلى فستانها المفتوح قليلا، تزامنا مع كلمتها، فخفتت ثم سكتت، بينما رفع نادر عينيه المصدومتين الغاضبتين اليها ليهتف غضبا وهو لا يستوعب كل هذا الكم من المعلومات ثم هتف (كيف تخرجين بهذا ال، هذا ال، ال) رفعت حور يديها في الهواء تقول بحذر (اهدأ، اهدأ، هدىء أعصابك، انظر لقد فرشت ملاءة على السور الحديدي حتى لا تظهر ساقي، كلما خرجت).
صرخ نادر و هو يلا زال مذهولا مما يسمعه (و شكلك و أنت تميلين من فوق السور؟، و صوتك و أنت تنادين؟) قالت حور وهي متعجبة منه (كل النساء هنا يخرجن من شرفاتهن لينادين، أمر عادي) هتف نادر بغضب (لا دخل لي، لن تخرجي بعد الآن بهذا المنظر أبدا، و لن تنادي بصوتك من الشرفة أبدا، مفهوم؟) قالت حور بتبرم كالأطفال (مفهوم).
بينما بداخلها كانت ترقص طربا، هكذا هن النساءقال نادر بعد أن هدأ غضبه قليلا، (ولماذا أصلا كنتِ تريدين القشدة) ردت حور ببراءة (كنت أريد أن أعد أرز بحليب لأرسله لأم مصطفى لتتذوقه) كان نادر ينظر اليها مستفهما، تعد ماذا؟، لمن؟، أين؟، وكيف.؟، حوور؟، قال نادر بجفاء قليلا (ومنذ متى تعلمتِ صنعه؟) ردت حور بعذوبة (أنا ماهرة فيه منذ زمن، هل تحبه؟) قال نادر بنفس الجفاء (الآن تسألين؟، يكفي أن ترسلي لأم مصطفى).
رفعت حور حاجبيها و ابتسمت ثم همست برقةٍ تذيب الحجر (لا، ماذا تقول أنت؟، والد معتز هو الأساس) نظر اليها باستهانة، بينما عيناه كانتا شبه مبتسمتين، ثم تنحنح أمام ابتسامتها الخلابة ليقول بجفاء (أنا سأنادي على عم رشاد ليجلب لكِ ما تريدين) قالت حور بهمس (عم جلال) قال نادر تائها قليلا في شفتيها الهامستين كأنها تنفخ ريشة لتطير، (ماذا؟) أعادت حور برقةٍ (اسمه عم جلال).
قال نادر بخشونة (حسنا، رشاد، جلال، لن تنادين أحدا مرة أخرى) همست حور بدلال وهي تهتز كعادتها، فهي لا تستطيع أن تقف ثابتة أبدا، لا بد وأن تتمايل في مكانها، (حاضر) تأفف نادر بنفاذ صبر، لكن حور كانت قد شبكت ذراعيها خلف ظهرها و هي تتمايل ثم همست بدلال (نادر، أريد أن أطلب منك طلب، أريد أن أذهب الى النادي) عقد نادر حاجبيه ثم قال بخشونة (هل اشتقتِ لحياة النوادي من جديد؟).
قالت حور بسرعة (بل سأخذ معتز معي، سأسأل هناك إن كان بإمكانه أن ينتظم في رياضةٍ بالنسبة لحالته) نظر اليها نادر عدة لحظات، دون أن تفهم شيئا من ملامحه ثم قال أخيرا (حسنا، غدا سأقلك اليه، وفي منتصف اليوم سأعيدك).
ابتسمت حور شاكرة برقةٍ دون افتعال، ثم استدارت و دخلت الى المطبخ دون أن تنطق حرفا آخر، فقلبها المجروح كاد أن يسلم راياته، كادت أن تسقط على ركبتيها أمامه و تهمس، احبني، أرجوك أحبني، نظر اليها نادر وهي تبتعد، شاعرا بغضب، بوجوم، برفضٍ لنفسه قبل أن يكون لها، يشعر بالتخاذل و كم يشعره هذا التخاذل بالحنق على نفسه، لماذا لا يحررها؟، لماذا يبقيها رهينته بهذا الشكل؟، لا شيء أبدا أرغمه على حور، وهو يعلم ذلك في قرارة نفسه، و يكره أن يعترف بأنه دائما ما يحاول الإبقاء على شعرة الربط بينهما، أحيانا، أحيانا يشعر بأنه يريد أن يمنحها صداقته فربما تحتاجها، الا أنه يعود و يهزأ من الفكرة، ليست حور، ليست حور أبدا، لا يعلم لماذا أحيانا كثيرة يشعر بالإشفاق عليها، و يريد أن يمنحها بعضا من ثقته، لكن أكثر ما يخشاه أن يكون مجرد شيئا مرغوبا وما أن تحصل على اهتمامه حتى تزهده كما تفعل مع كل من تعرفهم و كل ما تمتلكه، نظر نادر إلى معتز و رق قلبه له و هو يراه يهتز و يتمايل كأمه، ثم همس له مبتسما بحنان (ماذا تفعل؟، هل تريد أن تشترك في رياضة كما تقول والدتك؟).
الا أن معتز كان يميل بخصره يمينا و يسارا وهو يحرك أردافه بينما ذراعيه تتراقصان في الهواءقطب نادر جبينه، وهو ينظر إلى معتز بريبةٍ وهو يميل بجذعه للخلف ثم يهزه بقوة، فرفع نادر حاجبا و نظر بعيد ثم أعاد نظر ه الى معتز مرة أخرى مرتابا من حركاته التي لا تبدو غريبة على ذاكرته، أمسكت حور بكف معتز وهي تسير به في النادي متجهة الى أحد المدربين، و مرت على مجموعةٍ من الشباب جالسين الى أحد الطاولات، فتعلقت عينان خضراوان، بذات القوام الساحر في بنطالها الاحمر و قميصها الأبيض و هي تسير كفرسٍ عربيٍ أصيل و شعرها الأسود الطويل خلب لبه وهو يتطاير من خلفها، مال على من يجلس بجواره ليهمس (من تلك ذات البنطال الأحمر و الخلخال؟).
نظر صديقه الى من يشير، ثم ابتسم مسحورا وهو يقول (إنها حور رشوان، كانت ساحرة الجميع هنا اثناء سفرك، لكنها متزوجة وعلى ما يبدو هذا ابنها معها، فلا مجال للوصول اليها) عاد صاحب العينين الخضراوين الى مكانه وهو يلتهم كل ذرةٍ من صاحبة الخلخال و البنطال الأحمر وهو يهمس لنفسه مبتسما (ربما).

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى