رواية بأمر الحب الفصل الثاني والعشرون 22 بقلم تميمة نبيل
رواية بأمر الحب البارت الثاني والعشرون
رواية بأمر الحب الجزء الثاني والعشرون
رواية بأمر الحب الحلقة الثانية والعشرون
كيف يمكن لأيامٍ أن تمر وهي أسعدها و أشقاها في نفس الوقت؟، كيف يمكن حدوث ذلك؟، ذلك السؤال هو الفكرة الوحيدة التي تطوف برأسها خلال الأيام الماضية، كيف يمكن أن يطير الإنسان على غيمةٍ من السعادة الوردية، شاعرا بأن أساطير السعادة قابلة للتحقق على ارض الواقع، بينما ما أن يختلي بنفسه حتى تنهادر كل دفاعاته و يسقط على ركبتيه باكيا باستغاثة، وها هو السؤال يتشكل في ذهنها من جديد، و هي تدخل شاردة الى مقهى العمل، مقررة الا تبحث بعينيها كما تفعل كل مرة، قرارا حاسما لا رجعة فيه، يكفي جدا مزاحهما من باب الترفيه في أثناء العمل، لكن بعد الخروج من المكتب و اختفاء السبب في الكلام ما الداعي للبحث عنه، أخذت نفسا عميقا و اتجهت إلى طاولة القهوة الآلية و ما أن أعدت الكوب الخاص بها حتى استدرات لتبحث بعينيها عن، مقعد فارغ، و أي شيءٍ آخر يمكن أن تبحث عنه!، طافت عيناها الناعستان تبحث عن مقعدها المنشود، الى أن وجدته، حيث صدمتها العينان القويتان اللتان تحاصرانها مؤخرا من كل اتجاه، تسربت زفرة متنهدة من بين شفتيها الخوخيتين، ومالت عيناها بأسى و كأنها تسأل نفسها، وماذا بعد؟، ماذا يقصد مما يفعله مؤخرا؟، هل هو بالفعل متغير أم أن كل ما يحدث هو مجرد وهم نسجه خيالها المرهق، آآآه و كم هو مرهق بالفعل، حين نظرت اليه وهو يؤكد عليها الطلب بعينيه الحادتين الآمرتين، ابتسمت بمودةٍ وضعف، فرفع اصبعه ليشير اليها بأن تأتي اليه بثقة، احتارت قليلا منه و هي تشعر وكأن في اشارته اليها حركة أمر هي غير معتادة عليها منه، لم تنظر حولها لتتأكد من إن كان أحدا قد رأى حركته تلك أم لا، بل اكتفت بأن ابتلعت ريقها و هي تبتسم اليه مجددا باهتزاز، ثم اتجهت بتردد و خطواتٍ ضعيفة الى حيث يجلس، ما أن وصلت اليه و ساقيها تتخاذلان حتى ابتسم اليها وهو يشير بعينيه لأن تجلس على المقعد المقابل له، ترددت للحظات وهي تشعر بالتوتر، فقال عمر بهدوء (هل من مشكلة؟).
ابتسمت رنيم بضعفٍ وهي تهز رأسها نفيا، ثم أزاحت المقعد لتجلس اليه مفرودة الظهر برشاقة، محاولة تجنب عينيه ثم تنسى المحاولة للحظةٍ فيرصد استراقها النظر لتهرب من عينيه من جديد، رفعت كوب قهوتها الى فمها ببطءٍ وهي تتمنى أن يزيح الغيمة المحيطة بعقلها، قال عمر أخيرا مبددا الصمت (كان العمل مكدسا اليوم، ولم يكد ينتهى نصفه).
رفعت رنيم نظراتها اليه مجفلة من حديثه، الا أنها اومأت مبتسمة ثم همست برقة (نعم، لكنني لا أشعر بالإجهاد منه، لقد بدأت استمتع بكل لحظةٍ من العمل)
عقد عمر حاجبيه متجهما على الرغم من بقاء ابتسامته كما هي، ثم قال بجفاء مزيف (نعم هذا ما أراه، تبدين كطفلةٍ تزور مدينة ملاهٍ مختلفة كل يوم)
رفعت رنيم حاجبيها بدهشةٍ من تعبيره، ثم قالت مبتسمة (رغم اعتراضي على التشبيه، لكن لماذا تقوله وكأنك غاضب).
رد ببساطةٍ وهو يطوف بعينيه حول ملامحها الناعمة (أنتِ مفتونة)
انتفضت و سعلت بالقهوة الحارقة بقوة حتى دمعت عيناها و احتاجت عدة لحظات لتهدأ و قد بان القلق على عمر وهو يقدم لها منديلا ورقيا قائلا؛ (هل أنتِ بخير؟)
سعلت مرة أخرى لكنها أومأت برأسها وهي تتجنب النظر اليه، ماسحة الدموع عن عينيها، ثم تمكنت أخيرا من الهمس بصعوبة و تلعثم (ماذا قصدت بمفتونة؟).
ابتسم ببطء، ولم يجب للحظات وهو يحاصر عينيها، الى أن قال أخيرا بهدوء و بساطة (مفتونة بالعمل)
ابتسمت قليلا بتردد و ضعف، ثم همست (وما الخطأ في ذلك؟)
لماذا يطيل الصمت دائما قبل أن يجيبها و كأنه يدرس صدق كلامها أولا، زفرت بصمت الى أن سمعته يقول بهدوء (لا يعقل أن يفتن الانسان بعمله، و هذا ما يقلقني).
ضحكت بعصبية وهي تمسك بفلفافة سكر من أمامها و تلويها بتوتر بين أعصابعها الى أن انفجرت المسكينة من شدة الضغط و انساب السكر الأبيض على الطاولة بينهما، عادت لتضحك بعصبيةٍ مرة أخرى وهي تلملم السكر بالمنديل الذي مسحت به دموعها منذ لحظات وهي تشعر بغضب من كل شيء، من ضمن مشاعرها المتناقضة هذه الأيام (دموعكِ المحلاة).
رفعت عينيها الحزينتين اليه حين سمعت عبارته، لكنها وجدت وجهه هادئا مبتسما كالعادة، فهمست بحيرةٍ تتأكد (ماذا قلت؟)
رد عليها عمر بعد لحظة، (المنديل، اصبح يحوي دموعكِ المحلاة)
نظرت الى المنديل بين اصابعها ثم رفعت عينيها إلى عينيه وهمست (ماذا تقصد؟)
هز كتفه بخفة ثم قال بلهجةٍ عادية (لا شيء، مجرد عبارة ناسبتكِ).
مجرد عبارة ناسبتكِ؟، مجرد عبارة ناسبتكِ؟، ماذا من الفترض بها أن تفهم من تلك الجملة، ايكون هو من خط العبارة في مفكرتها من قبل؟، لا، لا، ولما يكذب عليها؟، بالتأكيد ليس هو، احنت رأسها حتى انسابت خصلة من شعرها الى وجهها المنحني الحزين، فمدت يدها لترفعها و منها الى جبهتها وهي تدلكها بحيرةٍ و عجز، أنا أنزلق، أنا أنزلق بسهولة جدا، تنهدت بتعب، هي فعلا متعبة جدا، أفاقت على منظر طبق الحلوى بالشوكولا يقترب منها ببطء، فنظرت اليه وكأنه جسم غريب، ثم رفعت عينيها الى عينين عمر المبتسمتين وهو يقول (تفضلي).
ابتلعت ريقها وهي تنظر منه الى الحلوى وكلاهما أحلى من الآخر، ثم تمكنت من الهمس أخيرا مبتسمة برقة (لا، لا شكرا، تفضل أنت، لقد امتنعت عن الحلوى منذ فترة، لا أملك سوى القليل من الرشاقة و أريد المحافظة عليها)
هل حادت عيناه للحظات أم أنها تخيلت ذلك؟، لا، من المؤكد أنها تتخيل فها هو ينظر لعينيها مبتسما دون أن ترف عيناه، ثم قال أخيرا بحزم مازح خافت (كليها يا رنيم، هذا أمر).
نظرت اليه قليلا بدهشةٍ مرحة ثم ما لبثت أن ضحكت برقة، لكنها رفعت كفها لتستنذ بذقنها اليها ناظرة اليه مبتسمة و شردت للحظاتٍ في آخر جلسة ٍ لها مع طبيبها الخاص بالعلاج الطبيعي، حيث قال لها مستاءا (لقد زاد وزنك ثلاثة كيلو جرامات يا رنيم، و تلك زيادة كبيرة على عمودك الفقري).
تجنبت رنيم الرد عليه و هي تشعر بالإحراج من تلك السخافة في قياس وزنها كل مرة، لكنه لم يترك لها الفرصة حين أكمل بهدوء (رنيم، متى ستتزوجين؟، اخشى أن مسألة الحمل يجب أن نناقشها بوضوح يوما و أنتِ دائما ما تتهربين، الوزن الزائد يتعارض مع الشرائح التي تم تركيبها لكِ، و نحن يجب أن).
حينها قاطعته بحزم قائلة بأنه يستبق الأمور، و يناقش أمورا في علم الغيب، مخفية في نفسها أنها ستحمل و تنجب أطفال حتى و لو اجتمعت كل الظروف ضدها، لم تدري أنها اثناء شرودها كانت عيناها قد امتلأتا بالدموع دون أن تتساقط، لكنها أفاقت على صوت عمر يقول بصوت خافت مهتم (رنيم، هل تبكين؟).
رفعت عينيها المبللتين اليه بسرعةٍ و صدمة، لكنها رمشت بعينيها عدة مرات بسرعةٍ وهي تحاول استخدام المنديل مرة أخرى وهي تهمس ضاحكة بحزن (لا، لا، لقد مرأ شيئا ببالي فحسب، أنا لست بتلك السخافة طوال الوقت).
منعها من استخدام المنديل ذو السكر مرة أخرى وهو يناولها منديلا آخر، فمسحت طرف عينيها وهي تحاول جاهدة الحفاظ على ابتسامتها، لكن حين نظرت اليه وجدت ان ابتسامته قد اختفت و عينيه فقدتا مرحهما وهو ينظر اليها نظرة عميقة جدا، شعرت بالخوف من تفسيرها، لكنها أصرت على تجاهل احساسها فتناولت الشوكة البلاستيكية و غمرتها في قطعة الحلوى لتخرج بقطعةٍ كبيرةٍ سرعان ما التهمتها بكامل فمها وهي تنظر اليه مبتسمة قائلة أثناء تلذذها بطعمها (الإنسان يحيا مرة واحدة، لذا سأمتثل لأوامرك سيدي المدير).
ابتسم قليلا بحنانٍ أفلت من عينيه و كأنما رغما عنه، فتناولت قطعة أكبر بسرعةٍ أعلى وهي تحاول أن تهدىء من نبضات قلبها المجنونة، قال لها عمر مبتسما أثناء هجومها الشرس على قطعة الحلوى، (سآخذك معي غدا في زيارة لبعض المواقع).
تحشرجت في البلع قليلا، وهي تعود لتفكر، أنه من المؤكد الآن هناك شيئا غريبا، انه يعاملها كحالةٍ استثنائية و هي تعتقد أن الجميع قد بدأو يستشعرون ذلك، من طريقة معاملتهم لها، لكنها لا تستطيع اتخاذ خطوات ابتعاد تكتيكية بالرغم من ذلك، لا تستطيع، ملأت فمها بقطعةٍ كبيرةٍ ذات شوكولا ذائبة وهي تفكر بوجوم، انها تنزلق بأسرع مما تتخيل…
وقفت امام المرآة لتعد نفسها، لا تعرف لماذا لم تعد وقفتها أمام المرآة تشغل اهتمامها لهذا الحد، اتكون قد كبرت على تصرفات المراهقات؟، شعرت بالإمتعاض من مجرد تفكيرها بأنها قد كبرت بالفعل، نفضت شعرها الطويل للخلف وهي تحاول ادخال أطراف قميصها الزهري داخل حافة بنطالها الضيق، من المؤكد أن نادر سيسمم بدنها على مثل هذا الزي، توقفت يدها للحظات اسفل حافة خصر البنطال وهي ترفع نظرها الى صورتها المنعكسة، و تتأمل جسدها المتلوي بانحناءاته، لديها شعور غريب يكتنفها منذ أن بدأت الانتظام في الذهاب إلى ذلك النادي الغبي، بدأت تشعر و كأن النظرات تنهشها نهشا، حتى وكأنها أصبحت تحرق كل شبرٍ في جسدها تمر عليه، كانت دائما ولازالت تجذب النظرات اليها أينما ذهبت، لكنها الآن وفي الفترة الأخيرة بدأت تشعر بتقزز غريب من ناحية تلك النظرات، خاصة حين ظهرت المشاعر الحقيقية على صديقاتها، أو من سمين بصديقاتها ذات يوم، فقد ضاع المرح و اختفت الضحكات، و بدأن في تجنبها هي و ابنها، لكن، لكن بقى شيء واحد فقط، و قد ظهر جليا بعد اختفاء الصداقة و المرح المزيف، بقت تلك النظرات التي تنهش جسدها، واضحة كوضوح الشمس، حتى أصبحت تشعر بأنها الشيء الوحيد الذي تحصل عليه حين تجتمع بالبشر، بهم هم على الأقل، وكأنهم يمنحونها الدونية التي تليق بها، بينما هنا لا يتجرأ أحد على رفع نظره اليها، منذ ان وطأت الى الحارة من اليوم الأول وهي تشعر بأنها انسانة عادية جدا لم يوليها أحدا أيا من نظرات الإعجاب التي اعتادت عليها، على الرغم من أنها كانت تسمع بعض عبارت الغزل السطحية هنا وهنا، لغيرها!، لفتيات ٍ تمر من جوارها، ينظرن بتهديدٍ لم يلقيها فيبتسم بخبث، أما هي، فلا شيء، و كانت تشعر بالإحباط من كونها مجهولة على غير العادة، غير مرئية، مهما كانت فهي امرأة و قد اعتادت الإعجاب من حولها، فحين يختفي فجأة، يبدأ الشعور بالإحباط في التسلل اليها، الا أنها بمرور الأيام عرفت السبب، لأنها زوجة نادر، هناك قانون، في هذه المناطق، حيث لا يتجرأ حتى الشباب المغازل منهم على رفع عينه الى زوجة الطبيب الذي يعيش معهم و الذي هو ضيفا لهم، و لا لأي زوجة على الإطلاق، مثل هذه الأنور قد تطير بها رقاب، غريب حالها هذه الأيام، و الذي تغير هنا في الحارة من الإحباط الى الفخر و الاحساس بالمكانة، و الذي تغير أيضا هناك في الطبقة الراقية من الإحساس بأنها محور الإهتمام و ساحرة الجميع، الى الإحساس بالدونية و بأنها أصبحت محددة بنوع واحد من الإهتمام القذر، وكأنهم يخبرونها بأنها لا تساوي أكثر من إشباع تلك تلك النظرات الجائعة، كانت حور اثناء شرودها تنظر إلى صورتها بملامح متجمدة و عينين متبلدتين بقهرٍ خفي، ثم لم تلبث أن نزعت القميص بقسوة من تحت حافة بنطالها وهي تفك أزراره بقوة لترميه أرضا بعدها، ثم تذهب لتلتقط كنزة خفيفة متسعة انسدلت على جسدها حتى قاربت ركبتيها بينما نفضت شعرها الطويل و هي تشعر بأنها أفضل حالا، بالتأكيد أفضل حالا، ابتسمت لنفسها وهي تلتقط هاتفها لتطلب أمها، منذ عدة أيام لم تسمع صوتها، انتظرت قليلا واضعة الهاتف على أذنها وهي تتلاعب بخصلات شعرها أمام المرآة، ربما لو جمعته؟، الا أن الصوت الذي رد عليها جعلها تنتبه وهي ترد (من معي؟).
ردت صبا بهدوء و رقة (السلام عليكم يا حور، أنا صبا، كيف حالك؟)
ردت حور بلا مبالاة قليلا (اها، مرحبا صبا، كنت أريد أن اكلم أمي)
كانت تنظر الى صورتها في المرآة وهي تتأمل نفسها بتقييم، الا أنها لاحظت بعد التردد في الصمت الذي ساد الجانب الآخرلكن صوت صبا الهادىء لم يلبث أن انبعث وهي تقول بخفوت (خالتي، نائمة قليلا)
عقدت حور حاجبيها قليلا ثم قالت بحيرة (حسنا أيقظيها).
ساد صمت متوتر مرة أخرى، ليزداد قلق حور الا أن صبا قالت (لقد، لقد أوصتني أنها تريد الراحة قليلا، لكن ما أن تستيقظ سأخبرها لتهاتفك فورا)
قالت حور قاطعة (هل أمي مريضة؟)
هتفت صبا على الفور (لا، لا، أنها بألف خير، صدقيني، إنها فقط ترتاح).
عقدت حور حاجبيها أكثر وهي تسمع تنهيدة متوترة، ماذا الآن؟، الا تريد أمي أن تحادثني؟، ماذا هل رمى الجميع أمري! قالت حور أخيرا دون أن تخفي لهجة الضيق في صوتها (حسنا، لا بأس).
ثم أغلقت الهاتف دون أن تستطيع أن تبدي أي نوع من أنواع المودة وهي تمط شفتيها امتعاضا، وهي تفكر بأن تلك صبا تتخلل مكانها بسرعةٍ لدى أمها، أغلقت صبا الهاتف و هي تتنهد بصمت و توتر مفكرة، إنه ليس وقتك أبدا يا حور، حتى أنني أتفهم جيدا محاولة خالتي في التهرب منكِ كي لا يزل لسانها بشيء أمامك، كما تفعل دائما لكنها تركت ذلك التفكير الآن وهي تولي كل اهتمامها لحنين التي كانت جالسة في فراشها ضامة ركبتيها إلى صدرها بقوة و عينيها مبللتين بالدموع لكن دون ان تبكي فعلا، يالهي، وجهها يبدو كالأموات اقتربت صبا منها بهدوء وجلست بجوارها برفق، ثم همست بخفوت كي لا تجزع و قبل حتى أن تحاول لمسها مرة أخرى (حنين، هل أنتِ بخير حبيبتي؟، لا تصمتي بهذا الشكل، أنتِ تخفيني عليكِ).
لم يظهر على عيني حنين ما يدل بأنها سمعت صبا، لم ترمش بهما حتى، علها تسقط هاتين الدمعتين الثقيلتين فوق حدقتيها، اقتربت منها صبا أكثر و ببطء رفعت ذراعها لتحيط بها ظهر حنين وهي تضمها الى صدرها برفق فمالت حنين برأسها الى كتف صبا التي شعرت على الفور بارتجاف جسدها، فضمتها أكثر قوةٍ اليها وهي تهمس (هل تشعرين بالبرد؟).
مجرد هذا السؤال جعلها تنتفض بين أحضان صبا، وهي تتذكر صوته الذي سألها نفس السؤال ببرودة أعصاب في تلك اللحظات التي تلت أغتيال كل أحلامها، همست حنين بضياع وهي تكتف ذراعيها بقوة و تشنج (نعم، نعم، اشعر بالبرد، أشعر ببرد شديد يكاد يفتت عظامي).
نظرت صبا بخوف الى شفتي حنين اللتين ترتجفان بقوةٍ حتى أنها سمعت صوت اسنانها تصطك بشدة، فزادت من ضمها وهي ترفع الغطاء حتى ذقنها، همست صبا و هي تدلك ذراع حنين بقوة (ليس الجو بارد الى تلك الدرجة حبيبتي، هل أنتِ مريضة؟).
ظلت حنين على ارتجافها وهي تتشبث بصبا، و التي ظلت صامتة قليلا ثم همست أخيرا بشجاعة بينما قلبها ينبض خوفا مما ستسمعه (ماذا فعل بكِ يا حنين؟، يمكنك أن تخبريني بأي شيء حبيبتي، هل، هل فرض نفسه عليكِ بالقوة؟).
ازداد ارتجاف حنين، و ازداد معه قوة ضم صبا لها، وظنت بأن حنين لن تجيبها أبدا، الا أنها بعد عدة لحظات تمكنت من الهمس بخوف و تقطع (لقد فرض نفسه على روحي، لم أكن أريده، صدقيني لم أكن اريده، اقسم بالله يا صبا لم ارده أبدا)
عقدت صبا حاجبيها و تشنجت و قلبها ينتفض انتفاضا بين أضلعها، ثم تمكنت من الهمس أخيرا (هل، هل اغتصبك؟، أجبيني بالله عليكِ).
ظلت حنين صامتة للحظاتٍ طويلة، ثم همست تئن بعذاب (كنت أتمنى أن يغتصبني، كنت أريده أن يغتصبني، على الأقل لن اشعر تجاه نفسي بما أشعر به الآن، لقد قال، قال، أنني استسلم له دائما، و أنه قدري، و أنني لا أقاومه كما أدعي، و أنا في الحقيقة، أنا في الحقيقة، أنا أخاف منه، أنا أخاف منه جدا، كنت خائفة منه لدرجة الموت، لدرجة أنني لم أتجرأ على فعل شيء، لقد منحته الرضا الذي يريده يا صبا، منحته كل الرضا تجاه نفسه بخوفي و استسلامي).
انفجرت في البكاء بعنف عند تلك النقطة، بينما بكت صبا هي الأخرى لوعة على حال حنين، والتي أخذت تنشج بقوة و هي تهمس بتحشرج (اريد أن أقتله، أريد أن يتعذب كل لحظة من حياته، أريد أن)
همست صبا تقاطعها بعطف (هشششششش، كفى، كفى، لا تعذبين نفسك بتلك الطريقة)
هتفت حنين بقهر، (أنا لا أملك القدرة على مقاومته، و في النهاية حين نال ما يريد، شعرت بأنني، بأنني).
لم تستطع حنين أن تكمل كلامها من شدة قهرها، فأكملت صبا بشرود حزين (بأنكِ فقدتِ جزءا من نفسك، بل بأنكِ فقدتِ نفسكِ و سلمتيه عقد امتلاكها)
همست حنين وهي تبكي بضعف (نعم)
فتابعت صبا بنفس الشرود الحزين (شعرتِ بأنكِ قد دُمغتِ باسمه، ولا فرار منه بعد الآن، وكأنه رمالا متحركة، تغوصين فيها أكثر و أكثر، يوما بعد يوم و أنتِ مسلوبة الإرادة، و كأنكِ دمية قماشيةٍ ممزقة).
رفعت حنين عينيها لتنظر الى عيني صبا الشاردتين ثم أومأت برأسها وعيناها تطلقانِ عذابا لا حدود له، فهمست بتحشرج (أشعر بأنني رخيصة جدا، لو كنت تمكنت من مقاومته منذ اليوم الأول بكل قوتي!، لو كنت فتاة أخرى غيري).
نظرت اليها صبا بحزن و رفعت يدها تتلمس خصلات شعرها الذي بدا هو نفسه حزينا يشاكها لوعتها، ثم هزت رأسها نفيا وهي تهمس بصوتٍ غريب (رغم كل شيء، رغم تهورك و غباءك، الا أنني أراكِ في منتهى القوة، على الأقل روحكِ أراها منتفتضة في عينيكِ الرافضتين، انتِ وحدك في كل ذلك و لا زلتِ تقاومين بروحك، لو كنتِ، لوكنتِ فتاة أخرى تدعي بأنها أقوى منكِ، لكنتِ الآن شاردة بروحك لا تعرفين الرفض لذلك الذي تسلل الى حياتك دون اذنٍ منكِ و لا تقوين حتى على كرهه، لكان أسر جزءا من نفسك ظننتِ أنكِ تمتلكينه طوال سنواتِ عمرك، و في لحظةٍ، في لحظةٍ تجدين أنكِ).
توقفت صبا عن همسها الشارد وهي ترفع يدا مرتجفة الى صدرها اللاهث، مغمضة عينيها وهي تتنفس بنفسٍ لاهب يخرج مرتجفا من بين شفتيها المنفرجتين، أفاقت صبا على صوت حنين المرتجف وهي تهمس (صبا، أنا لا أفهم ما تقولينه).
فتحت صبا عينيها و نظرت الى عيني حنين الحمراوين، ثم أحاطت وجهها بكفيها لتقول بحزن و بنظرة جديدة غريبة في عينيها (لا تفهمين لأنكِ قوية، أنتِ أقوى مما تظنين، بل و أكثر قوة من فتياتٍ لهن ظروف أفضل كثير من ظروفك).
صمتت صبا قليلا وهي تحيد بعينيها عن عيني حنين ثم أخذت نفسا عميقا مرتجفا وهي تعاود النظر اليها لتقول بحذر و خفوت (حنين، هل أنتِ بخير؟، هل تحتاجين أن أصطحبك الى الطبيب، او لو أردتِ أن أطلب من خالتي ذلك)
اتسعت عينا حنين و احمر وجهها ثم همست بارتجاف و توتر (لا، لا، أنا، بخير)
ثم أخفضت جفنيها بشعورٍ من الخزي فهمته صبا جيدا فربتت على كتفيها وهي تقول (حسنا، كيف يمكنني أن أساعدك الآن؟).
همست حنين وهي تتشبث بها باستجداء؛ (لا تتركيني يا صبا، ابقي معي، أنا خائفة جدا)
قالت صبا بابتسامةٍ مرتجفة حزينة وهي تربت على شعرها (لن أتركك وحدك أبدا، لا تخافي وهذا وعدا مني).
مسحت الحاجة روعة دموعها وهي تحاول التغلب على ضربات قلبها المؤلمة، ثم مسحت دموعها بيدها المكتنزة و أخذت نفسا مرتجفا ثم طرقت باب غرفة عاصم، وما أن سمعت صوته المهدود حتى دخلت. لتجده جالسا على حافة فراشه، محنيا رأسه، مستندا بها الى كفيه، رفعت الحاجة روعة يدها الى صدرها الملتاع، وهي تهمس بداخلها حماك الله من انحناء جبهتك يا حبيب أمك ثم دخلت بخطواتها الثقيلة اليه حتى جلست بصمتٍ بجواره، ولم تستطع منع الدموع من التساقط على وجنتيها من جديد وحين فاق ألمها الحد، رفعت يدا لتضعها على فخذ عاصم القوى و كأنها تستمد منه القوة، وهي تهمس بارتجاف و بصوتٍ مبحوح (ماذا سنفعل الآن يا عاصم؟).
لم يبد على عاصم بأنه سمعها، فلم يتحرك حتى من جلسته للحظات، الى أن قال دون أن يتحرك من جلسته (ماذا تعتقدين أن بإمكاننا أن نفعل يا مي؟)
ترددت الحاجة روعة، ثم قالت بخوف (هل تنوي فعلا، تطليقها منه؟).
رفع عاصم رأسه اليها و فقد ارتعبت أمه من منظر وجهه الشاحب المجهد بينما عيناه كانتا تشتعلانِ غضبا و نيرانا، وهو يهتف بجنون (وماذا تتوقعين يا أمي، لو آخر عمل في حياتي فسأطلقها منه و بعدها سأقتله بعد تجرأه على تلويث اسم والدي بهذا الشكل القذر)
انتفضت الحاجة روعة وهي تضرب على صدرها بيدها برعب لتوق بسرعة (اهتدي بالله يا ولدي و تؤذي نفسك، كما أن، كما أنه تزوجها على سنة الله ورسوله).
نهض عاصم من مكانه وقد جن جنونه ليصرخ بغضب (ماذا تقولين يا أمي، الا تدركين الفضيحة التي ستنال اسمنا بعد ما حدث، لقد هربت ابنة اخ زوجك الكريمة ليلا لتتزوج من الحقير الذي هرب منها منذ عشر سنوات، هل تقدرين حجم الفضيحة التي ستشتعل خلال أيام في كل مكان).
نهضت الحاجة روعة وهي تبكي و تنتحب بينما تربت على ذراعه محاولة تهدئته، قائلة بارتجاف (لهذا السبب يا بني تريث قليلا، لو طلقتها منه بالقوة فقد يدمر سمعة البنت بالباطل أو يفضحها في كل مكان).
ازداد جنون عاصم وهو يهيج في الغرفة كالمجنون صارخا (وشخصا كهذا، نخشى أن يتبلى عليها بالباطل، هل نأتمنه عليها لمجرد سترها، ومن ادراكِ الا يرميها بعد يومين أو أن يفعل بها أي شيء قذر ممكن أن تتخيله من أمثاله، كل هذا بسبب الغبية التي تبعته ليلا).
عادت الحاجة روعة للبكاء بعنف وهي تغطي وجهها بيديها، بينما كان عاصم يتجه الى باب الغرفة ليفتحه و يصرخ من خلاله عاليا كالمجنون ليهز صوته أرجاء المنزل الضخم (هربت معه لتزوج نفسها بنفسها كلقيطة، ليسجنها بعدها بغرفةٍ كالجواااااا ري).
، انتفضت حنين من صراخ عاصم المجنون و الذي وصل لأنيها يكاد يصمهما، و ارتجفت شفتيها بعنف فدفنت وجهها في صدر صبا بقوةٍ و هي تنتحب و تبكي، و تبكي، تبكي على كل حياتها البسيطة التي تمنت الهروب منها يوما، لتتمنى الآن الرجوع إلى يومٍ منها، آمنة في غرفتها التي لم تعد غرفتها، و بيتها الذي لم يكن بيتها يوما، ضمتها صبا اليها أكثر وهي تستند بذقنها إلى قمة رأسها هامسة بغضب (لا تخافي، لن أتركك، لن أسمح لأحد بأن يؤذيكِ بعد الآن).
همست حنين بإرتجاف (أريد أن أصرخ يا صبا، أريد أن أصرخ الى أن أفقد صوتي، وقد أفقد معه بعضا مما أشعر به الآن)
اخذت صبا تربت على شعرها وهي تهمس بتعاطف (لو كنا وحدنا لكنت ترتكت تصرخين كما تريدين، ولربما كنت صرخت معكِ أيضا)
فجأة فتح الباب بقوةٍ ودخل عاصم كالثور الهائج، فانتفضت حنين في مكانها بينما نظرت اليه صبا بغضب و ذهول قبل أن تهتف (كيف تدخل هكذا دون أن تطرق الباب؟).
لكن عاصم كان منظره لا يقبل أي نوع من تلك الملاحظات في تلك اللحظة، لذا اخذ نفسا ليحاول السيطرة على ما يعتمل بنفسه ثم قال بصرامة مخيفة (اتركينا الآن يا صبا، أريد أن أتكلم مع حنين على إنفراد)
اتسعت عينا صبا قليلا، لكنها تمالكت نفسها و هي تقول بشجاعة مزيفة (لن أخرج، يمكنك قول ما تريده، أنا لم أعد غريبة)
ابتسم عاصم بسخريةٍ مستهزئة، الا أنه لم يلبث أم أشار بيده إلى الباب وهو يقول بتشديد (أخرجي).
ابتلعت ريقها وهي تشعر في تلك اللحظة بنوع من الدوار وهي تنظر اليه بنوعٍ جديد من المعرفة، بإدراكٍ جديدكيف حدث ذلك؟، ومتى تحديدا؟، هي نفسها لا تعلم و لا تكاد تصدق، اتسعت عيناها قليلا وهي تنظر إلى هيئته الهمجية وهو يطردها خارجا، بينما صدرها يلهث و قلبها ينبض و عيناها تهتزان من حوله، رمشت عدة مرات بذهول وهي تهمس بداخلها، يالهي، قصف صوته ضاربا جدران الغرفة بغضب (صبا، اخرجي حالا، أريد أن أتكلم مع ابنة عمي في أمور لا تخصك).
رفعت رأسها اليه و هتفت بقوةٍ لا تتناسب إطلاقا مع ذلك الإكتشاف الجديد الذي ومض في داخلها، (لن أخرج، أرني ماذا ستفعل).
و تأكيدا على كلامها إزداد تشديدها في التمسك بحنين التي تشبثت بها وهي ترتجف خوفا، نظر عاصم اليهما معا بجنون الغضب وشعر بأنه أوشك على فعل شيء متهور بهما، لكنه استدار ليأخذ نفسا عميقا قبل أن يندم و بعد عدة لحظات استدار اليهما و قد تجمدت ملامحه دون أن تفقد عيناه غضبهما المخيفو استمر في النظر لعيني حنين في تعذيب نفسي الى أن أخفضت عينيها في انكسار و انفجرت باكية من جديد، لكن عاصم لم يبالي ببكائها وهو يلتقط كرسي جانبي و يضربه في الأرض بقوةٍ أمامها ليجلس عليه وهو يحاول التمسك بآخر ذرةٍ من ذرات التحضر الذي اكتسبها خلال السنوات الماضية، ثم لم يلبث أن صرخ بصرامة (انظري الي).
لم تستطع حنين النظر اليه وهي تنتفض و تختبىء من عينيه القاسيتين الجارحتين، لكنها قفزت في مكانها حين صرخ مرة أخرى بصوتٍ أقوى (قلت انظري الي)
همست صبا بخوف و بنظراتٍ غاضبة (اهدأ قليلا، لا تصرخ فيها)
قاطعها عاصم بصرامةٍ أفزعتها (اخرسي أنتِ، اقسم أنكما ستريانِ مني أياما لم تروها من قبل).
ثم التفت إلى حنين وهو يهتف ضاغطا على كل حرفٍ بنيرانٍ من الغضب المكبوت الذي يحاول جاهدا أن يكبته منذ أن وصل اليها (أتعلمين ماذا أحب أن أفعل بكِ حاليا؟، جزاءا على اسم والدي الذي اهنتيه بتلك الطريقة، ألم تفكري ولو للحظةٍ في عواقب فعلتك، الم تفكري في اثر ما فعلتهِ على السيدة التي ربتكِ كابنتها، الم تفكري للحظةٍ في مالك الذي صمتِ تماما عن ذكر الحقيقة و قبلتِ بخطبته لتهربي بعد ذلك و بتلك الطريقة الحقيرة).
أغمضت حنين عينيها وهي تبكي بقوةٍ، تعض على شفتها حتى أدمتها دون أن تشعر بالالم، فما بداخلها في تلك اللحظة كان لا يشبه أي ألم عرفته على الإطلاقصمت عاصم وهو يلهث قليلا، ثم قال بقوةٍ قاصفة (لنبدأ من الأول، أريد معرفة كل شيء من البداية، دون أن تغفلي عن حرف واحد).
ابتلعت حنين ريقها من وسط بكائها المنفعل، لكنها أجبرت نفسها على النطق همسا بتفاصيل الحكاية منذ أن عاد جاسر اليها ذات يوم، كانت تتعثر و تتلعثم و تختنق ما بين بكاءٍ و همسٍ متقطع، دون أن تجد القدرة على مواجهة عيني عاصم، أخيرا وبعد أن صمتت كانت عينا عاصم قد ازدادتا احمرارا من شدة الجنون الا أنه تمكن أخيرا من النطق بهسيس مخيف (اذن كل ما لديكِ هو أنه اخبرك بأنه لم يلقِ يمين الطلاق، ولماذا صدقتهِ، ماذا لو كان يكذب؟).
لم تستطع حنين النطق وهي ترى في كلِ لحظةٍ مدى غبائها يتضاعف أمام عينيها، الا أن صبا أسعفتها وهي تندفع بقوةٍ قائلة (وماذا لو لم يكن؟، انه أمر خطير، كيف كان بإمكانها أن تتصرف؟، هل تتجاهل الأمر وكأنها لم تسمع شيئا؟)
صرخ عاصم بغضب (اخرسي أنتِ، لا أريد أن أسمع صوتك).
انتفضت صبا وهي لا تصدق أن ذلك المخلوق الشرس الذي يعاملها بهمجيةٍ هو نفسه عاصم الذي عرفته منذ فترةٍ وكان يذوب لمرأى عينيها، عاد إلى حنين وهو يتنفس بصعوبةٍ قليلا، ثم سأل بخشونة (هل كتب عليكِ رسميا؟، بوجود مأذون شرعي و شهود؟)
أومأت حنين برأسها وهي تبكي دون أن تجيب، صمت عاصم قليلا و كأنه متردد، وكأنه خائف مما قد يسمع، ثم همس أخيرا بخشونةٍ (هل، حدث بينكما شيء، قبل أن يكتب عليكِ رسميا؟).
احمر وجهها بشدةٍ و اختنق البكاء في حلقها للحظات مما جعل عاصم في تلك اللحظات القليلة يشعر بالجحيم يندفع في اعماقه، و الخوف يتسرب الى نفسه، الا أن حنين هزت رأسها نفيا و هي تغص بنشيجٍ معذب، أخذ عاصم نفسا مرتجفا، قبل أن يقول بقوةٍ مفزعة (هل تقولين الصدق، أم أنكِ فقط خائفة؟، انطقي يا حنين).
نطق عبارته الأخيرة صراخا وهو يضرب حافة الفراش بقبضته فانتفضت الاثنتانِ معا، وهمست حنين بهلعٍ وصعوبةٍ من بين بكائها الشديد (أقسم لك، لم يحدث، شيء، قبلها، لقد أحضر المأذون منذ الليلة الأولى).
ثم خبا صوتها من شدة الخجل و الخزي و البكاء على ما آل اليه حالها، سكت عاصم وهو ينظر اليها بغضب و حتى اعترافها لم يهدىء منلا حاله ولو قليلا، حتى زواجها لم ينفي احساسه بأن شخصا ما قد تجرأ على عرضه و شرفه، نهض عاصم من مكانه مندفعا وهو يبدو كحيوانٍ شرسٍ مقيد، ثم لم يلبث أن التفت اليهما وهو يقول بلهجةٍ قاطعة (ما مدى صعوبة حصولها على الطلاق؟).
لم تدرك صبا للوهلة الأولى أنه يخاطبها، الا أن عينيه المتوحشتين الناظرتين اليها جعلتاها تنتفض قليلا قبل ان تقول بخفوت؛ (كانت لديها فرصة أكبر بالتاكيد، قبل أن تتزوج رسميا برضاها، أما الآن فسيكون الطريق أطول أمامها قليلا في المحاكم)
ثم خفت صوتها تدريجيا و صمتت وهي ترنو بنظارتٍ مبهمةٍ الى حنين، لتقول بوجوم (لكن مع ذلك لديها حجج قوية، إن، إن أرادت خوض الطريق).
اخفضت صبا عينيها وهي تشعر بقبضة كالثلج تمسك بصدرها، لأول مرةٍ ينتابها ذلك القلق الأناني، يبدو أن مكوثها مع ذلك الكائن الهمجي قد لوث روحها، لكن عاصم كان بوادٍ آخر تماما وهو يتطلع الى حنين قائلا بحقد (هل أنتِ راضية الآن؟، باسم والدي الذي ستزجين به في المحاكم و الفضائح التي ستنتشر في المدينة كلها، وطبعا القذر لن يتورع عن نشر كل التفاصيل القذرة لزواجكما الأسود).
ارتجفت حنين أكثر حتى باتت أنفاسها تخرج كشهقاتٍ باكيةٍ و دفنت وجهها بين كفيها غير قادرة على المتابعة، لكن عاصم تابع وهو غير قادر للسيطرة على اقواله من هول ما يشعر به (هل صورك أو شيءٍ كهذا؟)
صرخت حنين عاليا بين كفيها بينما قفزت صبا صارخة من مكانها بعنف؛ (كفى يا عاااصم، كفى، لم أعد أحتمل هذا التحقيق القذر).
للحظةٍ صمت عاصم وهو يشعر بأنه تمادى، لكن كيف له أن يثق بالحيوان الذي فعل فعلته السوداء، كيف يمنع أبشع التخيلات من المرور أمام عينيه، نظر اليهما أخيرا نظرة طويلة كانت تحمل الكثير، ثم اندفع خارجا دون أن يضيف كلمة أخرى، بينما وقفت صبا للحظاتٍ مسمرة مكانها. حتى أنها خطت خطوة وكأنها تريد الركض خلفه، لكن صوت بكاء حنين الهستيري جعلها تعود صاغرة لتجلس بجوارها و تلتقطها بين أحضانها من جديد، بينما رغما عنها، تطلعت إلى الباب الذي خرج منه عاصم كالمجنون و هي تشعر بقلقٍ عليه، ما تلك الدوامة المجنونة التي تحياها، تبغض كل ما ينطق به من أقوالٍ بشعة، ثم يرتجف قلبها لشحوب وجهه، تشعر بالنقمة عليه بسبب ما حدث لحنين، لتشفق على حاله وهي تراه كالمجنون منذ أن علم بغيابها و كأنه فقد ابنته، اقسمت أن تهب لمساعدة حنين، لتجد أن خوفا خائنا يدب في أعماقها في أن ينفذ عاصم تهديده، كي يصون اسم ابنة عمه أمام الناس، وماذا لو فعلها؟، سترحل ببساطة و تتفرغ لمعاركها الخاصة، لكنها ليست الحقيقة، ليست الحقيقة أبدا وهي تتخيل أن عاصم من الممكن أن يهب اسمه لواحدة أخرى كما فعل معها، أن ينظر الى أخرى كما ينظر اليها، أن يلامسها كما لامسها، هل كل النساء لديه، كان ليعاملهن بنفس الطريقة؟، أم هي فقط؟، هل ستلامس أنفاسه الساخنة وجنتي امرأةٍ أخرى وهو يبثها شغفه، نفضت رأسها بقوة من تلك التخيلات المريضة و هي تنأى بنفسها عن أنانية كل من تعامل مع حنين من واقع مصلحته الشخصية، لذا همست بخفوت (لا تخافي، لم يحدث شيئا من ذلك، لا تخافي).
بعد فترةٍ طويلة و بعد أن هدأت حنين قليلا وهي لاتزال مستكينة في أحضان صبا، تنظر أمامها بعينين فارغتين مجوفتين، و الصور تطوف في رأسها، تأبى أن تحررهابين حينٍ و آخر تقشعر وهي تشعر بلمساته لاتزال تلامسها، و همسه الأجش يهدر في حلقاتٍ ساخنة داخل أذنها، لا تتذكر معظم ما همس به، لكنها لا تزال تميز كلمة واحدة، أنتِ ملكي، أنتِ لي و كانت ترتعش كلما همسها ليؤكد بدمغاته ما همس به للتو، و رائحته الرجولية العنيف تملأ أنفاسها حتى أنها لم تترك رئتيها الى الآن، رفعت حنين رأسها بضعف الى صبا وهمست (صبا، أريد أن أغتسل).
عقدت صبا حاجبيها وهمست بعطف (مجددا؟، نامي قليلا حنين وحين تستيقظين)
الا أن حنين هتفت وهي تغلق تفكيرها عن السمع تماما (أريد أن أغتسل، رائحتي كرائحة عطرٍ ثقيل ممتزج بالدخانِ)
همست صبا برقة و هي تشعر بأن قلبها يؤلمها، (رائحتك ليس بها أيا مما ذكرته يا حنين، ارتاحي، كل ذلك من تفكيرك المجهد فقط)
هزت حنين رأسها بقوةٍ و رفض وهي تقول (أريد أن أغتسل، أرجوك، اريد أن أنهض).
ساعدتها صبا بيأس لتنهض و سألتها بحزن (أتريدين مساعدة؟).
لكن حنين هزت رأسها نفيا دون أن تجيب و هي تدخل الى الحمام بسرعةٍ و تغلق الباب خلفها بقوة، لحظات قليلة مرت و صبا تقف أمام الباب ككلِ مرة خوفا من أن ترتكب حنين أي عملا متهورا، أو حتى أن تصاب بالإغماء بعد كل المجهود العصبي الذي تعرضت له، رفعت صبا يدها وهي تلامس الباب برقةٍ، ترهف السمع ليصلها صوت البكاء الناعم الذي يتوه بعد لحظاتٍ في صوت انهمار ماء الإستحمام، همست صبا بألم (حنييين، أنت مسكينة جدا، و غبية جدا، لكنك أقوى مني و أنتِ لا تدركين مدى قوتك بعد).
ظلت صبا واقفة مكانها تنتظر، الى أن وجدت الحاجة روعة تدخل الغرفة، بخطواتٍ مترددة و عينين ذابلتين من كثرة البكاء، ممسكة بيدها كوب يتصاعد منه بخار مشروب ساخن، التفتت اليها صبا لتقول بوجوم (ادخلي يا خالتي، حنين ستخرج الآن).
أومأت الحاجة روعة بحزن و تردد و هي تتدخل الى منتصف الغرفة، ثم وقفت وكأنها لا تعلم كيف تتصرف الآن، فاقتربت منها صبا الى أن وصلت اليها ورفعت يدها تلامس ذراعها (ماذا بكِ يا خالتي؟، اجلسي قليلا و هاتي هذا الكوب من يدك).
أخذت صبا الكوب الساخن من بين يديها لتضعه بحرص على الطاولة الجانبية، ثم اجلستها برفق على حافة الفراشفقالت الحاجة روعة بصوتٍ خفيض (كيف هي حنين الآن يا صبا؟، لقد سمعت عاصم يصرخ كالمجنون، و لم يعد قلبي يحتمل أن ادخل في هذا الوضع، أشعر أنني لم أعد أحتمل)
جلست صبا بجوارها و ربتت على ذراعها هامسة (ستصبح أقوى يا خالتي، فقط تحتاج لبعض الوقت).
رفعت الحاجة روعة يدها لتضعها على صدرها المتألم وهي تقول بألم (لن يمر هذا الموضوع على خير أبدا، أنا أعرف ولديّ جيدا)
عاد القلق ليعصف بصبا، لكنها سيطرت على إنفعالها بسرعةٍ وهي تقول بضعف (لا تقلقي خالتي و ضعي ثقتك بالله)
قالت الحاجة روعة بارتعاش؛ (ونعم بالله يا ابنتي).
في تلك اللحظة فتحت حنين باب الحمام و خرجت منه تترنح قليلا وهي تلتف بمنشفةٍ بيضاء ضخمة. تكاد تبتلع جسدها الضئيل، بينما تساقط شعرها الندي كأمطارٍ على كتفيها و ظهرها، توقفت قليلا حين فوجئت بوجود الحاجة روعة، حتى الآن لا تريد مواجهتها، ولا تجد القدرة على النظر إلى عينيها، و الأصعب أن النظر الى عينيها يذكرها بالمواجهة الأشد ألما، وهي مواجهة مالك، لكن الحاجة روعة سبقتها الى الكلام وهي تقول بحزن، (تعالي يا حنين اجلسي).
ذهبت اليها حنين ببطءٍ الى أن تمكنت من الدخول في فراشها و تحت الغطاء، دون حتى أن تتمكن من ارتداء ملابسها، فقط أخذت غطائها الى عنقها لتحتمي به، و بعد تردد قليل، طالت يد الحاجة روعة المشروب الساخن. و نظرت اليه للحظة بقلق ثم ناولته لحنين و هي تهمس بصوتٍ مخطوف (خذي يا حنين، اشربي هذا).
رفعت حنين يديها و أخذت الكوب الساخن من زوجة عمها، وهي غير قادرة على تحمل ملامح النزاع الداخلي الظاهرة على ملامحها، لكن حين رفعته الى فمها، مدت الحاجة روعة يدها لتمسك بيد حنين تمنعها وهي تنازع نفسها و دموعها، فنظرت حنين اليها بحيرة معذبة، حينها تجنبت زوجة عمها النظر اليها و أبعدت عينيها و يدها وهي تقول بصوتٍ مختنق (اشربيه حبيبتي، سيريحك).
أومأت حنين بطاعة، و ما أن رفعته للمرة الثانية إلى شفتيها حتى أسرعت الحاجة روعة تختطف منها الكوب قبل أن تشرب منه وهي تقول بوجع (لا، لا تشربيه)
لدرجة أنها أراقت بضع قطرات على صدر حنين أحرقتها بسخونة، فأنت ألما، ثم نظرت اليها بدهشة و ألم و همست (ما الأمر يا عمتي؟).
لم تستطع الحاجة روعة النظر اليها أو حتى الرد وهي تتنفس بصعوبة، فنقلت حنين عينيها بخوف من زوجة عمها الى صبا الواقفة تنظر بقلق و حيرة الى الحاجة روعة كذلك، ثم قالت صبا بحزم وهي تشعر بعدم ارتياح (ما هذا المشروب يا خالتي؟)
لم ترد الحاجة روعة لعدة لحظات وهي تتشبث بالكوب غير آبهة لسخونته على أصابعها، ثم قالت أخيرا محاولة التظاهر بالقوة (إنها أعشاب، ستريحها و).
لم تستطع الإكمال، فسألت صبا بحذر و توجس (و، ماذا؟)
أيضا لم ترد لبضع لحظات الى أن قالت أخيرا بصوتٍ عاجز معذب (وهي، وهي، س، ستخلصها من الحمل لو كان قد وقع)
صرخت صبا بغضبٍ و صوتٍ عالٍ دفعة واحدة (ماذاااا؟، ما هذا الذي تقولينه يا عمتي؟).
دون مراعاة لمشاعر الحاجة روعة بينما شهقت حنين بذهول و قد احمر وجهها بصدمة و رعب دون وجود للخجل الذي أصبح نوعا من المشاعر المرفهة بالنسبة لها بكل هذا الخزي الذي تعرضت له ولا تزال، حمل!، هل من الممكن أن تكون الحياة قاسية معها إلى تلك الدرجة؟، لم تخطر تلك الفكرة على بالها مطلقا خلال تلك الساعات السوداء التي مرت عليها، و ظلت تنظر الى المشهد الهيستيري من أمامها وهي فاغرة شفتيها بوجوم و رهبة و كأنها تتفرج من بعيد، وصبا تصرخ بقلة تهذيب على غير عادتها (كيف تفكرين بذلك يا عمتي؟، حرااام، حراام، مالذي يجري في ذلك البيت المتناقض؟).
ابتلعت الحاجة روعة ريقها و هي تنظر إلى صبا بنظراتٍ مذنبة معذبة، ثم قالت باستجداء رغما عنها (هي لم تقضي معه سوى بضعة أيام، أي أن الح، الحمل، لو كان حدث، لم تدب به الروح بعد)
رفعت صبا يديها الى رأسها الذي رفعته إلى السماء وهي تهتف بيأس و غضب (يالهي، ماهذا الذي أسمعه؟، ما هذا الذي أسمعه؟).
لكن الحاجة روعة هتفت هي الأخرى بعجز وهي تبكي محاولة أن تبرر لها (يا صبا عاصم أقسم برحمة والده أن يطلقها منه بالقوة، و بعدها لن يرحمه و سيصفي حسابه معه، فكيف ستكمل حياتها لو خرجت من تلك المأساة بطفلٍ منه، الا يكفيها التدمير الذي أصاب حياتها لتضيف فوقه تلك المصيبة؟)
صرخت صبا و هي تذرع أرض الغرفة بجنون، (تلك المصائب كلها أنتم السبب فيها، لو كانت ابنتكم لما كنتم ظلمتموها بهذا الشكل من البدااااية).
ساد صمت موجع في الغرفة بعد جملة صبا المجنونة، و التي وقفت مكانها و أدركت أنها قد تغابت مجددا و أوجعت أكثرهم عجزا، سمعت نهنهة بكاء ضعيف فالتفتت لتجد أن الحاجة روعة قد أخفضت رأسها و اخذت تبكي كالأطفال حتى ان كتفيها بدأتا في الاهتزاز مع بكائها، اقتربت منها صبا بسرعة ثم ركعت على ركبتيها أمامها على الأرض و أحاطت يدي الحاجة روعة الممسكتين بالكوب بكفيها و هي تهمس بأسف (كفى يا خالتي، كفى، لم أقصد ذلك، أعلم بأن الأمر كان خارج حدود سيطرتك، لكنكم تصححون كل خطأ بخطإٍ، اكبر منه، وفي النهاية حنين هي من تتحمل العواقب).
قالت الحاجة روعة باختناق من بين بكائها بصوتٍ لا يكاد يكون مفهوما (أنا أحاول أن أحميها من مأساةٍ لو حدثت فسوف)
لم تستطع المتابعة و انفجرت في البكاء، و صبا تربت على ساقيها، بينما حنين تتفرج عليهما من بعيد، من بعيد جدا، وكأنها تشاهد عرضا دراميا، ثم فجأة و قبل أن تدري أن الصوت قد صدر من بين شفتيها، قالت بقوة (أعطني الكوب يا عمتي، سأشربه).
التفتت كلا من صبا و الحاجة روعة اليها بذهول، وهما لا تصدقان صوتها الذي قصف كرصاصة، و كانت صبا هي أول من همست بترجي (لا يا حنين، لن تفعلي ذلك)
قالت حنين بفتور، لكن بقوةٍ غريبة ناقضت الإنهيار الذي طالها في الساعات السابقة؛ (سأشربه يا صبا، أنتِ لستِ في مثل موقفي، و مهما حاولتِ فلن تستطيعين تقدير ما سأمر به لاحقا، هاتي يا عمتي).
ثم مدت يدها الى عمتها و انتظرت، قامت صبا من مكانها وهي تغمض عينيها رفضا و غضبا و ألما على كل ما رأته بين جوانب هذا البيت من أشياءٍ كانت تعلم بوجودها من واقع عملها، الا أن معايشتها كانت أمرا مختلفا، مختلفا تماما و بغيضا لدرجةٍ تثير التقزز في النفس، ناولت الحاجة روعة الكوب لحنين بصمتٍ و تردد، ثم لم تلبث أن همست بلوعة (قد تتألمين قليلا بعد فترة يا حنين).
أومأت حنين برأسها دون أن تنظر اليهما، ثم قالت بتجمد بعد عدة لحظات (أريد أن أبقى بمفردي قليلا، من فضلكما)
سكنت الغرفة تماما و كأنهما لم يقبلا بالأمر خوفا من اي تصرفٍ قد تتصرفه في لحظة جنون، طبعا فبعد ما فعلته، أصبحت غير مؤهلة لأن يؤتمن جانبها، لكنها نظرت اليهما بلا تعبير وهمست بعد فترة (رجاءا، أريد أن أختلي بنفسي قليلا).
رمقتها صبا بنظرة يأس وهي تتطلع الى ذلك المشروب الشرير بين يديها ثم دون كلمة أخرى خرجت من الغرفة، تتبعها الحاجة روعة بكتفين محنيتين و رأسا منخفضا ببؤس، لتغلق الباب من خلفها، أجالت حنين نظرها ببطء في أنحاء الغرفة، تتشرب تفاصيلها، أركانها، كل شيء مهما كان صغيرا صفته بيدها في مكانه، ثم همست بفراغ و ابتسامة واهية (لقد عدت اليكِ غرفتي، ملاذي و خلوتي).
سكتت قليلا وهي تعاود رحلة عينيها الفارغتين بعد أن نضبتا من دموعهما، لتهمس بعدها (لكني لست أنا من غاردت؟، ذهبت ساكنتك و عادت أخرى غيرها، فكيف نحل تلك المعضلة).
ضحكت ضحكة جوفاء لا تعرف صدى المرح، ثم رفعت يدها الى فمها لتكتم آه مختلطة بضحكةٍ أخرى، نهضت من مكانها بإعياء و تثاقل، و تحاملت وهي تصل الى مرآتها، صورتها كانت غريبة في عينيها، وكأنها امرأة محملة بالخطيئة، ممسكة بكوبٍ يخلصها من رجلٍ سقاها يوما من شرابه، رفعت يدا لتلامس صورتها الباردة، وهي تهمس بضياع؛ (كانت لكِ أحلامك، كانت لكِ دنياكِ التي بنيتها يوما بعد يوم، ليضيع كل ذلك في طرفة عين، بحكمٍ من غريب، لا تعرفينه و لا تتذكرينه حتى، ظهر لكِ فجأة من ماضٍ حاولتِ جاهدة انكاره، و الآن ماذا؟).
رفعت يدها لتغطي بها شفتيها من جديد، وهمست (الآن ماذا؟)
بينما اليد الآخرى تضم الكوب الى صدرها بقوة و كأنه وليدها…
اتجهت صبا جريا خلف عاصم حين وجدته خارجا، و توقفت لتناديه بصوتٍ لا يشبه صوتها (عااصم)
تسمر عاصم مكانه للحظات طويلة، ثم قال بخشونةٍ دون ان يستدير اليها (ماذا؟)
ترددت صبا قليلا، الا أنها اتجهت اليه وهي تقول بقلق (الى أين أنت ذاهب؟).
التفتت اليها عاصم وهو يرمقها بنظراتٍ غريبة عليها منه، رافعا حاجبه بسخريةٍ ثم قال باستهزاء؛ (ما هذا؟، تحقيق كالزوجات الأصيلات؟)
زمت صبا شفتيها بغضب لكنها حاولت التزام الهدوء وهي تقول بتشدد (أرجوك يا عاصم، الوضع لا يحتمل سخافة الأطفال التي تلتزمها معي تلك، أكبر قليلا)
الآن ارتفع حاجبيه بدهشةٍ مما سمعه منها، ثم لم يلبث أن قال وهو يقترب منها بخطواتٍ سريعة (ماذا قلت؟).
تراجعت صبا عدة خطوات. لكنها توقفت و هي ترفض أن تظهر له خوفها، ثم رفعت ذقنها بشجاعةٍ وهي تتحداه قائلة بقوة (قلت ما سمعته، والدتك تموت قلقلا من أن تتصرف أي تصرف مجنون يضيع حياتك، و أنت لا تبالي، كل ما تهتم به هو أن ترد للمجنون الآخر صفعته).
وقف أمامها كجبلٍ عملاق يشرف عليها من علو، صامتا مخيفا، ثم قال أخيرا بصوتٍ خافت خطير (أنتِ ترين أن كل ما يهمني حاليا هو أن أرد اليه صفعته!، و أنني قد قلبت الموضوع كله و أصبحت أنا محوره، متجاهلا ابنة عمي التي أصبحت سمعتها في الوحل حاليا).
عضت صبا على شفتها وهي تتجنب نظراته الحاقدة، ثم همست بصوتٍ لا معنى له وهي تعاود رفع عينيها اليه و كأنما الشمس تشرق له من جديد (لا، لم أقصد ذلك، لكن أرجوك، لا تزيد من فظاعة ما حدث، لا تتصرف أي تصرف أحمق، البلد ها قانون و أيا ستفعله ستحاسب عليه، تذكر أن هناك أسرة معلقة بعنقك، و تحتاجك).
لم يرد عليها للحظاتٍ طويلة، و بدا في غاية التعب و الانهزام. بوجهه الشاحب الغير حليق و عينيه الحمراوين، ثم قال اخيرا بصوتٍ متعب (و أنتِ بالطبع خارج نطاق ذلك الاحتياج)
عادت صبا لتبعد عينيها عنه و هي تأخذ نفسا مرتجفا، وهي تهمس بداخلها آه لو تعلم، لكنها همست عوضا عن ذلك، (لا يهم موقعي أنا حاليا).
مد يده ليمسك بذقنها و رفع وجهها اليه، يجول بعينيه على ملامح وجهها، لماذا تسربت تلك الغبية بعنادها الذي يشبه عناد البغال إلى حياته، لماذا يضعف أمامها بتلك الصورة، ولا يستمد قوته الا منها، ترك ليده حريه الانتقال إلى عنقها الطويل للحظاتٍ حتى أنه أغمض عينيه، بينما كانت صبا تنظر اليه بذهول، لم تجرؤ على الحركة، بل حتى لم تجرؤ على التنفس، وهي تتراه يتأملها بعينيه المغمضتين، ها هو سلطانها عليه يتحكم به من جديد، هل تشعر بالغرور، أم بالفخر، أم بالخوف، الخوف منه أم من نفسها، ما تلك الدوامة الغريبة التي تلفهما معا في لحظةٍ لتعود و تفرقهما في لحظةٍ أخرى، لكن رنين هاتف عاصم جعلها تنتفض بقوةٍ في مكانها، بينما فتح عينيه ببطء وهو يشتم هامسا متثاقلا، لدرجة أنها احمرت خجلا من لا شيء، ابتعدت عنه، و ابتعد عنها ببطء وهو يلتقط هاتفه، بينما رن هاتفها الذي أصبح مصاحبا جيبها في الآونة الأخيرة مؤخرا، عقدت صبا حاجبيها حين تعرفت على اسم زميلها وما أن ردت عليه، حتى فوجئت بملامح عاصم المصدومة لكن بنوع من توقع ما حدث، و خلال لحظتين كان صوت زميلها يزف اليها الخبر البائس، سبقها عاصم في الكلام وهو يرد على محدثه بصوتٍ عميقٍ غاضب (عثمان الراجي).
بينما أتمت صبا الحديث مع زميلها في نفس اللحظة و عيناها متعلقتان بعيني عاصم النافذتين، (تمت تبرئته للتو!)
وقف الإثنان مسمرانِ وهما يستمعان الى هاتفيهما، بينما أعينهما مرتبطتان لا تتزحزحان عن بعضهما، صعدت صبا السلالم جريا و في خطوتين كان عاصم قد لحق بها و جذبها من ذراعها بالقوةِ ليديرها اليه حتى كادت أن تقع على درجات السلالم لولا أن أمسك بخصرها يسندها وهو يقول بشراسة مخيفة (الي أين؟).
هتفت صبا بغضب و مرارة. مختلطة بالذهول (يجب أن أذهب لأرى كيف تم هذا العبث، يكفي أنني ابتعدت عن تلك القضية التي راهنت عليها طويلا)
صرخ عاصم عاليا، وهو ينشب أصابعه في خصرها بقوةٍ لدرجة أنها تأوهت ألما (لن تخرجي من باب هذا البيت، و تلك القضية انسيها تماما. افهمت؟، الا تدركين الظروف التي نمر بها، من منا الآن يجعل من نفسه محور الاهتمام دون مراعاةٍ للغير)
صرخت صبا بغضب (أنت لا تفهم).
شد على خصرها مرة أخرى حتى صرخت ألما هذه المرة، و هتف بغضب وهو يضغط على أسنانه (ولا كلمة، ولا كلمة واحدة، صبا، أنا أعصابي متوترة فلا تختبري غضبي)
صرخت صبا بقوة؛ (بل اختبرته، أم نسيت؟، ماذا ستفعل هذه المرة؟، تربطني بحبلٍ الى أن تعود؟).
أمسك عاصم بجانبي وجهها بقوةٍ بين كفيه، حتى ظنت أنها سمعت صوت قرقعة عظام فكها، ثم صعد درجة الى أن أصبح في مستواها ينظر إلى عينيها بجنون، وما لبث أن همس بتصميم خطير اثار قشعريرة في أوصالها (لو أقتضى الأمر، فسأفعلها، ربما لم أستطع حماية حنين، لكن أنت ِ، أنتِ، فسأدفع عمري لأحميكِ، ولو رغما عن أنفك الغبي ذلك).
فغرت شفتيها بذهول، تهدر بنفسٍ ساخن ملتهب منبعه من قلبها الذي فاض كالبركان الملتهب بين أضلعها، و لم تستطع الرد طويلا و هو أيضا تغير بريق عينيه لبريقٍ آخر يشبه الذهول وهو ينظر الى نظرات عينيها المتسعتين، فتح فمه ينوي النطق بشيء، الا أن رنين هاتفه عاد ليقاطعه مرة أخرى، فأفلتها و يشتم عاليا تلك المرة حتى أنها تسائلت عن ذلك التلوث السمعي و الأخلاقي الذي لوث أذنها و شوه تلك اللحظة الغريبة بينهما، مندفعا للتو من بين شفتيه، رد عاصم على الهاتف، و بعد عدة لحظات رأت من تغير ملامحه أن كارثة أخرى قد حدثت، وما أن أنهى المكالمة بعدة كلمات صارمة حتى نظر اليها بقلق، فبادرته تسأله بخوف (ماذا حدث يا عاصم؟).
رد عاصم بصلابةٍ متوحشة (مالك، وجد القذر جاسر رشيد، و حدثت بينهما و بين الرجال معركة عنيفة، وهما الآن في قسم الشرطة)
شهقت صبا بصمت، و ارتعبت من أن يكون مالك قد تهور فسألت عاصم بسرعة (هل فعل به مالك شيئا؟)
وضع عاصم الهاتف في جيبه وهو يستعد للخروج ثم قال بفظاظة (اطمئني، لا يزال حيا، لكن ليس الى وقتٍ طويل).
قفزت صبا الدرجة الفاصلة بينهما حتى وصلت اليه و أمسكت بقميصه بشدةٍ وهي تترجاه قائلة (إياك يا عاصم أن تفعل شيئا مخالفا للقانون او أن تتهور، أرجوك، أرجوك).
نظر إلى قبضتيها المتشبثتين بمقدمة قميصه، ثم رفع عينيه إلى عينيها الخائفتين. و نظر إلى وجهي القمر طويلا، نبض قلبه بعنفٍ من ذلك الخوف الذي لم يكن ظاهرا منذ لحظاتٍ وهي تنوي الذهاب لمحاربة حيتان البلد، بينما تبدو الآن مرتعبة من فكرة ذهابه الى قسم الشرطة، قبل أن يقول بخشونة (لن أفعل له شيئا حاليا، إن وعدتني ألا تخرجي من باب هذا البيت).
عقدت صبا حاجبيها بغضب ثم قالت بتأنيب بينما بداخلها هاج فرح خائن خبيث وهي تشعر بأنها قد استعادت مكانتها لديه (الا تفكر أو تهتم بشيءٍ غيري، الدنيا مقلوبة رأسا على عقب و أنت لا تفكر سوى باتجاهاتي)
لم يرد عاصم طويلا، وهو يأسر عينيها المتحديتين ثم قال أخيرا بصوتٍ جامد (أتصدقين أنكِ عديمة الدم)
ارتفع حاجبيها ذهولا و غضبا ثم هتفت (عاصم، أنا لا أسمح لك)
أمسك بذراعيها يقاطعها بقوةٍ آمرا (عديني).
أخفضت عينيها و همست بعد لحظات (عاصم، أنت تعلم أنه ليس بإمكاني ترك الأمر هكذا، لن أكون صبا التي عرفتها و التي)
قاطعها عاصم مجددا بلهجةٍ عنيفة الشغف؛ (أحببتها).
أسبلت جفنيها واحمرت وجنتيها بشدةٍ و قلبها يضرب كالطبول، لقد عادت ابنة السلطان من جديد و هي تسمع همس مليكها يتضرع بحبها، الى أي زمنٍ يأخذها همسه الأجش، و يبعدها عن كلِ ما حولهما، همس بترجي آمر (عديني يا صبا، لا يمكنك أن تتخيلي حالتي الآن و أنا في كل ما أنا فيه مضطرا للخروج تاركا خلفي أكثر النساء غباءا و عندا و تهورا، أيمكنك تخيل مقدار الخوف بداخلي حاليا).
شهقت صبا بشهيقٍ صامت، و فتحت شفتيها تنوي قول شيئا ما، ثم عادت لتغلقهما و تغمض عينيها لتهمس بصوتٍ غريب عميق، دافىء (أيمكنك، و لو لمرةٍ واحدةٍ أن تحاول نقل مشاعرك إلى دون سباب)
لم تسمع منه ردا للحظاتٍ لكنها لم تجرؤ على فتح عينيها و هي تشعر بأنفاسه تزداد سخونة و لهيبا فوق وجنتيها، ثم قال أخيرا، (صعب جدا، خاصة مع الزواج بامرأة مثلك، عديني يا بنت السلطان).
فتحت عينيها ببطءٍ و رفعتهما اليه، حينها رأى فيهما حديثا طويلا، لكنهما للأسف لن يستطيعا سماعه الآن، فهمست صبا أخيرا (أعدك، حاليا).
ظل ينظر اليها للحظات ثم بدون سابق انذار جذبها اليه بقوةٍ ليروي ظمأ الأيام الماضية بكل ما في داخله من ألمٍ و حزن و غضب و، وعشق، لم يصدق نفسه وهو يشعر بتجاوبها الخجول معه بنوعٍ من الإحتماء به من كل تلك الكوارث المحيطة بهما، قبلتها أخبرته بذلك، فشدد عليها حتى كادت أن تختنق طلبا للهواء، وما أن تمكنت من التقاط أنفاسها حتى سمعت همسه المهووس بين خصلاتِ شعرها وهو يضمها أكثر إلى قلبه (لو تعلمين مقدار حاجتي اليكِ في تلك اللحظة يا صبا).
لفت ذراعيها حول صدره العريض وهي تضغط وجهها على قلبه العنيف بقوةٍ علها تريحه قليلا، و طال بهما الحنين للحظات قليلة جدا، قبل أن يشعر عاصم بيدها الصغيرة تتسلل ما بين جيوبه الى أن وجدت ضالتها، فابتعدت عنه قليلا دون أن يسمح لها بالتحرر، وهي ترفع المدية أمام وجهه لتقول بغضبٍ وذهول (ستذهب إلى قسم الشرطة و بحوذتك سلاح ابيض!، أتعلم أنها في حد ذاتها جنحة؟).
مد عاصم يده يحاول أخذها منها، الا أن صبا أبعدتها عنه بشراسةٍ فقال عاصم بغضب (سأتركها في السيارة، هاتي)
هزت صبا رأسها نفيا وهي تقول بتصميم، (لا في السيارة و لا في غير السيارة).
ثم تحدته أن يجادلها بحاجبها المرتفع شذرا، الصغيرة المسكينة، لا تعلم بأن السيارة محملة بكافة أنواع الأسلحة المساعدة و التي لا يتحرك بدونها، لكنه قد يضطر أخيرا ترخيص سلاح ناري في مثل تلك الظروف، لكن لا داعي لأن يرعبها الآنفانحى اليها ليقبل جبهتها هامسا بتعب (حسنا يمكنك أخذها و اللعب بها قليلا حبيبتي، لكن احذري من أن تجرحك).
مطت صبا شفتيها باستهزاء، لكن عاصم بدا مترددا، عاصم رشوان الذي يهتز له اشد الرجال قلقا من سطوته، بدا أمام عينيها خائفا مترددا من أن يتركها، بالرغم من أنها متأكدة من قوة الحراسة التي سيتركها أمام البيت، لكنه خائفا تماما كخوفها عليه، لذا تستطيع تماما تقدير صعوبة تلك اللحظات بالنسبةِ اليه، فوضعت يدها على صدره الخافق و همست (اذهب).
لا يصدق أن تلك هي صبا، تلك هي نظراتها، ذاك صوتها، يريد أن يخبرها الكثير و الكثير، و يسمع منها الأكثر علها تعطف على قلبه أخيرا بهمسةٍ منها، فبادرها قائلا باستجداء (صبا)
عادت لتهمس برقةٍ اذابت قلبه (ليس الآن، اذهب ارجوك، و أنا سأشغل خالتي كي لا تعلم حتى تعود بمالك).
أوما عاصم موافقا، لكنه لم يتحرك من مكانه فضحكت صبا ضحكة ناقضت الألم الذي يعيشانه و هي تخفض رأسها خجلا من الحقيقة الواضحة وضوح الشمس، تركها عاصم أخيرا وهو يأخذ نفسا عميقا ليندفع خارجا، قبل ان يتراجع و ينسى كل ما حوله و يضيع معها في عالمها، بينما وقفت صبا تنظر في اثره و هي تضع يدها على قلبها لتهدئه و هي تعض على شفتها مانعة ابتسامة خائنة تحارب للظهور.
وفي قسم الشرطة تضافر افراد الشرطة هناك مجتمعين في تكبيل و رمي عدد كبير ممن تمكنو من الإمساك بهم في داخل الحجز، ومن بينهم مجنون خطير هائج، ضرب أمين الشرطة و الجنود، الى أن تمكنو من ضربه على رأسه فترنح قليلا لكنه ظل هائجا الى أن كبلوه ثم تمكنو من رميه أخيرا بداخل الحجز مع البقية، وما أن أغلق الباب من خلفه حتى استدار الى الباب و أخذ يطرق عليه بكلتا قبضتيه بقوةٍ وهو يصرخ عاليا، (أريد أن أخرج من هنا، أخرجوني، يجب أن أذهب لزوجتي، لقد خطفوهااا).
لكنه لم يكد يكمل جملته حتى هجم عليه مالك من خلفه صارخ وهو يقبض على كتفه ليديره اليه ثم يعاجله بلكمةٍ أطاحت بفكه، بصق جاسر دما من فمه وهو يضرب بساقه ساقي مالك المنفرجتين كحركة مقص فسقط أرضا، ليرمي نفسه عليه وهو يصرخ و يضربه في نفس الوقت (خطفتموها، خطفتموها من بيتي)
مد مالك يده ليقبض على عنق جاسر بكل قوته، وهو يهتف من بين أسنانه (اخرس).
احمر وجهيهما بشدةٍ وكلا منهما يقبض على عنق الآخر و يمنع عنه التنفس، بينما تباعد الباقيين احتراما، فلا يصح أن يقبل أحد المتنازعين مساعدة و الا فقد اسم الرجولة، دخل الضابط المناوب الى مكتبه وهو يلقي بقبعته الرسمية على سطح المكتب، ثم مط جسده بقوةٍ وهو يأمل الا يكون يوما مأسويا اليوم، لعله يكون هادئا دون مشاكلدخل أمين الشرطة مسرعا يهرول وهو يقوم بالتحية الرسمية ثم يقول بسرعة (مساء الخير سيدي، الحجز منقلب، المجموعة التي أمسكنا بها صباحا ستقتل بعضها في الحجز).
أغمض الظابط عينيه وهو يقول بيأس (ها قد بدأت المناوبة، اذهب اليهم و أنذرهم بأني لا اريد سماع صوت أي متشرد منهم والا فسآتي اليهم بنفسي)
قال أمين الشرطة بعجل (بينهم مجنون يا سيدي، ضربنا و ضرب السيارة قبل أن نتمكن من الإمساك به وهو الآن يوشك على قتل زميله في الحجز)
نهض الظابط من مكانه بسرعةٍ وهو يقول، (افصله عنهم حالا و ارمه في حجزٍ منفرد، ما هذا اليوم).
و بعد دقائق، كانو اربعة من أفراد الشرطة يقيدون جاسر بعد أن جذبوه من فوق مالك. وكلا منهما غير قادر على التنفسليرموه رميا بصعوبةٍ في حجزٍ بمفرده، جلسا أرضا وهو يلهث بصعوبةٍ، يستند بظهره الى جدار الحجز، أغمض عينه وهو يتنفس بقسوةٍ و أنفاسه الخشنة تتآمر مع غضبه ليعذباه أكثر، لقد أخذوها، بعد كل ما فعله للوصول اليها، عادو ليأخذوها من جديد، بعد أن أصبحت ملكه و في قبضته، أخذوها، اقتحموا بيته الذي ابتعد به عنهم جميعا ليخفيها عنهم و أخذوها، سيعيدها، يقسم أنه سيعيدها و لو ألف مرةٍ سيعيدها، خاصة بعد أن تشبع كيانه بذراتِ كيانها، رائحتها الطفولية، شعرها الذي جرى على وجهه مرارا، بعد أن علم ما كان على يقينٍ به منذ الأزل، انها له، و لن تكون لغيره، لأنها جزء منه انتزعه من نفسه ليخلف مكانه فراغا نازفا مؤلما، مشاعر لم يعرفها من قبل و لا يهتم بتحليلها، المهم أنها عادت لكيانه لفترةٍ ضئيلة، ضئيلة جدا، ثم أخذوهااخذ يطرق رأسه بقوةٍ الى الخلف على الجدار الأسمنتي الصلب، يقسم بالله سيعيدها ما أن يخرج من هنا، لكن ماذا سيفعلون بها الى أن يعيدها، يعلم جيدا لو كانت اخته كيف كان ليتصرف، كان ليدعها تتمنى الموت دون أن تنالهفماذا سيمنعهم عنها الآن و هي وحدها بينهم، كيف سيعذبوها و اي السبل سيتخذوها ليجعلوها تفقد الأمل، ازداد طرقه لرأسه على الحائط الأسمنتي وهو يكرر بضغطٍ مندفع بين أوردتهسأعيدها، أقسم بالله ولو لألف مرةٍ سأعيدهاثم صرخ عاليا كالمجنون (سأعيدهااااا).
، بعد فترةٍ كان الجميع يقفون أمام الضابط المناوب. الحديث التخرج، و حالة من الهرج و المرج و الجنون و تراشق الألفاظ النابية تسود المكتب، صرخ الضابط وهو يضرب على سطح المكتب بقوة (اخرسوا، اخرسوا جميعا)
هم الهدوء قليلا و الجميع ينظرون بعدم اقتناع إلى ذلك الشاب الصغير أمامهم، و الذي نهض من مكانه ليسأل أمين الشرطة بصرامة (كم مصاب لدينا؟)
أجاب أمين الشرطة بسرعةٍ (خمسة في المشفى يا سيدي).
صرخ الضابط ليرهبهم (يومكم لن يمر على خير)
ثم سأل أمين الشرطة (هل حرزت الأسلحة المضبوطة يا ابني)
رد أمين الشرطة إيجابا بسرعة، فالتف اليهم الضابط صارخا (يومكم ليس له ملامح، خمسة مصابين!)
ثم سأل امين الشرطة بصرامةٍ وهو يتطلع بتهديد الى هذا الجمع، (من الاثنان اللذان تقاتلا في الحجز؟).
تننح أمين الشرطة يشير اليهما بتردد، فقال الضابط بقوة وهو ينظر الى هيئتيهما الممزقة و النازفة و هما يبدوان كمثالٍ للتشرد (يومكم لن يمر على خير، تتقاتلان في الحجز، يا عاطلين، من اللذي تعدى بالضرب على أفراد الشرطة بالضرب)
فأشار أمين الشرطة الى جاسر الذي كان يبدو مخيفا بهيئته المرعبة، فصرخ الضابط (تتعدى على أفراد الشرطة يا سبع الرجال!، يومك لن يمر على خير).
ثم ذهب إلى مكتبه وهو يهتف (أعطني هوياتهم الشخصية يا ابني، لنتعرف على البهوات )
اقترب أمين الشرطة بسرعة ٍ ومن بين الهويات أخرج هوية مالك رشوان وهو يناولها الى الضابطوما أن نظر اليها حتى رفع عينيه بذهول إلى مالك اللذي كان يبدو بحقٍ كالمشردين، ثم قال يسأل بدهشة (السيد مالك رشوان).
فناوله أمين الشرطة الهوية الثانية وهو يهمس له (الآخر ابن الحاج رشيد، معروفا في الحي و ابنه رجل أعمال ثقيل أيضا، ذلك هناك الذي ضربنا)
نظر الضابط إلى الهويتين ثم قال بصوتٍ باهت (لماذا مثل هذه التصرفات التي لا تليق بكما يا سادة).
نظر جاسر إلى مالك بنظراتٍ مجنونة مجرمة، بينما بادله مالك بنظراتِ كرهٍ و حقد و الشرارات تنطلق من كليهما تكاد تحرق المكان، في ذلك الوقت كان عاصم قد وصل و اخذ الاذن للدخول، وما أن دخل حتى نهض الضابط لتحيته، لكن يده بقت ممدودة في الهواء، حين استدار عاصم ما أن لمح جاسر فاندفع اليه بوحشية ٍصارخا بغضب وهو يمسك به مكيلا له اللكمات وجاسر لم يتورع عن الرد بمثلهما، بينما كان سبابهما يهز جدران المكان، فصرخ الضابط في أمين الشرطة و باقي الأفراد (افصل بينهما يا ابني، افصل بينهما حالا).
بينما ضاع صوته في وسط صراخ عاصم و جاسر المريع و الذي لم يفهم منه سوى بضع كلماتٍ تقافزت بينهما بعنف (يا حقير، يا قذر، اقسم أن أقتلك، أقسم أن أعيدها، في أحلامك، سأقتلك)
و الضابط يصرخ (افصلو بينهماااااااا).
حين خرج عاصم و مالك معا من قسم الشرطة ليلا على ذمة التحقيقات و كانت هيئتهما مريعة، بينما أخر الضابط خروج جاسر قليلا ليمنع تشابكهما خارج القسم مجددا، رآها مالك على الناحية الأخرى من الطريق، تقف بلوعة وهي تحتضن حقيبتها، عقد مالك حاجبيه بغضب و هو يتسائل عما تفعله تلك الغبية هنا خارج القسم و في مثل هذا الوقت، ابتسمت أثير له بلهفةٍ ما أن رأته ولوحت له بقوةٍ و أدرك من مكانه أنها كانت تبكي على الرغم من ابتسامتها و تلويحها، تحرك خطوة ينوي عبور الطريق اليها، حين جذبه عاصم قائلا (ماذا بك يا مالك، السيارة هناك، هيا لنذهب إلى أمك فمن المؤكد أنها تموت قلقا عليك الآن).
لم يجد مالك بدا من اللحاق بعاصم لكن ما أن ابتعد قليلا حتى استدار برأسه اليها، و أشار اليها بصرامةٍ وملامحٍ غاضبة بان تعود للبيت حالا، ابتسمت له أثير من بعيد وعادت لتلوح اليه بقوةٍ بينما دموعها تنهمر على وجنتيها أكثر و هي تراه سليما و معافا، فأشار اليه مالك بصرامةٍ أكبر أن تعود، ثم استدار ليلحق بعاصم. تاركا أثير تقف وحيدة و هي تحتضن حقيبتها بقوةٍ لعلها تريح بها قلبها المجنون بحبه، كانت حنين جالسة بغرفتها محتمية بغطائها، تستمع للفوضى بالأسفل دون أن تجرؤ على التوجه إلى الباب، رفعت الغطاء إلى ذقنها أكثر وهي تسمع صوت زوجة عمها بوضوح، تبكي، نعم تبكيو اسم مالك يتردد بجزع، ارتجف قلب حنين رعبا، ماذا به مالك؟، هل، تجرأت على النهوض من فراشها ببطء تترنح حين استقامت، ثم ما أن وازنت نفسها حتى اتجهت إلى الباب و ساقيها ترتعشان لتضع أذنها عليه علها تسمع شيئا، لكن لا شيء، بعض الفوضى فقط، مدت يدا ترتجف و فتحت الباب، ثم تجرأت على الخروج خطوة خارج الغرفة، تلتها أخرى، تسمرت مكانها حين سمعت صوت مالك، هل وصل؟، يالهي، لن تستطيع مواجهته اليوم، بعد كل ما تعرضت له لن تستطيع أن تختم هذا اليوم العصيب بمواجهة أحب انسان الى نفسها، وأكثر انسان آذته بعد أذية نفسها، لكن ما منعها من الهروب الى غرفتها هو صوت بكاء الحاجة روعة التي وصلها عاليا جدا، حينها لم تتمالك حنين نفسها من التوجه بسرعةٍ و رعب الى أعلى السلم وهي تتشبث بالسور لترى ما حدث، لكن هول ما رأته جعلها تشهق وهي ترفع يدا لتكتم بها شهقتها قبل أن تخرج مدوية، فبالأسفل كان مالك واقفا عاري الصدر و على عرض صدره تقاطعت علامتان نازفتان و ملتهبتان، بينما تشوه وجهه الجميل تماما بكدماتٍ رهيبة في كلِ جزءٍ منه، و خيط دم متجمد ينزف من زاوية شفتيه و من أنفه، همست حنين برعبٍ من بين شفتيها تحت يدها المكممة لهما (يالهي، يالهي، أنا السبب، أنا السبب).
ثم رأت الحاجة روعة وهي تتشبث بصدره باكية و هي تقول (لا تذهب يا ولدي، من أجل أمك لا تذهب، أنت تحتاج الى مداواة، لن أسمح بخروجك من بيت والدك أبدا)
ربت مالك على كتفها وهو يضمها لصدره برفق، ثم قال بصوتٍ هادىء لكن خرق اذن حنين حتى كاد أن يصمها (لن يكون بقائي هنا مناسبا بعد الآن يا أمي و أنتِ تعلمين ذلك، سأعد ما أحتاجه لأذهب الآن).
اخذت الحاجة روعة تنتحب على صدره بقوةٍ وعنف دون أن تفلح صبا او عاصم في تهدئتها، لكن مالك حانت منه التفاتة الى أعلى ليرى حنين واقفة أعلى السلم، فابتعد عن أمه قليلا وهو لا يزال مسمرا عينيه الحادتين على عيني حنين المذعورتين، وما أن اقترب من السلم حتى جرت حنين إلى غرفتها برعب وهي تسمع صوت خطوات مالك تلحقها بسرعةٍ على درجات السلم، لكنها كانت أسرع في الوصول الى غرفتها و أغلاق بابها بقوةٍ قبل وصول مالك، ثم ارتمت بظهرها على الباب وهي تغمض عينيها بأسى، ولم تكد تمر لحظة حتى سمعت صوت مالك من خلفها مباشرة يقول بهدوء؛ (حنين).
لكنها لم ترد و لم تفتح عينيها بينما شعرت بطعنةٍ من صوته المنكسر، فتابع مالك قائلا (حنين، أريد ان أقول لكِ شيئا، لقد تصرفتِ تصرفا جرح كرامتي للغاية، وآذاني لأبعد مما تتخيلين)
ازداد انطباق جفنيها و هي تشهق باكية بعنف لكن دون أن تصدر أي صوت، ليكمل مالك (لكن، أنا مدين لكِ باعتذار).
ازداد نحيبها الصامت، حتى اهتز جسدها الضعيف بقوةٍ، وهي تسمعه يقول (اعتذر لأني كنت السبب في دفعك لفعل ما فعلتهِ، حين اعتقدت بكل غرور أن مجرد خطبتي لكِ ستكون خيرا لكِ، ستكون بداية لحياةٍ افضل لكِ، فأجبرتك عليها كما أجبرك الجميع. دون النظر إلى ما تريدينه، للمرة الثانية ظلمتك معي، لذا فأنا آسف، سأرحل الآن، أردت فقط أن أخبرك بأنكِ من أغلى البشر لدي على الرغم من كل شيء، أنا آسف).
سمعت حنين صوت خطواته تبتعد الى أن اختفت فانزلقت على الباب الى أن جلست على الأرض وهي تسمح لشهقات بكائها بأن تتحرر عاليا حتى شقت عنان سماء غرفتها، طال بها البكاء طويلا ربما ساعة أو اثنتين، حتى نضبت دموعها تماما و جفت مقائيها، وظلت على حالها جالسة على الأرض، مستندة الى باب غرفتها تنظر إلى الفراغ، فجأة، شق صمت الليل المحيط بها صوتا عاليا صارخا (عاصم رشوان، افتح الباب حالا).
انتفضت حنين في جلستها و اقشعرت شعيرات جسدها وهي تتعرف على الصوت المرعب الذي شق الحي الراقي، نهضت من مكانها جريا لتنظر من نافذتها من شقٍ صغير في ستائرها دون ان تبعدها، لتتسع عيناها ذهولا وهي ترى المجنون في حالةٍ مريعةٍ كمالك تماما و كأنهما تنكرا بنفس زي التنكر في حفلِ تنكر رخيص، كان واقفا أمام سور البيت المعدني و في يده ماسورة حديدية طويلة، اخذ يضرب بها على أعمدة السور ويمررها عليها بقوةٍ مصدرا صوتا مدويا، وهو يعاود الصراخ (افتح الباب يا عااااصم رشوان، لدي أمانة عندك و أريد استردادها حالا).
ضربت حنين خدها بقوةٍ، شاهقة بعنف، بينما وصلها جليا صوت صراخ عاصم كالمجنون من اسفل و صوت صراخ صبا وهي تحاول أن تردعه، لكن يبدو أن محاولتها كانت دون جدوى، فخلال لحظات شاهدت عاصم يخرج من باب البيت المجنون يتبعه صراخ صبا و الحاجة روعة، و باشارةٍ من يده أمر بفتح البوابة!..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)