رواية بأمر الحب الفصل الثالث والثلاثون 33 بقلم تميمة نبيل
رواية بأمر الحب البارت الثالث والثلاثون
رواية بأمر الحب الجزء الثالث والثلاثون
رواية بأمر الحب الحلقة الثالثة والثلاثون
ساد الصمت المشحون بذهول المتواجدين، بعد السؤال الفج بهمجيته و الذي أطلقه ذلك الكائن الضخم الذي نصب نفسه وليا و حاكما على مصائر الناس، لذا أعاد السؤال بخشونة أكبر (متى عقد القران يا مالك رشوان؟، الخطوبة بتلك الطريقة حيث الخروج و المبيت لا تليق بحينا و لن نقبل بها كرجال الحي)
أهتاجت عينا مالك بشراسة، وهو ينقل عينيه بين الرجال المتحفزين و المنتظرين وكأنهم في ساحةٍ حربية…
يوشك على أن يرتكب جريمة، و الدماء الحارة الرافضة للخضوع تثور بداخل أوردته…
الى أن وصلت عيناه اليها…
الى وجهٍ شاحب كالأموات، أبيض كالثلج، و شفتين مفتوحتين ذعرا، تماثلهما عينين متسعتين خوفا بلون الثلج الأزرق…
تلهث بشهقاتٍ صامتة، و كفها الصغير يقبع فوق صدرها اللاهث كي يهدئه دون جدوى…
حينها لم يجد بدا من كلماتٍ صارمةٍ كحد السيف (خلال عدة أيام سيكون عقد القران، و سيكون هنا بالحي).
وصلت لمسامعه شهقة خافتة، لكن حين نظر اليها كانت تهز رأسها بلا معنى تقريبا
لكن صوت الرجل الأجش قطع الصمت ليقول بخشونة (ان كنت تفعل ذلك لمجرد مداواة الموقف، فأنت ترتكب خطأ يا مالك، فنحن لن)
علا صوت مالك بوحشية ليسكت الجميع (ولا كلمة أخرى و الا والله فسوف اعتبرها خوضا في عرضي)
عند هذا الحد سكت الجميع، فتابع مالك بصرامةٍ أشد (و الآن فلتغادروا المكان باحترامكم، فلقد أسأتم لاسمي و اسم من تخصني الليلة).
تململ الجميع ثم بدأوا بالخروج مرغمين واحدا تلو الآخر، لكن ما أن وصل الرجل الأخير و الذي تولى هو الحديث، و قبل أن يتجاوز مالك قال بصوتٍ خافت ذو مغزى (نحن في الإنتظار)
الا أن مالك لم يمنحه حتى شرف الرد عليه، لذا و ما أن خرج الرجل حتى أفاقت أثير من ذهولها فجرت إلى مالك تتشبث بكم قميصه وهي تهذي برعب (ما هذا الذي حدث للتو؟، كيف تعدهم بذلك؟، و كيف سنتصرف الآن؟).
نظر اليها مالك بنظرةٍ غير مقروءة، ثم قال أخيرا بلا تعبير (هل كان لديكِ حلا أفضل؟، أنتِ لا تعرفين طبيعة تلك الأمور في مثل هذه الأحياء)
هتفت أثير و هي تضرب الأرض بقدمها (ليست تسري على تلك الطبيعة، أنا لست من سكان هذا الحي، فقط لأرحل من هنا و لأرى من يستطيع منعي، انهم ليسو أولياء أمري، و أنا لم أخطىء بشيء و تكفيني ثقتي باخلاقي).
هتف مالك بقسوة أرعبتها (توقفي للحظةٍ عن تلك اللامسؤولية التي تعيشينها و انظري حولك قليلا، أنتِ لستِ وحدك في هذا العالم، و لا تدركين ما يمكن أن يصيبك جراء تصرفاتك المتهورة واحدة تلو الأخرى)
هتفت أثير بجزع و غضب في نفس الوقت (أنا من أتصرف تصرفات متهورة؟، من الذي تصرف أحمق تصرف من الممكن أن يتصرفه للتو، من ورطنا بمجرد كلمة، لمجرد أن مجموعة من المنافقين منتحلي الفضيلة).
صرخ مالك بصلابة (كفى، كفى يا أثير، ولا كلمة أخرى)
تدخلت أحلام و هي تقول بصرامةٍ أشد (كفى انتما الاثنين حالا، لقد علا صوتكما و الأمر لا يحتمل المزيد من الفضائح)
ثم نظرت لمالك و قالت آمرة بلا تعبير (ارحل انت الآن يا مالك، وجودك لم يعد مناسبا في تلك اللحظة، و سنتكلم فيما بعد)
نقل مالك عينيه بينهما بغضب، قبل ان يستدير و يغادر صافقا الباب خلفه…
فالتفتت أثير الى احلام لتهتف بترجي (أنا لم أفعل شيئا يا أحلام، لقد كنت عند والدي ولم)
قاطعتها أحلام بهدوء حازم (لا كلمة أخرى في هذا الموضوع الليلة يا أثير، لقد تصرفتما بشكلٍ خذلني أنا شخصيا، و لا أريد سماع المزيد الليلة).
ثم استدارت الى غرفتها مغلقة الباب خلفها لتترك أثير تسقط الى الباب بظهرها وهي تبكي بذهول عن تلك المصيبة التي لم تحسب لها حساب يوما، بعد سنوات عملها في مكانٍ غير نظيف تماما و كانت قادرة على حماية نفسها، تأتي الآن لتقف عاجزة أمام بضع كلمات مشوهة من أناسٍ مشوهي النفوس…
أغمضت عينيها و غطت وجهها بيديها لتبكي بحرقةٍ على تلك الضربات القاسية التي لا ترحمها واحدة تلو الأخرى…
لا يعلم لماذا قادته قدماه الى هذا المكان، وقف يحدق في الليل الساكن من حوله دون أن يستطيع تحديد سبب الغضب الذي يشعر به حاليا…
كان منذ ساعةٍ واحدة في حالٍ مغاير، و كأنه، وكأنه سعيد بدرجةٍ استثنائية
أما الأن و بعد ذلك العرض المبتذل الذي قام به هاؤلاء المدعيين، تحول بصيص السعادة الى غضب غير مفسر و رغبة في تحطيم شيءٍ ما…
زفر بجنون وهو يتطلع إلى السماء السوداء من حوله، من فوق سطح بيتهم القديم، عله يرى نجمة واحدة، الا ان القمر كان قد اختفى، و على ما يبدو كل النجوم من حوله…
شعور حارق بداخله من يشعل بصدره نارا، و لا يعلم السبب لذلك، حتى و إن كان قد صب جام غضبه على أثير رغم أنها ليست الملامة وحدها…
نظر حوله بشرود الى أرجاء السطح المتهالك، و صوت ضحكاتٍ طفولية تتردد صداها بين زواياه، تداعب أذنيه برقتها. لتخدش قلبه بقسوة، و كأنها تنهشه نهشا، لتتلاشى بعدها تاركة الصمت يزداد كثافة فيطبق على صدره ليصبح التنفس في حد ذاته صعبا، بل مستحيلا…
أخذ نفسا عميقا من هواء الليل الساكن، قبل ان يتخذ قراره بالذهاب الى عاصم حالا، مرغما!..
وصل مالك للبيت صامتا متجهما، و ما أن رأى نظرة والدته القلقة حتى سألها بخفوت (أين عاصم يا أمي؟)
ردت روعة بقلق (منذ أن أوصل صبا إلى بيتها وعاد وهو يجلس في السطح، لقد حدث بينهما شيء جديد و لا يريد اخباري، حالته كانت محزنة حين عاد، أصعد اليه يا مالك، ربما فتح قلبه لك)
ربت مالك على ذراعها قائلا بخفوت (لا تقلقي يا أمي، لا تقلقي)
ثم اندفع الى السلم صاعدا و هو يفكر ما بال الأسطح الليلة؟
وصل مالك الى السطح، و ما أن خطا حتى وجد عاصم جالسا الى الأرجوحة الخشبية، ساهما، مطرقا برأسه، حزينا، يتأرجح بصمت وكأنه في عالم بعيد…
كان بالفعل شكله مقلق، عاصم رشوان لا يبدو على تلك الحالة الا حين يهزمه شيئا ما، وهذا أمر ندر حدوثه…
ربما أمه على حق، ربما يتوجب عليه أن يسمع منه، فربما فتح قلبه بما يثقله…
لذا تقدم ببطء ليجلس بجواره على الأرجوحة الخشبية، فلم يهتم عاصم حتى بالنظر اليه، لذا توجب على مالك كشقيقه الأصغر و الأقرب له طوال تلك السنوات أن يسانده، فقال دون مقدمات (عاصم، سأعقد قراني خلال أيام)
لم ينظر عاصم اليه لعدة لحظات، قبل ان يعقد حاجبيه ببطء الى أن شكلا عقدة مستعصية في النهاية فرفع رأسه الى مالك قائلا بغضب و ذهول (ماذا؟، على من ان شاء الله؟).
قال مالك بهدوء (ماذا تقصد بمن؟، تقصد خلاف تلك التي أحضرتها الليلة لأزين بها غرفة الجلوس كمزهرية!)
هتف عاصم بغضب (مالك، لا تتلاعب معي، اليوم تحضر معك فتاة نراها لأول مرة، ثم و قبل أن تنتهى الليلة تفاجئنا بأنك ستتزوجها، من هي و من تكون عائلتها، و منذ متى تعرفت اليها؟).
تنهد مالك بقوة قبل ان ينظر امامه ليقول بصوتٍ غير مقنع لطفلٍ صغير (تعرفت اليها منذ فترة، و أنا كنت أفكر في الزواج منها قبل أن، أن أخطب حنين، لكن الظروف تشابكت، فانقطع تواصلنا، و منذ أيام تجدد مرة أخرى، ل)
هتف عاصم بغضب (توقف، توقف، انك فاشل في الكذب، بنفس فشلك في العلاقات النسائية، مالك انظر إلى عيني و أخبرني الحقيقة، من تكون تلك الفتاة؟).
قال مالك رغما عنه بعد فترة (انها ابنة صاحب بيت القاسم، الذي اشتريته منذ فترة)
فتح عاصم فمه!، ثم هتف (يا ماشاء الله، هل كلفتك بانهاء موضوع البيت، أم تعليق ابنة صاحب البيت!)
قال مالك بنفاذ صبر (توقف يا عاصم، الأمر كله لا يحتمل، الأمر لا يحتوى على أي غراميات من أي نوع).
صمت عاصم قليلا مدققا به، ثم قال أخيرا بهدوء (و طبعا، هي من كنت تبحث لها عن عمل منذ فترة، عظيم، لما لا تخبرني من البداية عن سبب تطور الأمر الى مشروع زواج على الرغم من عدم وجود مشاعر تجمع بينكما؟)
تنهد مالك مجددا، قبل أن يشعر برغبة ملحة في أن يحكي لعاصم كل شيء من البداية، لذا بدأ في الكلام و لم يستطع حينها التوقف الى أن وصل للجمع الحاكم الذي نصب له في بيت أحلام منذ قليل…
كان عاصم يستمع اليه بما يشبه الذهول، لكنه لم يقاطعه الى أن انتهى تماما، حينها قال عاصم بصوتٍ حائر خافت، غاضب، غاضب بشدة، (كيف وصلت الى مثل هذه النقطة؟، الا تملك أي قدر بسيط من حسن تقدير الأمور؟..
كيف تتصرف معها على هذا النحو، هناك بحينا القديم، على مرأى و مسمع من كلِ من يقبعون منتظرين فضيحةٍ جديدة، فكيف بالله عليك تزج اسمك في وضعٍ مريبٍ كهذا!).
قال مالك يدافع عن نفسه بقوةٍ حتى اهتزت الأرجوحة بهما (كنت أساعدها فقط، لم يخطر ببالي أن)
قاطعه عاصم بصلابة مشتدة (مالك، توقف حالا و أخبرني، هل، هل تجاوزت الحدود معها؟، إلى أي حدٍ وصلت؟ )
انعقد حاجبي مالك بشدة، و هتف بغضب (عاصم، أنت تعرفني جيدا)
رغما عنه اهتزت حدقتاه قليلا حين عبر الشعور بالذنب عينيه متذكرا تجاوزه الأخير معها، لكن، لكن…
و كانت عينا عاصم خبيرة و هو يراقب تغيرات وجه مالك المتقلبة، فقال بعد فترةٍ بصوتٍ أهدأ (لأنني أعرفك جيدا أسألك، أسمعني جيدا، الانسان الملتزم من البداية يكون الضغط أشد عليه، و الإنزلاق أسهل ما أن يمسك ببداية خيط التنازل، لذا أصدقني القول و سأسألك للمرة الأخيرة، هل)
قاطعه مالك صادقا (لا يا عاصم، لست أنا، لكن، لكن الأمور أفلتت من يدي لا أعلم لماذا، ووجدت نفسي في وضعٍ مفروضٍ علي).
أومأ عاصم برأسه متفهما، ثم قال بعد فترة صمت طويلة بصوتٍ حاسم لا جدال فيه (اذن لا خيار لنا، ستعقد قرانك عليها خلال أيام)
فتح مالك عينيه بدهشة قبل أن يقول (ظننتك سترفض مثل هذا الضغط الذي فرض علينا منهم).
نظر عاصم اليه ليقول بصوتٍ حاسم (لم أكن أحب أن يكون زواجك مصحوبا بتلك السمعة التي تسببت بها، أنت و هي على حدٍ سواء، لكن لا خيار لدينا، أولائك البشر اللذين أجتمعوا الليلة ليحاكموك ليس جميعهم ذوي نفوس نظيفة…
و دون تحديد، ما أن تخرج تلك الفتاة مطرودة من الحي بهذا الشكل فسيسعى خلفها من لن يرحمها…
و انا و كذلك أنت لن نقبل بذلك، و الا لما كنت عرضت عرضك من البداية و أنت تعلم أن أحدا لن يجرؤ على أن يمسك أنت بسوء…
لذا، لا تناقش نفسك طويلا و لا تستسلم لغضبك طويلا، لأن غضبك من نفسك سيتضاعف ما أن ترى نتائج التخاذل، لقد أجبرتنا جميعنا على هذا الوضع يا مالك، فتحمله ولو رغما عنك، و بعدها سنرى ما كتبه الله).
مشاعر غريبة اجتاحت مالك في تلك اللحظة، ما بين غضب و كبت، شعور بالذنب و طوفان حائر، و شعور غريب من، من ذلك التوقع الذكوري الغريب الذي ينتابه مؤخرا كالمراهقين، مما يشعله غضبا ليعيد للمشاعر الأولى…
تنهد بصمت وهو ينظر اليها كعادته كل ليلة، طويلا بعد أن تغفو، و طويلا قبل أن تستيقظ…
من أحب عاداته الى قلبه مؤخرا، أن يتطلع اليها في نومها.
رغم الجفاء البارد بينهما. الا ان بداخلهما دفء لا يستطيع كلاهما انكاره، وهو يراه بوضوح من نظرة عينيها المختلسة له…
اما بالنسبة له فكلمة دفء لا تناسب اطلاقا ما يعتمل بداخله من نارٍ مستعرةٍ يتلظى بها كل ليلة. حين يسمع تنهدها الناعم الحزين ما ان تذهب في سباتٍ عميق بجواره…
مرت عدة أيام منذ أن تركته وحيدا بكلماته الموجعة في بيت صديقتها، وهي تبتعد عنه، فقط بجسدها و ليس بقلبها، كأنها تتهرب منه خوفا من أن يؤذيها مجددا…
بداخله رغبة عنيفة تنمو كل يوم في أن يضمها الى صدره بقوة، طالبا منها أن يضعا كل ما فات خلف ظهريهما…
لكنها أحلام الليل و توجعاته الخبيثة، فما أن تفتح عينيها الناعمتين اليه، حتى يعود مارده الغاضب في رسم ملامح الجفاء على وجهه…
و هي كذلك تنظر بعيدة متهربة، و كأنها تعد الثواني كي تهرب منه، خوفا ربما من أن، من أن تكرهه يوما…
و هل كرهها هو!، ان حبها بداخله ينمو كل يومٍ متحديا غضبه و جفاؤه، وكأنه يهزأ منه…
سمع تأوهها مجددا ليشعل النيران بأحشائه مجددا، ثم فتحت عينيها عدة مرات قبل أن تنظر اليه بصمت…
طالت نظرات كلا منهما للآخر، يحب نظراتها التي تخبره بأنه. وسيم …
تنحنح بخشونة وهو يقول بجفاء (يجب أن تستيقظي، لقد تأخرنا).
رمشت عدة مرات قبل أت تعي قليلا، ثم همست بضعف (تأخرنا على ماذا؟)
انعقد حاجبيه وهو يقول باستهزاء (هل نسيتِ أن اليوم كان نهاية أجازة شهر عسلنا و الرجوع للعمل!)
اتسعت عينيها بذهول وهي تهمس بهلع (حقا!)
ضحك عمر ضحكة قاسية هازئة وهو ينهض من الفراش قائلا بصلابة (و نعم الموظفات والله!)
استقامت رنيم جالسة في السرير تزيح شعرها ببطء من على وجهها. ثم همست بتردد حذر (لن أستطيع الذهاب اليوم يا عمر).
استدار اليها رافعا حاجبيه باستهجان لينفجر فيها بلا داعٍ حقيقي (لن تستطيعي الذهاب!، هل تظنيني أطلب منكِ الذهاب الى رحلة فتعتذرين عنها!، انه عمل و له مواعيد و حين تنتهى أجازتك يجب أن تكوني أول المتواجدين، مفهوم؟)
أطرقت برأسها لينسكب شعرها فوق وجهها فيخفيه تماما وهي تهمس بضغف خوفا من قسوته (لا استطيع الذهاب اليوم، أرجوك).
أوشك على أن يغلي غضبا، ثم هتف بحدة (اسمعيني جيدا يا رنيم، شدتي السابقة معكِ بالعمل لن تكون حتى نصف شدتي الآن خاصة و قد أصبحتِ زوجتي، لأنني لن أسمح أبدا بأن أظهر بمظهر المتساهل مع زوجته دون الآخرين، فاياك و محاولة استغلال هذا الوضع)
رفعت عينين منهزمتين اليه لتقول بترجي (لا أحاول استغلاله صدقا، أنا، أنا متعبة اليوم، ربما غدا، أرجوك).
قال عمر بشدة و قد نفذ صبره تماما، (انهضي يا رنيم و استعدي حالا، و لن أقبل اي اعذار، كوني على قدر تحمل المسؤولية ولو لمرة واحدة بحياتك)
ثم تركها ليخرج من الغرفة، و جلست هي تحدق الى المكان الذي خلفه من بعده فارغا كئيبا، على الرغم من شدته، الا أن مجرد وجوده يملأ عينيها و قلبها…
تنهدت بقوة وهي ترتجف رغما عنها من الذهاب الى العمل، تشعر برغبة سوداوية في اعتزال البشر و المكوث في البيت لمجرد انتظار عودته لتملأ عينيها بجمال طلته…
ليست لديها اي رغبات اخرى في هذه الفترة من حياتها، فقط مجرد ان تحظى منه بنظرة خاطفة مختلسة تضبطها رغما عنه…
لكن ليس بيدها حيلة الآن، يجب ان تذهب للعمل مرغمة، لا تريد السماع من كلماته الحادة اليوم، فهي على وشك الانفجار بكاءا في أية لحظة…
حين دخل الى الغرفة، نظر اليها بطرف عينيه جالسة على حافة الفراش مرتدية كامل ملابسها بعد وقت قياسي، و كانت على ما يبدو تكافح في تثبيت الجهاز المقوم لساقها المصابة…
وجهها أحمر وهي منحنية لأسفل، تتنفس بصعوبةٍ تفوق اهمية الأمر، أصابعها تعجز عن تثبيته مرة بعد مرة…
اقترب ببطء ليقول بخفوت متصلب (هل أنتِ جاهزة؟)
همست بكبت دون ان ترفع عينيها اليه (لحظة).
حاولت مرة أخيرة، حين قال بصوت خشن (لا داعي له، اتركيه يا رنيم، فلقد اعدتِ التخلي عنه مؤخرا)
قالت بلا تعبير (لا)
ظل ينظر اليها بصمت واضعا كفيه على جانبي ساقيه، ثم قال مجددا (اتركيه يا رنيم، انه لا يشكل فارقا)
لم ترد و هي تتابع حتى بدت اصابعها اكثر خرقا و توترا، فقال عمر بصلابة (ارتدي حذاء عادي يا رنيم، لقد تأخرنا)
رفعت رأسها فجأة صارخة و قد انهارت كل سيطرة الأيام الماضية دفعة واحدة (لن أذهب بدونه).
تسمر في مكانه وهو ينظر اليها بوجوم، الى وجهها المحمر و نفسها اللاهث و اعصابها المنهارة…
مرت عدة لحظات بينهما قبل أن يتقدم اليها بصمت حتى وصل اليها فجثا على ركبتيه أمامها، و في لحظتين كان قد ثبته لها باحكام…
خلال هاتين اللحظتين كانت تنظر إلى رأسه المنحني أمامها بيأس، تود لو مدت أصابعها و تخللت بها خصلات شعره، لكنها لم تتجرأ خاصة بعد حماقة الصراخ بوجهه للتو.
حين انتهى عمر، لم ينهض، بل مد يده ليتناول حذائها العالي الساق، ليمسك بقدمها الصغيرة و يدخلها في طول الحذاء بحذر، ثم أغلق سحابه بحرص…
ابتلعت ريقها و استعدت لأن يتركها، الا أنه التقط الحذاء الآخر و البسها اياه ممسكا بساقها السليمة…
كم شعرت في تلك اللحظة بأنها أكثر نساء الأرض دلالا، عضت على شفتها بصمت كي تمنع دموعها بصعوبة…
انتهى عمر، ثم مكث أمامها صامتا لعدة لحظات قبل أن يضع كفه على ركبتها ليرفع رأسه اليها ناظرا لعينيها المتلهفتين لنظرة منه، ثم قال بخفوت (ها قد انتهينا، هيا بنا)
نهض ببطء أمامها لكنه لم يبتعد، فلم تجد سوى أن تنهض على قدميها، الا أنها تمايلت قليلا فوق كعبي حذائيها العاليين…
فأمسك عمر بخصرها يثبتها حتى استقامت، مستندة بكفيها الى صدره الواسع ثم رفعت عينيها الى عينيه، فقال بعدم استحسان (هل أنتِ بخير؟).
أومأت بوجهها بصمت. فتابع بخشونة و صوت غير متزن تماما (تلك الأحذية العالية قاتلة، و قد تكسر عنقك ذات يوم)
ابتسمت قليلا و همست بعد فترة (لقد اعتدت عليها، لا بأس بها)
ظلا صامتين قليلا. قبل أن تهمس رنيم بخفوت (هيا، س، سنتأخر، الا لو كنت قد غيرت رأيك)
نظرت اليه بأمل أن يحررها من ثقل الذهاب للعمل اليوم
لكنه قال بعد فترة بعدم تركيز (ماذا، نعم، لا، لم أغير رأيي، ستذهبين اليوم و تلتزمين بعملك).
جلست مع نفسها طويلا، تحاول تجنب زملاء العمل و المهنئين قدر الإمكان، منذ أن وصلا الى الشركة حتى ابتعد الى عمله المتأخر متجاهلا إياها تماما…
فبقت وحيدة تحاول التركيز دون جدوى، ساعة، اثنتين، و حين شعرت بأنها لن تحتمل الضغط طويلا التقطت ورقة بيضاء و قلما و على وجهها علامات الحزم…
بعد دقائق كانت تتجه الى مكتبه، تطرق الارض بكعبي حذائيها الغير منتظمين على الرغم من رشاقتها المجهدة…
طرقت الباب طرقة ثم دخلت مباشرة دون ان تنتظر الاذن…
لكنها تسمرت مكانها حين رأت احدى المهندسات، تحديدا احدى المهندسات المكتملات الجمال تماما، تقف بجوار كرسيه، منحنية اليه، و هي تشير الى نقطةٍ ما على الشاشة امامهما، و على ما يبدو أن الموضوع كان طريفا حيث ان ابتسامتهما كانت من الاذن للأذن الاخرى…
رفعا وجهيهما اليها ما أن دخلت، فوقفت عاجزة تشعر بالظلم…
فقال عمر بهدوء (هل تريدين شيئا يا رنيم؟).
قالت رنيم بخفوت و هي تتجنب النظر اليهما (نعم يا باشمهندس عمر، كنت أريدك في أمرٍ ما)
قال عمر بوضوح (تفضلي، تعالي، الآنسة منال كانت تريني بعض الأخطاء في نفس المشروع الذي تعملين به، لو احببتِ أن تلقين نظرة)
تنفست رنيم بسخونة، قبل أن تتجه بعرجها البسيط تجاههما، قبل أن تمد يدها بالورقة الى سطح مكتب عمر و هي تهمس (من فضلك، وقع لي بالموافقة على هذه الورقة).
أمسك بالورقة يقرأها، و بدا أن عمرا قد مر وملامحه تتصلب أثناء قرائته، ثم رفع عينيه اليها وهو يقول بهدوء (ماهذا تحديدا يا رنيم؟)
رفعت ذقنها لتقول بشجاعة (كما تراها)
ارتبكت منال أثناء سماعها لتلك الطريقة التي خاطبت بها رنيم مديرهما المباشر، فهمست بتلعثم (حسنا يا باشمهندس، سأستأذن أنا، و ربما)
قال عمر بحزم (انتظري يا منال، لم ننتهي بعد).
ثم نظر إلى رنيم ليقول بصرامة دون أن يعلو صوته (حين تودين ترك العمل الذي بذل فيه مجهودا من أجل تدريبك و منحك فرصة كان غيرك أحق بها، فيجب عليكِ حينها على الأقل الإلتزام بقوانين العمل حتى في الإستقالة، حيث أن عملك هنا لا يتجاوز العام الواحد)
ثم بمنتهى الهدوء أمسك بالورقة و مزقها نصفين، ليضعها أمامها قائلا بهدوء (من فضلك عودي الى عملك يا سيدة رنيم).
خرجت رنيم من مكتبه دون أن ترى الطريق تقريبا، و لم تدري الا وهي تتجه الى الحمام لتغلق الباب خلفها و تنفجر في البكاء، كانت تعلم أن اليوم الأول بعد عودتها لن يمر على خير…
أعصابها لا تحتمل، لا تحتمل، أمسكت بهاتفها، و فتحت الموقع الذي كانت تراسله، لتبعث برسالة جديدة تطالبهم بتحديد موعد كي تحجز به…
كيف يمكن للانسان أن يرغب قسرا في بعضٍ مما يرفضه!، كيف يجد راحته في بعد لحظات الغفلة من طاقة كرهٍ عميقة يحاوطها بكل سيطرته كي لا تهرب منه تلك الطاقة…
يخشى ان فقد طاقة غضبه، يفقد روحه بشيءٍ آخر مجهول، يغرقه اكثر و أكثر…
طرقت أصابعها برقةٍ على الأزرار تكتب بصمت لا يقطعه سوى لحن تلك الطرقات الرقيقة.
اتذكرين أحلامنا الصغيرة؟، كيف حتى تمكنا من كتابتها؟، أعتقد أنني لو اعدت قراءتها اليوم لما تمكنت أبدا، كان الخط لأطفال…
لكن تلك الأحرف المشوهة كانت تحمل الكثير مما تمنيناه معا…
لكم اختلفت طرق الحياة بعدها، و كأنها بحر عالى الأمواج تقاذفني لتلطمني موجة بعد موجة، يهيج في أعماقي أكثر من هياجه من حولي…
استسلمت لها من حولي، لكني تقويت بهياجها داخلي، كانت تلك الأمواج تمنحنى القوة دائما و منها تنبع حنين…
أخشى، أخشى الآن، من هدوء البحيرات الذي يسيطر على كياني، هدوء يجعلني لست أنا…
نفسي تهدأ يا نوار من بين عدة أمواج، و تتكرر فترات الهدوء، ليتبعها خوف، خوف من الإستسلام
رفعت عينيها عن الأزرار، لتنظر الى نافذة مطبخها الحبيب…
لا تصدق ذلك الحلم منذ عدة ايام، حين غفت بين ذراعيه في الصباح الباكر، هل حقا حدث هذا؟..
هل حقا وعدها بمساعدتها في معاقبته!، هل كان يسترضي الطفلة فيها!، لكن لماذا شعرت حينها بصدق نبراته؟..
يكاد يكون وهم أو سراب، لكنه منذ ذلك اليوم وهو يقتنص ابتساماتها، يفتعل ضحكاتها. و مرة بعد مرة لم يعد مجرد افتعال، له القدرة على اضحاكها بالفعل، فكيف ذلك و هي تود قتله في نفس الوقت!..
(فيما أنتِ شاردة؟).
أغمضت عينيها بيأس حين سمعت صوته من خلفها. ثم تنهدت بقوة و هي تغلق شاشة حاسوبها متعمدة، هامسة من بين أسنانها (توقف عن التسلل الى أفكاري، امنحني بعض الوقت لنفسي)
لكنه لم يرد، بل سمعت خطواته من خلفها حتى وصل اليها و انحنى ليطبع قبلة قوية على وجنتها، فهزت رأسها بعنف ثم مسحت وجنتها بظاهر يدها بقوة لتزيل قبلته بطفولية و هي تهتف (توقف)
ضحك عاليا وهو يقول (توقف، توقف، الن يكون هناك أملا في أمر بالتحرك؟).
ثم رمقها بنظرةٍ ذات مغزى. فاحمر وجهها بشدة و هي تدرك المعنى العبثي لكلماته، و لو أنه ليس عبثيا تماما، فهو يعاني من الكبت و هي تستطيع رؤية ذلك بكل وضوح…
طرفت بعينيها و هي تبتعد بهما عنه بخجل حاولت اخفاؤه تحت مظهر امتعاضها، لكنها سمعت ضحكته الخشنة الخافتة لتعلمها بأنه قد رأى خجلها، فازداد امتعاضها…
نظرت اليه بطرف عينيها و هي تراه يفتح باب الثلاجة، ليتناول زجاجة ماء بارد و بدأ في الشرب من فوهتها مباشرة، لتتساقط قطرات الماء على ذقنه و على صدره…
رفعت حنين حاجبيها باندهاش و هي تراه يلقي بضع قطرات على وجهه كذلك!، و منه سقطت على الأرض…
فعقدت حاجبيها وهي تراه كائن همجي بدائي لا سبيل لإصلاحه، كيف ستستطيع الحياة معه بأكملها!، فقط فليقنعها أحد، كيف ستتمكن من ذلك!..
بعد أن أغلق جاسر باب الثلاجة، انحنى اليها قليلا ليقرأ الورقة الصفراء الجديدة، عاقدا حاجبيه…
ثم لم يلبث أن اتجه اليها ليجذبها فجأة من ذيل الحصان الطويل، فأوقفها منه على قدميها و هي تصرخ متلوية بين ذراعيه تضرب صدره بقبضتيها حتى أوصلها إلى الثلاجة دون أن تتخلى قبضته عن ذيل حصانها المرفوع…
ثم قال بخشونة هادئة (هل أنتِ خرساء؟)
صرخت حنين بغضب ؛ (أتركني).
هزها جاسر من ذيل حصانها تماما كما كان يفعل مع نوار منذ سنين طويلة، و قال بهدوء (ليس قبل أن تقرأين تلك الورقة)
هتفت حنين (لن أفعل)
الا أن جاسر هزها مرة أخرى وهو يقول بمنتهى الرزانة (و أنا لن اتركك حتى تفعلين)
بقت تقاومه قليلا دون جدوى، ثم ثبتت مكانها تتذمر غيظا، الى أن قرأت أخيرا من بين أسنانها (لن أعد الافطار اليوم، أعده أنت!).
ثم كتفت ذراعيها أمام صدرها ووقفت غاضبة و ذيل حصانها لا يزال مرفوعا بقبضة يده، منتظرة. ومنتظرة، ثم أخيرا رفعت عينيها اليه بأمرٍ كي يترك شعرها…
الا أنها وجدته ينظر اليها مبتسما بصمت، قبل أن يقول بخفوت (الا يكفي أنكِ زوجة فاشلة، لا تعدين سوى الإفطار، و أيضا هذا على ما يبدو قررتِ التنصل منه، لكن أيضا تكتبينها في رسالة صفراء صغيرة بلون روحك المستفزة)
هتفت بحنق (أنا لست صفراء)
ابتسم أكثر وهو يرد (بلى).
ثم ترك شعرها ليمسك بخصرها و يرجعها حتى التصقت بظهرها الى الثلاجة، الا أنها كانت مشغولة بحك مؤخرة ذيل حصانها وهي تهمس متذمرة (همجي)
تأوه بحركةٍ تحببية وهو يقول (هل آلمتك؟)
لكنها رفعت اليه عينين شرستين دون أن ترد، فانحنى اليها لكنه لم يصل الى وجنتها، بل طال بوجهها حتى وصل الى ربطة ذيل الحصان و قبله…
شعرت بنبضاتها تتزايد من تلك الحركة السخيفة، فهمست بتصلب (حسنا كفى).
ابتعد قليلا لكن فقط لعدة شعيرات عن وجهها، ثم همس أمام عينيها (شعرك ناعم كالحرير)
أسبلت جفنيها قليلا و تضاعفت نبضاتها أكثر و اكثر، بشكلٍ أثار حنقها أكثر و أكثر…
فقالت من بين أسنانها لتداري احمرار وجهها من قربه البغيض (آآه، و على ما يبدو أنك كنت تختبر مدى نعومته بتلك الخصلات التي انتزعتها منه كعينة).
عقد حاجبيه ثم رفع كفه التي كانت ممسكة بذيل حصانها، ليجد بالفعل ان هناك العديد من شعراتها الطويلة السوداء الناعمة، متخللة لأصابع كفه…
تأوه تلك المرة بجدية، قبل أن يقول بخفوت (أنا آسف، كنت معتاد على تلك الحركة مع نوار، لكن شعرها كان أقوى من شعرك، كلفائف معدنية نحاسية كثيفة).
توقفت أنفاسها لعدة لحظات، انها المرة الثانية التي يذكر فيها اسم نوار مقترنا باسمها، لقد شكت في أن يكون قد نسيها تماما بمنتهى البرود، لكنه لا يتوقف عن ادهاشها في كل مرة
فهمست رغما عنها و قبل أن تستطيع منع نفسها (نوار؟)
صمت قليلا، قبل أن ينظر الى عينيها هامسا وهو يلاعب شعرها بشرود (نعم نوار، كنت أحب أن أستفزها دائما، حتى انني كنت أقسو عليها في كثيرٍ من الأحيان).
ابتسم قليلا بتعبير لم تستطع فهمه، فهمست طوعا (هل تفتقدها؟)
لم يرد وهو يتشرب كل ذرة من ملامحها كما اعتاد أن يفعل مؤخرا، ثم همس وهو يقترب منها أكثر حتى لم يعد يفصل بينهما شيء، و ابتسامة عميقة مزلزلة تزين شفتيه (أفتقدك أنتِ أكثر)
عبست بشدة و همست بغيظ (توقف عن هذا، هل)
صمتت قليلا، ثم رفعت عينيها الى عينيه مجددا و تابعت (هل لا يزال أمر، مو، موتها، يؤلمك بنفس القدر؟).
عاد الصمت مجددا، و ملامحه لم تهتز بها عضلة واحدة، كان فقط يتطلع الى عينيها…
ثم قال بهدوء (الحزن لا يبقى للابد، يزول و تبقى الذكرى)
عقدت حاجبيها قليلا ثم قالت (الا تشعر بشيءٍ يوجع قلبك حين تتذكرها)
رد عليها وهو يتتبع ملامح وجهها باصبعه (لا، لا وجع، كانت طفلة و انتهى عمرها).
ازداد انعقاد حاجبيها و فغرت شفتيها قليلا، قبل أن تهمس بنفور (كيف يمكنك أن تكون بمثل هذه القسوة و البرود، لقد أثر ذلك الأمر على و على مالك حتى يومنا هذا، مازلنا نعاني منه)
هز كتفه بلا مبالاة، ثم قال أخيرا بخفوت لا تعبير له (اذن انتما تعانيان من مشكلةٍ ما)
لم تصدق مدى تلك القسوة المحيطة به، على الرغم من أنها قد عايشتها طوال معرفتها به…
أفاقت من شرودها على صوته القوي وهو يقول بمرح قاسٍ (اذن، ان كنتِ قد تهربتِ من اعداد الافطار، فستكونين على الأرجح متفرغة لمساعدتي ببعض الاعمال في المرآب)
عقدت حاجبيها و هي تستفسر (ماذا؟، أي أعمال؟ ومن قال أنني متفرغة؟).
قال جاسر ببراءة (لا أرى ما يشغلك حاليا، إنكِ توشكين على عد مربعات الأرضية و عقد صداقة مع بعض النملات، بخلاف مكالمتك لنفسك في المرآة كثيرا، و هذا ليس مؤشرا حسنا، لقد اخذتك و انتِ تملكين ربع عقل. و أنا أنوي جاهدا المحافظة على هذا الربع اليتيم سليما)
فغرت شفتيها باستنكار الا أنه كان قد ابتعد عنها، و عند الباب استدار اليها ليقول برقة (من الأفضل أن تبدلين ملابسك بشىءٍ بالي، حتى لا يحزنك فقده).
عبست حنين اكثر وهي تقول (ماذا سنفعل بالضبط؟)
قال جاسر ببساطة (سنجهز ما تبقى من بيتنا)
ثم انصرف تاركا إياها تتسائل عن مدى قوة احتمالها لحياةٍ كاملة مع ذلك المصنف انسان…
بعد عدة دقائق، كانت حنين تدخل من باب المرآب المتسع بحذر. تنظر حولها، و قد ارتدت جينزا قديما ضيقا لم تستطع مقاومة احضاره معها من بيت عمها، و على ما يبدو أنها كانت ذات بعد نظر…
الحقيقة أنها حين أحضرها جاسر إلى هذا البيت في المرة الأولى، و في التالية التي أحضرها أيضا قسرا، لم ترى من البيت سوى الجانب المنمق منه…
لقد اعد الظاهر منه على احسن وجه، البهو، و المطبخ، و غرفتها، و تلك الغرفة التي، التي تشاركاها سابقا، و غرفة طفلتها طبعا…
لكن ما أن تعايشت في البيت حقا، حتى تفاجأت بكم العمل الذي يتطلبه، تقريبا نصف البيت غير مجهز…
المرآب و الحديقة الخلفية و الحمامان في الطابق السفلي، و السطح المهجور، الكثير من أعمال السباكة…
و بعض الاسقف و الجدران كانت قد تشققت و سقط دهانها الجديد بسبب الرطوبة و غيابه عن البيت لفترة طويلة، اثناء، مكوثه في السجن…
ما تعرفه هو أنه لم يشرف على بناء و تجهيز أساسيات البيت، بل أوكل المهمة لأحد ما، حتى يحين موعد خروجه و عودته…
و من يوم أن عاد، يبدو أن ذلك البيت هو اهتمامه الأول، انه يشغل نفسه بتصليح و صناعة كل ما هو صغير أو كبير، من أصغر التفاصيل و أبسطها الى أصعبها…
لم ترى عاملا واحدا استاعن به جاسر منذ حضورها إلى البيت، بل كان يفعل كل شيء بيديه…
حتى أنها كانت على الرغم من هوسه بها. الا انها كانت تشعر أحيانا أنه ينشغل باليت و يضيع عنها تماما. حتى أنه ينساها بالساعات، تلك الساعات القليلة التي تتفرغ بها لبعض أفكارها و لنفسها. ، …
و دافع خفي بداخلها أراد أن يرى الشيء الخفى الذي كان يعمل عليه منذ عدة أيام، لكن أين هو هذا الشيء!
رفع رأسه اليها ما أن دخلت…
كان جالسا القرفصاء، أمام أحدى علب الطلاء. يقوم بتحريكه قليلا، ليرفع رأسه ما أن شعر بدخولها. حينها تسمر مكانه قليلا وهو يراقبها في اطار الباب المنير بشدةٍ من نور الشمس خلفها، بينما المرآب مظلم نوعا ما…
كان بنطالها الضيق يحتضن جسدا رشيقا للغاية، مستديرا قليلا كعلامة النغمة الموسيقية…
يعلوه قميص قطني يصل إلى خصرها بصعوبة…
تدخل حذرة الى المكان، و كفيها في جيب بنطالها، تتلفت قليلا يمينا و يسارا كأنها تبحث عن شيءٍ ما!..
هيئتها بدت في تلك اللحظة في منتهى الجاذبية أمام عينيه الصائمتين عنها، وهما تتابعان ذيل حصانها المستريح فوق احدى كتفيها و قد استطال مؤخرا و كأنه لم يعرف مقص أبدا، فبدا فتنة للنظر وهو يقارب خصرها…
يكاد أن يسابق حافة قميصها القطني و يتعداها!..
اليس ظلما ما يحياه حاليا، يرضي من هذا، جاسر رشيد يجلس في أحد الأركان المظلمة ليراقب زوجته بعيني طفلٍ جائع لبعض الحلوى…
من كان يظن أن تلك الصغيرة ستتحكم بحياته بتلك الصورة!..
نفث زفيرا متذمرا وهو يعيد نظره الى العلبة المعدنية البائسة أمامه، لعل رائحة الطلاء القوية تخدره و تخدر بعضا من جوعه الثائر…
قال ببساطةٍ تناقض ما بداخله، (ها قد وصلت من على قدميها نقش الحناء)
مطت حنين شفتيها بامتعاض و همست بتذمر (ها قد بدأنا)
لكنها دخلت بشجاعة لتقف أمامه في منتصف المرآب و تقول بفتور (حسنا، ما المطلوب مني؟).
مط جاسر شفتيه كذلك و هو يقول بامتعاض (بالله عليكِ خففي من حماسك قليلا. حيث كاد أن يغرقنا ثم يحرق المكان)
ثم هز رأسه باستهجان، ليقول بعدها بهدوء (أترين تلك الألواح هناك الطويلة؟، سأصنع منها سور خشبي متقاطع يعلو السور الحجري للحديقة الخلفية، كي أتمكن من زراعة النباتات المتسلقة عليه، لذا و مبدئيا خذي يد السنفرة الملقاة أرضا و أبدأي بسنفرتهم لوح لوح).
فغرت حنين شفتيها باستنكار، وهي تعقد حاجبيها بذهول، الا أنه تابع بجفاء و صرامة دون أن ينظر اليها (أريدهم في نعومة وجنتيكِ، كي يكون الطلاء أملسا عليهم، أي باختصار ارجو مراعاة الضمير في العمل)
زفرت حنين و هي ترفع عينيها بيأس، ثم رغما عنها اتجهت بتثاقل الى يد السنفرة تلتقطها و ترمي نفسها جالسة فوق صندوق خشبي مهمل و في يدها الأخرى لوح خشبي طويل أسندته من الأرض الى كتفها…
ثم بدأت العمل…
احمر وجهها بعد عدة دقائق و ظهرت بعض قطرات العرق على جبهتها، فتوقفت قليلا و هي تمسحها بظاهر يدها، من المرجح أن تموت و يفنى عمرها قبل أن تنهي العمل على كل تلك الألواح…
سمعت صوته يأتي صارما (لماذا توقفتِ؟، لم تنهي حتى نصف واحدة)
رفعت حنين عينين شرستين اليه وقالت من بين أسنانها (إن لم يعجبك، فتعال و اعمل على سنفرتهم بنفسك).
نظر اليها بعدم رضا و عاد لعمله، ولسان حاله يقول لو أتيت لسنفرت لسانك، ثم لأشبعت شوقا يكاد يفترسني
لكن شيئا لم يظهر على وجهه، بينما عادت هي لعملها لدقائق أطول هذه المرة، و بعد فترة طويلة كانت تختلس فيها اليه بعض النظرات، لتجده ينظر اليها في بعضٍ منها…
قالت مترددة لتقطع ذلك الصمت الطويل، (لماذا لا تأتي بعمالٍ ليقومون بهذه الأعمال عنك، و عني بالطبع إن لم تكن اساءة أدب مني).
لم ينظر اليها قبل أن يرد بعد فترة، (أحب أن أفعل كل شيء بنفسي، لقد صدأت مهاراتي اليدوية لفترة طويلة و أنا في، الخارج)
نظرت إلى رأسه المنحني دون أن يرفعه اليها، و هي تعلم بأنه كان يقصد فترة السجن، لذا صمتت قليلا قبل أن تقول مصرة بهدوء (أتقصد فترة السجن؟)
لم يرد و لم ينظر اليها، و حين ظنت أنه سيتجاهلها، قال بهدوء ساخر (نعم فترة السجن، كانت مملة و طويلة).
عادت لعملها الا أنها كانت تنظر اليه بطرف عينيها، ثم لم تستطع منع نفسها من القول (كيف كان حالك فيها؟)
يرافقه الصمت بين كل سؤال و آخر، قبل أن يرد هذه المرة بلا مبالاة ساخرة (كحال أي عربي في سجون غير شقيقة)
صمتت حنين و شعرت أنها لا تريد المتابعة، و عادت تبعد عينيها عنه وهي تهمس لنفسها بأنها لا تهتم له حقا، لكنها لن تكون بمثل قسوته في الضغط عليه أكثر…
لكنها تفاجأت حين سمعت سؤاله، (لم تسأليني عن سبب دخولي السجن، الا تودين معرفة الجريمة التي أدين بها زوجك؟، أم أن الأمر فوق احتمالك؟)
قالت بتجمد و اختصار (أعرف السبب)
حينها رفع رأسه اليها يمعن النظر بها، قبل أن يقول بصوت غير مفهوم (ممن عرفت؟).
رفعت عينيها اليه فالتقت بعينيه المحدقتين بها، و أستمر اتصالهما طويلا قبل أن تحنى رأسها خاسرة تحدي النظرات، قبل أن تقول مغيرة الموضوع (حسنا، متى سنبدأ بالسباكة؟، لقد خدعتني بظاهر هذا البيت في المرة السابقة التي أحضرتني فيها الى هنا بينما باطن البيت يحتوي على مصائب)
ظل ينظر اليها قليلا، قبل أن يخفض رأسه قائلا بهدوء (دعينا نرى مهارتك في النجارة قبل أن نرقيكِ الى مساعد أول سباك).
لم يرى ابتسامتها وهي تتابع سنفرة الخشب، و لم ترى هي كذلك ابتسامته الخفية من ذكرها للمرة السابقة في مجيئها الى البيت دون بكاءٍ أو انهيار…
نهضت من مكانها بعد أن تعبت من الجلوس، فرفت قدما على الصندوق و القدم الأخرى على الأرض، لتنحني للأمام في عمل صامت بينما انساب ذيل حصانها امامها ملامسا الخشب الذي تعمل به…
و لم تنتبه الى جاسر الذي كان يقبع أمامه يراقبها بصمت واجم، بينما صدحت أغنية قديمة من المذياع العتيق الذي كان يبث بعض الأغاني في المرآب من ذلك الوقت صباحا…
عجبا لغزالٍ قتالٍ عجبا!..
كم بالأفكارِ و بقلوبٍ لعبا!..
يخطو بدلالٍ فيثير الشهبا…
يخطو بدلالٍ فيثير الشهبا…
عجبا لغزالٍ قتالٍ عجبا.
عجبا لغزالٍ قتالٍ عجبا!..
كم بالأفكارِ و بقلوبٍ لعبا!..
يخطو بدلالٍ فيثير الشهبا…
يخطو بدلالٍ فيثير الشهبا…
عجبا لغزالٍ قتالٍ عجبا.
كم مضى من الوقت وهو يراقبها ترقص على ذلك اللحن القديم المنبعث من المذياع، ترقص حافية القدمين على حافة قلبه…
ابتسم قليلا ساخرا، وهو يفكر بأنه ربما قد تحول الى القيصر بسببها…
كانت تتمايل على اللحن البطيء بخصرٍ قد نحت خصيصا ليتمايل، متلاعبا بقلوب من يراه…
أحيانا يتسائل كيف استطاع المقاومة لفترة طويلة، فترةٍ طويلةٍ جدا…
تلك التي تتمايل ببطىءٍ أمامه، ليست هي التي هزت خصرها حين رآها لأول مرة…
بل أخرى تسربت ببطىء تمايل خصرها الى قلبها دون اذنٍ منه، أخرى حين تنظر اليه تشعره بأنه الحياة التي تحياها…
مالت ابتسامته أكثر وهو مستند بكتفه الى الجدار، مكتفا ذراعيه، ينظر اليها تتراقص مع وقع نغمات رنين خلخالها و أساورها…
جميلة أنتِ سيدتي، جميلةٍ بشكلٍ يوجع القلب…
معكِ عرفت أن الاستسلام فن، فن أتقنه رجلٍ تعب بعد طريقٍ طويلٍ من الهروب، خوفا ربما، و غضبا أحيانا، الى أن أدرك أخيرا، بأنكِ هي…
هبطت الى الأرض الى أن جثت على ركبتيها البيضاوين لتميل بظهرها للخلف حتى لامس الأرض فافترشت الأرض بشعرها الليلي…
و لا زال خصرها يتمايل…
برقت عيناه انبهارا، مغوية لأبعد حدٍ تخيله يوما…
حين شعر بقلبه يتضخم غير قادرا على التحمل أكثر، اقترب منها ليقف أمامها، حتى أبصرته ففترت شفتيها عن ابتسامةٍ هامسةٍ باسمه دون صوت…
حينها انحنى ليجذبها من ذراعيها المتمايلتين حتى أوقفها حملا على قدميها، لكن اللحن لم ينتهي و خصرها لم يهدأ، بل استكانت قليلا وهي ترفع وجهها اليه…
تحيط عنقه بذراعيها، فاستراحت كفيه على خصرها الذي لا يهدأ و لا يتعب…
همست له بصوتٍ يضاهي جمال اللحن المنبعث خلفها (أخبرني بشيءٍ تحبه بي)
لم يجب لفترة و هو يتطلع الى كل ما هو حسن بها، أي كلها، ثم قال بخفوت (عيناكِ)
عقدت حاجبيها قليلا و مدت شفتيها المكتنزتين، ثم همست (لا تقل شيئا محفوظا، أخبرني بأكثر ما يعجبكِ بي، حقا، لم أسمع الغزل منك سابقا، أرجوك)
ابتسم شاردا بوجهها ليقول بخفوت (لست جيدا بكلمات الغزل).
وهل كنت غير جيد معها هي أيضا؟، طاف السؤال الحارق بذهنها الا أنها لم تتمكن من النطق به خوفا على لحظاتها الثمينة القليلة معه…
فهمست برجاء (أخبرني بشيء، أي شيء)
سكت قليلا قبل أن يقول بجدية (أحب عينيكِ، انهما وقحتين، عميقتين، و لهما سحر سبحان الخالق، حين تنظرانِ إلى بهما اشعر بأنني)
همست تكمل بسؤال (بأنك كل حياتي؟).
عقد حاجبيه قليلا وهو يسمعها تنطق بما جال في فكره منذ لحظات، فقال بجدية (نعم، أحب تملكهما و أغتاظ منه في نفس الوقت)
همست بحزن (ليس الأمر بيدي، انه فقط يحدث رغما عني)
فتابع نادر حينها (بعدها أشعر بأنني بأفضل حال، أفضل بكثير)
ظلت حور صامتة قليلا، ثم قالت بخفوت (أنت أكثر من شاهدتهم تعقيدا، أتدرك ذلك؟)
ضحك قليلا وهو يشدد من ضمها اليه، ثم قال باستسلام (أخبرتك بأنني لا أجيد كلمات الغزل، لكن أتعديني بشيء؟).
همست من قلبها (أي شيء، أعدك بأي شيءٍ تتمناه)
قال نادر بصوتٍ خافت بمنتهى الجدية (عديني الا تتركيني أبدا، حتى ولو اختلفنا، حتى لو اثرتِ جنون العالم بداخلي و اخرجتِ شياطيني كلها، عديني بألا تتركيني يوما)
فغرت حور شفتيها قليلا مذهولة، الى أن تحول الذهول بالتدريج الى ابتسامةٍ بطيئة. ثم همست متأوهة مغمضة عينيها (آآه، أنه من أسهل ما يمكنني أن أعدك به، أعدك بكل يومٍ قضيته أتمناك به).
انسحقت آخر كلماتها مع طوفان جارف من مشاعر جياشة انهالت عليها، حيث هبط بوجهه اليها يشبع حاجتها اليه و يروي ظمأ لها لم يرتوي بعد، و لا يظنه سيرتوي أبدا…
لم تستطع من ذلك الطوفان سوى أن تهمس باسمه متأوهة بين كلٍ عاصفة وأخرى، بينما ذاب قلبها مع ملمس أصابعه وهي تزيح شريط ثوبها الأحمر من فوقِ كتفها، متأوها باسمها وكأنه الأسم الأخير الذي يتعلم هجائه…
أغمضت عينيها مبتسمةٍ كنمرةٍ خاملةٍ متدللة، مستسلمة لقبلاتٍ تطوف من حولها كلمساتِ الفراشات…
تنهدت حينها بعذوبة، فسمعت صوته أجش يأتيها من خلفِ سحبٍ بعيدة (هل هذه التنهيدة لي؟)
اتسعت ابتسامتها قليلا حتى ظهرت أسنانها الناصعة قبل أن تقول بدلال (لا ليست لك)
قبض على فكها فجأة يرفعه اليه، قبل أن يقول بخشونة زائفة (لمن هي اذن؟).
ضحكت قليلا و هي تكافح كي تتنفس من هولِ عقابه الهجومي العاطفي عليها، لكنها تمكنت من القول من بين ضحكاتها الرنانة، (انها لشخصٍ أحبه أكثر منك)
كان عقابها المزيد و المزيد، تماما كما تمنت، و بعد أن استكانت بأحضانه أخيرا، قالت بخفوت و تردد بعد فترة طويلة (نادر)
همس بصوتٍ أجش وهو يقبل خصلاتِ شعرها المترامية على جبهتها (اممممممم).
ترددت مرة أخرى قبل أن تهمس بخفوت حزين (لماذا لم تفكر يوما في ايجاد حل لمشكلة معتز؟)
فتح عينيه قليلا وهو ينظر اليها حائرا، قبل أن يقول عاقدا حاجبيه مبتسما بخشونة (هل هذا وقته؟، هل أنتِ معي أم شاردة عني؟)
تذمرت حور كالأطفال ثم همست (أخبرني أرجوك)
سكت نادر قليلا قبل أن يقول بخفوت (ومن أخبرك بأنني لم أبحث و أحاول منذ يوم ولادته؟، و كل عام يخضع لفحصٍ جديد. لعل و عسى. ).
اتسعت عينيها قليلا و هي تهمس بدهشة (حقا؟، لكنك لم تخبرني بذلك أبدا)
قال بلمحة أسى (أنتِ لم تهتمي بالسؤال أبدا، و عدم اهتمامك بحالة معتز منذ مولده كانت تؤلمني، تؤلمني أكثر مما آلمني أي شيء آخر، كنت أشعر بالغيرة و ربما الحسد حين أرى باقي الأطفال بينهم و بين أمهاتهم رابطةٍ سحرية لا تنفصم، بينما معتز كان دائما يبدو صغيرا. وحيدا، يحتاج الى شيء و لا يستطيع تحديد هويته).
ترغرغت عينيها بدموعٍ حبيسة في لحظةٍ واحدة، و شعرت بألمٍ حارق بصدرها، و لم تستطع كبت نشيج انبعث من حلقها رغما عنها…
نظر اليها نادر عاقدا حاجبيه، لكن في عينيه كان هناك شعاع مختلف، جديد، فانسابت دموعها على وجنتيها
وهي تشهق بصمت، ليندفع هو مقبلا دموعها المالحة، واحدة تلو الأخرى، ثم رفع رأسه قليلا ليهمس برقة خشنة (لا بأس، لا تبكي، أتحبينه لتلك الدرجة يا حور؟).
بكت حور بصوتٍ واضح وهي تقول بغضب (أحيانا تسأل أسئلة في منتهى الغباء)
ثم أغمضت عينيها تدفن وجهها بصدره حين ضمها اليه بقوة، مبتسما ممرغا وجهه في خصلاتِ شعرها الهائجة…
فتحت عينيها بصعوبةٍ على رنين هاتفها، من ذلك المزعج الذي يتطفل عليها في هذا الوقت، كل ما تعرفه هو أن نادر قد ذهب للعمل بعد أن قبل جبهتها مودعا، الا انها كانت في حالة من غياب الوعي تقريبا، فآخر ما سمعته هو ضحكته الحنونة قبل أن تذهب في نومٍ عميق مجددا…
رفعت رأسها المشعث لتلتقط الهاتف بصعوبة، و نظرت للشاشة تفتح عينيها عدة مرات قبل أن تركز على الرقم، الذي كان غريبا…
ردت حور بتثاقل، فوصلها صوت مألوف لكنه غريب بطريقةٍ ما (لقد أجبتِ لأنه رقم غريب، لو كنتِ رأيتِ اسمي لما أجبتِ، اليس كذلك؟)
عقدت حور حاجبيها، لتقول بتساؤل (رامز؟)
سمعت ضحكة غريبة دائخة قبل أن يرد (نعم رااامز، لماذا تتهربين مني؟)
عبست حور أكثر قبل أن تجيب بهدوء (لا أتهرب يا رامز. لكني أخبرتك من قبل أنني لا أفضل الاتصالات الهاتفية، و التواصل خارج النادي عامة).
وصلها صوته بنفس الغرابة (اذن، فقط تتواصلين حين تحتاجين مني خدمة، لكن دون ذلك فلا حاجة لي، اليس كذلك؟)
تصلبت ملامح حور قبل أن تجيب بصرامة (اسمع يا رامز، موعد الطبيب كان عرضا كريما منك، لكنني سأترك الأمر لزوجي منذ اليوم، و أنا حقا ممتنة لك، لكن بخلاف ذلك أخبرتك من قبل أنني لا أقبل التداخل أكثر من اللازم كالباقين، أنا حياتي مختلفة، من فضلك حاول أن تتفهم ذالك…
أنا يجب أن أذهب الآن، وداعا يا رامز).
ثم أغلقت الخط قبل أن تسمع رده، قبل أن تستلقي بظهرها، ناظرة الى السقف بقلق، و هي تفكر بأن نادر لن يكون سعيدا بذلك، لن يكون سعيدا أبدا…
بعد أن تبادلا المهمات، كانت حنين تقوم بطلاء الألواح التي قامت بتنعيمها، بينما جثا جاسر ليعمل على تنعيم باقي الألواح بقوةٍ و سرعة…
كانت تسترق اليه النظر أحيانا، أنه سريع، و قوي جدا…
لكنها أخفضت عينيها و هي تنهر نفسها متسائلة عن ذلك الغباء الذي تفكر به!..
منذ فترة طويلة، لاحظت خروجه، ثم عودته بعد قليل حاملا صينية الإفطار التي قام بإعدادها بنفسه…
نظرت الى الصينية بدهشة ثم رفعت عينيها اليه قبل أن تقول بصوتٍ أجش (لن أستطيع أن آكل الآن، يداي مغطيتانِ بالطلاء)
حينها جذب الصندوق الخشبي ليجلس عليه أمامها و اضعا الصينية أرضا، قبل أن يجذبها اليه فسقطت على حجره دون أن تتمكن من تمالك نفسها، و حين نظرت اليه بغضب قال مبتسما بهدوء (سأطعمك بنفسي).
أرادت أن تصرخ به، ان يديه لم تكونا أفضل حالا من يديها، بل هما مغطيتانِ بالطلاء ِ بدرجةٍ أكبر، لكن الكلمات توقفت في فمها مع أول لقمةٍ وضعها بين شفتيها…
أرادت أن ترفض و تقاوم، لكن الإحساس الغادر بالدلال كان يمنعها، لقيمات الفول بالطلاء كان لها طعما آخر من يده…
كيف سيفكر الآن وهو يراها ساكنة مستسلمة، مطرقة برأسها، تتناول من يده كقطةٍ وديعة تتمسح بساق صاحبها، لكنها على الرغم من ذلك أغلقت صوت عقلها المشحون مؤقتا…
و قررت التمتع بتلك اللحظات، فقط لا تبتسم و لا تظهر الامتنان و ذلك سيكون أكثر من كافي…
و الآن مضى أكثر من ساعتين و ها هي لا تزال شاردة في تلك اللحظات…
أفاقت على صوته يقول بطريقةٍ عابرة (على فكرة، نحن مدعوان الليلة لحفل بعضٍ من رجال الأعمال).
رفعت عينين غبيتين تماما وهي تقول بتخلف في الفهم (عفوا، ماذا قلت؟)
نظر اليها ليقول ببساطة (الليلة سنذهب معا لحفلِ بعض رجال الأعمال و زوجاتهم، سعيدة؟)
فغرت حنين شفتيها لتقول بغباء (سعيدة مباركة، أنت تمزح اليس كذلك؟)
قال لها بهدوء (لا والله، لا أمزح، ظننتك ستسعدين بالذهاب لحفلٍ ما)
صرخت حنين بجنون (هل جننت؟، الآن تخبرني؟، انظر إلى منظرنا!، أنا لن أذهب و لو جرجرتني بحبالٍ مربوطةٍ بمؤخرة سيارتك).
ضحك ضحكة صغيرة قبل أن يقول متفكها (انها صورة طريفة للغاية، و أنتِ تتدحرجين خلف السيارة، سيشفي هذا بعضا من غليلي، لكن عامة اريحي نفسك من عناء الجدال لأنك ستذهبين، نهاية الموضوع. )
هتفت حنين بحنق و جنون (لن أذهب، لن أذهب، أتريد أن نكون فضيحة هذا الحفل لهذا العام و لأعوام آتية).
ترك جاسر ما بيده متذمرا ليقول اثناء اقترابه منها (اوووف على النساء و سخافاتهن، حسنا لا بأس، سنتوقف عن العمل الآن كي تتمكني من تجهيز نفسك)
نهضت حنين من مكانها كي تقف أمامه وهي تلوح بيدها، (الا تفهم أي شيء مما أقوله!، نحن مغطيان بالطلاء و العديد من الروائح التي تعد جريمة في حق البيئة).
وصل اليها ليتأملها مليا، قبل أن ينحني و يلتقط زجاجة تحتوى على سائل وردي رفعها أمام وجهها ليقول ببشاشة (لا شيء، لا يمكن للبنزين الجيد اصلاحه)
ثم التقط خرقة قماشية لحسن الحظ كانت الأكثر نظافة، فغرقها بالبنزين، قبل ان يعاود الجلوس و يعاود جذبها الى حجره، ثم بدأ في تنظيف وجهها و كفيها، و للمرة الثانية استسلمت له…
لكن تلك المرة، لم تكن خالية من قبلاتٍ مسروقة اودعها حنانا أذاب مشاعرها بخيانة سافرة، (ما، رأيك؟)
استدارت اليه حين دخل الى غرفتها الساعة الثامنة ليلا، مستعدا. أنيقا، لكن همجيا، دون ربطة العنق كالعادة، لكن بحلته السوداء و القميص الأسود لم يكن في حاجةٍ اليها بالتأكيد…
شردت عيناها به قليلا، قبل أن تركز على سماع اجابته بعد أن تأملها بصمتٍ مليا، ثم قال بخفوت (رأيي، أنني أود لو أغير رأيي و أخفيك عن أعين الناس)
ابتسمت رغما عنها فاستدارت بسرعةٍ كي لا يلحظ ابتسامتها، الا أنها التقت بعينيه المحدقتين المنعكستين في المرآة امامها، فرأى ابتسامتها رغما عنها، فابتسم…
كان ثوبها الأسود الشفاف ينسدل برفقٍ و نعومةٍ حتى كاحليها، أما صدره العالي فكان من المخمل الأسود…
ولم تتزين سوى بعقدٍ بسيط من لؤلؤ أبيض أحاط بعنقها، بينما كان الحل الوحيد لشعرها الذي لم تذهب به الى مصفف شعر، كان أن جمعته في عقدةٍ دائرية تجيد لفها خلف عنقها…
كانت بسيطة، الا أن أحساسا بالرضا عن الذات غمرها بتوهجاتٍ دافئة…
كان الحفل رائعا، و كانت لتندم لو لم تذهب، فماذا لو كانت رائحتها بنزين أو غيره، المهم أنها سعيدة الآن و هي تراقب سيدات صفوة المجتمع، بأثوابهن الفائقة الجمال…
بعضا منهن كان لطيفا، و البعض الآخر لم يدخر جهدا في سبيل اظهار احتقاره بنظرة…
لكنها لم تعبأ بهن، فقط اخذت تتأمل ما حولها بانبهار طفولي تتمنى لو يطول الحفل أكثر و اكثر…
لم تمكث بجوار جاسر طويلا، فسرعان ما افترقا بين الجمع، حيث اندمج هو ببعض الأحاديث التجارية التي تهمه…
بينما لم تحبذ هي الإختلاط بأيٍ من النساء، فقط كانت تبحث بعينيها عنه، حتى تجده، فتلتقي عينيها بعينيه، فيتوقف عن كلامه الى من يتحدث اليه و يبتسم اليها…
و استمر الحال الى أن ارادت التهرب من بعض الأعين المراقبة لها فاتجهت الى غرفة استراحة السيدات، و منها الى حمام من الحمامات. فجلست على غطاء المرحاض مطرقة برأسها مستندة به الى كفيها…
همست لنفسها بعد فترة (ماالذي أفعله هنا؟، ما الذي أفعله أصلا؟).
أنا أمنحه الأمل يوما بعد يوم، وهو على مايبدو قانعا راضيا منتظرا، بينما أتمتع أنا بكل ما يمنحه لي…
توقفت عن أفكارها حين سمعت صوت سيدتين شابتين تدخلان، فأخذتا تتكلمان طويلا عن كثير من المتواجدين أثناء تعديلهما لزينتهما…
الى أن قالت أحداهما (أرأيتِ تاجر الشاحنات و زوجته، له عمل هام مع زوجي و حين استنكرت ذلك أخبرني أن أمثال هاؤلاء أصبحوا جزءا هاما من عالم الأعمال و يجب علينا أن نتقبلهم رغما عنا).
أصدرت الأخرى صوت امتعاض، قبل أن تقول (لقد ضاعت قيمة كل شيءٍ راقٍ)
عقدت حنين حاجبيها و ازدادت ملامحها قتامة، قبل أن تسمع الأولى تقول (لكن ألم ترينه جذابا ينبض بالحياة، ان صدره واسع قويا، و تبدو عليه الشراسة مما يزيد من جاذبيته)
ارتفع حاجبي حنين بدهشة، قبل أن تسمع ضحكة الثانية قبل أن تقول بعبث (أراهن أنه ماهر في عدة أشياء بخلاف الشاحنات، لابد أن زوجته راضية تماما).
تعالت ضحكاتهما قبل أن تقول الأولى (هيا، هيا، الى نصيبنا الذي ينتظرنا للمزيد من المجاملات المملة مع أزواجنا الوديعين)
بقت حنين مذهولة، مرتفعة الحاجبين، لا تصدق بأنها كانت موضع ذلك الحديث السافر منذ لحظات، حتى أن وجهها احمر بشدةٍ رغما عنها…
انتظرت قليلا الى أن تأكدت من ابتعادهما، ثم خرجت من غرفة الاستراحة لتبحث عنه لا اراديا…
حتى وقعت عينيها عليه، يقف عند مائدة التقديم الطويلة، ينظر متأملا المقبلات قبل أن يلتقط احداها و يدسها في فمه، ثم تبعتها ثانية، و ثالثة…
عقدت حنين حاجبيها و هي تدقق النظر به، هل حقا همس بشيءٍ للثالثة قبل أن يدسها في فمه أم أنها تتوهم!
ربما أخبرها بأنها تبدو شهية قبل أن يلتهمها، كما أخبرها هي ذات مرة قبل أن…
هزت رأسها بغضب لتبعد المزيد من الأفكار الغبية عن رأسها، قبل أن تعقد العزم و تتجه اليه، فما أن رآها تقترب حتى ابتسم و مد لها ذراعه، فاندست إلى ذراعه رغما عنها و دون تفكير، ثم قالت بوجوم (ماذا تفعل يا جاسر؟، لم يبدأ تقديم الطعام بعد)
رفع حاجبيه ليقول كأمرٍ مسلما به (لقد جعت، أنسيتِ أن الفاشلة زوجتي لم تعد لي حتى ولو عصفورة هزيلة على الغذاء).
تنهدت بيأس قبل أن يلتقط أحدى القريدس ليدسها في فمها وهو يقول بمرح (تذوقي هذه، على الرغم من أننا تربينا معها في البحر الا أنهم هنا يعدونها بطعمٍ مختلف تماما)
مضغتها حنين و هي تشعر بالحرج من الأعين التي تراقبهم من عدة زوايا، لكنها دهشت من الشعور بالجوع الذي تولد لديها في تلك اللحظة، فسمحت له بأن يطعمها واحدة أخرى…
فقالت اثناء مضغها (أريد عصير)
ابتسم جاسر ليقول (طلباتك أوامر).
و في لحظةٍ كان كأس العصير بيدها، الا أنها ما أن رفعته الى شفتيها حتى انسكبت منه بضع قطرات حين ارتجفت ذراعها بشدة فتأوهت ألما وهي تهمس (آآه ذراعي مخدرة بسبب العمل المفاجىء اليوم مع الأخشاب، أشعر بأعصاب ذراعي كلها ميتة)
امتعض جاسر و هو يثبت يدها بالكأس ليقربه من شفتيها ليقول بسخرية خشنة (لو كنت أعلم بأنك كالبسكويتة لكنت كلفتك بنفخ نشارة الخشب بشفتيك الجميلتين ليس الا).
ابتسمت من تحت حافة كأس العصير لعينيه المبتسمتين لها، و من طرفِ عينيها شاهدت الكثير من النظرات المحتقرة تتحول الى حسد…
حين راقصها فيما بعد و ضمها الى صدره، همس اليها وحدها دون أن يسمعهما أحد (الليلة يا حنين، لا تبعديني عنكِ أكثر)
و أن كان السكوت علامة الرضا، فقد سكتت..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)