روايات

رواية بأمر الحب الفصل الثالث عشر 13 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب الفصل الثالث عشر 13 بقلم تميمة نبيل

رواية بأمر الحب البارت الثالث عشر

رواية بأمر الحب الجزء الثالث عشر

بأمر الحب
بأمر الحب

رواية بأمر الحب الحلقة الثالثة عشر

كانت تجلس تحت ظلال السقيفة الخشبية المفرغة بفن، وقت الغروب و هي تستمتع بالأشعة الدافئة المغادرة برفق، لقد أصبحت تلك هي جلستها المفضلة فوق السطح منذ أن انتقلت الى هذا البيت، وهي تحدق الى السماء الملونة أمامها شاردة فيها، تميل براسها لتستند الى جدار السقيفة و هي تجلس على الأرجوحة الخيرزانية المشغولة يدويا، و في يدها كتابٍ صغير نجحت في ايجاده بمعجزةٍ هنا في هذا البيت…
كم تحب هذا المكان الخاص بها وحدها حيث أن لا أحد يصعد اليه على الرغم من روعة تصميم تلك الجلسة فوق السطح الذي يطل على حدائق هذا المجمع الراقي…
وأصوات الطيور المغادرة الى أعشاشها في ذلك الوقت مختلطة بصوت حفيف الأوراق تبعث مخدرا في عروقها التي تجمدت في الفترة الماضية…
كانت من الشرود بحيث لم تسمع صوت الخطوات الصاعدة على درجات السلم الفاصل بين الطابق العلوي و السطح…
الى أن شهقت بقوةٍ وهي تجد أن الأرجوحة قد دفعت بقوةٍ للأمام، استدارت للخلف وهي تعدل من جلستها لترى عاصم يدفعها وهو ينظر اليها مبتسما، تلعثمت وهي تقول (توقف عن دفعي، لا أحب ذلك)
لكنه لم يتوقف و ظل يدفعها برفقٍ عن المرة الأولى، للحظاتٍ تركت لنفسها التمتع بتلك الأرجحة لكنها قالت بتصميم بعد فترة (كفى حقا، أنا لا أريد ذلك).
أجاب طلبها، وحين ظنت أنه سيرحل، وجدته يلتف حول الأرجوحة ليجلس عليها بقوة مما ادى الى تراجعها للخلف بقوة، فتشبثت صبا بإطارها بقوة لتمع نفسها من السقوط عليه، وما أن اعتدلت حتى حاولت النهوض الا أنه كان يؤرجحها بساقه الطويلة، فقالت صبا بعصبية (توقف عن ذلك يا عاصم من فضلك)
توقفت ساقه عن الحركة تماما و نظر اليها، ليقول بصوتٍ أجش بعد فترة (أعيديها مرة أخرى).
لم تتظاهر صبا بعدم الفهم بل أدارت وجهها المحمر عنه دون أن تجيب، فمال عليها وهو يقول همسا (أريد أن أسمعه مرة أخرى يا صبا)
قفزت صبا واقفة وهي تقول بتردد (يجب أن أنزل الآن لأساعد عمتي)
ابتسم عاصم و هو يقول (فليسعدها من تهمس بعمتى من بين شفتيها، كم اتوق لأسمعك تدعينها بأمي)
ارتبكت صبا وهي تضغط بأصابعها على الكتاب الممسكة به، وقبل أن تتحرك قال عاصم بسرعة (أجلسي قليلا يا صبا، أريد أن أتكلم معك قليلا).
همست صبا بتردد (لا نستطيع أن نبقى هنا بمفردنا، ماذا ستقول عمتى؟ هذا لا يجوز)
أشار عاصم بذراعه الى السطح وهو يقول مبتسما (نحن في مكانٍ عام)
مطت صبا شفتيها بامتعاض، فضحك عاصم بخفوت ثم قال برقةٍ تتناقض مع صوته العميق (صدقا يا صبا اجلسي قليلا، أريد أن أتكلم معك قليلا، لم يتسنى لي البقاء معك أو مكالمتك كلمتين مجتمعتين دون أن يقاطعنا أحد).
ظلت صبا في تردد بان جليا على ملامحها حتى اشفق عليها عاصم بالفعل فهمس برفق (لن أؤخرك صدقيني)
ظلت صبا مكانها واقفة بتردد. ثم همست أخيرا (حسنا، ماذا تريد)
ارتفع حاجبي عاصم و هو يقول (الا يمكن أن تجلسي على الأقل؟، ولا داعي للإظاهر كل ذلك الحماس و كأنك على وشك ابتلاع قرص دواء و أنتِ تسدين أنفك)
أخفضت يدها بالكتاب و نظرت اليه بنفس الإمتعاض، فضحك وهو يقول (حسنا حسنا، سألتزم الأصول لكن اجلسي من فضلك).
ابتعد صبا لتجلس على أحد الكراسي الخيرزانية ثم وضعت الكتاب على ركبتيها و شبكت يديها فوقه ثم قالت بهدوء (نعم)
ظل عاصم ينظر اليها قليلا ثم هز رأسه ليقول بيأس (الله يطيلك يا روح)
ثم حاول مرة أخرى وهو يقول بصبرٍ وكأنه يقنع طفلةٍ متمردة (تعالي اجلسي بجواري يا صبا، لن أفعل شيئا مبتذلا و انتِ في بيتي، تعالي اجلسي بقربي)
قالت صبا بهدوء (لا، أنا مرتاحة هنا، شكرا).
زفر عاصم بنفاذ صبر، لكنه لم يستسلم و التزم العند فإما هي و إما هو، فقال بتصميم (لن أتكلم الا اذا جلستِ بجواري)
قالت صبا بهدوء (حسنا كما تحب، سأنزل لعمتي)
و قامت من مكانها الا أنه قام هو الآخر و اعترض طريقها ليقول بصلابة (لا لن تنزلي)
نظرت صبا اليه وهي ترفع حاجبيها بدهشة ثم تتراجع الى الخلف خطوتين، فغمر الغضب ملامح عاصم و قال يتأوه (بالله عليكِ يا صبا لا تنظري إلى بتلك الطريقة).
زفر بتعب ثم قال بلهجةٍ أرق قليلا (تعالي اجلسي بجواري، دقائق، فقط دقائق أختلسها لأتأكد أنكِ فعلا هنا معي)
أخفضت صبا نظرها بينما عيناه كانتا تلتهمانِ كل ذرةٍ من ملامحها الندية و التي تتشابه مع الزهور البيضاء في الحسن و البهاء، ست الحسن و الجمال…
ابتسم عاصم وهو يردد الأسم في تفكيره، لكم يلائمها، و حين أوشك على أن يهمس به سمعها تقول بخفوت (حسنا سأجلس).
اتسعت ابتسامته قليلا، وكان بالفعل قد أوشك على الإمساك بها و ضمها قلبه بقوةٍ الا أنه تمسك بكلِ ذرةٍ من مقاومته و تراجع ليجلس على الأرجوحة مثبتا اياها بساقه الطويلة حتى تجلس…
و ببطءٍ اخذت تقترب وخفقاتِ قلبه تجذبها كالناي السحري الى أن جلست برقةٍ بعيدا عنه قليلا، فأرخى ساقه لتتأرجح الأرجوحة بهما ببطءٍ، هو يتأملها مبتسما وهي تنظر أمامها الى البعيد دون أن تلتفت اليه، طافت بها نظراته الى أن تسمرت على قلادته التي كانت قبل ايام فقط محناة بدمه، كانت تستقر بنعومة على مقدمة صدرها فتزيده بهاءا، رفع عينيه المشتعلتين إلى عينيها…
و في لحظةٍ واحدة كان صوتيهما يمتزجان حين نطقا معا (كنتِ تريد)
(أحبك)
صمتت صبا حين احتل صوته العميق الفراغ من حولها، ثم همست بتذمر وهي تشعر بعينيه تلاحقانها من كل اتجاه (هل، هل هذا ما أردت قوله؟)
قال عاصم بصوتٍ له بحةٍ قليلا، (هذه كلمةٍ من كلماتٍ كثير أريد أن أهمس لكِ بها).
عضت صبا على شفتها محرجة ثم أخذت نفسا عميقا لتشجع نفسها وقالت (و أنا أريد أن أتكلم معك، أنا، إن بقائي هنا لم يعد ملائما بعد الآن، و يبجب أن. )
قاطعها صوت عاصم القاطع كحد السيف (على جثتي)
عقدت حاجبيها و التزمت النظر للأرض بعناد وهي تتمتم (هذا ليس وضعا سليما و أنا)
قال عاصم بصوتٍ أقوى وقعا (على جثتي يا صبا، و لهذا أردت أن أحدد معكِ موعد عقد القران خلال أيام على الأكثر و لو استطعت اليوم لما ترددت).
صرخت صبا وهي تضغط على أسنانها و تنظر الى الأرض (أنت، أنت، أنت، الا تفكر في أي شيء الا و يكون محوره عاصم رشوان)
زم عاصم شفتيه و هو متفاجىء من انفعالها الغير مبرر، و بعد فترة قال بصوتٍ جاف (بل ما أراه هو أنكِ أصبحتِ محور أي شيءٍ أفكر به)
أخذت صبا تلتقط أنفاسها من هجومها المتسرع، ثم قالت بصوتٍ متلعثم (أنت لا، تدرك كم هو الوضع، صعبا على الآن).
سكت عاصم وهو يتأمل جانب وجهها الفني و الذي انعكست عليه الأشعة الداكنة لتغطيه بظلالٍ تظهرها أكثر جمالا بصورةٍ مؤلمة، شفتيها الورديتين وهما ترتجفان قليلا فتعود للعض على السفلى في حركةٍ حديثة منها باتت مألوفة لديه…
همس بداخله مرة أخرى متأوها، الله يطيلك يا روح…
ثم حاول صرف نظر الى عينيها الشاردتين و قال بخفوت محاولا التظاهر بالصلابة (اخبريني).
هزت رأسها نفيا دون صوت، لكنه شاهد دمعة انحدرت على وجنتيها و على الأشعة الذهبية التي انعكست عليها بدت كخيطٍ كريستالي رقيق فابتلع غصة في حلقه و مشاعر الالم تتشابك مع الاعجاب بها…
عاد ليهمس (فقط حاولي)
ظلت صامتة قليلا ثم همست بتقطع وهي تتشبث بقبضتيها في حافتي مقعد الارجوحة بجوار ساقيها، (أنا، لا أستطيع أن، أواجهك بعد، هل تتخيل مقدار الذل الذي).
هتف عاصم بقوة (اصمتى، اصمتى يا صبا، لا كلمة اخرى، أنا، يالهي كم أحتاج الى ضمك لصدري الآن)
حاولت صبا النهوض الا أنه مد ذراعه كحاجز أمامها هو يقول (سنعقد قرانا خلال أيام، و انا لن أقبل بأي كلمة أخرى)
ظل صدرها يعلو ويهبط بسرعةٍ دون أن تنظر اليه فقال هامسا مترجيا (انظري إلى يا صبا، من فضلك، نظرة واحدة).
افلتت تنهيدة من بين شفتيها ثم رفعت عينيها اليه ببطء، و تلاقت عيناهما طويلا، تاه في في خضار عينيها الشاردتين دون حياة، ثم تكلم أخيرا (لا اريد أن أسمع كلمة اخرى، أنتِ لي يا صبا، منذ أول يومِ رأيتك فيه أدركت بداخلي أنكِ ستكونين لي).
أسبلت جفنيها قليلا، فتابع بأكبر قدر من الرفق و كأنه يسير على خيطٍ رفيع، (اياكِ ان تعيديها مرة أخرى، انكِ لا تستطيعين مواجهتي، قد يكون احساسك طبيعي مع أي رجلا آخر لكن ليس أنا، لقد وصلت اليكِ لأنكِ قدري)
لم تستطع الرد، وهو لم يضغط عليها أكثر، بل قال بهدوء (آخر الأسبوع، سنعقد قراننا في الجامع، اتفقنا).
ظلت صامتة عدة لحظات شعر فيها بالقلق يعصف به و كأنه ينتظر نتيجة نجاحه أو رسوبه، الى أن رآها تومىء برأسها أخيرا، حينها اتسعت عيناه قليلا وفتح شفتيه، ثم همس أخيرا بخفوت (انطقيها يا صبا، أريد أن أسمعها منكِ)
ظن أنها لن ترد. لكنها بعد لحظتين همست (موافقة، سأتزوجك)
أغمض عاصم عينيه للحظاتٍ ثم
فتحهما ليقول همسا (يالهي، احبك ايتها القطة).
نهضت صبا من على الأرجوحة قبل أن يستطيع ايقافها وهي تقول بتصميم دون أن تنظر اليه (سأنزل لعمتى)
ثم اسرعت الى باب السطح، بينما ارتمى عاصم بظهره الى الخلف مشبكا ذراعيه اسفل راسه مغمضا عينيه و صدره يرتفع و يهبط وكانه وصل اخيرا لنهاية السباق، لا يصدق انها ستكون ملكه خلال ايام، خلال ايام سياخذ القطة في احضانه…
كانت تضرب شوكتها على سطح الطبق محدثة صوتا رنانا ضعيفا وهي شاردة تماما عن محدثها الى أن سمعت صوته يقول بنفاذ صبر خارجا من شفتين متشنجتين بابتسامة مثبتةِ بإبرة و خيط (رنيم، توقفي عن ذلك، مظهرك غريب)
رفعت رنيم عينيها اليه، و بعد أن أدركت كلماته همست بقلق (ماذا به مظهري؟).
قال نائل بنفس الابتسامة الدبلوماسية التي لا تغادر شفتيه حتى سئمتها رنيم (أنكِ متجهمة بشكل يثير الفضول و تتلاعبين بطعامك، هناك أكثر من شخص أعرفهم متواجدين هنا)
وضعت رنيم شوكتها على الطبق بحرص وهي تهمس (آسفة)
ثم مسحت شفتيها بالمنديل المطوي بجانبها، ثم وضعته برفق، فقال نائل بصوته المحسوب (الن تكملي طعامك؟)
ابتسمت رنيم قليلا وهي تنظر اليه ثم قالت بخفوت (لست جائعة حقا يا نائل، آسفة).
قال نائل بفتور (لقد أصبحت غريبة الأطوار في الأيام الأخيرة)
رمشت رنيم بعينيها و تلعثمت وهي تسأل (لماذا؟، لماذا تقول ذلك، أنا مثلما أكون دائما)
وضع نائل شوكته و سكينه هو الآخر ليرفع يديه مشبكا اياها وهو ينظر اليها ليقول ببرود (أنتِ شاردة متجهمة طوال الوقت، أنتِ لا تبذلين أي جهد فيما أطلبه منكِ)
نظرت اليه بتردد وهي تقول (ماهذا الذي تطلبه منى و لا ألبيه؟).
قال نائل بتشديد دون أن يفقد ابتسامته و التي بدت سمجة نوعا ما (الم أطلب منكِ أن تهاتفي زوجات بعض الشخصيات المهمة بالنسبة لي، و تطلبي منهن قضاء يوما في النادي و مشاركتهن في رياضة التنس)
تلعثمت رنيم وهي تقول (نائل أنا لا أستيقظ الا على وقت المغرب، و أنا لا، لا أميل اليهن حقا).
اتسعت عينا نائل و قد بان فيهما التهديد الخفي وهو يقول (هل هذا عذر؟، الن تتعلمي تحمل المسؤلية؟، وماذا إن حاولتِ الاستيقاظ مبكرا قليلا من أجل ما أطلبه منكِ؟)
كانت أصابعها الطويلة تتلاعب على مفرش المائدة الأبيض وهي تبدو مترددة خائفة ثم همست بتردد (نائل، لما لا أحاول، الاستيقاظ مبكرا في سبيل شيءٍ أهم، ما رأيك أن، أن أحاول العثور على عملٍ مثلا؟).
بان الشر جليا في عيني نائل على الرغم من ثبات ملامحه وهو يقول (هل عدنا الى هذا الموضوع من جديد؟، الم ننتهى منه، منصبي يحتم عليكِ السفر معي في كثيرٍمن الأحيان)
قالت رنيم بسرعة (و انا لن أخذلك أبدا، سأكون موجودة معك ما أن تحتاجني، لكن ما بين تلك الفترات ما رايك في أن)
قاطعها نائل بصوتٍ قاطع (كفى، لا اريد كلام في هذا الموضوع مجددا)
قالت رنيم بترجي (لكن يا نائل).
مال نائل الى الأمام وهو يشدد ضاغطا على كل حرف بتهديد (قلت كفى)
سكتت رنيم وهي تتراجع للخلف في مقعدها ناظرة من النافذة بجوارها و عيناها تنحنيان بانكسار قليلا، فتابع نائل كلامه بعد أن استعاد هدوؤه وهو يتابع بصوته الخافت والذي لا يظهر اي تعبير تماما كملامحه (ما أروع أن تكون زوجتى مهندسة ميدانية، لتذهب إلى المواقع، مرتدية الخوذة و تخالط العمال بذلك الزي الشبيه بزيهم).
لم ترد رنيم وهي تنظر الى السماء السوداء و أنوار أعمدة الإضاءة المصطفة خلف بعضها، بينما أكمل نائل كما يفعل دائما و يمضي و قتا طويلا يظل يحقنها فيه بكلماته الضاربة، (أنتِ لا تتحملين المسؤلية أبدا، والى الآن غير مدركة لمتطلبات منصبي و ما يمليه عليكِ، أنا أتفهم كل حياتك بينما أنتِ لا تتفهمين حياتي)
حينها نظرت اليه وهمست (أنت لا تتفهم حياتي، لو كنت تتفهمها لكنت أدركت أنني في أمس الحاجة ل).
رفع نائل يده في اشارة لتصمت و بالفعل صمتت وهي تدير عينيها لتتأكد من أحدا لا يتابع هذا الموقف، لكن ما لبثت ان اصطدمت عيناها بعينين تعرفهما جيدا، عينين شغلتا تفكيرها الأيام السابقة بإلحاح، اتسعت عينيها وهي تحدق به، هل هو هنا فعلا؟ أم أنها تتخيل، يالهي، انه هو بالفعل، أي حظٍ ممكن أن يلقي به في هذا المكان و في هذه اليلة تحديدا، كان يجلس مع مجموعةٍ مرحة، يتهامسون و يتضاحكون و على ما يبدو أنهم عائلةٍ واحدة، ومعظم الجالسات كن نساءأخفضت نظرها بسرعة و قلبها يخفق خوفا، ماذا لو انتابته موجة تهذيب الآن و نهض ليلقي عليها التحية، نفت الفكرة تماما وهي تحاول تهدئة نفسها، بالتأكيد لن يهتم بها أبدا هو لا يهتم سوى بأن يحرق دمها لا غير، شبكت أصابعها وهي تنظر إلى نائل محاولة الإبتسام الا انها خرجت ابتسامة مهزوزة وهي تلقي نظرة من خلفه دون إرادة منها، فالتقت عيناهما من جديد وهو يتابع النظر اليها بإهتمام أقرب للوقاحة، أبعدت نظرها عنه، ثم بعد لحظةٍ أخرى نظرت اليه فوجدته يميل على الفتاة الصغيرة الجالسة بجواره، إنها تبدو في الثامنة عشر أو التاسعة عشر لا أكثر، وهي تنظر اليه مبتسمة بمحبة، و عيناها تشعانِ عبثا وهي تتشبث بذراعه و تهمس له شيئا وهي تشير بطرفِ عينيها لسيدةٍ على الجانب المقابل من الطاولة، شعرت رنيم بنغزٍ في قلبها وهي ترى ابتسامته التي يحاول أن يكتمها، ثم نظرته المؤنبة للفتاة التي كانت تدفن ضحكتها في ذراعه، نست نفسها تماما وهي ترى حنانه الواضح لتلك الفتاة، ولم تعي لنفسها الا وهي تراه يحدق فيها و قد ضبطها متلبسة بمراقبته احمر وجهها للغاية و طرفت بعينيها لكنها لم تستطع أبدا أن تبتسم له أو أن تحني رأسها في تحية، فماذا سيقول عنها الآن وهي تتعمد تجاهله تماما، نظرت إلى نائل الذي كان مستمرا في الحديث من تحت ضرسه و هو متجمد الملامح (أنا أعطيتك كل الدعم الذي احتجتيه، و اللذي لم تناليه من أي مِن من تقدمو لكِ سابقا).
شعرت حينها و كأنها لم تفقد الشهية في الطعام فقط، بل فقدت الشهية في الحياة كلها، صحيح أنه متقن الكي كما تلقبه حور، و ليس هذا فحسب بل هو يذكرها بالدجاج المجمد في ثلاجات المتجر دون أن يجد من يحن عليه و يشتريه، شعرت بتحسن حين دعته بذلك في داخلها، ثم ابتسمت له لتهمس بأنها ستتجه لغرفة السيدات للحظات، وحين لم يرد عليها سارعت للنهوض من مكانها قبل أن يعاجلها بأحد سماجاته، أستندت رنيم بيديها على المغسلة الرخامية و أحنت رأسها أمام المرآة وهي تشعر، تشعر بالفراغ، لا شيء، وهذا هو الشعور الذي يتبع كل مقابلة لها مع نائل، لكن الفارق في هذه المقابلة أن عينان أخرتانِ قد شهدتا ذلك الفراغ، وهما تراقبانها دون خجل، لا يمكن أن يكون مظهرهما خادعا كما يتوهم نائل، بل هي متأكدة أنهما يبدوانِ في منتهى السخافة خاصة بمظهر نائل المتشنج وهو يملي عليها ملاحظاته المعتادة محاولا السيطرة على ملامحه بمنتهى الغباء، لكنه طيب، رفعت نظرها الى المرآة وهي تنظر إلى عينيها بتصميم و تهمس بداخلهاانه طيب يا رنيم، انه طيب، ثم نظرت الى عينيها باستجداء وهي تهمس (و أنا أريد أن أتزوج، أرجوكِ لا تفسدي الأمر، أنا أريد أن أتزوج).
سكتت رنيم حين رات الباب يفتح و دخلت منه الفتاة التي كانت تجلس بجوار عمر، ابتسمت لها الفتاة بمودة ثم نظرت الى المرآة وهي تخرج من حقيبتها مشطا صغيرا و تمرره في شعرها البني الناعم، لم تعي رنيم لنفسها وهي تتطلع الى تلك الفتاة الى ان التقت عينا الفتاة بعينيها في المرآة، فابتسمت و قالت بروحٍ حلوة (مرحبا)
أجفلت رنيم و أدركت انها اطالت النظر اليها فارتبكت و احمر وجهها لكنها همست بابتسامة (مرحبا).
ثم لم تجد سوى ان تتابع لتداري حملقتها (قميصك جميل)
نظرت الفتاة الى قميصها البرونزي المزرر و قالت بابتسامة مرحة (حقا؟، شكرا لكِ، انه ذوق اخي)
في لحظة واحدة أدركت رنيم أن عينا تلك الفتاة هما نفس العينان اللتان أحاطتا بها في الأيام الأخيرة، يالهي انها تشبهه تماما و إن كانت أكثر جمالا منه، و أكثر ودا بالتأكيد، ابتسمت رنيم و قالت و هي متعجبة من هذا الاكتشاف (إنه رائع)
ضحكت الفتاة و قالت (القميص أم أخى؟).
اتسعت عينا رنيم و احمر وجهها و ارتبكت بغباء فازداد ضحك الفتاة لتقول باعتذار (كنت أمزح فقط، أنا هكذا دائما، أنا علا)
ومدت يدها الى رنيم التي صافحتها مبتسمة برقة وهي تهمس باسمها في المقابل، ثم قالت لها علا وهي تتأمل ثوبها الأسود القصير الذي يعلو الجوارب السوداء الغير شفافة. بإعجاب (أنا ايضا يعجبني ثوبك يا رنيم، لكن أشك أن يسمح لي أخى بارتداء مثله).
قلبت يد رنيم التي لازالت ممسكة بها وهي تنظر الى خاتم الخطبة في اصبعها ثم تقول (ربما إن خُطِبت يوما ما سأتحرر من كل تلك القيود).
ثم ضحكت بمرح بينما شعرت رنيم بالحرج البالغ و هي تدرك أن نائل لم يقدم لها يوما أي ملحوظةٍ على ملابسها الضيقة، الا في مرةٍ واحدة حين انحسر كمها عن ذلك الخط الطويل في ذراعها حينها رمقها بنظرةٍ جانبية لتغطي ندوب الجراحة القديمة، تركت علا يد رنيم لتقول برقة (تشرفت بمعرفتك، رنيم)
همست رنيم بخفوت محاولة الإبتسام (و أنا أيضا يا علا).
بعد خروج علا من غرفة السيدات، عادت رنيم تتطلع الى نفسها بوجوم ثم تنهدت بقوةٍ و هي تدرك أن صدفة وجوده هنا في نفس المكان مع نائل هي أثقل صدفة على قلبها، بالرغم من أنها في الأيام الأخيرة اصبحت تتحين الفرص لتراه، خرجت رنيم من غرفة السيدات، لكن وما أن تحركت عدة خطوات حتى رأت نفسها وجها لوجه أمام عمر، رفعت عينيها اليه بصدمة و بسرعةٍ نقلتها منه الى نائل الذي كان يجلس بظهره و لا يراهما، قال عمر بتهذيب (كيف حالك يا رنيم، صدفة سعيدة).
لا، لا، ليست صدفة سعيدة أبدا، يكفي أن يلتفت نائل اليها فتتوالى الأحداث الجسام واحدة تلو الأخرى، همست رنيم بسرعةٍ و قلق (مرحبا سيد عمر، أنا بخير، شكرا لك، عن اذنك)
حاولت تجاوزه الا أنه قال بصوته العميق المميز (أنتِ هنا مع خطيبك، لما لا تعرفيني اليه؟)
أغمضت رنيم عينيها وهي تشعر بالتوتر يشتعل بداخلها و قالت بتردد لا تعرف من أين تبدأ و لا من أين تنتهي (آآآه، نحن، حقا، كنا على وشكِ المغادرة).
رفع عمر حاجبيه بدهشةٍ مصطنعة، وهو يقول (حقا؟)
أومأت رنيم برأسها وهي تعض على شفتها ذات الخط الوردي تحت نظراته المتفحصة لتلك الشفاه تحديدا، ظل عمر معترضا طريقها لعدة لحظات كانت هي لا تغادر ببصرها ظهر نائل، الى أن تنحى عمر أخيرا وهو يمد يده قائلا (تفضلي).
تنفست رنيم الصعداء و ابتعدت شاكرة بهمس دون أن تنظر اليه، لكن و قبل أن تبتعد سمعت صوت عمر يقول لها (طبعا خطيبك سيكون مدعوا في حفل الشركة، و سأكون سعيدا بالتعرف اليه).
التفتت رنيم ببطءٍ اليه و نظرت اليه و قد اسقط في يدها اخيرا، حينها قال عمر (اذهبي إلى خطيبك الآن، و غدا سنتحدث في أمر اخفائك العمل عنه، وإن كنتِ تنوين المتابعة حقا ام أنها كانت مجرد فترة ملل في حياتك، ضيعتِ فيها وقت من قامو بمساعدتك و تدريبك)
فتحت فمها بذعر وهي تريد أن توضح له الأمر، الا أنه رفع يده و هو يقول بحزم (ليس هذا وقته أو مكانه، غدا سنتكلم، اذهبي).
استدارت رنيم وهي تبتعد عنه مطرقة براسها بينما وقف عمر وهو يشعر بالغضب عليها أكثر مما يحتاجه الموقف حقا…
صباح جديد، مبكر كما اعتادت في الأيام السابقة، من الغريب أن المدينة كلها تغيرت الا مثل تلك الأحياء الشعبية البحرية لم تتغير اجوائها أبدا، وكأن السنوات لم تمر عليها، فما أن تفتح عينيها حتى تعرف أن ما ايقظها هو الأصوات المنبعثة اليها من ذاكرتها و هي الآن أسفل شرفتهاالصبي الصغير. اللذي يسير هاتفا ؛ (جرائد، جرائد).
بينما الجرس المميز لعربة الفول يبدو كلحنٍ رشيق ذكرها بالعربة التي كانت تنزل اليها هي وحنين حفاة الأقدام غالبا، قبل حتى أن يكتمل شروق الشمس حتى يصبح الفطور جاهزا في الموعد، التفت حور على ظهرها وهي تبعد شعرها الكثيف عن وجهها، ثم التفتت إلى معتز الذي كان نائما في سابع مرحلة فاتحا فمه كالمعتاد، فتح باب غرفتها فجأة دون اذن ليدخل نادر الى الغرفة وهو مرتديا كامل ملابسه، لكنه توقف لحظة حين وجدها متيقظة، بعد لحظة صمت قال بجفاء (كنت ابحث عن ساعة معصمي، هل رأيتها؟).
لم تكن قد وجهت اليه كلمتين مجتمعتين خلال الأيام السابقة، فقط ترد عليه بعذوبةٍ ما أن يطلبها على الهاتف الأرضي ليتاكد من وجودها في البيت، حينها تمنح صوتها كل الحنان الممكن وهي تخبره بأنهما يقضيانِ وقتا ممتعا، وما أن يعود إلى البيتِ مساءا حتى تتجاهله تماما، تحيةٍ باردة منه و أخرى أكثر برودا منها ردا عليه، في بعض الأحيان كان يقف للحظاتٍ و هي تشعر أنه على وشكِ أن يخنقها أو ينفجر فيها، لكنها لم تكن لتهتم أو حتى تنظر وهي تتابع التقليب في هاتفها، تمطت حور في فراشها بكسل وهي تفرد ذراعيها الأبيضين أعلى رأسها و قد تحددت كل معالم جسدها بوضوح، حتى أضلاعها ظهرت واضحة من قميص نومها الحريري، ثم أخذت وقتها قبل أن ترد بخفوت كقطةٍ استيقظت للتو من النوم، (نعم إنها هنا).
و مدت يدها أسفل الوسادة وهي تخرج له الساعة وتمد يدها بها اليه قائلة (معتز كان يلعب بها بالأمس، و نسيت أن أخبرك).
اقترب نادر منها وهو يرمقها بجفاء ثم أخذ الساعة منها، حين لمست يده يدها، أنزلت حور ذراعها وهي تستدير تحت أنظاره تعطيه ظهرها الأبيض وهي تأخذ معتز النائم بين أحضانها لتكمل نومها، كتمت أنفاسها، وهي تشعر به لا زال واقفا مكانه لكنه في النهاية استدار ليخرج، وقبل أن يصل الى الباب نادته وهي تستدير على ظهرها بصوتها المغوى (نادر).
تسمر مكانه ثم استدار اليها عاقدا حاجبيه و التجهم يزداد، متأملا ابتسامتها المضيئة و شعرها المنساب على كتفها الغض، وعينيها الضاحكتين له، ومرت ثانيتين فقط قبل أن تقول وهي تمد يدها و تأخذ ورقة مطوية بجوارها على المنضدة و تمدها اليه قائلة ببساطة (نريد هذه الطلبات معك وانت قادم).
للحظاتٍ لم يبد وكأنه فهمها ثم ازداد تجهمه، ليمشي اليها بسرعةٍ و يختطف منها الورقة و ينظر فيها ثم يطويها مجددا و يضعها في جيب قميصه ليقول بصوت مكتوم (هل تريدين شيئا آخر؟)
ابتسمت حور اجمل ابتساماتها وهي تهمس (سلامتك).
ثم عادت لتستديرالى معتز بين احضانها من جديد، وبعد لحظات سمعت صوت صفق الباب كما تسمعه كل يومٍ صباحا، حينها فتحت عينيها ببطءٍ وه تتلمس جبهة معتز بشفتيها متنهدة بأسى، و همست فوق بشرته الناعمة (كم اشتقت لوالدك، اشتقت اليه أكثر من اشتياقي حين كان بعيدا عنا).
بعد حوالي الساعة كانت حور تفتح أبواب الشرفة على مصرعيها لتتنشق رائحة اليود التي أدمنتها مؤخرا، و التفتت إلى معتز الذي كان جالسا مصففا شعره الأسود الناعم على جنبٍ واحد مما جعله يبدو بمنتهى الأدب، ابتسمت له وهي تشير له لأن يذهب للمطبخ، فسارع جريا اليه و الأنغام الشرقية تتبعهما، قامت حور باعداد الفطور وهي ترقص كعادتها و معتز واقفا على الكرسي يرقص محاولا تقليد كل حركة من حركاتها، وما أن انتهت حتى رصت الأطباق أرضا بجوار الشرفة المفتوحة و وضعت كوبي الشاي بحليب أرضا كذلك، لكن و قبل أن يبدآ في تناول طعامهما حتى سمعت صوت طرق مزعج على الباب، فعقدت حور حاجبيها وهي تنظر الى معتز و تقول (من المتطفل الآتي في مثل هذا الوقت؟).
ثم نهضت من على الأرض لتجه إلى الباب لتفتحه، عبست وهي تنظر الى الرأس الحمراء ذات الشعر الملفوف في لفائف الكنافة، رفع مصطفى وجهه اليها وهو يبتسم ببراءة و يقول (صباح الخير يا حور)
لم ترد حور للحظةٍ و هي تنظر اليه شزرا ثم قالت بامتعاض (صباح الخير يا مصطفى، نعم؟)
ابتسم مصطفى حتى بانت فجوات أسنانه المتبدلة وهو يقول بمودة (سأفطر معكما اليوم).
رفعت حور حاجبا شريرا ثم قالت دون أي أثر للترحيب (ليس اليوم يا مصطفى، ربما يوما آخر)
اختفت الابتسامة عن وجه مصطفى و بان الشر في عينيه وهو يقول رافعا الطبق الملفوف الذي يحمله (لقد أحضرت افطاري معي، لذا لن تتعبي في شيء)
ارتفع حاجبيها في دهشة من وقاحته، فانحنت اليه وهي تقول بتوعد (لا أعتقد أن هذا ما أخبرتك أمك أن تقوله، اليس كذلك أم تحب أن أسألها؟).
زم مصطفى شفتيه بغضب طفولي، فساعدته حور وهي تقول (ماذا أخبرتك أمك أن تقول و أنت تسلمني هذا الطبق؟)
قال مصطفى رغما عنه وهو يناولها الطبق (أمي تسلم عليكِ و تريدك ان تتذوقي من صنع يديها)
تناولت حور الطبق منه وهي تحاول اخفاء ابتسامتها ثم قالت باتزان (هذا افضل)
وصلت أنفها رائحة ذكية تكاد تتذكرها لكن الاسم غاب عن بالها تماما، حينها لم تستطع أن تصرفه فابتعدت عن الباب لتقول مرغمة؛ (ادخل، لكن ليس لوقتٍ طويل).
ابتسم مصطفى بسعادة وهو يدخل جريا الى الداخل وما أن رأى معتز الجالس ارضا حتى هجم عليه وهو يحتضنه ويقول يهزه بين ذراعيه (أين كنت، لقد اشتقنا للعب بك)
اقتربت حور منهما وهي تتربع ارضا و تضع الطبق أمامهما لتقول لمصطفى (انه ليس لعبة يا مصطفى).
لكن مصطفى أمسكه بقوةٍ وهو يحاوط عنق معتز بذراعيه، أما معتز فكان متسع العينين مرتابا من ذلك الكائن المتشبث بعنقه، بينما تشاغلت حور بفتح الطبق المغلف، فوجدت تلك الأصابع المرصوصة بجوار بعضها فهتفت بفرح (تلك الأشياء، أنا أعرفها نعم، أعرفها، اسمها، اسمها)
قال مصطفى وهو لازال متشبثا بمعتز (أصابع زينب؟)
هتفت حور بسعادة (نعم، نعم، إنها هي بالفعل).
ثم أمسكت بواحدة وهي تقضمها مغمضة عينيها بتلذذ وهي تقول (اممممم، انها هي، كيف نسيتها امي ولم تنصنعها منذ سنين)
و بعد عدة دقائق كانو يتناولون من كلٍ مما أمامهم، لتقول حور بين حينٍ و آخر (مصطفى، توقف عن اللعب بمعتز و دعه يأكل)
قال مصطفى وفمه ممتلىء بالطعام (أنا سأفطر هنا معكما كل يوم)
توقفت حور عن الاكل وهي تنظر اليه عابسة لتقول (لماذا إن شاء الله؟، لما لا تفطر في بيتكم؟).
قال مصطفى بلامبالاة (لا أحب البقاء في بيتنا، لا أحبه كثيرا)
قالت حور بفظاظة (اذن اذهب لتفطر عند خالتك علية)
قال مصطفى بصوته الطفولي (الخالة علية يكون عندها الكثير من الاطفال كل يوم، وهي تعامل الجميع مثل بعضهم لذا لا اكون مميزا عن الآخرين)
ابتسمت حور قليلا بانتصار وهي تقول؛ (وهل تشعر بأنك مميزا هنا؟).
أومأ مصطفى وهو يأكل دون أن ينظر اليها، بينما ازدادت ابتسامة حور خبثا و تشفي، تعلم بأنها تبدو الآن بمنتهى السخافة، الا أن مجرد طفل من اطفال علية، يفضل القدوم اليها جعلها تشعر بالإنتصار و كأنها تفوقت عليها في شيءٍ مهم، قالت حور بعد لحظة بدون اهتمام حقيقي (اذن اخبرني، لماذا لا تحب بيتكم؟)
قال مصطفى ببراءة (انه مليء بالصراخ و الوعيد حتى أنني أشعر بأن أذني تصفر)
قالت حور بفضول (ومن يصرخ عندكم؟).
رد عليها مصطفى (والدي، عادة يصرخ في امي و يلقبها بألقاب غير لائقة)
قالت حور باهتمام (حقا يفعل؟)
رد عليها مصطفى وهو يومىء برأسه (نعم، كل يوم، و اليوم تحديدا دب بينهما خلافا كبيرا قبل أن آتى اليكما و نزلت السلالم و صوت صراخ والدي و أمي مسموع على كل درجات السلالم)
قالت حور وهي تقضم قضمة من أصابع زينب (وما كان سبب الخلاف؟).
قال مصطفى وقد بدأ يشعر باهتمام حور، فأراد أن يثير انتباهها أكثر (كانت أمي تريد مصروف البيت، لكن والدي قال لها أنه لن يعطيها مليما واحدا، فأخذت أمي تهتف بأنه يضيع كل أجرته على الأشياء التي يتعاطاها، هو وصحبته الفاسدة)
قالت حور باهتمام وهي تقضم واحدة أخرى (وماذا قال والدك؟).
رد عليها مصطفى بلهجة من يفشي سرا وعينيه متسعتين بجدية، بينما في داخله هو سعيدا للغاية باهتمام حور به (والدي صرخ فيها و قال لها أنها هي التي تريد كل شيء، وأن لا دخل لها في حياته و أنه يكفيها أنها في بيت رجل يحميها)
استمرت حور في الأكل وهي تسأل باهتمام (وماذا كان رد أمك؟)
قال مصطفى بغاية الاهتمام (أمي قالت له، أنها هي من تفعل كل شيء و أنه لا لزوم له في البيت، و أنها صابرة على الغُلب بسببي فقط).
قالت حور بفضول بالغ حين توقف مصطفى عن الكلام (ثم ماذا؟، لماذا توقفت؟)
قال مصطفى بصوتٍ خافت قليلا لكن دون تعبير (ثم ضربها والدي على وجهها و قال عليها)
شهقت حور وهي تضع يدها على فمها و قد ارعبها اللقب أكثر حتى من الضرب، بعد عدة لحظات سألته حور (وأنت أين كنت كل ذلك الوقت؟)
قال مصطفى بهدوء وهو يأكل (كنت في المطبخ، و حينها أتت أمي وهي تبكي و اعطتني طبق أصابع زينب و طلبت مني أن أنزل اليكِ).
سكتت حور تماما وهي تأكل ناظرة الى الرأس الصغير المحنى، يالهي ماذا لو قام معتز يوما بنقل كل ما يحدث في البيت لأي شخص كما فعل مصطفى للتو، لحظة واحدة و داهمتها الحقيقة الأكثر وجعا، وهي أن معتز لن يستطيع أبدا نقل أي كلمة، هو فقط سيرى و يشعر لكنه لن يسمع و هو بالتأكيد لن يتمكن من نقل أي كلمة، فجأة تشوشت عيناها بدموعٍ حبيسة، يا حبيبي لن تكون أبدا كباقي الأطفال، حتى فضائحهم و نقلهم لما يحدث في بيوتهم لن تتمكن منه رغما عنك، و ليس تهذيبا، قاطع تفكيرها صوت مصطفى وهو يقول (هل تحبينني يا حور).
أفاقت حور من أفكارها وتعجبت من سؤال مصطفى، فقالت بخفوت (لماذا تسأل هذا السؤال يا مصطفى؟)
أجابها ببراءة (لأنكِ تكلمتِ معي كثيرا، و كنتِ سعيدة)
نفت حور بسرعة و هي تقطب جبينها (لم أكن سعيدة أبدا، و اسمع، لا يجب عليك أن تحكي ما يحدث في بيتك من أسرار أبدا، هل فهمت؟)
قال مصطفى بملامح محبطة (لكن أنتِ سألتني).
ردت عليه حور بصرامة و بداخلها طوفان من مشاعر متداخلة من خجلها و حرجها، خوفها من تخيل أن يكون معتز قد رأى نادر وهو يضربها، احساسها باعاقة معتز، اشفاقها على مصطفى و أمه، (حتى لو سألتك، كن حازما معي و أخبرني أنك لا تستطيع أن تفشي اسرار بيتك، أما أن أحبك)
نظر اليها مصطفى بأمل فاكملت بغصةٍ وهي تنظر إلى معتز الذي لم يسمع حرفا من حوارهما (يكفي أن يحبك معتز لاحبك أنا أيضا).
ثم مسحت دمعة من على زاوية عينها قبل أن تنزل وهي تقول بحزمٍ مفتعل (والآن أكمل طعامك و كفى كلاما…
بدأت الاستعدادات في بيت الحاج اسماعيل رشوان على قدمٍ وساق، في ظرف أيامٍ معدودة تم تغيير أثاث غرفة نومه و استبدالها بغرفةٍ جديدة تماما تليق بعرسانٍ جدد، وكانت الحاجة روعة في قمة سعادتها و هي تشرف بنفسها على كل شيء، فالغالي ابن الغالي سيتزوج و من فتاة هي حلم كل أم مثلها، ابنة المستشار التي يشع وجهها نورا و صفاءا، والتي في أيامٍ معدودةٍ تسللت الى قلوبهم جميعا دون اذن، وقفت الحاجة روعة وهي تمسك بظهر كرسي خشبي موضوع أمام الدولاب، تنتوى الوقوف عليه و ما أن حاولت رفع ساقها الممتلئة حتى سمعت صوتا يقول متوعدا (إياكِ حتى و التفكير في الأمر يا روعة).
نظرت الى مالك الذي كان واقفا في الباب، فقالت له (بدلا من إعطاء الأوامر تعال و جلب لي تلك العلبة من فوق الدولاب)
ابتسم مالك وهو يقترب ودون أن يقف على الكرسي استطاع الوصول إلى العلبة الضخمة وهو يقول (يا ترى ماذا تخبئين فيها).
وضع العلبة الضخمة فوق الفراش ففتحتها الحاجة روعة. و تلمست طبقات الحرير المشغول بالخيوط الفضية و الذهبية، قالت بفخر (انه طقم سرير العروسين، انظر الى جماله يا مالك، كم تمنيت أن يأتي اليوم الذي افرشه بنفسي على سرير عاصم)
نظر مالك بريبة الى كمية القماش المشغول اللامع و المخرم وهو يقول (حقا؟، هل هذا مفرش سرير؟، ظننت أنها عروسا مطوية بثوبها كاملا).
عقدت الحاجة روعة حاجبيها وهي تقول؛ (وما أدراك أنت بجهاز العرس، لا بد أن يكون مفرش السرير مزخرفا منفوشا و مشغولا ليليق بالعروس)
اخذ مالك يخرج الطبقات العديدة و التي لا تنتهي، طبقة خلف أخرى وهو يهز رأسه بعدم اقتناع، ثم قال أخيرا (كنت أظن أن أم العروس هي من تجلب مثل هذه الأشياء).
قالت الحاجة روعة و وجهها يشع سعادة وهي تفرد المفرش لتتفحصه للمرة الأخيرة (و أنا أم العروس و العريس معا، توقف انت فقط عن الإهتمام بأمور غيرك)
قال مالك مبتسما (اذن، ان لم تكوني في حاجة لي فسأذهب)
التفتت اليه الحاجة روعة وهي تقول بإهتمام (لا، لا تذهب، أريد التكلم معك في موضوعٍ مهم).
ثم جلست على حافة الفراش وهي تربت على المكان بجوارها يجلسعقد مالك حاجبيه بغير ارتياح وهو يقول مقتربا ليجلس بجوارها (خير اللهم اجعله خير، قلبي يحدثني بحلول كارثة)
قالت الحاجة روعة بنفاذ صبر (يا ولد توقف، لما هذا الفأل السيء؟، لم يكن عليك أن تبدأ الموضوع بكلمة كارثة، استغفر الله العظيم، لقد وترتني قبل حتى أن أبدأ).
ابتسم مالك مرتابا وهو يقول (حسنا، حسنا، لا تتعصبي يا روعة، و اتحفيني بما تريدين، اللهم اجعله خير)
تأففت الحاجة روعة، ثم أخذت نفسا عميقا وهي تحاول العودة الى اسلوبها المقنع، فهي ستحتاجه حتما الآنلذا بعد لحظةٍ ابتسمت بوداعةٍ ورقة وهي تقول بحذر و تردد (اسمع يا ابني، ها قد نوى أخاك أن يكمل نصف دينه، و اطمئن قلبي عليه بعد وقعته السوداء السابقة مع ابنة الراجي).
وضع مالك يده على صدره وهو يقول بتأوه (لماذا، لماذا ذكرتها الآن يا روعة، أنا أحاول جاهدا أن أتعافى من تأثير صوتها حتى الآن، لماذا تلك السيرة الغير مبشرة)
أمسكت الحاجة روعة بيده لتنزعها من على صدره بقوة وهي تقول بحزم غير قابلة بمحاولته للتهرب (و بما أنني قد اطمئننت عليه أخيرا، حان الوقت ليرتاح قلبي من ناحيتك أنت أيضا)
نظر مالك إلى السقف بيأس وهو يهمس (ها قد بدأنا، تبا. كنت أعلم).
قالت الحاجة روعة بتصميم (يا ابني يا حبيبي، لقد بلغت الثلاثين من العمر بسم الله ماشاء الله، ولم اراك يوما تميل لفتاة أو اخبرتني بقصةٍ كما كان يخبرني أخاك وهو مراهق، لا أريد أن أخبرك عن عاصم، لقد كان عاطفيا و عابثا من الدرجة الأولى، لكن الحمد لله و قد هداه الله للإلتزام).
ثم اقتربت منه وهي تأخذه في حضنها وهو يبتسم برقةٍ وهو يشعر بأنه يعشق تلك السيدة، و أنه لن يخجل بأن يرتمي في أحضانها دائما و أبدا، بينما تابعت روعة وهي تربت على كتفه (أما أنت يا حبيب أمك، كنت دائما ملتزما و مهذبا و لم تتعبني يوما، أنت لا تحب الخطأ بطبعك لكنك أيضا لا تريد أن تتزوج الى الآن و هذا ما يقلقني عليك يا مالك).
حاول مالك أن يبدأ الكلام بخفوت ليقنعها أن تترك الموضوع الا أنها تابعت بلهجةٍ أكثر تصميما مفجرة ما لم يتوقعه أبدا (و أنا لن أنتظر للحظةٍ بعد الآن، عروسك موجودة وقد ربيتها على يداي، وأنت مهما بحثت فلن تجد مثل حنين أبدا).
، صعدت حنين السلالم تحمل العشرات من الفوط و الملاءات الجديدة وهي تتذمر و تهمهم بداخلها (هما يتزوجان و أنا أعمل و أعمل و أعمل، كل شيء فوق رأسي، وكأن كل همومي في الحياة قد انتهت لأشغل وقتي بتجهيز غرفة الهانم صبا، و لما لا يعطونها غرفتي أيضا فربما احتاجتها لتخزن فيها ما يفيض من كل هذا الجهاز المكتظ و الذي لن تكفيه غرفتهما حتما).
مشت في الممر الطويل و هي لا تزال تهمهم، و تشعر بأنها على وشكِ قتل نفسها لترتاح من كل ما يحيط بها، ومن كلِ أوجاع قلبها، ومن المصيبة التي هي فيها ولا تجرؤ على البوح بها لأحد، عيناها كانتا حزينتانِ وكأن الحزن قد رسم انحنائتهما، كسرتهما أصبحت جزءا من شكلهما و كأنها نسيت طعم الفرح، أثناء مرورها من أمام غرفة زوجة عمها سمعت عبارة انطلقت كالقذيفة الى أذنها وكادت أن تخرقها، عبارة قيلت بكل تصميم و عزم وصلتها كضربة حجرٍ طائش (عروسك موجودة وقد ربيتها على يداي، وأنت مهما بحثت فلن تجد مثل حنين أبدا).
تسمرت حنين مكانها في منتصف الممر، وكأنها تحولت الى تمثالٍ للصدمة و الرعب، للحظاتٍ لم تسمع صوتا و شكت في أن تكون نفسها المريضة هي التي هيأت لها ما سمعته للتو، لا، لا، مجرد هلاوس من شدة الضغط الذي تمر به، لكن الصوت الذي تلا هذه اللحظات أخبرها بكل وضوح أنها لم تكن تتوهم أبدا، حيث وصلها صوت مالك يقول بنفس صدمتها (حنيين؟، أمي من أين خطرت لكِ تلك الفكرة؟).
فتحت حنين شفتيها بصدمةٍ و قلبها يتوقف عن الخفقان، مالك؟، ودون أن تدري اقتربت من الباب بحذر دون ان تصدر صوتا و ألصقت ظهرها إلى الجدار بجوار الباب لتستمع بكل انتباهقالت الحاجة روعة بمنتهى الجدية (نعم حنين، هي ابنة عمك لحمك ودمك و طالما أنك لم تميل لأي فتاة من قبل فابنة عمك أولى بك).
كانت حنين تستمع بمنهتى الانتباه و أنفاسها تخرج كشهقاتٍ صامتة سريعة، مالك؟، مالك؟، أيقبل؟ و حينها قد تستطيع، لكن صوت مالك وصلها قاطعا (أمي، كيف لكِ أن تفكرين بمثل هذه الفكرة، وقد كنتِ تريدين حنين لعاصم من قبل؟، و حتى إن لم يكن فحنين هي اختي، لا أستطيع حتى تخيل الفكرة).
جمدت عينا حنين و هي تسمع دون تصدر صوتقالت الحاجة روعة بغضب (يا ابني، كل شيء قسمة و نصيب، وحنين لم تكن من نصيب عاصم مهما دبرنا، لكن أنت ما الذي يمنعك؟ ابنة عمك ما أن يُقفل عليكما بابا واحد لن تصبح أختك أبدا)
أغمضت حنين عينيها و وجها يشتعل احمرارا على الرغم من الصقيع الذي احتل قلبها، و سمعت مالك وهو يرد (أمي أرجوكِ كفى، الفكرة مرفوضة لدي تماما، أنا لن أظلم حنين معي أبدا).
ردت عليه الحاجة روعة وهي تقول بقلق أقرب الى الرعب (تظلمها؟، و لماذا تظلمها؟، اخبرني يا ابني و طمئن قلبي هل تخفي عني شيئا؟).
لم تستمع حنين لباقي الحوار، كان ما سمعته أكثر من كافٍ بالنسبةِ لها، شددت ذراعيها على الأقمشة الممسكة بها و أخذت نفسا مرتجفا وهي تتجه دون صوت الى غرفة عاصم و صبا، كفى، كفى، ابعدو عني جميعا، كانت الأيام تجري بمنتهى الجنون، كل ذلك الجنون المحيط بها يشعرها بأنها لا تحيا واقع أبدا، مالذي فعلته؟، لقد قبلت الزواج من عاصم رشوان، حقا لقد فعلت، يسكنها الغضب و الأسى و الألم و رغبة في الإنتقام تفوق الحد، شددت قبضتها على اطار النافذة حتى ابيضت مفاصلها، و شردت بعيدا بعيدا الى أن سمعت صوته من خلفها يقول بخفوت (ما رأيك في غرفتك؟).
استدارت بقوةٍ اليه وهي تعدل من وضع شالها فوق رأسها، ثم أطرقت برأسها كالعادة أمام نظراته المتفحصة وهي تراه واقفا شامخا عند باب الغرفة، احمر وجهها للغاية وهي تقول متلعثمة بتوتر (إنها، إنها رائعة، لقد أتعبت عمتى نفسها جدا الأيام السابقة).
ابتسم بحنان وهو ينظر الى رأسها المحنى، منظرها واقفة في الغرفة المجهزة بجهاز العرس فتح نفسه للزواج أكثر مما هي مفتوحة أصلا، اقترب منها ببطء، فتراجعت تلقائيا وهي تقول بغضب، (اخرج من هنا يا عاصم و الا سأنادي عمتى، أنا لدي عملا طويلا في ترتيب أغراضي بداخل الخزائن).
نظر عاصم للحقائب و العلب الموضوعة فوق السرير، ثم نظر اليها ليقول بصوتٍ اجش من العاطفة (هل يمكنني البقاء معك و أنت ترتبينها؟، وأعدك لن أفتح فمي بكلمة)
احمر وجهها ففضحها أمام نظراته المتفحصة بقوة، و هتفت بتلعثم (لا، طبعا مستحيل، أخرج من هنا حالا).
اقترب عاصم خطوة أخرى، وهو يراها تنقل نظرها منه الى العلب فوق السرير بحذر و ارتباك، فغير اتجاهه ليقترب من السرير وهو يقول بخبث (لماذا؟، على ماذا تحتوى تلك العلب؟)
قفزت صبا جريا وهي تعترض طريقه و تقول بصرامةٍ بينما صوتها يرتعش ارتباكا (اياك أن تنظر لأغراضي، إنها أشياء شخصية).
تحولت ابتسامة عاصم لأكثر الإبتسامات التي رأتها عبثا من قبل، حتى أنها تسائلت كيف عرف مثله الإلتزام يوما، لكنها ابتلعت ريقها و نظرت أرضا، و في تلك اللحظة غافلها عاصم ليلف من خلفها سريعا و يختطف علبه بين يديه، فصرخت صبا بغضب و رعب (عاصم توقف، إياك أن تفتحها).
حاولت خطفها منه الأ أنه رفع يده بالعلبة عاليا وهو يضحك، فابتعدت عنه تعدل شالها وهي تهتف حانقة و قد احمر وجهها بشدة (توقف عن ذلك و الا أخبرت عمتى)
قال لها بعبث (سأتركها إن قلتِ أرجوك يا عاصم، بكل لطف و أدب)
ضربت الأرض بقدمها وهي تصرخ (اتركها يا عاصم)
أمسك عاصم بالعلبة و بدأ في فتحها ببطء، فصرخت صبا بسرعة (أرجوك يا عاصم، أرجوك).
نقل نظره من العلبة اليها وقد اشتعلت نظراته و غاب عنهما المزاح، وهو يتطلع الى وجهها المحمر خجلا كأجمل مما قد رأى يوما، وحين وجد صوته أخيرا قال ببطء (سأراه عليكِ بعد ايام، فلما أضيع تلك الروعة في النظر لمجرد قطعة قماش لا توازي جمالا كجمالك)
استدارت صبا بعيدا عنه و هي ترفع يديها الى وجنتيها المشتعليتين وهي تهمس لنفسها، يالهي، شعرت به يقترب منها خطوة وهو يلقي بالعلبة على السرير ليهمس بعمق (صبا).
لكنها أخذت نفسا و جمدت قلبها وهي تستدير اليه بحزم لتقول قبل أن تتخاذل (عاصم، أريد أن أطلب منك طلب، لكن أرجوك. عدني أن تتفهم قبل أن ترد)
توقف عاصم مكانه وقد تبددت الهزل ليحل معه القلق و الإنقباض، لكنه قال برفق (اطلبي يا ست الحُسن، و أعدك أن أن أحاول التريث قبل أن أخنقك)
أخذت صبا نفسا عميقا، ثم قالت بخفوت (عاصم أنا، أنا أريد فترة عقد قران ككل الفتيات، لأننا، و الظروف التي ممرنا بها كانت).
لم تستطع المتابعة أكثر، و لم يبدر عن عاصم كلمة واحدة و حين شعرت بالقلق من صمته رفعت نظرها بحذر اليه، فصدمتها عينيه الجامدتين المحدقتين بها بقوة، فارتجفت و شعرت أنها تريد الهرب من أمامهقال عاصم بعد فترة (لا أفهم)
تظاهرت صبا بالحنق و قالت تقلد كلمته المعتادة (الله يُطيلك يا روح)
ثم تابعت بتصميم (بل تفهم جيدا).
ثم اخذت نفسا لتهدىء نفسها، وحاولت مرة أخرى بهدوء (عاصم أرجوك افهمني، كل شيء، كل شيء هاجمني بسرعة، و أنا لست في الحالة التي يجب أن تكون عليها أي عروس، كل ما أطلبه فترة، لنتعرف فيها على بعضنا بشكلٍ أفضل، و في نفس الوقت أحاول التعافي من محنتى التي مررت بها).
كان صوتها في كلماتها الأخيرة قد اختنق الى أن اختفى تماما، هل تظن أنه لا يشعر بما تمر به؟، هل تظن أنه لا يتفهم معاناتها؟، لكن ما تطلبه ليس هو ما سيريحها و ما سيقربهما لذا التزم المنطق وهو يرد عليها (لن يصح أن تكون هناك فترة عقد قران و أنت تمكثين معي في نفس البيت، اجتماعيا هذا لا يليق)
قالت بخفوت (اذن لما لا نعقد القران ثم أذهب الى)
قاطعها عاصم بقوة (مرفوض).
لم تجد ما تجيب به سوى أن همست (أرجوك يا عاصم، حاول أن تفهمني)
اقترب منها حتى لم يعد خلفها مكان تتراجع فيه، فوقف أمامها طويلا ينظر إلى رأسها المطرقة ثم قال أخيرا (أنا أحاول جاهدا أن أفهمك يا صبا، وكل ما سنمر به سيكون و أنت زوجتي حينها ستعرفين كم أتفهمك)
تنهدت بيأس وهي تقول (أنت لا تفهمني أبدا).
قال عاصم بهدوء (بل أفهمك جيدا. سيكون لكِ ما تريدين لكن و أنتِ زوجتي و في غرفتي هذا وحده كفيلا أن يشعرني بالراحة، اتفقنا؟)
لم ترد، وهو اكتفى بخضوعها و لو أن بداخله شعر بغضبٍ و إحباطٍ فاق كل وصف…
خلال يومين تم عقد القران، و ها قد أصبحت زوجته بالفعل، انخطرت الحاجة الروعة في الزغاريد و البكاء في وقتٍ واحد، في نفس الوقت كانت حنين واقفة خلفها تنظر بنظراتٍ مكسورةٍ حزينة، حور كانت نظراتها مركزة على نادر، تتذكر يوم عقد قرانهما و على ما يبدو أنه هو الآخر قد تذكره، فحانت منه التفاتة اليها فابتسمت له برقةٍ وهي تبعد نظرها عنه لتظر الى عاصم و صبا، صبا?

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى