رواية بأمر الحب الفصل التاسع عشر 19 بقلم تميمة نبيل
رواية بأمر الحب البارت التاسع عشر
رواية بأمر الحب الجزء التاسع عشر
رواية بأمر الحب الحلقة التاسعة عشر
أغمضت عينيها عن مرأى عينيه الجائعتين و حبست دموع القهر خلف جفنيها المطبقين، لا مجال لأن يتراجع الآن، و لا سبيل لإيقافه، لذا فلتقبل بالأمر المحتوم و هو لا يتعدى أكثر من ميتةٍ و السلام، بينما أبى جسدها الإنصياع التام لافكارها الميتة رعبا فأخذ ينتفض بقوةٍ بين ذراعيه، و الدموع الحبيسة ثقلت و ضغطت بقوةٍ على جفنيها لتنساب من تحتهما على وجنتيها، وهدير أنفاسه يطوف في اذنيها يخبرها أنها له، بحكمه، بأمره، و أن لا مهرب لها، حينها تصاعد بكائها كشهقاتٍ خافتةٍ تتوالى مع انتفاض جسدها الضئيل، و مع كل انتفاضة كان يضمها أكثر الى صدره و قد غاب عنفه مع استسلامها اليائس، لم تدري كم من الوقت مر عليهما و حين ظنت الا أمل، سمعته يهمس في أذنها بشوقٍ يستعر و غضبٍ لاهب (ماذا حنيني؟، هل قررتِ الاستسلام أم أن ذرة منكِ لازالت تقاوم قدرك؟).
ازداد انطباق جفنيها بشدةٍ و تود لو تسد أذنيها كذلك لتوهم بنفسها بأنها بعيدة عما يحدث، تشاهد فتاة أخرى أوقعها حظها البائس في قبضة الشيطان، لتتأسف على حالها المحزن بفضل غبائها و ضعفها منذ أن وجدت في هذه الحياة، لتبتعد بعدها لحياة اخرى مقنعة نفسها بأن لا دخل لها، فقط فلتنتهي الدقائق و ربما الساعات السوداء لتبتعد عن تلك الفتاة ميتة الروح و الجسد و التي تستحق كل لحظة مرار تتجرعها، و كانت شهقات بكائها تكذب استسلامها اليائس و هي تترجاه دون كلامٍ بأن يعتقها، تتلقى منه عاطفة تخبرها بأن كل ما مضى بينهما كان لهوا، بينما القيد الحقيقي هو ذلك الوشم الذي يدمغها باسم جاسر رشيد للأبد، لم تدري أن تلك الفتاة الميتة قد دب فيها بصيص من روحٍ باهتة و أقصى ما استطاعته هو أن خرج توسل باكٍ لا يكاد يفهم أي حرفٍ من أحرفه من شدة الشهقات و النشيج الذي يشوهه (ارجوك، ارجوك لا تفعل، اتوسل اليك).
للحظاتٍ يائسة كانت متأكدة من أنه لن يتنازل حتى للرد تاركا لحظة تمر من لحظات تذوق انتصاره، لكنها صدمت حين سمعت همسه الأجش وهو يهدر في اذنها (هل ظننتِ حقا، ولو للحظةٍ مجنونة. أن بإمكانك التلاعب بي؟)
تعالى بكائها و تنشج بمرارة محركة رأسها بقوةٍ من جانب لآخر وهي تختنق قائلة من بين نشيجها؛ (أقسم لك، أقسم لك، ارحمني أرجوك).
اصبح النشيج صيحات بكاءٍ كبكاء طفلٍ تائه، وهو يضمها بقوةٍ الى صدره و أنفاسه تشرف عليها من علو لتحرق جفنيها المطبقين بشدة، و يده تستشعر قلبها الذي يخفق بصورةٍ مرعبة كأرنبٍ مذعورثم شعرت باصابعه تلامس دموعها الغزيرة على وجنتيها، و ارتجف قلبها و جسدها اكثر منتظرة تقرير مصيرها، بعد مقاومةٍ عنيفةٍ استهلكتها لتتركها كجثةٍ مرتجفة ترتعش، و حين تكلم أخيرا، كان صوته الخطير المجنون يهمس ليفهمها مدى حماقتها (لم أكن اريد أن أحصل عليكِ بتلك الطريقة، صدقيني، لكن أنتِ من أرغمتني على ذلك، و عليك تحمل تبعات خداعك).
عادت لتبكي مرة أخرى و هي تتخيل ما سيعقب تلك الكارثة، وإن كانت قد سلمت بانتهاء حياتها الا أن خوفها الأفظع و رعبها كان مما سيلي ذلك، كيف ستواجه مخلوقا بعد ما سيحدث، لكن التفكير المرتعب لم يطل بها، حين وجد همسه المخيف طريقه الى اذنها من جديد ليصدمها بقوةٍ في لحظةٍ حسبها بدقةٍ ليضرب ضربته، (أتريدين أن أعقد قراني عليكِ رسميا قبلا؟).
للحظاتٍ لم تستوعب، و لم تفهم، ام أنها كانت تتوهم، وحين طال الصمت تجرأت و فتحت عينيها المتورمتين ببطءٍ الى أن أصبحتا على أقصى اتساعهما، تشاركهما شفتيها المتورمتين و المفتوحتين تطلبانٍ نفسا مرتجفا أعمق، اهتزت حدقتا عينيها و هي تنظر إلى ملامح وجهه الجذابة كجاذبية القراصنة، و عينيه اللتين تبرقانِ شرا و متعة و، وغضبا، نظقت أخيرا بهمسٍ مذعور لا يشبه صوتها (هل، هل، هل تعني ما قلت؟).
ظهر طيف ابتسامة اجرام على زاوية شفتيه، وهو ينقل عينيه الجائعتين من عينيها المتسعتين الى شفتيها اللاهثتين وهو يمنعهما قسرا من التمادي في تلك اللحظة الحاسمة كي لا يفقد ذرة السيطرة الأخيرة على نفسه، لتكون الحركة الأخيرة له و ينتهى من تلك المهذلة و التي طالت، قال أخيرا بصوتٍ خافت متمنن، وكأنه يمنحها اكثر مما تستحق (أتريدين أن نتزوج رسميا؟).
ودون وعي منها لم تنتظر ان يكرر السؤال للمرة الثالثة، و هي تهتف ببكاءٍ و توسل (نعم، أرجوك، أرجوك)
ازدادت التواءة شفتيه قليلا وهو يلتهم ملامحها المحمرة المتورمة و المبتلة بدموعها، ثم حرك رأسه في شبه، شبه ايماءةٍ تكاد أن لا تُلاحظ و كأنه يرضى مرغما و متمننا، ثم قال بعد لحظاتٍ طويلة، احترقت فيها أعصابها، بصوتٍ كالنار و الجليد (حسنا، أنتِ تربحين، سأعقد عليك رسميا).
و كأنها تعيش كابوسا لا قرار له، شاهدته وهو يخفض رأسه ليطبع قبلة قوية على شفتيها لا تحمل العاطفة السابقة، بل حملت طعما مختلفا و كأنه يدمغها أو يعاقبها، ثم و بمعجزةٍ ما نهض عنها و هو يتناول قميصه الملقى أرضا ليرتديه بينما يحاول استعادة أنفاسه، و كانت حنين كمن يشاهد مسرحيةٍ ساخرةٍ بسوداوية، نظر اليها جاسر من علوه و قال بصوتٍ لا يحمل أي تعبير، (هيا انهضي، سنعقد زواجنا في التو).
استقامت حنين ترتجف بقوة و هي تجلس مرتجفة على الأريكة ناظرة اليه بذهول و عدم استيعاب، هل نجت فعلا من امتلاكه لها قبل أن تحصل على عقدٍ رسمي؟، كان كل ما يربطه بها هي كلمة يرفض أن يعتقها بها، بكلمةٍ كان ليملكها دون رادع، أما الآن فأفضل من الموت البطيء، هو الموت السريع و يظل عقد الزواج أفضل من عدمه و أكثر اكراما لها، رفعت ركبتيها ببطءٍ إلى صدرها وهي تضمهما بذراعيها بقوةٍ و جسدها كله ينتفض بقوة، فصدمها صوته من جديد وهو يقول بصرامة (هيا يا حنين انهضي، أم أنكِ غيرتِ رأيك؟).
رفعت اليه عينين متورمتين مذهولتين وهي تراه يزرر قميصه، وظلت ترتجف ثم استطاعت الهمس بصعوبةٍ أخيرا (الآن؟، سنعقد زواجنا الآن؟)
نظر اليها جاسر بنظرةٍ جانبية سريعة، ثم ابتسم دون مرح وهو يشيح بعينيه ليقول هادئا (نعم، على يد مأذون و شهود هذه المرة، و ستمتلكين عقدا غير قابل للتمزيق).
شردت حنين وهي تميل برأسها لتفكر، بالخزي الذي كان سيلحق بها دون العقد الرسمي، وذلك فقط لأنها أصبحت ناضجة، أما منذ عشر سنوات لم يكن خزيا أن تتزوج بورقة، مجرد ورقةٍ يمزقها أيا كان، و الآن هو تقريبا يخيرها بين خزي امتلاكها دون العقد الرسمي، و بين العقد الرسمي دون مباركة أهلها، و في كلتا الحالتين لن تخرج من هنا سليمة، لقد تقرر مصيرها، (هيا يا حنين).
انتفضت بقوةٍ مع ندائه الصارم، و نظرت اليه دون تعبير. بل بتعبيرٍ مذهول قليلا ثم أنزلت يديها لتستند الى الأريكة و تحاول النهوض بصعوبة، (عدلي ملابسك).
الأمر الخشن نفذ الى أعماقها فأصابها بصدمةٍ وهي تخفض نظرها الى ثوبها المشعث و المكشوف لتستدير بسرعةٍ عنه وهي تحاول احكام أزراره بأصابعٍ مرتجفةٍ أخذت منها ضعف الوقت المطلوب، عادت لتلتفت اليه لتجده واقفا أمامها بهمجيته، يخرق ظهرها بنظراته القاتلة، فارتجفت شفتاها و كانها على وشكِ البكاء من جديد الا ان عيناعا المتسعتان لم تستطيعا الفكاك من عينيه الغامضتين، اقترب منها ببطء ليعتقل ذراعها النحيل في قبضة يده ثم يجرهها من خلفه وهو يتجه الى السلالم، تعثرت على الدرجات حتى كادت ان تقع اكثر من مرةٍ خاصة و ان ساقيها كانتا كالهلام من بعد الهجوم الصادم الذي تعرضت له منذ دقائق، لكنها استطاعت الهمس بترجي و توسل (الي، إلى أين تأخذني).
لم يرد عليها الى أن وصل الى غرفةٍ من الغرف، ففتحها ثم استدار إلى حنين ليأسر عينيها المرتعبتين الزائغتين لعدة لحظات قبل ان يجذبها من ذراعها و يدخلها أمامه الى الغرفة والتي كانت غرفة نوم جميلة الطراز ذات سريرٍ مزين كبير في المنتصف، فارتجفت أكثر تلقائيا و استدارت تبغي الهرب منه بأنينٍ مرتعب، الا أنه كان كجدارٍ من خلفها فاصدمت بصدره الضخم الذي منعها من الهرب، وطوقها باحدى ذراعيه بقوةٍ بينما مد الأخرى ليغلق الباب من خلفها، أخذت حنين تحاول التملص منه وهي ترتجف بشدة هاتفة برعب و هي على وشكٍ البكاء من جديد، (أرجوك، أنت قلت).
قاطعها جاسر بكل عنجهيةٍ و ثبات، وهو يضمها أكثر ليهمس فوق جبهتها الساخنة (ششششش لا تخافي، لقد قلت أننا سنتزوج رسميا أولا).
لكن حنين كانت تشهق بصوتٍ يدمي القلب ووجهها مدفون في صدره. فأخذ يربت على ظهرها مرارا لتهدأ، دون أي احساس منه بالذنب و كأنه يعالج مريض بطريقةٍ حتمية حتى و إن تألم، و بعد عدة لحظات مد يده ليرفع ذقنها ووجهها اليه، و طال به النظر إلى عينيها قبل أن يترك ذقنها و يمسك بكفها الصغير ليقودها الى درجٍ صغير في المنضدة الجانبية، ففتحه وأمام عينيها الغير مستوعبتين أخرج قيد حديدي، اتسعت عينا حنين وهي ترى القيد يتدلى من يده، لتنقل نظرها المذهول منه الى وجه جاسر الهادىء الجامد، لكن جاسر لم يمهلها وهو يعاود جذبها إلى الفراش الواسع، فدفعها برفق لتسقط جالسة على حافته بينما التقط يدها، و أمام عينيها أغلق على رسغها أسورة القيد الحديدي، وقبل أن يثبت الأسوارة الأخرى في أحد قوائم السرير، كانت حنين تحاول أن تجذب معصمها منه باستماتة وهي تشهق هاتفة بخوف (ماذا تفعل؟، اتركني، اتركنيييييي).
الأ أن جاسر شدد قبضته على معصمها لينجح أخيرا في تثبيت الأسوارة الأخرى، ثم نظر إلى عينيها المذهولتينو قال (لا تخافي هذا مجرد اجراء أمني، لا أريد عند عودتي أن أجدك و قد قمتِ بعملٍ أحمق كالقفز من النافذة مثلا، بعد كل العناء غالذي تكبدته، لا يمكن أن أجازف بتركك لأذية نفسك في سبيل الهرب من زواجنا)
هتفت حنين بمرارة و خوف (لن أفعل، لن آذي نفسي، حل ذلك القيد يا جاسر، هذا جنووون).
وكانت تضرب يدها بقوةٍ وهي تجذب يدها، الا أن جاسر أحكم يده على معصمها و انحنى اليها ليرفع وجهها اليه و ينظر لعينيها قائلا بهدوء (لا تخافي، دقائق و أعود لك ِ، و سيكون معي المأذون و شاهدين من رجالي)
ثم انحنى أكثر ليطبع شفتيه بعمق على فكها قبل أن يستقيم و يستدير للمغادرة، فصرخت حنين بقوة (جاسر، جاسر)
الا أنه خرج من الغرفة بسرعةٍ و أغلق الباب دون أن يسمح للضعف أن يسيطر عليه و يجعله يستدير اليها…
هل هو كابوس؟، أم أنها النهاية المنطقية لكل انسانة ميتةٍ مثلها، نالت الفرصة مرة لتنجو من مجتمع صارم، لتضيعها مرة بعد مرة حتى انتهى الأمر بها هنا، جالسة على فراشٍ غريب، مقيدة به كالجواري، تنتظر مصير أفضل قليلا من المصير الأول، توقفت عن المقاومة تماما وهي تدفن يدها المرتجفة في حجرها، و يدها الأخرى ممدة بجوارها، جسدها ساكن، الا أن صدرها هو من لا يزال في سباقٍ مع أنفاسها المنهكة، حتى أن صوت لهاثها كان الصوت الوحيد الذي يعلو في هذا الوقت، منتظرة، منتظرة، لا أمل في الفرار، لقد انتهى الأمر، بعد فترةٍ طويلة أو قصيرة، لا يهم حقا فقد اختفى احساسها بالزمن، وجدت باب الغرفة يفتح ليدخل جاسر مبتسما بقسوة و لمحة ترقب، يكاد يلتهمها بنظراته و كأنها كائن صغير نجح في اصطياده، و ينتظر التهامه، أغلق جاسر الباب خلفه و اتجه اليها ليخرج مفتاحا صغيرا من جيبه، ثم تناول يدها و فتح اسوارة القيد، وهي مستسلمة تماما وقد نال منها التعب مناله، و جذب يدها لتقف أمامه ساكنة، تنظر لعينيه باستجداء الى أن قال أخيرا بخفوت (كل شيء أصبح معدا، و نحن في انتظارك الآن).
ابتلعت ريقها بضعف و دون أن تحيد بعينيها الكسيرتين عن عينيه. همست بصوتٍ لا يسمع و أملٍ مات قبل أن يولد (جاسر، أتوسل اليك، انتظر الى أن اخبرهم، اقسم لك أنني سأقبل بك، لم أعد أصلح لشخصٍ غيرك).
ابتسم جاسر بقسوة، و ارتجفت لمرأى الشر في عينيه، و حينها أخفضت نظرها خوفا من نظراته التي ارسلت الرفض و استحالة الثقة فيها من جديد، قال جاسر أخيرا (لقد انتظرت طويلا بما يكفي حتى اعتقدم ان بإمكانكم خداعي و سلب ما يخصني، و كان ذلك خطأ كبيرا، ما أملكه، يبقى ملكي الى أن أقرر العكس).
سكتت حنين وهي تؤمن أن النهاية حلت و أن المصير قد تقرر و أنه قد آن الأوان ليحص جاسر على أملاكه التي اشتراها بثمنٍ بخس فيما مضى، قال جاسر بعد فترة صمت طويلة (هيا تعالي، لقد جلبت لكِ ملابسا عديدة و أثواب، افتحي الدولاب و انظري اليها).
رفعت نظرها اليه دون أي تعبير أو مشاعر، فحثها للذهاب إلى الدولاب، و فتحه لها، لترى عدة أثواب قليلة معلقة، لكن على ما يبدو أن اختيارهم كلف مجهودا ضخما لتناسبها، ظلت حنين واقفة تتأمل الأثواب الملونة المتراصة أمامها كممثلين في مسرحيةٍ ساخرةٍ منها و مما آل اليه حالها، كان جاسر هو المتقدم ليختر لها ثوبا أبيضا هفهافا، ناعم بشكلٍ مؤلم، ليفرده أمام كتفيها وهو ينظر اليها مبتسما بغموض ليقول (هذا مناسب، مناسب لعقد القران).
نظرت إلى الثوب الأبيض في يده، ثم رفعت عينيها اليه وهي تهز رأسها نفيا بضعف لتهمس؛ (لا، ليس مناسبا، ليس مناسبا إطلاقا)
لم يرد عليها جاسر للحظاتٍ طويلة، لكن الأبتسامة تجمدت من فوق شفتيه، و تصلبت عضلات فكه، ليقول بعد فترة بجفاء (ومع ذلك سترتديه، هيا فلا وقت لدينا)
أمسكت حنين بالثوب على مضض ثم رفعت عينيها اليه لتهمس دون حياة (اخرج من هنا أولا).
رفع جاسر رأسه و هو يضحك عاليا مما جعله الشيطان بعينه في نظرها، و لم تتكلم الى أن انتهى من تسليته و نظر اليها مختتما ضحكاته، ثم قال أخيرا مبتسما بعبث وهو يمد يده ليداعب ذقنها (حنين، لما هذا الخجل المفاجىء، الذي لا داعي له، أنتِ زوجتي مما يزيد عن عشر سنوات، كنت في لحظاتٍ منها أقرب اليكِ من أنفاسك، لا حبيبتي، لا مجال لتركك قبل عقد القران و لن أدير ظهري فربما قررتِ ضربي على رأسي بشيءٍ ما).
شددت حنين قبضتيها على الثوب بينما عينيها تلمعانِ ألما و انكسارا، لكنها ذهبت ببطءٍ و ضعف الى نهاية الغرفة و بدأت في خلع ثوبها، حينها توهمت أن شيئا ما ظلل نظرات جاسر لكنه استدار قبل أن تتاكد، وهو يتشاغل بالنظر إلى شاشة هاتفه مرة و ساعة معصمه مرة دون أن ينظر اليها، مما أعطاها بعض الراحة الدخيلة على لحظات عذابها، لحظاتٍ مضت لم يسمع فيها جاسر سوى حفيف انسدال الثوب ذو القماش الشفاف الهفهاف و بطانته الحريرية على جسدها الى أن انتهى الصوت، فأخذ نفسا ساخنا عميقا قبل أن يسمع همسها الآتي من البعيد (لقد، انتهيت).
رفع نظراته ببطءٍ اليها، لتتسمر على المخلوقة الواقفة أمامه طويلا و قد احتبست أنفاسه في صدره دون أن يجرؤ على إصدار حركة، كانت تبدو كمخلوق سحري، ليست عارضة ازياء او ملكة جمال، لكنها كانت تبدو بطلةٍ غريبة من الهشاشة و الإنكسار منحتها نعومة تفتت الحجر، بشعرها الأسود الطويل النائم على كتفيها و ظهرها و تنفلت خصلاته الأقصر طولا على جانبي وجهها بحزن، ومن تحته الثوب الأبيض الشفاف بمكرٍ دون أن يظهر جزءا من جسدها الصغير، يضيق عند خصرٍ شديد النحول يستفزه ليطوقه بذراعيه رغما عنه، لينسدل بعدها بإتساعٍ ناعم حتى كاحليها، عيناها الزيتونيتان تنظرانِ اليه بإنكسارٍ يصرخ اليه ليداويه، ووجهها الشاحب ببشرته الشفافة أكمل صورتها الأثيرية، ابتلع جاسر غصة في حلقه وهو غير قادر على إبعاد عينيه عنها، الى أن تنحنح قليلا وهو يقول بخشونة، (هيا لتعدلي شعرك المشعث).
اتجهت حنين بصمتٍ و استسلام الى المرآة و ثوبها يتطاير بنعومةٍ حول ساقيها خلبت لبه، أمسكت بالفرشاة الموضوعة أمامها و أخذت تمررها بشرود في شعرها الحزين وهي تتطلع إلى صورتها طويلا، كثيرا ما كلمت صورتها في المرآة و التي تكاد تكون صديقتها الوحيدة، لكن الآن صديقتها كانت شخصا غريبا عنها تماما، لا تعرفها اطلاقا، و تقريبا كرهتها وودت لو تهرب منها، اقترب جاسر منها، ليقف خلفها تماما، ومد يديه ليمسك بخصرها، يتنشق رائحة شعرها لينخفض الى عنقها الناعم، وهي كالتمثال تتفرج على صورتيهما في المرآة و لاحظت للمرة الأولى أنه قد بدل ملابسه بقميصٍ أسود و بنطالٍ يماثله مما جعله مظهره أكثر خطورة. رفع جاسر عينيه الى عينيها في المرآة و تشابكا طويلا، قبل أن يقول بخفوت (أنتِ لا تقومين بذلك رغما عنكِ يا حنين).
لم ترد عليه وهي تتطلع اليه في المرآة بصمت، بينما تابع هو بصوتٍ أجش (لقد ظُلمتِ كثيرا، ولم يكن أنا من ظلمك، فلا تبذلين جهدا في محاولة القاء اللوم علي)
، ظلت صامتة وهي تستمع اليه و هو يكمل بجوار اذنها، (سنوات طويلة، كنتِ فيها لعبة يلهون بها و ينقلونها من يدٍ لأخرى، حتى أن أحد لم يبذل جهدا للتأكد من تحررك بالفعل أم لا).
ثم خشن صوته قليلا وهو يتابع (و هذه المرة كدتِ أن تلقين بنفسك الى ما لا يحمد عقباه جزاءا على خدعتك الصغيرة، في سبيل نيل رضاهم و مكانة لديهم و التي لم تكوني لتناليها أبدا، لو أرادو لمنحوها اليكِ من قبل، من سنواتٍ عديدة)
لم تصدر عنها حركة سوى أن اهتزت حدقتاها ألما، و ازدادت نبضاتها تصرخ دون أن يظهر عليها، حينها أخذ نفسا عميقا و اعتدل في وقفته وهو يقول بحزم و قوة (هيا لننزل، فهم في انتظارنا).
ثم مد يده ليمسك بكفها يقودها الى، الى زواجهما الذي تأخر طويلا، جلست حنين ببطءٍ و ارتعاش وهي تضم قبضتيها، تنقل نظراتها بين الحضور، و المكون من المأذون و شاهدين خشنين مبتسمين لصاحب عملهما، و كأنها مغيبة تماما، تطير على سحابةٍ من الأوهام و الغفلة، كانت تردد ما يسألها المأذون و يعيده عليها، و عينيها أسيرتي عينيه، عينيه تبرقانِ انتصارا و زهوا، وكأنه سيبتلعها في دوامة نظراته الحارقة أثناء ترديده بصوته العميق المخيفو في لحظةٍ انتهى كل شيء، مباركة و تهنئة و انتهى كل شيء، هل هكذا تم توثيق الزواج؟، هل حقا بمثل تلك البساطة، انه حتى اسهل من المرة الأولى، الأنها بلغت سن الرشد و أصبحت ولية نفسها؟، دون أبٍ أو عم، نهض الجميع، و نهضت حنين و هي لا تكاد تشعر بشيء الى أن انصرفو و بقت هي مع جاسر، وقفت تنظر اليه و ينظر اليها، لقد حصل عليها أخيرا، لقد أصبحت ملكه أخيرا، لقد كانت ملكه منذ زمنٍ بعيد، الا أن أحد الآن لن يجرؤ على الإنكار بكلمة، خلال يومين ستصبح قسيمة الزواج في جيبه، و أما هي، فها هي في بيته و طوع يمينه، اشتعلت نظراته اشتعالا، و برقت بزهو المنتصر، لم يكن يظن أن شيئا ما من الممكن أن يشعره بشعورٍ كالذي يشعر به الآن، لقد حصل عليها، و ابتسم بقسوة و انتصار مذهل، همست حنين اخيرا بخوف و رهبة (ماذا، سيحدث الآن؟ هل، ستعيدني لأهلي الآن؟).
ابتسم جاسر بأكثر شراسةٍ وهو يدخل يديه في جيبي بنطاله ينظر اليها نظراتٍ مفترسة، و تركها للحظاتٍ تحترق أعصابها الى أن قال أخيرا (بالطبع لا، لن أتخلى عنكِ لهم كالمرة الأخيرة، فقد ذقت الأمرين، ستبقين معي و سنواجههم معا في الغد، فإما أن يتقبلون زواجنا و إما فلهم حرية الإبتعاد عنا).
فتحت عينيها مع أول اشراقات الشمس فوق و جنتيها اللاهبتين، للحظاتٍ لم تستوعب أنها تمكنت من النوم فعلا، قد تكون نامت لعدة دقائق، ربما ساعةٍ أو اكثر، لكنها لم تعرف متى تحديدا تمكنت من الهرب إلى سباتٍ عميق، ظرت بتردد و بطءٍ الى الجانب الآخر من الفراش، و اخذت نفسا مرتجفا حين تأكدت من خلوه، نظرت إلى سقف الغرفة و هي في حالةٍ من عدم الوعي، لقد أصبحت زوجة عاصم رشوان بالفعل، كيف تخيلت أنه سيتركها بعد ما فعلت؟، و الأدهى أن خوفا غير مألوفٍ لديها حثها على محاولة الخروج من بيته على أقصى سرعة، ليقينٍ بداخلها أنه لن يرحمها في تلك اللحظات التي كان غضبه يشع من عينيه، ارتجفت صبا و ذكرى الساعات الماضية تطوف في ذهنها حاملة مشاعرا غريبةٍ و متناقضة، تكاد لا تعرف هل هو فعلا أحساس بالقهر أم أن شيئا آخر بدأ ينمو بداخلها رغما عنها لا تعرف له اسم، سمعت أصواتٍ في الحمام الملحق بالغرفة فأدركت برعبٍ للمرة الأولى بأنها ليست وحيدة، و أن ذلك الكائن الهمجي الذي اجتاحها ليلة أمس لازال موجودا و لم يتركها، استقامت صبا في فراشها و هي تسرع قدر استطاعتها في التعديل من حالها، وهي تفكر بالهرب منه من جديد، الا أنها عادت و رفضت الفكرة و شعرت بمنتهى الغباء، يجب أن تواجهه في لحظةٍ ما، تتمنى فقط في تلك اللحظات لو كانت أمها على قيد الحياة، فما أشد حاجتها اليها الآن، فتح عاصم باب الحمام و أول ما رأته عيناه في لمح البصر، هي صبا التي استيقظت و هي الآن جالسة شاردة متشنجة، والتي انتفضت ما ان سمعت صوت فتح باب الحمام، الا انها لم تنظر اليه و كأنه غير موجود. بينما التشنج و التوتر تزايدا في هيئتها بوضوح، تنهد بعمق دون أن يصدر صوتا، لا يزال غاضبا منها، غاضبا أكثر من غضبه منها في أي وقتٍ مضى، لم يتخيل للحظةٍ أن تكون قد تنازلت و تزوجته فقط في سبيل الوصول الى أعدائها عن طريقه، كان يعلم أنها لم تحبه بعد، وأن الطريق مازال أمامه طويلا، ليدربها على محاولة حبه، و كان متأكدا من نجاحه في النهاية، أما ما صدمه بالأمس هز كل ثقته و دمر معتقداته و غروره، كان قد بدأ يظن أن استطاع الوصول إلى نفسها ولو قليلا، ابتسامتها أخبرته بذلك، نعومتها و سكونها بين ذراعيه، حتى أنها تعودت الا تنام بأمان سوى بين ذراعيه، صحيح أنه كان يحترق اليها شوقا، الا أنه بالرغم من ذلك كان يشعر بساعدة ٍ جمة لم يعرفها من قبل وهو يتطلع الى وجهها الناعم النائم على كتفه بأمان، وهو بكلِ حماقة كان يظن أنه وضع قدميه على أول الطريق الى قلبها، ليفاجأ بما رآه في الأمس، تضاعف غضبه أكثر وهو يشعر بأن أعصابه بدأت تشتاق اليها وهو يراها بقميص نومها الأبيض ذي الأكمام المتفخة التي تغطي أكتافها فقط كأكمام أقمصة الأطفال، ومع ذلك يبدو عليها أكثر إغراءا من أي شيءٍ رآه من قبل، وغضبه نابع من إفساد تلك اللحظات التي انتظرها طويلا، و بدلا من أن يتجه اليها الآن بكل شوقه و فرحه بها، يظل واقفا من بعيد يشعر بالغضب و الإحساس بالغدر من ناحيتها، بعد عدة لحظات أدرك أنه لا بد و أن يتجه اليها أخيرا، رغم كل شيء، و ان كان في الواقع يرغب في الانقضاض عليها، اقترب عاصم ببطء. فأصدرت خطواته على السجادة صوتا مكتوما، جعلها ترتعش و تضم ذراعيها بقبضتيها أكثر، بينما حدقتا عينيها تحركتا ناحيته بتوجس دون ان تلتفت برأسها اليه، جلس عاصم بهدوء و بطء بجوارها على حافة الفراش، فابتعدت تلقائيا الى الحافة الأخرى و هي تتجاهل وجوده تماما، . لاحظ عاصم بوجوم أن عينيها متورمتين من شدة البكاء بالأمس برغم من كل مراعاته لها على قدر إمكانه، الا أن عندها الغبي جعلها ترفض بعقلها حتى و أن كانت قد استسلمت بجسدها، قال عاصم بجفاء؛ (صباح الخير).
لم ترد صبا عليه و هي تتنفس بصعوبةٍ أنفاسٍ ساخنة مريرة، فقال عاصم دون مودة (صباحية مباركة)
أيضا لم ترد صبا عليه بل بدأت علامات القهر في الظهور على وجهها. دون أن تعيره اهتمام، فقال عاصم بلهجةٍ أكثر جفاءا (هل ستلتزمين الصمت للأبد؟، يجب أن تنطقين في وقتٍ ما).
ازدادت المرارة في عيني صبا اللتان ضاقتا، و هي تبتلع غصة كالعلقم في حلقها، ثم همست أخيرا بإختناقٍ و صعوبة (أريد أن أبتعد عن هنا، أريد أن ابتعد عنك و أعود لبيتي)
تشنجت كل عضلات عاصم و ازدادت نظراته قساوة و هو يشعر ببوادر التهور من جديدي، ليقول بصرامةٍ متشنجة (هل عدنا من جديد لتهديدك الأحمق؟، ألم يعلمك استفزازك لي شيئا ما ليلة أمس؟).
انتفضت رأس صبا كالقذيفة و هي تلتفت لتنظر اليه بقهرٍ وغضب و دون إرادةٍ منها و ربما لأول مرة تنفجر بالبكاء بقوة وهي تتطلع إلى عينيه القاسيتين، للحظةٍ شعر عاصم بالمفاجأة و الوجوم من انفجارها الباكي من كلامه، فحاول أن يهدىء من غضبه بداخله و أخذ نفسا عميقا، ثم اقترب منها ليسحبها إلى صدره رغم ممانعتها الشرسة، الا أنه تمكن من تشديد ذراعيه حولها الى أن استكان رأسها على صدره أخيرا و هي تنتحب، فأخذ عاصم يربت على شعرها الناعم وهو يقول بصوتٍ خشن (لماذا البكاء الآن؟، ما حدث أمر طبيعي و كان من المفترض منذ وقتٍ طويل).
ازداد بكاء صبا دون أن ترد عليه، فرفعها قليلا يهدهدها بين ذراعيه لتهدأ، بينما مشاعره لا تزال في تناقض جبار ما بين غضبه منها و إشفاقه عليها، و شوقه لها، شعور واحد هو الذي لم يكن له وجود في غمرة مشاعره، وهو الشعور بالندم أو الغضب من نفسه، فلو عادت الأحداث به لتصرف بنفس الشكل من جديد، فصبا زوجته وهي من تقبلت وجوده في حياتها دون أن يرغمها أحد على ذلك، لذا آن الأوان أن تتقبل بحقوقه عليها من كل النواحي، و أولها أن توليه الإحترام الذي يستحقه كزوجها، أما بالنسبةٍ لما فعلته بالأمس، فسيكون له تصرف آخر معها لاحقا، لكن ليس الآن، استطاعت صبا أخيرا الهتاف من بين بكائها و دموعها تغرق صدره (لن أسامحك أبدا على ما فعلته، أبدا).
عقد عاصم حاجبيه و على الرغم من أنه لم يبعدها عنه الا أنه قال بغضب، (و لماذا؟، لأنه تم بعد أن كشفت خداعك؟، إن لم تخني ذاكرتي فقد كنتِ متعاونة جدا قبلها)
عادت صبا لتبكي، ثم أخذت تضرب صدره بقبضتها و هي تحاول الإبتعاد عنه و عن وقاحته و محاولته إذلالها الا انه لم يترك لها الفرصة و لم يبعدها عنه وهو يفشل جميع محاولاتها مكبلا ذراعيها، وهو يهتف بصرامة (كفى يا صبا و احترمي نفسك).
هتفت صبا بإختناق من بين بكائها وهي تحاول مقاومته لتبتعد عنه (عندما تحترم نفسك أنت أولا)
ثم عادت لتبكي، وكاد هو أن يهتف بشيءٍ يسمم به بدنها جزاءا على وقاحتها، الا أن طرقا مفاجئا على الباب جعله يصمت وهو ينظر إلى الباب عاقدا حاجبيه بغضب وهو يتسائل عن الشخص الذي اختار آخر وقت ممكن أن يتطفل فيه عليهما في تلك اللحظة، فنادى عاصم بخشونة وهو يضع يده على فم صبا ليمنع صوت بكائها، (من؟).
ليسمع الصوت الذي كان يخشاه بالفعل وهو يقول باشعاعات فرحٍ ظاهرة (أنا يا عاصم، افتح يا ولدي)
كز عاصم على أسنانه بقوةٍ وهو يشتم أشخاصا مجهولين، المهم أن يشتم ليفرغ شحنة الغضب و التوتر التي يشعر بها حاليا على بداية الصباح، تمكنت صبا من نزع يده من على فمها بالقوة لتنظر اليه مذهولة ومرتعبة وهي تهمس؛ (لماذا أتت عمتي الآن؟، هل أخبرتها شيئا؟، انطق، تكلم. هل أخبرتها شيئا؟).
نظر عاصم اليها بغضبٍ و شراسة وهو يود لو يضربها أو يخنقها، ثم همس هو الآخر بحنقٍ بالغ (لم أخرج من الغرفة أساسا منذ ليلة أمس)
احمر وجه صبا بشدة وهي تشيح بنظرها بعيدا عنه، فتركها عاصم أخيرا لينهض من مكانه ليفتح الباب، الا أن صبا أمسكت بيده وهي تهمس مترجية (انتظر، لا تفتح)
همس عاصم بغضب (كيف لا أفتح؟، هو يوم واضح من أوله).
ثم ترك يدها ليذهب إلى الباب بينما حاولت صبا مسح دموعها بسرعة و تعديل ملامح وجهها، و قلبها ينبض بقوة و قلقأخذ عاصم نفسا قويا ثم فتح باب الغرفة، و للحظاتٍ طويلة وقف مسمرا بملامحٍ جامدة تبدو عليها علامات البطش وهو يرى أمه التي يقل طولها عن كتفيه واقفة وهي تحمل صينية هائلة المساحة، متراصٍ عليها كل ما تشتهيه العين من الأطايب، بينما وجهها يشع سعادة و توردا و ابتسامتها العريضة من الاذن للأذن تخبره بما لا يريد أن يصدقه، و عينيها تضحكان من الفرحابتلع عاصم ريقه وهو يقول بخشونة (صباح الخير يا أمي، ماذا تفعلين هنا؟، أقصد لماذا تحملين كل هذا و تصعدين به؟، كنا سننزل اليكِ حالا).
عقدت الحاجة روعة حاجبيها دون أن تختفي ابتسامتها وهي تقول (ابتعد أولا يا ولد، الصينية ثقيلة)
اسرع عاصم ليأخذ منها الصينية و هو يفسح لها الطريق على مضض وهو يتجه بنظراته إلى صبا متعشما أن تكون قد عدلت من هيئتها، ليرى أنها كانت واقفة في نهاية الغرفة كطفلة قامت بمصيبة، رفع عاصم عينيه إلى السماء وهو يهمس بداخله (هو يوم واضح من أوله).
ثم اتجه الى الطاولة الصغيرة ليضع الصينية عليها و التي فاقتها مساحة بالطبع، ثم قالت الحاجة روعة و هي ترمق صبا بنظراتِ حبٍ فاقت حب الأيام الماضية كلها و هي تقول بمحبة (أردت أن أدللكما اليوم و اجلب الفطور اليكما، هل هناك مشكلة؟)
قال عاصم و هو غير مرتاح أبدا (شكرا يا أمي، لم يكن هناك داعٍ لأن تتعبي نفسك بتلك الطريقة).
نظرت اليه الحاجة روعة مبتسمة، وفي لمح البصر امتلأت عينيها بالدموع حتى تشوشت الرؤية عندها وهي تقول مبتسمة بإختناق (كيف لا أتعب نفسي؟).
و ظلت تفرك في يديها وعاصم يرمقها بقلق و بحاجبٍ مرفوعٍ بتوجس، لحظة، اثنتين، وهو يهمس في داخله بترجي لا، لا، لا يا أمي لا تفعلي، الا أنها لم تخيب ظنه وهي تفقد آخر ذرات ضبط النفس التي دربت نفسها عليها أثناء رحلة صعودها اليهما، فرفعت يدا تظلل بها فمها وهي تنطلق بأعلى و أطول زغرودة سمعها في حياته، أغمض عاصم عينيه يأسا، بينما شهقت صبا وهي تغطي وجنتيها الحمراوين بكفيها وهي تهمس دون أن يسمعها أحد (؛ يالهي، يالهي، أريد الابتعاد عن هنا).
، وما أن انتهت الحاجة روعة، حتى كانت الدموع تغرق وجهها وهي تتجه الى عاصم لتجذبه اليها من كتفيه وهي تبكي و تحتضنه بقوةٍ قائلة بصعوبة؛ (مبارك لك يا ولدي، فليجعلها الله لك زيجة العمر).
نظر عاصم من خلف كتف أمه إلى صبا الواقفة و كفيها على وجنتيها، و رغما عنه شعر بالإشفاق على موقفها الحرج فهي لن تتفهم عادات الأمهات في الأحياء الشعبية أبدا، و أن الخصوصية في تلك المواقف لا وجود لها لديهن، تركته الحاجة روعة وهي تضربه في صدره لتتجه إلى صبا لتحتضنها بقوةٍ و هي تبكي و تبكي، بينما عادت صبا للبكاء من جديد وهي تدفن وجهها في كتف الحاجة روعة الرحب و هي تعوض عن غياب أمها…
بينما وقف عاصم بطوله الهائل، واضعا يديه في خصره وهو ينظر اليهما و يشعر بأنه دخيل عليهما وهو الشعور المسيطر عليه بفظاعةٍ منذ الصباح، وكل ما يفكر به أنه يوم واضح من أوله.
بعد فترة قصيرة من تنازل الحاجة روعة و نزولها، فقد كانت تبدو كمن لا يرغب في تركهما أبدا، الا أنها تنازلت أخيرا و نزلت لتوقظ حنين التي تأخرت على غير عادتها، نزل عاصم بجوار صبا التي نزلت لا لشيء سوى لرغبتها في الإبتعاد عن تلك الغرفة، لكن عاصم أبى أن يتركها تنزل الا بعد أن أرغمها إرغاما على أكل بضعة لقيمات حشرها بيده في فمها بقوةٍ وهو يقسم أنها لن تنزل الا حين تتناول شيئا، فقد كان شحوب وجهها مخيفا، وأعلى السلم أمسك بيدها بقوةٍ وهو يؤكد لها بتلك الحركة ملكيته لها، لكن وما أن وصلا الى الطابق الأرضي حتى خرجت الحاجة روعة متعثرة و هي تبدو في حالة صعبة من الخوف و القلق لتقول وهي تلهث (ادركني يا عاصم، حنين ليست موجودة في البيت بأكمله).
عقد عاصم حاجبيه وهو يترك يد صبا ليقول بهدوء (اهدىء قليلا يا أمي، ربما تكون في أي مكان. فالبيت واسع)
هزت الحاجة روعة رأسها وهي تضرب صدرها بيدها وهي تقول برعب (حين دخلت غرفتها، تبدو، تبدو وكأنها لم، لم تقضي الليلة فيها من الأساس)
شهقت صبا عاليا وهي تضع يدها على وجنتها فالتفت اليها عاصم الذي اشتعل بداخله الجنون و القلق في لحظةٍ واحدة وهو يسأل صبا بصوتٍ مخيف (هل تعرفين شيئا عن هذا الأمر؟).
هزت صبا رأسها نفيا وهي تهمس بخوف (لا، لا، لا أعرف أنها قد خرجت ليلة أمس)
ازداد انعقاد حاجبي عاصم بغير استيعاب وهو يهمس (وهل خرجت ليلا من قبل؟).
ابتلعت صبا ريقها وهي تنظر اليه برعب مدركة ان ما كانت تخشاه قد حدث و أن حنين قد ضاعت للأبد، قبل أن ترد عليه أخرج عاصم هاتفه بسرعة و بأصابعٍ ترتجف رغما عنه وهو ينوي أن يطلب أحد، أي أحد، لاعنا غباءه في سحب الهاتف من حنين حتى هذه اللحظةلكن و قبل أن يطلب رقم من يساعده، رن هاتفه في يده فأسرع ليرد بقلق، فوصله الصوت المجنون البغيض على نفسه وهو يقول بنعومة (صباح الخير يا ابن رشوان).
سكت عاصم عدة لحظات وهو يتنفس بصعوبةٍ قبل أن يهمس بهمسٍ خطير مرعب (أين حنين؟)
سمع ضحكة قوية من الجهة المقابلة قبل أن يتكلم ألد أعداؤه (كنت أود أن أهنئك على خطبة أخيك، الرشواني الصغير، لكن للأسف لم تعد التهنئة ذات فائدة، فالعروس قد تزوجت ليلة أمس)
.
نزلت أثير درجات منزلها بسرعةٍ، تتعثر خطواتها شوقا للقياه، فقد هاتفها بالأمس و أخبرا أن تعد أوراقها و أشياء أخرى متعددة لم تفهم منها بقلبها سوى أنها ستراه في الغد، وها هو الغد قد أتى و ستراه، منذ رأته في المرة الاخيرة و عرفها على حيه و على جزءٍ من حياته و هي تنتظر بجوار هاتفها تتأمل المرة المقبلة التي ستراه فيها، فارسها على الفرس الأبيض، تماما كما في الروايات، ما أن يظهر في حياتها حتى يحل بوجوده كل أزماتها، منذ زمن طويل لم تعرف معنى الطمئنينة بوجود شخص تستند لوجوده في حياتها سوى بدخول مالك اليها، كانت تمسك بملف أوراقها في يدها، تلفه بأصابعها بتوتر، وهي تعد الثواني لحين وصوله، وما أن طلبها على هاتفها ليعلمها بوجوده حتى جرت تتعثر على السلالم و شعرها الأشقر الواصل لكتفيها يتراقص من حول وجهها، مما جعل منها صورة للحب بكل تفاصيله، ما أن وصلت أثير الى بوابة بيتها، حتى أبطأت من خطواتها تدريجيا الى أن توقفت خطواتها تماما وهي تمسك بقضيب البوابة لتراقبه لعدة لحظات خاصة بها وحدها، فقد كان خارج سيارته مستندا الى مقدمتها بكل أناقة، وهو ممسكا بهاتفه بين يده ينظر إلى شاشته و يضغطها باهتمام، يبدو أنه يلعب أحد ألعاب الهاتف، ابتسمت أثير بحنان وهي تتابع اهتمام ملامح وجهه الوسيم، مالت برأسها تستند الى قضيب الباب وهي تشرد فيه بوله، لقد حصل المحذور ووقعتِ في حبه يا أثير، تنهدت أثير بيأس وهي تستقيم في وقفتها، بالرغم من أن في أعمق أعماق قلبها، ينمو بصيص ضئيل من أمل يسبب لها كل تلك السعادة التي تشعر بها الآن، فردت أثير ظهرها و اتجهت اليه بابتسامة أظهرت غمازتها العميقة، و ما أن لمحها مالك حتى استقام وهو ينظر اليها مبتسما و لاحظت أن بريق جديد يضيء ملامحه، شيئا ما يضيء نظراته و يشعرها بأنه نجح في تحقيق شيء ما، أم أنها تتوهم فقط؟، لكن شيئا ما في نظراته جعلها تشعر بانقباض مفاجىء، لكنها كتمت هذا الشعور و دفنته عميقا و هي تنهر نفسها، على انقباضها للمحة الأمل الجديدة في حياته، ربما تكون تلك اللمحة خاصة بها؟ لكن لا، لن توهم نفسها بلمس النجوم، فهي متواجدة في حياته منذ فترة، و تلك النظرة الجديدة تنبىء بأن خبرا ما أو حدثا سعيدا دخل حياته، ها قد بدأت تهلوس و تفتعل القصص بالفعل، يبدو أن الحب أحمق تماما كما يتغنى به الشعراء، وصلت أثير اليه وهي تمد يدها بخجل ويدها الأخرى تحجز خصلاتِ شعرها المتناثرة خلف أذنها بتوتر، وجهها كالعادة يختار أسوأ اللحظات لينفجر احمرارا، وهي تلك اللحظة الأولى عند مقابلاتهما، حيث تحمر كتلميذة صغيرة في أول اللقاء، وما أن تتباسط معه، يعود وجهها إلى طبيعته و كأنها تتعامل مع شخصٍ تعرفه منذ مولدها، وكأن عمرها ألف عام، مد مالك يده بتلقائيةٍ ليمسك بكفها الرقيق الناعم بكفه السمراء القوية، وها هو التيار الدافىء يندفع في أوردتها مولدا احساس عذب يدفىء و يثلج قلبها في لحظةٍ و التي تليها، قال مالك مبتسما برقة (أهلا بالمحروسة).
اتسعت ابتسامة أثير و ازداد احمرار وجهها الا أنها رنت اليه بنظراتها الخجولة لتهمس بمرح (من تلك المحروسة؟)
هز مالك كتفيه وهو يقول ببساطة (وهل أعرف أنا؟، أخي عاصم هو من طلب بالحرف الواحد، أن أحضر له أوراق المحروسة لأن هناك وظيفة في انتظارها).
برقت عينيها بإمتنانٍ صامت وهي تتطلع اليه طويلا، فتنحنح مالك وهو يمد يده طالبا ملف أوراقها، فناولته إياه بصمت، ثم همست أخيرا (حقا مالك، لا أعلم كيف أشكرك، أو كيف سأتمكن من رد الجميل لك)
تأوه مالك وهو يقول بترفع (كلام أفلام، و مبالغات لا أحبها، و عبارات استهلالية).
طوى مالك الملف في يده وهو يستعد للرحيل لكن و قبل ان يتحرك، اسرعت اثير تتكلم باول شيءٍ خطر ببالها لتؤخره عن الذهاب و تركها للإشتياق اليه من جديد، (مالك، بالنسبة للبيت، أنا أعلم أنني قد تأخرت عليكم جدا في إخلاءه و أنتم كنتم في غاية الكرم معي).
توقف مالك ينظر اليها قليلا، ثم عاد ليستند الى مقدمة سيارته برشاقة فبالكاد أصبح طول يماثل طولها وهي واقفة أمامه، قال مالك برقة (حسنا، كنت أريد أن أتكلم معك في هذا الموضوع على أية حال).
وقع قلب أثير بين قدميها وهي تفكر بهلع هل أخذ الموضوع بجدية؟، أنا كنت أريد أن أستمتع بصحبته فترة أطول، يالهي، أين سأذهب الآن؟، حتى و إن كنت سابقا أستطيع دفع ايجار ضئيل من راتبي، فها هي الوظيفة قد ضاعت الى أن يجد لها مالك وظيفة أخرى، أخذت أثير تشتم لسانها الغبي المتهور، وهي تتمنى لو ينسى الأمر و يرحل، لكن حين وجدته جالسا ينظر اليها مبتسما وهو الأرجح ينتظر منها أن تبدأ بالكلام، فابتلعت ريقها و فركت أصابعها و تلجلجت قليلا قبل أن تقول بخفوت، للمرة الثانية، أول شيء يخطر ببالها (أنا، كنت قد، أتفقت مع أم صبار أن أقيم معها).
ظل مالك ينظر اليها دون أن تهتز ابتسامته بينما عيناه تمازحانِ خوفها، ثم قال ببساطةٍ بعد لحظة (وماذا عن صابر؟)
رفعت عينيها المكسورتين الجميلتين اليه لتهمس بشبه ابتسامة (؛ ماذا عنه؟)
رد عليها مالك مبتسما (هل لازال يسكن مع ام صابر؟)
ابتسمت أكثر قليلا على الرغم من الحزن البادي في زرقة عينيها وهي تهز برأسها قائلة (نعم، لا يزال يسكن مع ام صابر، هل لديك مشكلة في ذلك؟).
قال مالك بخشونة مزيفة، (و كيف ستسكنين في بيتٍ به شاب أعزب؟، ليس لدينا فتيات يقمن بمثل تلك التصرفات).
ابتسمت أثير ابتسامة لا أجمل منها، وهي تتطلع اليه متشربة كل ذرة من حنانه و مرحه، فقط لو كان جادا في كلامه و أنه، يمنعها من باب الغيرة عليها، ها هي قد طارت بتفكيرها بعيدا عند النجوم من جديد، لكن مالك قطع عليها أحلامها وهو يقول بجدية رقيقة (اسمعي فلنتكلم بجدية، عاصم بالفعل محتاج لأن يبدأ في ذلك المشروع نظرا لارتباطه بمواعيد محددة مع آخرين، لكن بالنسبة لكِ، لقد ضمنت أن تكون لكِ شقة في المشروع الجديد حين ينتهى).
فتحت أثير فمها لتحتج رافضة، الا أن مالك رفع يده ليمنعها من الكلام وهو يتابع بحزم (إن شئت جعلناها ايجارا حتى تستوفين مبلغا معينا. حينها سأسجلها باسمك و باقي ثمنها يمكنك تقصيطه).
فغرت أثير شفتيها وهي تنظر اليه و كأنما ترى مخلوقا من كوكب آخر، لكن مالك لم يهتم بذهولها وهو يتابع بأكثر جدية (و إن أردت رأيي فأنا أفضل أن تسكنين في شقةٍ بعمارة بها العديد من السكان عوضا عن سكنك كفتاةٍ وحيدة في بيت واسع و المسافة بعيدة بينك و بين جيرانك).
مرة أخرى تاهت في هذا المخلوق الهابط عليها من القمر، فتابع مالك (أما عن تلك الفترة المؤقتة لحين الإنتهاء من المشروع، فأنا كان لدي اقتراح، بل هو بالأصح طلب من شخص عزيز على قلبي، أتتذكرين أحلام التي عرفتك عليها؟، لقد طلبت مني أن أبلغك بأنها تتمنى لو تقيمين معها لحين الإنتهاء من المشروع، فما رأيك؟).
دُهشت أثير مما سمعته و ارتبكت بشدة، ثم همست بتلعثم (لكن، لكن، لا أستطيع أن أفرض نفسي على شخص غريب بمثل تلك الوقاحة)
رد مالك بحزم (صدقيني هي من استحلفتني بالله أن أحاول اقناعك، فقد فُتح قلبها لكِ منذ اول لحظةٍ رأتكِ فيها وهي تتمنى لو تمكثين لديها بعض الوقت).
ارتبكت أثير أكثر وهي تنظر إلى أصابعها لا تعلم أين الصواب، لكن أي بديلٍ لديها الآن؟، و حين طال صمتها أدرك مالك أنها واقفت بالرغم من الحرج الذي تشعر به، لذا قرر أن يقطع عليها الحرج وهو يستقيم في وقفته ليقول مبتسما (أنا يجب أن اذهب الآن، أراكِ لاحقا)
لكن و قبل أن يدخل سيارته نظر اليها يقول عابسا (أم صابر؟، أداء مفتعل و مكشوف للغاية).
ضحكت أثير رغما عنها، و للمرة الثالثة، نطقت بأول ما خطر على بالها دون أن تستطيع أن تمنع نفسها (مالك، هناك شيئا ما جديد طرأ عليك و يبهجك، لما لا تبهجني معك؟)
توقف مالك عند باب سيارته و هو ينظر اليها بابتسامة راضية، مرتاحة، ثم قال بقناعة جديدة تماما (لقد خطبت ابنة عمي).
دوي عالٍ قصف أذنيها، وهي تتطلع اليه مبتسما راضيا، للحظاتٍ طويلة تسمرت مكانها و ابتسامتها ترتجف بشدة دون أن تختفي، و بوادر قطراتِ دمعٍ ندية بللت عينيها دون أن تسمح لها بالهبوط، الى أن همست أخيرا بشرود و كأنها في عالمٍ آخر (مبارك، مبارك لك، أنت تستحق كل شيء جميل في هذه الحياة).
اتسعت ابتسامة مالك وهو ينظر اليها بامتنان، ثم رفع يده بتحيةٍ عسكرية ليدخل سيارته و ينطلق بها، تاركا خلفه قلبا تحطم إلى شظايا ينظر في اثره…
دخل مالك بيتهم القديم وهو يتطلع إلى اركانه بنظراتٍ جديدة، بروحٍ مختلفة، بحياةٍ أخرى، اخذ يدور في فيه و كأنه يراه للمرة الأولى، نعم هي بالفعل المرة الأولى، . كيف لا و قد نوى أن يجعله عش زواجه، و أكيد حنين لن تمانع بل ستسعد بأن تعود لبيت طفولتها، لو كانت فتاة أخرى لطلبت بيت في أرقى المناطق، أما حنين فستعيش معه هنا و ستسعد بذلك، لو أرادت فسيجهز لها أرقى بيت، لكنهما سيعيشان هنا و يستبدلان الذكريات الحزينة بأخرى سعيدة، سيملآن البيت أطفالٍ مرحين طريفين كأمهم، لا يكاد يصدق الإحساس بالرضا الذي يشعر به حاليا، لماذا لم يخطر الأمر بباله من قبل، حتى أنه رفض قاطعا ما أن عرضت أمه الأمر عليه، على أغلب الظن أن اسم حنين ما أن تحرر من اسم جاسر حتى اقترن في بيتهم باسم عاصملذا كانت الفكرة مرفوضة لديه تماما حتى أنه ذهل من طلب أمه وقتها، لكن ما أن أصبح أمرا واقعا، حتى شعل تفكيره من يوم أن خطبها، سنوات طويلة وهو يشعر بالذنب ليس فقط من أجل نوار بل من أجل حنين التي تحملت الذنب كله على عاتقها وهي لا تتعدى كونها طفلة، بينما ظل هو صامتا متخاذلا، لماذا لم يفكر في أن يبنى لها حياة جديدة ليحاول اسعادها بها بدلا من البكاء على الأطلال، و الآن، الآن، يشعر بارتياحٍ لم يعرفه منذ فترةٍ طويلة، سيسعدها و سيجعلها أما لتشبع روح الحنان المتدفقة لديها، بالفعل كل ما حدث كان خيرا لهما معا، ياااااه، يشعر بأن الألم لديه يقل كثيرا عما مضى، أخرج مالك من جيب سترته علبة مخملية مربعةٍ حمراء، ضحك بمرحٍ وهو ينظر اليها، من شدة تحمسه ذهب لينتقي شبكتها بنفسه، ستقتله روعة ما أن تعرف أنه تجاوزها في أمرٍ جلل كهذا، لكنه لم سيتطع التأخر في البدء بحملة اسعاد حنين، لقد انتقى لها طقما ذهبيا من سلسالٍ و اسوارته و خاتميه، متجاوزا الخواتم الماسية، فهي لا تليق بحنين، حنين يليق بها شيئا شرقيا عربيا يبرز معدنها الأصيل، دخل مالك مسرعا الى بيتهم حيث وجد أمه جالسة تبكي و تنتحب بمرارةٍ وهي تضرب صدرها ووجنتها بينما صبا تبكي هي الأخرى و هي جالسة على ذراع مقعدها تحتضنها بقوةٍ بين ذراعيها، اسرع مالك اليهما وهو يقول بانفعال و قلق (ما الأمر يا أمي؟، ماذا حدث؟، تكلمي يا صبا).
لم ترد أمه وهي تشهق باكية بينما استقامت صبا و هي تعدل من حجابها فوق رأسها و تمسح دموعها وتقول هامسة برقة (مالك، للاسف حدث شيء غير متوقع، لكننا لم نتأكد بعد)
ابتلع مالك ريقه وهو يهمس بقلق، محضرا نفسه لخبرٍ سىء (ماذا؟، ماذا يا صبا؟، القلق يقتلني)
نظرت صبا بعيدا عنه و هي تهمس بحزن (حنين، خرجت، حنين خرجت من البيت ليلا، و جاسر اتصل صباحا بعاصم ليخبره بأنهما تزوجا ليلة أمس).
للحظاتٍ لم يستوعب مالك ما سمع، وهو ينقل نظره بين صبا و بين أمه المنتحبة، ثم دون كلمةٍ استدار ليخرج من البيت مسرعا تعقبه صيحات أمه المنادية باسمه بلوعة…
ركب مالك سيارته وهو يشعر بضيقٍ في تنفسه. ففتح أزرار قميصه قليلا، الى أن وصلت أصابعه الى العلبة المخملية، فأخرجها ليرميها على المقعد المجاور وهو ينظر اليها بلا تعبير، شاعرا بكرامةٍ مهدورة، و رجولةٍ مكسورة…
كان جالسا على السور الخشبي لساحة ركوب الخيل من بعيد، يرمقها بنظراتٍ تشبه نظرات الضباع، خاصة و أن لون عينيه الشفافتين أبرز النظرة بوضوح و أسنانه التي غرزها في شفته السفلى و هو يرمقها من أولها لآخرها جعلته مكشوفا تماما، وهو يعلم بذلك و لا يهتم، فرامز الدالي ينظر إلى بستان الورود كما يحب، لحين أن يختار يختار أكثر الورود صعوبة و اكثرها إحاطة بالاشواك، حتى يشعر بتلك اللذة التي لا تقاوم حين يقطفها أخيرا، جاءت من خلفه شابة تتهادى بانوثةٍ و ارستقراطية و هي ببنطال ركوب الخيل الضيق، تنقل نظراتها بامتعاض من رامز الى الجهة التي ثبت عينيه عليها، ثم قفزت لتجلس بجواره وهي تستند بذراعها إلى كتفه هامسة في اذنه بنعومة (نظراتك مكشوفة جدا للجميع).
لم يلتفت اليها. لكنه ابتسم بعبث دون أن يرفع عينيه عن القوام الملفوف الذي يتمايل خلف طفلٍ صغير، ثم قال بثقة زائدة ولا مبالاة (فلتكن مكشوفة، ليس هناك قانون يمنع النظر للجمال)
تنهدت الشابة بامتعاض وهي تقول بتمطع (ذوقك أصبح شعبيا جدا يا رامز)
التوت ابتسامته و هو يقول بعد فترة؛ (وهل هو ذوقي وحدي؟، إنها تقلب أي مكان رأسا على عقب ما أن تمر به).
نظرت تلك الشابة الى حور من بعيد وهي تمشي خلف ابنها الذي يجري عشوائيا، تنفض شعرها الأسود الطويل بين حينٍ و آخر، ثم قالت بفتور؛ (لأنكم الرجال محدودي الأفق. ما أن ترون شيئا مختلف حتى تلهثون خلفه، و أعني بشيء هنا أي شيء مؤنث بالطبع)
ضحك رامز بخفوت و هو يهمس شاردا فيها من بعيد (وهي مختلفة بالفعل، لها روح مميزة تجعلها و كأنها هاربة من أحد أفلام الحارات القديمة).
ثم عض على شفته وهو يهمس (كم أحب أن أراها بوشاحٍ ذو زينةٍ و دلاياتٍ ذهبية، ينسدل شعرها من تحته، ليكمل صورة خلخالها و أساورها التي ترن أينما ذهبت لتعلن عن وصول الملكة)
امتعضت اكثر و اشمأزت من الصورة الغريبة وهي تتعجب من تفكير بعض الرجال، التفت اليها رامز يواجهها وهو يقول (الستِ من صديقاتها المقربات؟، اريدك ان تمهدي الطريق لي).
ارتفع حاجبيها بدهشةٍ وهي تهتف (أي طريق؟، أنسيت أنها متزوجة؟، وذلك هو ابنها الذي يرافقها في الآونة الأخيرة، ثم أننا صحيح كنا صديقات و المجموعة كلها لكن لمجرد انها كانت نموذجا مختلفا، لكن أيا منا لم تحاول التداخل مع أسرتها لأنها اسرة تخجل أي من يعرفها على الرغم من ثرائهم، حتى دانا الراجي لم تستطع الصمود و فعلت خيرا بالانفصال عن شقيق حور، واحدة منا فقط هي من تداخلت مع أسرة حور بالكامل حتى صارت و كأنها فردا منهم. وهي رنيم، الا إنها كانت غبية و بسيطة التفكير من يومها).
تأوه رامز بنفاذ صبر وهو يقول (الكثير و الكثير من المعلومات التي لا تنفعني بشيء، من آخر الأمر، أريدك أن تمهدي لنا الطريق معا ثم تخرجي منه، ولا تنسي أنكِ مدينة لي بخدمة. أم نسيتي وائل رشدي؟)
مطت شفتيها وهي تقول (الموضوع لم يفلح بكل حال من الاحوال، لكن بالنسبة لحور، هي متزوجة، افهم يا أحمق).
رفع رامز احدى حاجبيه وهو يقول بلهجةٍ ذات مغزى (وهل هي أول مرة؟، ثم أن، صديقي الروسي الذي اعجبتِ به من قبل يريد رفيقة له في سبق الدراجات البخارية و أنا أفكر في ترشيحك، فما رأيك؟)
برقت عينا الفتاة ببريقٍ يعلمه رامز جيدا و ليس غريبا عليه. ثم قالت وهي تتظاهر بالتفكير و الإستنكار (ماذا تريد أن تعرف؟)
ابتسم رامز بانتصار وهو يجيب بهدوء (بداية ممن هي متزوجة؟، هل هو شخص نعرفه هنا؟).
هزت الفتاة كتفيها وهي تقول (كان يأتي إلى هنا على مراتٍ متفرقة قبل أن يتزوجها و إن كانت مراتٍ قليلة، هو طبيب من أسرة معروفة لكنه لا يحب الاختلاط كثيرا، و منذ أن تزوجها لم يعد يأتي، و بالمناسبة لقد كانا منفصلين لمدة عامين تقريبا و على وشكِ الطلاق، لكنى عرفت أنها عادت اليه مؤخرا، أي أن طريقك مسدود)
شرد رامز في حور بعيني قناص وهو يقول بهمسٍ غريب (رامز الدالي لا يعرف الطرق المسدودة).
نظرت الفتاة إلى حور هي الأخرى ثم قالت (لكن يجب أن أخبرك أن حور ليست من نوعية النساء اللاتي عرفتهن، أعتقد أنها معقدةٍ أو شيء ما، فهي لم تكن على علاقةٍ بأي شابٍ أبدا، كثيرون كانو يتمنون و لو نظرة منها و هي كانت منفتحة و جريئة دون أن تمنح أحدهم ولو تلك النظرة التي تمناها، وكأنها كانت تستمتع برؤية رعاياها يلهثون من حولها تعويضا على نقص بيئتها و تربيتها).
كان رامز تائها في حور التي تبدو بهالةٍ ساحرةٍ و الشمس تغرقها فتكاد تضيع ملامحها عن عينيه لتجعله ينظر إلى جنية ذهبية من بعيد، فتابعت الفتاة تقول بسخط (ماعدا نادر زوجها، هو الوحيد الذي ما أن رأته حتى عقدت العزم على أن يكون لها و بالرغم من أنه لم يكن يطيقها في البداية لكنها و كأنما عملت له عملا كما يقولون و اصبح ملكها في يوم، حتى أننا تعجبنا من أين أتت بمثل تلك الخبرة و لم تكن لها أي علاقاتٍ من قبل).
و أخفت عنه لنفسها أنها كانت معجبة بذلك الطبيب الرزين و كانت تنوى الفوز به لولا أن حور سبقتها، ابتسم رامز بشرود وهو يهمس لنفسه (عملت عملا لتسحره، ليأتي عند قدميها طائعا، المغوية الساحرة، أما أنا فقد عقدت العزم على أن تعمل لي عملا لتغويني به الساحرة)
عقدت الفتاة حاجبيها و ارتعشت قليلا من الهمس الشرير، فقالت بقلق؛ (بماذا تهذي؟).
نظر اليها بغموض ثم قال بلهجته الغريبة (لا تشغلي بالك، المهم، لقد تعرفت اليها بطريقةٍ عابرة ثم تسربت من بين أصابعي في لمحة بصر، أريدك أن تمهدي لنا لقاءا عفويا، لأني لا أريد أن اشعرها برغبتي فيها الآن).
ابتسمت الفتاة وهي تنظر لحور، شيئا ما بداخلها كان يشعر بانتعاشٍ من نوعٍ ما، وكأنها ستلوث شيء يستحق تلويثه، فكيف تكون حور ببيئتها السفلى، دون أي نواقص او زلاتٍ كالكثير من أبناء طبقتهم الراقية، بل على العكس، حور هي أول واحدة يجب أن تكون لها زلاتها التي تتعدى هز خصرها بكثير، تعبت حور من الهرولة خلف معتز و شعرت بالحر وهي أشد ما يضايقها الشعور بالحر، فتركته يجري حول نفسه مستمتعا بالشمس لتذهب الى مقعدٍ قريب و جلست تستريح، لا فائدة من تكوين أصدقاء لمعتز، حاولت لكنها لم تستطع ولو ربطه بصديقٍ واحد من سنه، كل الأطفال من سنه يتكلمون و ينتظرون منه أن ينطق بكلمةٍ تثير انتباههم، و بالطبع سنهم الصغير يجعلهم غير مدركين لمعنى الصم و البكم، لذا بعد عدة دقائق يشعرون بالملل من صحبته ثم يجرون بعيدا، و الأصعب على نفسها، هو أنها لاحظت أن بعض الأمهات يشجعن اولادهن على الإبتعاد عنه، ليس لأنه من الصم و البكم، بل لأنه ابن حور رشوانحور رشوان التي كانت تسحر الجميع بمن فيهم صديقاتها اللاتي أصبحن أمهاتٍ الآن، لكن حين يصل الأمر الى أطفالهن فأنهن لا يفضلن أن يختلطو بأطفال الطبقة الشعبية حتى ولو كانو أثرياء، فقد يتعلمون لغتهم و حركاتهم، لذا قررت تجاهلهم جميعا، وهي لن تمنع ابنها من الحضور إلى هنا بسبب تعاليهم القذر، حانت منها التفاتة إلى الأم التي تراها كل مرة تجلس بعيدا وهي تقرأ في كتاب، وهي أيضا تراقب ابنها الذي يلعب وحيدا، الا أن ابنها كان ذو إعاقةٍ ذهنية، كل مرة تجدها في نفس المقعد تقرأ و تمتنع عن مخالطة الآخرين، حيث يبدو أنهم حكمو على ابنها هو الآخر، تنهدت حور بقوة وهي تفكر، هل هكذا اصبحت حياتك يا حور، مرفوضة من الجميع، حتى ابنك ورث نفس المصير، لكن مبكرا، مبكرا جدا، كم اشتاق في تلك اللحظة لأحديثنا القديمة معا، أكثر من أي شيءٍ آخر، على الرغم من أن معظمها كان أكاذيبٍ و تاليفٍ مني، لكنها الفترة التي شعرت فيها بأنك أقرب انسان لي على وجه الأرض، كم اشتقت لصداقتك، لحنانك و أنت تنصحني، لقسوتك حين أعتذر عن خطأ أخطأته في حق نفسي، و على الرغم من أني أموت في كلِ لحظةٍ أتخيل أنني قد آلمتك فيها، الا أنه لو عاد بي الزمن لأعدت نفس القصة، لأنه القدر، القدر الذي ربطك بي و أنت مغمض العينين ابتسمت حور بمرارةٍ وحزن وهي تهمس لنفسها (و يقولون أنني لم أعرف الحب يوما!).
أثناء شرودها، لم تلحظ تلك الفتاة الهيفاء حمراء الشعر و التي جاءت لتجلس بجوارها فجأة، فانتفضت حور تنظر اليهافقالت الفتاة مبتسمة بنعومة (بمن كنتِ شاردة؟)
ابتسمت حور بضيقٍ خفي. ثم قالت بهدوء (مرحبا أسيل)
ابتسمت أسيل بإغراء وهي تضع ساقا فوق الأخرى. ثم قالت بنعومة الأفاعي (لماذا تجلسين بمفردك؟، أين مجموعتنا المصونة؟).
نظرت اليها حور بابتسامةٍ ناعمةٍ وهي تقول بسخريةٍ خفية (المجموعة كلها أمام عينيك هناك، هل ضعف نظرك؟)
و تلاقت نظرات حور بنظرات أسيل في تحدٍ صامت و كأنما أفعتانِ تستعدانِ للهجوم على بعضهما، وكانت أسيل هي أول من ابتعدت بنظرتها كي لا تكشف مشاعرها الدفينة، ثم نظرت إلى البعيد وهي تقول بإعجاب واضح (كم هو رائع).
نظرت حور إلى حيث تنظر أسيل لتشاهد رامز الدالي الذي عرفها بنفسه منذ عدة أيام وهو يعتلي ظهر حصانه و يقفز به الحواجز بمهارة كالفارسفقالت حور بسخرية (هل لازلتِ كما أنتِ تعجبين بأي رجل مفتول العضلات؟، الن تفكري بالاستقرار أبدا؟)
رمقتها أسيل بكرهٍ صامت ثم عادت لتنظر الى رامز لتقول بإعجاب (وهل هذا مجرد رجل؟، أنه أمير، أمير من أمراء القصص على ظهر حصانه).
شردت حور بذكرياتها و ابتسمت حين تذكرت أحلام طفولتها ووعدها بأن تتزوج أمير ليس مثله أميرٍ أبدا، فوق سطح بيتهم، مع حنين، ونوار، انتفضت حور فجأة وهي تستقيم في جلستها تنظر حولها بفزع بعد أن شرد تفكيرها عن معتز، حتى وجدته أخيرا يلعب في أحد الأركان، فأخذت تحاول التنفس بعد أن شعرت بقلبها يتوقف للحظات، بعد عدة دقائق كان رامز يقترب منهما، فنادته أسيل بدلال ليرحب بحور، فذهب أولا الى معتز ليرفعه فوق كتفيه و يأتي به اليهما وهو ينظر اليها مبتسما و يقول (مرحبا يا حور).
ابتسمت له حور وهي تشعر بشيءٍ لا يمكن إنكاره في نظراته اليها، بينما قالت أسيل بدهشةٍ مصطنعة (هل تعرفانِ بعضكما؟)
ابتسم رامز أكثر دون أن يحيد بعينيه عن عيني حور؛ (لقد تشرفت بمعرفتها منذ عدة أيام)
امتعضت أسيل وهي تقول بسخرية (تشرفت؟، اسلوبك أصبح قديم جدا يا رامز).
عقدت حور حاجبيها وهي غير مرتاحة لمسار الحوار، لكنها صمتت و تجاهلت أسيل تماما وذلك أفضل تقدير لها بينما تركز نظرها على يد رامز الذي كان يلاعب شعر معتز الناعم الكثيف، تنحنحت أسيل لتقول فجأة (حور لما لا تأتين معنا إلى سهرة الغد في النادي الدولي، ستكون رائعة و لن تصدقي من سيغني بها)
رفضت حور بسرعةٍ وهي تقول (لا طبعا لم أعد أستطع أن اسهر مثل تلك السهرات، زوجي لن يقبل).
حاولت أسيل الإلحاح اليها الا أن رامز قاطعها بصوتٍ ناعم (لا تضغطي عليها أسيل، إنها محقة، ثم أن ذلك الصخب لا يليق بها)
رفعت حور يدها لتزيح الخصلات الحريرية المتطايرة على وجهها الذي بدا متوردا في الشمس، و نظرت إلى رامز الذي بادلها النظرة بأخرى اكثر سيطرة و تحمل كل معاني تقدير الجمال.
اتجهت أثير بخطواتٍ متثاقلةٍ إلى مكتب الخزينة الخاص بدار الرعاية التي يقيم بها والدها لتحاول أن تقنعهم إن كان بإمكانها أن تؤجل المبلغ الشهري لشهر أو شهرين و تدفعهم معا، يبدو أنها قد تعلمت التسول جيدا، الا أنها بعد فترةٍ وقفت أمام الموظف المختص وهي غير مستوعبة لما قاله للتو، فأعاد مرة أخرى (نعم يا آنسة، لقد تم تسديد مصاريف الدار لستة أشهر مقبلة).
لم تحتج أن تسأله عمن دفع، لأنه لن يخبرها، ولأنها تعرف، ومن غيره؟، اتجهت إلى غرفة أبيها، لتجده جالسا في فراشه كالعادة، مبتسما ناظرا أمامه دون إدراكٍ لمن حوله، فاقتربت منه لتجلس على حافة فراشه وهي تبتسم بينما أغروقت عينيها بدموعٍ حارة، وهي تنظر إلى ذلك الرجل الطيب الذي كان يملأ حياتها لهوا و لعبا، وكانت ضحكاته و نكاته ترافقه أينما ذهب، همست أثير باختناق (مرحبا أبي، لقد تأخرت عليك في الزيارة هذه المرة، أنا آسفة جدا، جدا، كنت أمر بظروفٍ صعبة، وكم كنت بحاجةٍ اليك بجواري).
شهقت أثير بصعوبة لتأخذ نفسها ثم تابعت همسا (كم اشتاق اليك، اشتاق إلى حضنك، صحيح أنني أحضنك كل مرةٍ لكن اشتقت لأن تلتف ذراعيك من حولي و تضمني اليك، اشتقت لأن تخبرني بأن كل شيء سيكون على ما يرام).
سكتت ثم نظرت الى الوجه المحبب الذي لم يفقد بشاشته، و تابعت بأكثر همسا بينما بدأت الدموع في الإنسياب على وجنتيها (لقد وقعت في أكبر خطأ ممكن أن أقع به يا أبي، لقد تعلقت بالنجوم، لكن هو السبب، هو السبب، لماذا جعلني أعيش هذا الحلم؟، ثم تركني لأقع بكل قسوة، بدأت أشك في أنه ليس مخلوقا من القمر، بل هو صخرة، صخرة قاسية تجرح من يعرفها).
أخذت تبكي بصمت ثم ارتمت في حضن أبيها وهي تهمس بنشيجٍ معذب (لقد أهانتني الحياة من بعدكما يا ابي، و قد تعبت، تعبت جدا، تعبت من الشقاء ومن الاهانة ومن الوحدة، تعبت جدا يا أبي، تعبت من الوحدة جدا).
، رفعت صبا أصابعها تتلمس زجاج غرفة العناية حيث ترقد فتحية بوجهٍ شاحب، دمعت عيناها وهي تتأمل الوجه الذي حل محل وجه أمها لسنواتٍ طويلة، ثم همست (أفيقي يا فتحية، أفيقي ارجوك، أنا بحاجتك جدا، يا رب، يا رب أعدها لي).
صمتت لتبتلع غصة في حلقها ثم همست باختناق (ما الذي فعلته بنفسي؟، رميتها بحياةٍ غير حياتها، ببيتٍ غير بيتها، رميت بحالي الى رجلٍ كنت أحارب أمثاله و أحارب شركاؤه، تغيرت كل قناعاتي حتى بت لا أدري الأرض التي أقف عليها، هل انفرط عقد التنازلات يا صبا؟ كيف ستغيرين مبدأك، و كيف ستتقبلينه، بل كيف ستكون حياتك حين تصلان معا لمفترق الطرق).
، أخذت تتلاعب بشعر ابنتها الناعم وهي تريح رأسها على حجرها كما كانت تفعل وهي صغيرة، كانت تتأملها بحبٍ و ترى كل لمحة من لمحات جمالها، ثم همست بنعومةٍ وحنان (ما أجملك حبيبتي، كنت أنتظر أن تكبرين بفارغ الصبر لأنني كنت متأكدة أنكِ ستكونين آية في الجمال، وقد حدث)
ابتسمت رنيم وهي تتنعم بدفء وحنان حجر أمها الجميلة الناعمة، وكلامها الذي يشعرها بأنها أميرة، فتابعت أمها بحزنٍ خفي (هل أنتِ سعيدة يا رنيم؟).
ارتجفت ابتسامة رنيم لكنها ردت بهمسٍ ناعم (طبعا سعيدة يا أمي، لماذا تسألين هذا السؤال؟)
تنهدت الأم وهي تربت على شعر ابنتها برقةٍ ثم همست بحزن (لقد تعبنا أنا ووالدك في تربيتك و منحك كل ما تحتاجه فتاة لتصبح بمثل رقتك و شخصك النبيل، لذا من أبسط حقوقنا عليكِ أن تصري على نيل السعادة).
شردت رنيم بعينيها وهي تفكر، لا أعتقد أنني سأنال السعادة يا أمي، السعادة ينالها الانسان كامل الأوصاف، أما أنا. فمصرة على نيل الرضا، الرضا بواقعي و الرضا بتحقيق جزء بسيط من أحلامي، الرضا بإرضاء غريزة أمومتي حتى و إن كانت لا تقترن بإرضاء انوثتي أو بإرضاء قلبي أو بإرضاء كبريائي، الرضا هو السعادة الحقيقية، وأنا راضية همست بها رنيم بنعومة رغم روحها المنكسرة (؛ الرضا هو السعادة الحقيقية يا أمي، و أنا راضية بنصيبي).
، جلست حور في فراشها وهي تتلاعب بشعر معتز النائم بجوارها، تتأمل ملامحه الشبيهة بملامح والده الجذابة، منذ أن عادت وهي تشعر بحزنٍ يغلف قلبها، بافتقادها شيئا ما، شيئا قويا، أقوى بكثير من ارضاء انوثتها، تشعر بفراغٍ لن يملأه الغزل أو الدلال، تشعر بغربةٍ كبيرة، غربةٍ في بيئتها القديمة، غربةٍ في بيئتها الحالية، غربةٍ في نشأتها، غربةٍ في طفولتها، نفس الاحساس بالغربة الذي عاشته اليوم بين أبناء الطبقة الراقية، كان نفسه الذي عاشته في طفولتها وهي مختلفة في تعليمها و في تربيتها عن أبناء الطبقة الشعبية، غربة مع زوجها، وغربة مع ابنها، كم اشتاق لصداقتك، صداقتك كانت الشيء الوحيد الذي لم أشعر فيه بالغربة أمسكت بهاتفها تنوي مكالمة أمها فربما تجد الراحة عندها، لكنها عادت لتغلق الهاتف بأسى وهي تأخذ ابنها بين أحضانها لتبكي و تبكي و تبكي دون صوت، ودون أن تعلم أن عينين محبطتين حزينتين، خائفتين من المحاولة، تشهدانِ بكائها الصامت من شق الباب الضيق في الظلام، جلست على الأرض في أحد أركان غرفة النوم الجديدة عليها، بثوبها الأبيض، وهي تضم ركبتيها الى صدرها في ظلمة الليل و التي اقتربت من الفجر، سمعت صوت الباب يفتح، وخطواتٍ بطيئة على سجاد الغرفة حتى وصل اليها، فانحنى يجلس القرفصاء امامها يتأملها طويلاٍ بابتسامة انتصار و شعورٍ لا يوصف، ثم رفع يده ليتلمس بأصابعه شفتيها المرتجفتين وهمس بصوتٍ أجش (كم اود لو أدخلك بين أضلعي لتتلاشين بداخلي، لقد انتظرت تلك اللحظة طويلا، طويلا جدا).
سكت ليميل عليها وهو يستبدل أصابعه بشفتيه، ليهمس امام شفتيها بانفعال (لكن قدري الانتظار من جديد، قليلا، قليلا فقط حنيني، حتى تتم المواجهة التي ستحل في لمح البصر، لانني حين أقرر أن تكونين لي بكاملك، لا أريد لأي شيء أن يشتت تفكيري و روحي عنكِ).
لاعب شعر رأسها بقوةٍ وهو يكاد أن ينقض عليها في أي لحظة، ثم نهض من مكانه ليتركها و يغلق باب الغرفة من خلفه، كانت جالسة كتلك الجلسة يوم عزاء والديها، في أحد أركان غرفةٍ متهالكة، تضم ركبتيها لصدرها تماما كما تفعل الآن، لكن الغرفة البالية تحولت لغرفةٍ كغرف القصور، و الثوب البسيط البالي تحول إلى ثوب زفافٍ أبيض، و العزاء تحول الى زواج و اختفت أصوات العويل و النواح، و عم الصمت لتبقى وحيدة في ركنٍ مظلم بثوبٍ ابيض وهي تضم ذراعيها بيديها بقوةٍ…
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية بأمر الحب)