رواية اليمامة والطاووس الفصل السادس عشر 16 بقلم منى الفولي
رواية اليمامة والطاووس الجزء السادس عشر
رواية اليمامة والطاووس البارت السادس عشر
رواية اليمامة والطاووس الحلقة السادسة عشر
لتمتم متهكمة: لا ياحبيبتي أنا اللي هامشي لوحدي، بس مفكرتيش هتروحي السوق أزاي بعد مانا أمشي، ولا هتروحي تشيلي لهم الشنط.
شهقت هناء بصدمة بعدما تبينت ما يترتب عليه رحيل شوقية بالنسبة لها، أما رانيا فقد فقدت تعاطفها مع شوقية، فهي كالمادة المشعة التي يسمم إشعاعها المحيطين بها، وسطوة حماتها ستكون بمثابة صندوق رصاصي يحجب تلك الإشعاعات، ويحمي الناس من شرورها.
❈-❈-❈
جلس زينهم يفرك كفيه بتوتر وهو ينظر للباب بقلق، ليبتسم له ياسر مشجعا: متقلقش ثواني وتيجي، وأنا اتفقت مع مديرة الدار تسيبكم تتكلموا براحتكم.
ثواني معدودة ووقف مشدوها لايصدق أن تلك الفاتنة هي صغيرته، لينتبه على نحنحة ياسر يخبره بانتظاره بالخارج، غض بصره لا يعلم كيفية التصرف بموقف كهذا، كان ينتظر صغيرته تجري نحوه، تتدلل عليه طالبة الحلوى كعادتها، لتدخل عليه أنثى خجلة تتطلع إليه بحياء، ليزداد تشتته وهو يستمع لصوتها الشجي: أزيك يا زينهم.
تمتم متوترا: أزيك يا يو..أية، أزيك يا أية؟
نكست رأسها تبتسم بخجل وقد تذكرت تدليله لها، لتموت ابتسامتها ويتجهم وجهها: حقك عليا يا زينهم.
اندفع يجيبها بحمية: ليه هو أنت كنتي غلطتي في أيه، هو اللي راجل ** وأنا رجلك وكان طبيعي أدافع عنك.
ابتسمت بخجل لكلماته وهي تسأله بتوتر: يعني مش زعلان مني؟
تمتم برضا: لا طبعا ده مكتوب، هو عمره كده، وأنا نصيبي كده، وأنا دورت عليكي ياما من يوم ما خرجت.
ابتسمت بسعادة: صاحبك قالي وقالي كمان أنه لما لاقاني جيه يطمن أني أنا الأول عشان ميعشمكش، لأنك هتزعل قوي لو مطلعتش أنا.
ابتسم ممتنا لياسر: الحمد لله، أنا عايزك متشليش هم من هنا ورايح، وأول ما تطلعي من هنا هتلاقيني مستنيكي.
همست بخجل: ربنا يخليك ليا.
تنحنح مضطربا وقد مست رقتها شيئ بداخله: بس هو في حاجة كده كنت محتاج أكلمك فيها.
نظرت له باهتمام: قول.
تحشرج صوته وخرجت كلماته مبعثرة: يعني احنا مش هينفع نعيش مع بعض في بيت واحد زي زمان، عشان كدا ياسر صاحبي اقترح… اقترح اننا…
بتر كلماته لا يعرف كيف ينطقها، خشي من ردة فعلها كما كانت ردة فعله عندما حادثه ياسر بالأمر، لقد اعترض على عرض ياسر بشكل قاطع، فكيف له أن يتزوج بطفلة كانت بمثابة أخته الصغرى، أخته التي كان يطعمها ويدرسها ويدللها؟ أعتقد لحظة سمع ياسر أن الأمر منافي للطبيعة عامة ولوجدانه خاصة، انها مجرد طفلة كانت لأعوام خلت اخته المدللة، لم يراها يومًا إلا أخته، ولكن من دخلت وتقف امامه ألان شابة مفعمة بالانوثة، هذه ليست أخته أبدا، فهم ألان لما لم يتورع ياسر بعرضه أن يتزوجها، فياسر لم يراها طفلة كما يذكرها هو، بل فتاة ناضجة مكتملة الأنوثة فما الضير من زواجه منها؟ ومن أصلح منه ليتزوجها فيرعاها ويحميها ويكن لها سكن؟
خرج من شروده على نداءها بأسمه بحيرة، فهي خائفة من شروده هذا، فما يمكن ان يكون اقتراح ياسر؟ ما هذا الاقتراح الذي يجعله مشتتا هكذا؟، قررت ان تخرجه من شروده لتتبين الامر، فليس لديها الصبر اكثر وحياتها بعد الملجأ على المحك، فنادته بتوتر وحيرة: زينهم، كمل، ياسر اقترح أيه؟
أخذ نفسا طويلا وجلى صوته: ياسر قلي مينفعش تقعدي معايا زي الأول، غير لو يعني كنا متجوزين، فلو يعني ده هيضايقك، فأنا ممكن أحاول اتصرف، بس أنا قولت اقولك عشان يعني، لو هينفع يعني.
ارتبكت والجمت المفاجأة لسانها للحظات، منذ عرفت بوجوده ومن كلام ياسر تأكدت أنه لن يتخلى عنها، وأنها ستكون بحمايته، واطمئن قلبها، فمن أجدر على بث السكينة لروحها منه هو رجلها، فمنذ كانت طفلة وهو أخوها سندها، حتى يوم الحادثة رغم صغر سنها وعدم فهمها لما يفعله ذلك الرجل القذر، ألا أنها شعرت أنه شيء خاطئ وأنها مرعوبة، ورعبها شلها عن الحركة، فكان هو حاضرا ليرفع عنها الأذى كما كان دوما، لم تنادي باسمه، لكنه كان موجودا ولم يخذلها، بل هي من خذلته ودخل السجن بسببها، أودعوها الملجأ بعد أن فقدت جدتها و قيدوا أخيها، وهاهو يعود اليها طالبا فرض حمايته عليها مرة أخرى وضمها تحت جناحه كما السابق، ولكن ليس اختا صغرى بل زوجة، فهل ستختلف المسميات أذا ما كانت النتيجة واحدة؟، هي ليست صغيرة الأن حتى لا تفهم او تميز الفرق بينهما، فبنات الدار هنا بمعلوماتهن وكلامهن يجعلنا الطفلة عجوز، هي تعي تماما طلبه وكل ما قد يترتب عليها بعدما تصبح زوجته، زوجته كلمة لها وقع غريب لم تتخيله يوما، ولكنها ستقبل لتتمتع ثانية باهتمامه وعطفه ودلاله وأمانه، يكفيها أن يكون بالقرب لتشعر بالراحة والأمان، ولكن كيف ستخبره بقبولها؟ أذن سترمي كلمتها وتهرب، تخضب وجهها باللون الوردي خجلا لمجرد ان لاحت لها كلماتها الموافقة.
طال سكوتها وعدم ردها على طلبه فشعر انها تحاول انتقاء كلماتها للرفض، فقرر رفع الحرج عنها واختصار الموقف، الا أنها باغتته بكلماتها التي تلجلجلت بقولها وهي تفر من أمامه، فكانت نبرتها مختلطة بين شقاوة طفلته المدللة وبين الفتاة الفاتنة التي تعرف إليها للتو: مش أنت بتقول أنك رجلي؟ اللي تشوفه في مصلحتي أعمله.
تسمرت قدميه مكانه متسائلا هل تعني كلماتها تلك موافقتها أم أنه يتوهم.
لينتفض على صوت ضحكات ياسر العابثة: عملت في البنت أيه خليتها خارجة تجري ومش على بعضها، ووشها عامل زي الفروالة.
تنحنح مرتبكا وهو يدافع عن نفسه مبررا: مش أنت اللي قولتلي أني لازم أقولها أننا نتجوز عشان أقدر أخد بالي منها.
ضحك ياسر مشاكسا: لا وواضح أنك خدت بالك منها قوي، وعمال تقولي أختي وأمانة، أتاريك نمس وشكلك كنت خايف لتكون وحشة.
تنحنح بحرج: لا والله أنا بس كنت حاسس أنها يويو، بس لما شوفتها لقيتها واحد تانية، مش حاسس أنها أختي ولا مستغرب أني اتجوزها، خصوصا وهي مكسوفة مني كده، يويو أختي عمرها ما اتكسفت مني.
اجابه ياسر بحكمة اكتسبها بأصعب الطرق: لأنها مش أختك، والعلاقات مفيهاش زي، أيه اللي يخليك فاكر أنك هتشوفها أخت بعد البعد ده كله، والمتربين مع بعض نظرتهم لبعض بتتغير مهما قالوا زي، لأن زي ما قولتك، زي دي وهم كبير ياما أذى ناس.
تفهم زينهم ذلك الحزن بنبرته لمعرفته بما مر به، ليتمتم موافقا: عندك حق.
ربت ياسر على كتفه بود: مبروك يا صاحبي، متنساش بقى تخلي المهندس وهو بيشتغل شقتي والعيادة، يدهنلك شقتك وش نضافة، عشان تليق بالعروسة.
وقبل أن يعترض أو يجادل، ارتفع صوت ياسر مشاكسا: وأهم من الشقة الحق استر على نفسك وأعمل اللحمية، بدل متهرب منك في الصباحية ويبقى موقفك صعب.
أزاح يده عن كتفه بغيظ وهو يتركه وحيدا، مهرولا للخارج وهو يتسائل، لما لا يكف عن مشاكسته.
❈-❈-❈
دلف ياسر لمكتبه بالمزرعة ملقيا التحية على المجتمعين بانتظاره: السلام عليكم، أسف يا جماعة على التأخير.
وقف الجميع يردون تحيته، ليطلب منهم الجلوس وهو يراقب ذلك الرجل الذي يراه معهم للمرة الأولى، ليتطوع غسان بالتعريف بينهم: حضرته المهندس فهمي المهندس الزراعي، بيشرف على المزرعة أسبوع كل شهر.
ابتسم فهمي مرحبا: أزاي حضرتك يا أستاذ ياسر، برغم أن حضرتك شاري المزرعة من أكتر من تلات شهور، لكن مكنش لي حظ أني اقابلك.
ابتسم له ياسر مجاملا: ده من سوء حظي أنا، دايما مكنتش بابقى موجود في وقت الرش، بس عامة خلاص انا بقيت معكم هنا علطول.
هتف غسان سعيدا: أخيرا، خلاص اتنقلت؟
بينما صاح يوسف مرحبا: نورتوا البلد كلها والله.
ليبتسم فهمي مجاملا: أنتوا فعلا نورتوا البلد، يمكن دي أول مرة أقابل حضرتك، بس أنا تعاملاتي كلها مع الفلاحين ودايما بيدعولك بالخير.
أضاف يوسف بحماس: ده حقيقي، فكرة أنك تاخد منهم زراعتهم تبيعهلهم في المنفذ بتاع المركز رحمهم من جشع التجار اللي كانوا بيشتروا منهم برخص التراب.
هتف غسان مؤكدا: ده غير فكرة الخضار المجهز اللي شغل ستات كتير من بيوتها ورحهمهم ذل السؤال، ورفضك أنك تاخد أي نسبة ربح منهم ونسبة التوضيب اللي بتتزود على الخضار الجاهز بياخدوها هما كاملة.
تمتم ياسر مستنكرا: مش طبيعي اني أقاسم ستات غلابة في رزقهم، من شوية بسلة بيفصصوها ولا ملوخية يقرطفوها، وبالنسبة أني باخد هامش ربح بسيط من المزراعين اللي بعرض خضارهم، فده لأني في كل الاحوال دافع تكلفة النقل لمنتجاتنا ونقل منتجاتهم بالمرة مش بيفرق معنا بحاجة، ده غير أن مش لازم يبقى كل المكسب فلوس، بالعكس احنا كمان مستفيدين من تسويق زرعتهم.
تسائل فهمي مندهشا: أزاي يعني.
ابتسم ياسر موضحا: المزرعة عندنا أنتاجها كله حيواني، ووجود مزروعاتهم خلا المنفذ معرض متكامل للمواد الغذائية.
أردف فهمي مؤكدا: كونك تستفيد ميمنعش أن شراك للمزرعة فرق مع ناس كتير، وسهل حياتهم.
ابتسم يوسف مؤكدا: عندك حق، ده غير الدكتور ياسين وعيادته اللي مبتقفلش بابها في وش أي حد، معاه أو ممهعوش.
ابتسم ياسر لذكر أخيه الذي أصر على الانتقال للعيادة بمجرد إعدادها رافضا انتظار انتقالهم معه، ليبدأ عمله بهمة مكتسبا حب الجميع كأنما يغرق أحزانه ببحر العمل مستبدلا حبا ضائع، بحب جميع من حوله.
عاد من ذكرى أخيه للحديث مع الرجال عن المزرعة، لمعت برأسه فكرة طارئة، فامتدت يده بخفة نحو أحد جيبيه، مخرجا ذلك الهاتف الصغير الذي يستخدمه بحالات الطوارئ وفصل هاتفه أو نسيانه، واضعا ذلك الهاتف بأحد الأدراج خفية عن مجالسيه، ليضغط عليه متصلا بهاتفه الرئيسي، الذي ارتفعت نغمته، ليتطلع ياسر لشاشته متظهرا بورود اتصالا ما: أسف يا جماعة هارد على التليفون.
أجاب على اتصال الوهمي بصوت يبدو أنه يحاول أن يجعله خافتا ولكنه واثق بأنه مسموع لمن حوله: أيوه يا شريف أزيك…… تاني يابني أنت مش هتغير تفكيرك ده أبدا…… عارف لو بتقولي أنك عايزها تقعد من شغلها عشان مقصرة في البيت كنت وافقتك، لكن عايزني أقولك أيه وانت بتقول أنك عايز تقعدها من شغلها عشان يبقى ممعهاش فلوس وتبقى محتاجالك، …… مراتك حتى لو مبتشتغلش فطبيعي أن أنت تعملها مصروف وتخليها مش محتاجة لأي حد ولا حتى ليك،…… أنت سامع نفسك أنت مش طبيعي…… يابني أنهي أكرملك أن مراتك تفضل معاك عشان بتحبك ولا عشان محتاجلك….. طيب لو النهاردة أنت ذللها بفلوسك هيبقى الوضع أيه لو بكرة فلوسك أو صحتك راحوا….. خايف تتنمرد عليك أحب أقولك أن عمايلك دي هي اللي هتنمردها، وهي شايفة غيرها عايشة ومتهنية وهي اللي محتاجة ومحرومة….. هي بتحبك دلوقتي لكن حبك في قلبها هيقل في كل مرة هتتسبب في احراجها وحرمانها وهي عارفة أن معاك….. ربنا يهديك يا صاحبي… سلام.
تظاهر بإنهاء مكالمته الوهمية وهو يراقب وجه فهمي الممتقع الذي يدل أن رسالته قد وصلته كاملة، معتذرا بإدب: أسف يا جماعة، كنا بنقول أيه.
ضحك يوسف بمرح: كنا بنرحب بوجودك ما بينا ونقلك لهنا علطول.
ابتسم غسان متحمسا: وأننا أخيرا هنشوف الأستاذ بودي.
ابتسم راميا بأخر سهما بجبعته: طيب بخصوص الأستاذ بودي وأمه، عرفت أن السوق هنا أسبوعي، فلو سمحتوا أول كام مرة المدامات بتاعتكم ياخدوا المدام معهم لحد ما تعرف تروح أزاي.
أجابه غسان بحماس: أكيد دي هتنبسط معهم قوي.
ضحك ياسر مشاكسا: طيب عشان أنا كمان انبسط عرفوني بتدوا المدامات في حدود كام وهم رايحين عشان أديها.
أجابه يوسف ضاحكا: اللي بتقول عليه الحكومة بدفعه وأنا ساكت، وبيبقى مختلف كل مرة حسب الحاجة اللي ناوية عليها.
ابتسم غسان: وأنا أخر واحد ممكن يفيدك، لأني باقبض من هنا واورد من هنا، ولا أعرف خدت كام، ولا هتجيب أيه ألا وأنا باكله.
ضحك ياسر موجها حديثه لفهمي: يبقى مفيش حد هينقذني غيرك بما أنك معظم الوقت مش موجود، بتسيب للمدام كام للسوق، طبعا مقصدش بالظبط، أنا عارف أن كلا ينفق من سعته، ده غير أن عددنا أكبر، لكن يعني في حدود كام بالتقريب.
ارتبك فهمي لسؤاله المباغت، ليتنحنح وهو يجيب كاذبا: زي يوسف بأديها اللي بتقول عليه، [متعجبا] بس ليه تسيبها تروح السوق، واحنا عندنا حاليا كل المنتجات اللي بتتباع هناك، ومتوضبة كمان.
ضحك ياسر مداعبا: هو أنت مش متجوز ولا أيه، الست مبتفرحش غير بالحاجة اللي اشترتها بعد ما لفت السوق كله، مع أنها موجودة في المحل اللي تحت البيت عادي جدا.
شاركه يوسف الضحك: والله عندك حق، تحس أن الموضوع ده ليه متعة خاصة عندهم.
ليعلق ياسر برزانة موجها كلامه ليوسف بينما هو ينظر لفهمي من جانب خفي: حقهم نبسطهم بحاجة بسيطة زي دي، بعد التعب والحبسة اللي هما فيها طول الأسبوع، وزي ما قال رسولنا الكريم، {ما أكرمهن إلا كريم وما أهنهن إلا لئيم}.
ابتسم غسان مصدقا على كلامه: وقال كمان {خيركم خيركم لأهله}.
ارتسمت ابتسامة مرتعشة على شفتي فهمي، لينقذه من ذلك الموقف السخيف رنين هاتف يوسف، الذي انتفض صارخا بمجرد إجابته، ليسأله غسان بقلق: في أيه يا يوسف.
ليجيبه يوسف وهو يهرول للخارج: الحاجة آمنة أغمى عليها.
توتر الجميع، ليخرج ياسر هاتفه وهو يهتف بصوت عالي بغية أن يصله: أنا هاتصل بياسين وأخليه يحصلك.
ليهرول غسان لاحقا بصديقه، بينما فهمي بعالم أخر، يفكر بما سمعه، خاصة وأن هناء ترفض طاعته والذهاب للسوق منذ ما يقرب من الشهرين، وأصبحت دائمة البكاء عازفة عن الحياة، فهل أساء لها وزادها حرمانا بعدما وعدها تعويض ما حرمته قبلا، فأن حرمت فيما مضى بفعل اليتم والحاجة، فأنها محرومة الأن بفعله هو.
❈-❈-❈
انهي ياسين فحصه لتلك السيدة المسنة ذات الوجه السمح، لتسأله تلك السيدة الفزعة: هي مالها يا دكتور.
ابتسم لها مطمئنا: الحمد لله مفيش أي حاجة، هبوط مش أكتر، واضح أن الحاجة مش مهتمة بأكلها وكمان بتجهد نفسها.
بكت السيدة بانفعال مكبوت أثر سقوطها أمامها: والله كل يوم بتتعب نفسها واتحايل عليها ترتاح مش بترضا.
احتواها يوسف بين ذراعيه يربت عليها بحنان: أهدي يا وفاء ما الدكتور أهو قال أنها بخير.
نظر ياسين لوالدة يوسف عاتبا: عاجبك كده يا حاجة، ولا أنت قاصدة عشان تشوفي غلاوتك.
انتبه على ثقل ثبت بساقه فجأة يجذب بنطاله لأسفل برقة، تطلع لمصدر الجذب ليرى ذلك الكائن الملائكي الرائع، بقامته القصيرة، وعيونه البريئة المائلة للأعلى تعتلي أنف مسطح دقيق ولسان بارز، يحتفظ ببقايا شيكولاتة كان غلافها قد التصق ببنطاله، ليجد وفاء تسرع إليه بغية حمل الصغير، فيسبقها لذلك محتضنا أياه.
بينما وفاء تنظر لبنطاله الملطخ بالشيكولاتة متمتمة بحرج: آسفة، هدومك اتوسخت.
نظر لقميصه الذي اتسخ بدوره أثر احتضان الصغير له، ليبتسم بسعادة غامرة وهو يشدد من احتضان الصغير: فداه الدنيا كلها.
ابتسم له الصغير بحب وهو يمسح خده على كتفه، ذاب قلبه حبا له تمنى لو يدخله لقلبه، محتضنا أياه بضلوعه، أو أن يسمحوا له باصطحابه معه، نعم أحب ابن شقيقه، ولكنه شعر بأن ذلك الصغير قد آسره برقته وبراءته، تلك البراءة التي أشفق عليها مما ستواجهه في هذا المجتمع الريفي، الذي لا يجيد التعامل مع من هم مثله الذين يحتاجون للبيئة المحفزة والدعم الإيجابي، كما لا تتواجد به مراكز التأهيل التي تمتلك رعاية صحية جيدة، وبرامج تعليمية مناسبة، التي تمكنهم من عيش حياة منتجة والمساهمة في المجتمع بعدة طرق رائعة.
غمغم بصوت خافت وهو يمسح له أثر الشيكولاتة بمنديله الخاص: هو مين كشف عليه من دكاترة القلب.
نظرت له وفاء التي احتبس الدمع بأعينها متأثرة بحنانه الجم على الصغير الذي لا يلاقى عادة من الغرباء سوى النفور، وغمغمت بصوت متحشرج: لا هو مكشفش قلب، هو مبيشتكيش من حاجة الحمد لله.
خشن صوته عكس رقته في وضع الصغير على ساقيه يفحصه باهتمام: أزاي كده، المفروض كان اتعرض على دكتور يطمنا عليه، نص أطفال متلازمة الحب بيتولدوا بعيوب خلقية في القلب، أنا هاطمن عليه.
كادت تخبره بأنها قد اجرت له فحص شامل بعد ولادته مباشرة، ولكنها صمتت وهي ترى اهتمامه الجلي بالطفل وفحصه الجاد له، شكرت له بداخلها اهتمامه على هذا النحو بصغيرها، كما شكرت له ذلك المسمى الراقي الذي لا يستخدمه كثيرون، لكنها تطلعت له متعجبة، لا تفهم سر اهتمامه، ولما ذكر نفسه ضمن من يجب طمأنتهم على الصغير، لتتسع ابتسامتها وهي ترى ضحكات الصغير ولهوه بالسماعة الطبية.
❈-❈-❈
توقفت سيارة الترحيلات أمام سجن النساء، لتترجل كلا من نجوى وسلوى لتدفعهما تلك السيدة الشرسة أمامها، وهي تنهرهما: يالا ياختي أنت وهي مش ماشيين على قشر بيض.
علا نحيبهما لتتهكم عليهما أخرى: يا أختي صغنن أنتوا بتعيطوا، أشحال أن ما كنتوا قتالين قتلة.
صرخت بها سلوى بقهر: والله هو اللي حاول يعتدي على أختي، وأنا كنت بالحقها، مكنتش اعرف أنه هيموت.
سألتها أحدهم بفضول: ما أنا كنت معاكي في الجلسة وتقرير الطب الشرعي قال أن أختك سليمة ومحدش لمسها.
تذكرت نظرت الحاوي الشامتة لها، وهو يقدم التقرير وكأنما يثبت قوة علاقاته التي شككتا بها من قبل، لينتهز فرصة توكيل خلود له بمقتل ابنها على يدها.
لكزتها تلك الشرسة: بطلي يا بت شغل التمثيل ده، ده مرات أبوكي الغلبانة قلبها كان هيقف من كتر صريخها ودعاها عليكم.
لتتسائل أخرى بفضول: هو صحيح انتو كانتوا بتسرقوا الصيغة عشان تهربوا من جوازة الرجل الكبير، ولما عكشكم قتلتوه.
حاصرتهم التساؤلات والاتهامات لينكمشتا على بعضهما بخوف، تتميان أن يكونا ما تعيشانه الأن مجرد كابوس، لا تصدق أيا منهما أن تلك هي النهاية.
❈-❈-❈
احتسبت الدموع بعيني تلك الشابة وهي تستمع لكلمات شوقية المسمومة: ماهو من خيبتك، دي شيلته هو ومسئوليته لوحده، ولا هو جوزك بالشخط والنطر بس.
اجابتها الشابة بانكسار: يعني أنا غلطت أن حسيت بيه وحاولت أهونها عليه.
ابتسمت شوقية متهكمة: وأدي النتيجة، أهو بلطلك في الخط، وبقيتي ملزمة تحطي فلوسك في البيت بدل ما توسعي على نفسك، وتجيبي اللي نفسك فيه.
اشتعلت عيني الشابة بالغضب هادرة: وأنا أيه اللي يلزمني، من هنا ورايح كل واحد يدور على حقه.
ابتسمت شوقية بسعادة، لتتحول ابتسامتها لشهقة فزعة وهي تستمع لصوت تلك السيدة الهادر: كسر حقك منك ليها، أنت يابنت يا عبيطة سايبة ابنك بيعيط، ومسلمة ودنك للست هانم هنا.
انتفضتا كلاتهما لتبرر الشابة بضيق: يا ماما أنا كنت بفضفض.
نهرتها السيدة بحزم: على مين يا هبلة على جوزك أبو عيالك، ده أنا سامعة الكلام من الأول وواقفة هاتجنن وأقول دلوقتي تحترم نفسها وتدافع عن الراجل اللي شايلة أسمه لكن أنتي سيباها نزلة فيه مرمطة.
أجابتها الشابة مبررة: ماهي عندها حق برضو يا ماما، ماهو برضو مكبر دماغه ومبلط في الخط.
صاحت بها أمها زاجرة: هو مين ده اللي مبلطلك في الخط، جوزك المحترم اللي كان ناقص يجيبلك حتة من السما.
أسرعت شوقية تؤيد قولها: كان يا حماتي، لكن دلوقتي رامي الحمل عليها.
نهرت الأم ابنتها بحدة متجاهلة تدخل شوقية: يا بنتي جوزك نصيبه كده، حظه أن الطيران يتقفل وهو هنا في إجازة، يبقى تحمدي ربنا أنه في وسط عياله ولا تنكدي عليه عيشته.
لم تحرى الشابة جواب، فاستطردت الأم: جوزك مهندس بترول وشقي واتغرب عشانكم ومع ذلك لما لاقى نفسه هنا مسكتش وراح أشتغل مع جوز أخته عشان ميقعودش في البيت.
تمتمت الشابة بتردد كأنما صدى كلمات شوقية مازالت تتردد بعقلها: ماهو واجب عليه برضو يدور على شغل أحسن من ده.
أجابتها أمها بتعقل: يا بنتي ده حال المرتبات في مصر، ومهما اشتغل عمره ما هيدخل اللي كان بيجيبه من الخليج، وبعدين اللي مزنق الدنيا كده أقساط الشقة اللي أنت صممتي يشتريها، ولسه قدامه سنين عقبال ما تخلص.
زاغت عيني الشابة وهي تتذكر رفض زوجها لشراء هذه الشقة الباهظة الثمن وإصرارها وقتها، لتضعها والدتها أمام حقيقة ثانية: وبعدين هو المشروع اللي فرحانة بفلوسه ده فتحتيه منين، مش من فلوس الدهب اللي هو اللي جايبه أساسا، يعني كله من خيره.
نكست الشابة رأسها خزيا وهي تغمغم: عارفة والله أنا بس كنت متضايقة شوية وبفضفض بكلمتين.
لان صوت أمها: معلش يا حبيبتي، أنا عارفة أن الظروف ضاقت معاكي بس أنت بنت أصول ولازم تقفي جنب جوزك، خصوصا وأنه ملوش ذنب ومش مقصر، ولو كان مبلط فيها زي ما بتقولي كنت أنا وأخوكي فضل اللي وقفنا له وجبنالك حقك.
تقشعت سحب غضبها، لتلوح سماء رضاها: عندك حق يا ماما.
ابتسمت لها والدتها برضا وهي تخبرها ناصحة: ربنا يهديكي يا حبيبتي، وبعدين أحمدي ربنا، تخيلي حتى لو كمل في شغله، كان الحال أيه لو جاله كورونا وهو هناك لوحده.
اندفعت الشابة بلهفة: بعد الشر، الحمد لله على سلامته ومش مهم أي حاجة تانية.
ابتسمت لها والدتها بحب: ربنا يحفظكم يا حبيبتي، [لتحتد نبرتها ثانية وهي تنظر لشوقية شزرا ] وبعدين يا حبيتي لما تحبي تفضفضي بكلمتين زي ما بتقولي يبقى تختاري حد يكون عاقل ويحبلك الخير.
تحمحمت الفتاة بحرج من تلميح والدتها، بينما أكملت والدتها وكأنما لم تقل شيئا: يالا بقى نروح نشوف حبيب سته، لاحسن كان بيعيط بس أنا راضيته.
تحركتا للخارج لتتركا شوقية وحيدة تكز على أسنانها بغضب، لتطلق سبة نابية بمجرد ابتعدهما، وهي تلعن حماتها التي تحاصرها وتمنعها من أبداء الرأي، وتحرمها تلك المكانة التي تستحقها من هي بمثل ذكاءها وحيلتها.
❈-❈-❈
نادت دعاء ياسر وهي تمسك بتلك اللفافة التي تفوح منها رائحة شهية: ياسر تعالى نزل الأكل لدكتور ياسين يا حبيبي.
جاءها مبتسما وهو يشكرها: تسلم أيدك يا حبيبتي.
ابتسمت له بحب: متتأخرش عشان جعانة وهاستناك.
أجابها متآففا: أكيد هيأخرني زي كل مرة ويغلبني عقبال ما يرضى ياخده، ويقعد يقولي ما انا قولتلها متتعبيش نفسها وأنا ممكن أكل أي حاجة.
اعترضت بحسم: لا طبعا، مش كفاية أنه عايش في العيادة لوحده، وكمان مبيرضاش يطلع ياكل معانا، كمان هنسيبوه يدور على أكل، احنا مش في القاهرة عشان يتصل بالدليفري.
قبل يدها ممتنا لطيبة قلبها وهو يغمغم بحرج: هو محرج منك بعد اللي حصل ومش هايقدر يواجهك يوميا، ده ساعات بيقعد يسألني أذا كنتي سامحتيه فعلا ولا لا.
التقطت نفس عميق قبل أن تتمت بصدق: مش هاكدب عليك وأقولك أني نسيت اللي عمله، لكن أنا بجد سامحته كفاية وقفته معانا يوم تعب بابا، ده غير حبه ليك ولعبد الرحمن وخوفه عليكم.
قبل وجنتها بحب وهو يغمغم برضا: ربنا يبارك لي فيكي ويديم لنا طيبة قلبك، أنا هانزل علطول أهو، عشان الحق أطلع قبل ما الأكل يبرد.
تابعته بنظرها وهي تدعو الله أن يمحو أي أثر سيئ بنفسها، فالأحقاد تأذي حاملها قبل أن تأذي من حملت تجاهه.
❈-❈-❈
تطلع يوسف بدهشة لذلك الذي يقف ببابه وهو يحمل العديد من اللفافات ذات الألوان الزاهية، ليتنحنح ضيفه بحرج: مساء الخير يا دكتور يوسف.
نحى يوسف دهشته جانبا وهو يجيبه مرحبا: أهلا يا دكتور ياسين.
تمتم ياسين بخفوت: أسف لو جاي في وقت مش مناسب، بس كان لازم يكون حضرتك رجعت من الشغل، وطبعا لو مكنتش رديت على التليفون أو أعتذرت كنت هارجع.
ابتسم له يوسف بود: مفيش أي مشكلة حضرتك اتصلت وأنا رحبت بزيارتك، ملوش لازمة الأعتذار.
أجابه ياسين بارتياح: تسلم، بس أصلي كنت عايز أطمن على الحاجة.
ابتسم له يوسف شاكرا: أحسن كتير، شكرا لذوقك يا دكتور.
ليتفاجأ بلهفة ياسين وهو يسأله: أمال فين مهاب؟
أجابه يوسف ببساطة: نايم، هو في حاجة.
أجابه ياسين محبطا لعدم رؤيته: كنت جايب له معايا هدية.
وسرعان ما عاد له حماسه وهو يفض تلك اللفافات الملونة شارحا كلا منها بالتفصيل: دي لعبة الحلقات والوتد، زي ما أنت شايف كده، البرج ده ومعه الحلقات بألوان مختلفة وجذابة بتترتب حسب حجمها، ودي لعبة عبارة عن لوح مفرغ عليه أشكال هندسية المفروض هو بيحط الشكل في المكان المناسب، واللعبتين دول بيزودوا عنده القدرات الإدراكية، والبصرية، والحركية.
فاضا غلافا أخر وهو يستطرد: ودي مكعبات، وبيركب منها أشكال، وممكن بمساعدة صغيرة يكون أشكال جميلة، ودي لعبة موسيقية بيدوس على الزراير هنا فبتطلع أصوات معينة، وبعد فترة هو بيقدر يحدد الصوت اللي بيطلع من كل زرار.
نظر يوسف لكل تلك الأشياء معترضا: أيه ده كله يا دكتور، حضرتك كلفت نفسك زيادة عن اللزوم.
غمم ياسين بسعادة وهو يخرج أخر هداياه: لا تكلفة ولا حاجة، مفيش حاجة تغلى عليه، وبعدين دي أخر حاجة، بطاقات بألوان مختلفة عليها صور للحيوانات، بتعلي إدراكه بالألوان وصور الحيوانات.
غمغم يوسف متحفظا، فهو لا يحب المبالغة بأي أمر: شكرا لذوقك يا دكتور، اتفضل عشان تشوف الحاجة.
وافقه بفتور ينبأ بأن الأطمئنان على والدته مجرد حجة واهية لحضوره، ولم يخيب ياسين ظنه وهو يتجه مباشرة لهدفه من الزيارة، وهو يتسائل بحرج مغلف بلهفة وشغف: هو أنا ممكن ابقى أجي العب معه باللعب دي؟
❈-❈-❈
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية اليمامة والطاووس)