روايات

رواية الصمت المعذب الفصل السادس 6 بقلم نورهان ناصر

موقع كتابك في سطور

رواية الصمت المعذب الفصل السادس 6 بقلم نورهان ناصر

رواية الصمت المعذب الجزء السادس

رواية الصمت المعذب البارت السادس

الصمت المعذب
الصمت المعذب

رواية الصمت المعذب الحلقة السادسة

قيل لأحد الصالحين:
‏ ما سِرُّ السكينة التي تعتريك؟
‏ قال : قرأت ﴿ يُدَبِّرُ الأَمْرَ ﴾ فتركت أمري لصاحبِ الأمر.
‏ وقرأت ﴿ إِنَّ مَعَ العُسرِ يُسرًا ﴾ فأيقنت أن العُسر زائل
‏وقرأت ﴿ فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ فأدركتُ أن خيرَ الله قادم لا محالة.
♥ استغفروا ♥
_________________________
أتت ملك تحمل بيدها صندوق الإسعافات تضعها في منتصف الفراش ، وهي تخرج الضمادات وبعض المعقمات وأيضًا إبرة الخياطه ، نظرت ليده التي بين يديها وسقطت دموعها بقوة ، لم ينتظر أحمد ثانية أخرى وكان يبعد ذلك الصندوق يجذبها صوب صدره .
بكت ملك تدفن رأسها في صدره وهي تستند عليه بيديها جعدت أصابعها قميصه وهي تتأوه بحرقه وجسدها ينتفض بشدة ، أغرقت دموعها قميصه ، دموع أحرقت روحه ما إن لامست جسده ، لف أحمد ذراعيه حولها يحتويها وهو يمسح على شعرها مرددًا بأسف وحزن كبير :
_ آسف يا ملك .
ابتعدت ملك عنه تقول بنبرة مغتاظة ، وهي تمسك بوجهه ودموعها تنهمر بقوة:
_ أنت ليه دايما بتقولي ملك ؟؟ مفيش مرة تغلط وتقولي حبيبتي؟ .
انفلتت ضحكه مجلجلة من أحمد وهو يرى عبوس ملامح وجهها وتهكمها الواضح ، أعادها إلى حضنه مرة أخرى ، فرفعت ملك عينيها له تقول مبتسمة بسمة حانقة ترفع حاجبها باستنكار:
_ مش بهزر على فكرة ، أحمد أنت بتحبني ولا لأ ؟؟.
ومجددًا ضحك أحمد بقوة حتى أدمعت عينيه ، الأمر الذي جعلها تنهض بغضب شديد وهي متجهة للخروج ، لتشهق فجأة حينما أمسك بيدها يجذبها صوب حضنه يقول بنبرة عاشقة :
_ يا مجنونة أنا اللي عامل فيا كدا هو إيه غير ……
توقف فجأة وهو يرى نظرات حسان الغاضبة ليتبدل حاله إلى الضيق فجأة يبتعد عنها .
قالت ملك بقلب تتسابق دقاته:
_ أحمد ؟؟.
وصرخ أحمد فجأة بحنق شديد:
_ بطلي تقولي أحمد …. أحمد وابعدي عني يا ملك الدرجة دي ، ومفيش حاجه هتتغير بيناتنا .
قال آخر كلمة بصراخ جعل ملك تنتفض بخوف من حالته وقبل أن تفتح فمها بكلمه ، خرج هو من المنزل بأكمله ، تاركًا إياها تقف جامدة دموعها على خدها .
******
خرج أحمد من المنزل منفعلًا والغضب يملأ وجهه ، صرخات قلبه ونزيفه يقتله ، لم يعد يتحمل ذلك الصمت يعذبه وتلك القيود التي تفرضها عليه ظروفه تحرقه ، ونظرات حسان الذي لا يغادر عقله وضميره الذي يؤنبه ، وصوت بكائها يلاحقه وحزنها الشديد ، ذبلان وجهها وتعاستها ، تعبها ومرضها .
انفطر قلبه ألا يحق له الراحه مثل بقية الناس؟ ألا يحق له أن يرتمي في أحضانها دون أن يشعر بالذنب وأنه يتعدى على حق غيره ؟ أوليست تلك حبيبته هو ، معشوقته التي خسرها بسبب تفكيره الأخرق ؟ هي له من البداية ، يشهد الله أنه حاول إخراجها من عقله ولم يقدر .
كان يؤنب نفسه ويجلدها كل ليلة لتفكيرها فيها وهي امرأة متزوجة ، ولكن كل تلك القيم والمبادئ لا يفهمها قلبه الذي كواه الصمت ألوانًا من العذاب وسقاه كؤوسًا من البؤس والحرمان ، متى سيتوقف حسان عن الظهور له ؟ متى سيتركه وشأنه ؟؟ تلك المرأة التي تركها تبكي هي حبيبته ومن حقه وليست من حق شخصٍ آخر .
وصلت به قدميه إلى النيل الذي يلمع بقوة تحت ضوء القمر ، جلس على الرصيف مهمومًا تعيسًا ، تنهمر دموعه بصمتٍ كأنها تخشى أن تفسد عليه هدوئه .
صدح فجأة صوت الآذان منبهًا كل غافل عن الصلاة ، رفع أحمد بصره صوب المسجد يردد الآذان بصوت منخفض ولسان حاله يدعي بأن يخفف الله عنه وعن قلبه ويعينه على الخلاص من تلك الوصية .
طرأ على عقله فكرة ما نالت استحسانه يطلقها بعد العشرة أشهر ثم يتزوج بها مرة أخرى وهكذا يريح حسان لعله يتركه في حاله ليتنفس قليلًا ، ولكن ماذا إن مات قبل ذلك ؟؟ وهل ترضى ملك أصلًا بك مرة أخرى ؟؟كفاها لقد نالت من العذاب ما يكفي ويفيض دعها وشأنها .
تنهد أحمد بقوة وهو يشد على شعره بغضب ، أتى إليه رجل في أواخر الخمسينات يحمل بيده كوب شاي ابتسم في وجهه وقال :
_ لسه عامله سخن هيدفيك في الجو ده .
ابتسم أحمد له وأخذه من يده واتجه إلى السور الفاصل بين البر ونهر النيل الجميل ، وقف ينظر إلى مياهه وهو يحتسي الشاي بصمت ، حينما تطرق إلى أذنه صوت جميل يبعث السكينة والطمأنينة لنفسه التائهة .
﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ ۗ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ
الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ﴾
أنهى شرب كوب الشاي ثم اتجه إلى الرجل صاحب المحل الصغير والذي يشبه ” القهوة ” بالمصطلح العامي المصري ، لصنع الشاي والقهوة والمشروبات الساخنة ، أعطاه ثمن الشاي وزيادة وشكره ثم توجه إلى المسجد ، خلع حذاءه ودخل توضأ ، ثم وقف يصلي مع المصلين يدعو الله أن يكون معه وأن ينتهي ذاك العذاب ، وبالطبع لم ينسى حسان من دعواته رغم غضبه منه ولكنه يعطيه الحق ويعذره.
وبعد انتهاء الصلاة بقى جالسًا في المسجد ولم يشعر بالوقت يمضي من حوله وهو يقرأ في القرآن الكريم ، شعر فجأة بأحدهم يظلل عليه ، ليتوقف يرفع بصره صوبه ، كان إمام المسجد يبتسم ببشاشة وهو يشير إلى الساعة قائلًا :
_ الوقت اتأخر أوي يا ابني وأنا قاعد مستنيك تخلص علشان اقفل الجامع ، يعز عليا اقولك تمشي وأنا شايفك مستكين ومندمج .
تبسم أحمد بلطف وهو يقول :
_ ولا يهمك يا شيخنا ، أنا فعلا اندمجت ونسيت نفسي ، آسف إني خليتك تستنى كدا واخرتك عن بيتك .
_ ولا آسف ولا حاجه بيت ربنا مفتوح في كل وقت ابقى تعالى دايما ، هنا بمجرد ما تدخل بتنسى همومك وأحزانك وكل حاجه ، ادعي كتير الدعاء بيصنع المعجزات وربنا يريح بالك.
شكره أحمد مبتسمًا ثم سأله قائلًا :
_ معلش يا شيخنا هاخد من وقتك دقايق.
جلس الشيخ متربعًا يقول ببسمة :
_ خد وقتك يا ابني .
جمع أحمد كلماته وقال بنبرة مهمومه :
_ أنا تزوجت أرملة صاحبي بناءًا على وصيته بس هو شرط عليا سنتين بس واطلقها فهل ده جواز صحيح ؟؟.
_ أولًا الوصية هنا غير واجبة لا يلزم الوفاء بها .
ضيق أحمد عينيه بصدمه يردد باستنكار:
_ يعني إيه الكلام ده ؟؟ ازاي مش واجبه ؟؟ أنا سألت شيخ وهو قالي إنها واجبة .
ابتسم الشيخ يقول بنبرة هادئة:
_ مش كل الناس فاهمه الشرع صح يا ابني ، واحنا بشر وبنصيب وبنخطأ ، الوصية أصلا عمومًا حكمها مستحبة بتكون واجبة إذا أوصى الميت بثلث ماله ، أما الوصية بالزواج إن شخص يوصي حد يتجوز شخص معين فدي مش واجبة ولا يلزم الوفاء بها يعني في إيدك تعملها وفي إيدك بردو متعملهاش وليس عليك إثم أو حاجه.
كان أحمد يستمع له ببهوت شديد ، صمت الشيخ يلتقط أنفاسه ثم تابع بنفس الهدوء:
_نيجي لتاني نقطه شوف يا ابني الزواج المحدد بمدة ده باطل وإن تم التوافق بين الطرفين على الفراق قبل العقد ، وحتى لو المدة مش موجوده في العقد بتاع الزواج فهو باطل ؛ لأنه داخل في زواج المتعة والرسول صلى الله عليه وسلم حرمه ، آه في اختلافات ما بين الائمة بس الراجح إنه حرام وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام كالراعي يراعى حول الحمى يوشك أن يقع فيه. من رواية النعمان بن بشير، فده موضع شبهة أصلا والأصح الابتعاد عنها
والله أعلم.
صُدم أحمد بحديثه وابتلع صدمته يردد بتوتر :
_ أنا ما قولتش لوليها إنه جواز لمدة سنتين وكدا واتجوزتها بدون ذكر المدة في العقد حتى هي مكنتش تعرف …..
_ أهو دي المصيبة لانه كدا يعتبر غش و ….
أكمل أحمد سريعًا :
_ لا أنا قولتلها بعد جوازنا إني هطلقها بعد سنتين يا شيخ وعرفتها وهي وافقت تنفذ الوصية كلها بشروطها فهل كدا بردو حرام ؟؟.
رد الشيخ بنبرة هادئة وهو ينصحه :
_ بس أنت عندك النية تطلقها وفي الحاله دي الجواز بيكون باطل ، ليه يا ابني تعمل في نفسك كدا ده أبغض الحلال عند الله هو الطلاق ، بعدين الوصية مش إلزام زي ما أنت فاهم ومفيش إثم عليك لو منفذتهاش ، اتقي الشبهات يا ولدي وتراجع عن الطلاق أفضل …..
تنهد أحمد بحزن شديد :
_ أنا لو عليا يا شيخ مش عايز أطلقها ومش مستعد كمان إني أعملها بس زي ما قولتلك دي وصية ميت وأنا بنفذها أنا عملت كدا ؛ لأني سألت شيخ وقالي دي واجبة وحتى قولتله على نوع الوصية وهو مقالش خالص إنها مش إلزام .
ربت الشيخ على فخذه يقول بنبرة هادئة ووجه مبتسم :
_ الصح إنك تسأل أكتر من شخص يا ابني وما تكتفيش برأي واحد بس خصوصًا في المسائل اللي زي دي بحورها طويلة ، وتختار كمان اللي بتسأله بعناية ، لأن دلوقت للأسف بقى أي حد يلبس جلباب ويحط عمامه على رأسه والسبحة في أيده ويفتي في الدين بدون معرفة ولا علم ولا أي حاجه .
_ ده كان إمام مسجد يا شيخنا ، وقال واجبة التنفيذ ، كمان أنا عطيته وعد إني اتجوزها زي ما شرط علشان اريحه في تربته .
صمت أحمد ليتنهد الشيخ مكملًا ببسمة وهو يراه مهمومًا :
_ ما قولتلك يا ابني الله يهدي عبيده لما يصلحهم ، ممكن الأمر التبس عليه بس ، في الحاله دي وبدون دخول في تفاصيل مع إني مش فاهم ليه يقولك تتجوزها وبعدها تطلقها ؟ بس هقولك ما دام الوصية اتنفذت ووفيت بالوعد وبالفعل اتجوزتها صح ؟؟.
هز أحمد رأسه بصمت فتابع الشيخ قائلًا :
_ طيب لو حصل والوصية اتنفذت لازم بالرضا مع الطرف التاني هي كانت موافقه يا ابني ؟؟ لأن زي ما قولتلك نوع الوصية غير لازم الوفاء لقول النبي صل الله عليه وسلم ” لا تنكح البكر حتى تستأذن” وإطلاق البكر للتعميم فغيرها أحرى بالاستئذان .
_ أيوه كانت موافقة .
منحه الشيخ بسمة هادئة وهو يكمل :
_ طيب كويس كدا لحد هنا الأمور تمام ، الوصية بقى بتتعارض مع شروط النكاح الصحيح لأن الزواج المحدد ده حرام ، ففي الحالة دي الوصية مينفعش تتنفذ لأنها مخالفة للشرع وهو الزواج الصحيح ده غير إنها مش إلزام زي ما قولتلك وأنت اتجوزتها فالحل دلوقت هو الانفصال يا ابني لأنه عقد نكاح باطل .
كسى الحزن ملامح أحمد وردد بنبرة مهمومه :
_ أنا ضايع ومشتت بعد كلامك ده ، وحاسس إني فقدت القدرة على التفكير وإيه الصح وإيه الغلط مش عارف حتى أنا عايز إيه؟ وايه اللي هيتم دلوقت وعيشتها معايا حرام أو لأ ؟ ولو انا مش عايز أطلق وعايز أكمل معاها زي ما قولتلك ايه الحل ؟؟؟
نظر له الشيخ مبتسمًا يردد بهدوء شديد:
_ أنا هقولك الوصية إنك تتجوزها وده حصل مع إنه مش إلزام الوفاء بها ، بس حصل برضا الطرف التاني بعد انقضاء العدة خلاص ، وهي معارضة للشرع بسبب الشق التاني بتاع الطلاق اللي أنت مش عايزُ صح كدا ؟؟
أومأ أحمد بإيجاب ينصت لحديث الشيخ الذي أخذ يكمل بهدوء :
_ تمام ، كدا الوصية باطلة لأنها مخالفة لشروط النكاح الصحيح ، وزواجك من البنت باطل ولو عايز تستمر في الزواج وكانت دي رغبتك ورغبتها فلازم تعقد عليها تاني بعقد النكاح الصحيح المستوفي للشروط من الشهود وولي المرأة .
مسح أحمد ما بين عينيه يقول بتشوش :
_ أنا مش عارف أفكر خالص ومع احترامي ليك أخاف يطلع كلامك مش صحيح والاقيني تايه تاني ، أنا كنت مفكر إن جوازنا صحيح كدا حكم معيشتها معايا في الفترة اللي فاتت دي احنا متجوزين بقالنا سنه وشهرين ايه ؟؟.
هز الشيخ رأسه يقول بعد تفكير :
_ حقك يا ابني ، بس أنا معروف في المنطقة دي وعمري يا ابني ما أفتي في شيء لا افقهه ، وبردو علشان تطمن أكتر هديك أسامي لبعض الشيوخ الكبار وشيخ الأزهر نفسه لو عايز وروح وأسأل يا ابني ، تحرى الحلال وهتؤجر كتير وربنا يصلح حالك ، شوف مفيش إثم عليك ولا عليها فيها لأنك كنت مفكره عقد نكاح صحيح ، أما دلوقت بعد ما عرفت فلأ لا يجوز لك الخلوة بها ولازم تعقد عليها من جديد.
تنهد أحمد بحزن شديد مصدومًا ثم وافق وأخرج هاتفه يدون به ما أخبره الشيخ ثم شكره وغادر متجهًا إلى وجهة معينة .
******
بعد مدة نراه يقف أمام القبر يخفض بصره أرضًا تتساقط دموعه بشدة ، رفع عيونه ينظر إلى اللوح الرخامي الذي دون عليه اسم رفيقه بخط أسود “الشهيد البطل حسان عبد المجيد الربعاوي” وأسفله كتبت سنة الميلاد وتجاورها الوفاة ليجهش أحمد في البكاء بصوت مرتفع .
جلس بعد دقائق على حافة القبر يقرأ له الفاتحه ، بعد أن تمالك نفسه قليلًا ، ثم تنحنح قائلًا :
_ السلام عليكم دار قوم سابقين وإنا إن شاء الله بكم لاحقين.
صمت لثواني وهو يشعر بثقل في لسانه قبل أن يسترسل بنبرة حزينة :
_ عامل إيه يا حسان ، سؤال غريب صح ، ارتحت يا صاحبي ، عارف إنك زعلان مني بس غصبًا عني يا حسان والله حاولت كتير صدقني ، أنا قولتلك قبل كدا إني ضعيف قدامها ، مش هلومك أنا عاذرك ومعاك كل الحق ، احنا ظلمناك في حكايتنا ونستاهل أكتر من كدا ، سامحني على ضعفي وقلة حيلتي ، بس مش قادر والله العظيم ما قادر ، تعبت يا حسان ، الوصية طلعت مش لازم إني أعملها وحرام كمان لأنها مخالفة للشرع بس نفذتها علشانك .
استنشق الهواء وهو يبكي بقوة يكمل له بنبرة كساها التعب :
_بس مش قادر أكملها مش قادر أبعد عنها أرجوك ساعدني ارتاح زيك ، أنا مكنتش عايز كدا ، مش عايز أطلقها _ تنهد بصوت مرتفع باكي _ عارف إني غلطت كتير بس سامحني ، مش قادر أبعد وفي نفس الوقت مش عارف أقرب ، لأنك مش بتغيب عن بالي يا حسان وإحساسي إني بخونك قتلني والله قتلني ، وصمت جوايا معذبني ، أنا كنت ساكت وراضي بعذابي فتحت جروحي يا صاحبي وحطيت النار حواليا وأنا قلبي غرقان في النار دي ودايب.
توقف أحمد يقول متراجعًا وهو يربت على تراب تربته :
_آسف متزعلش من كلامي ما حستش بنفسي ، بس أنا بقيت مشوش ، مش عارف أروح فين ولا أعمل إيه ؟ ساعدني يا حسان زي ما على طول بتساعدني اديني إشارة طيب أو تعالى شوفني من غير ما تكون مضايق مني بقالي كتير مستنيك تاجيني في الحلم ، من غير ما تعاتبني ، أنا موحشتكش طيب وتيجي تشوفني ؟ .
ظل يتحدث معه لفترة ليست قصيرة حتى أتى إليه عامل المقابر وحارسها يخبره بضرورة المغادرة فقد تأخر الوقت كثيرًا .
*******
تقف في شرفة منزلها تراقب الشوارع بخوف شديد ، وهي كل ثانية وأختها تنظر إلى الساعة التي تقترب من الثانية بعد منتصف الليل ، سقطت دموعها للمرة التي لا تعلم عددها بالأساس لا تمر دقيقه إلا وتتخللها دموعها .
دعت الله بأن يكون بخير وألا يفعل بنفسه شيءٍ ، أغلقت باب الشرفة وجلست على الأرض تضم ساقيها إلى صدرها تبكي بشدة ، جف حلقها من كثرة البكاء ، مرت ساعة أخرى ، غفت هي على وضعها متكورة حول نفسها تضع رأسها على ركبتيها.
تزامن ذلك مع وصول أحمد إلى شقته ، أسند رأسه على الباب وهو يزفر الهواء بتعب شديد ، قبل أن يدخل المفتاح في الباب ، يجعد جبينه بألم عندما بدأت يده تؤلمه لم يخيطها بل فقط لفها بالشاش الطبي وتركها على حالها .
أول ما وطأت قدمه أرضية الشقة قابله ظلامها ، تنهد بصوت مرتفع ثم أشعل الأضواء ، جالت عينيه بحثًا عنها لكنه لم يعثر عليها في الصالة الرئيسية ، أخذ ينادي عليها بقلق شديد ، وما من رد دلف إلى غرفتها وهنا سمح لنفسه بالانهيار أين ذهبت ملك ؟
أيعقل أنها رحلت وتركته ؟؟ .
خرج من غرفتها يضع رأسه بين كفيه وهو يشعر بهموم العالم تحط على رأسه وقلبه ، دخل إلى غرفته لربما غفت بها والصدمه والخوف تسربا إلى قلبه وهو يجد الغرفة فارغه .
أخذ يركض في الشقة بخوف شديد وهو يبحث عنها في كل الغرف ، وأيضًا لم يعثر عليها ، تبقت الشرفة لم يدخلها على الفور ركض باتجاهها ، وقع قلبه وهو يراها تجلس في إحدى الزوايا تضم نفسها بيديها ، خشي أن تكون قد أصابتها إحدى النوبات تلك ولكنه تنفس براحه يبصر تحرك جسدها بهدوء إنها نائمة بسلام لا تدري بالذي كاد يلفظ أنفاسه الأخيرة من شدة خوفه عليها.
جلس القرفصاء أمامها وقبل أن تلمس يده لها تذكر حديث الشيخ بأن الزواج من الممكن أن يكون باطلًا ، لكنه والله لا يرغب بتطليقها ليست لديه الشجاعة لفعلها ، ناداها بهدوء حتى لا تخاف وأيضًا لم تستيقظ ، تخلى عن التفكير فيما هو صواب الآن ورفع رأسها بهدوء شديد وحذر يسندها على كتفه .
ثم لف يده أسفل قدميها واستقام يحملها برفق ، توجه إلى غرفتها ووضعها بهدوء على سريرها ، أمسك الغطاء وقام بتدثيرها ولم يقدر على منع نفسه من فعل ذلك ، ولذا مال عليها يمنحها قبلة صغيرة على وجنتها ثم سرعان ما ابتعد عنها كمن لدغته أفعى سامة .
خرج من غرفتها يفكر في خطواته التالية ، مرت سنة وشهرين على زواجهم حتى وإن كان العقد به شيء من الفساد ولكنه يتبقى فقط عشرة أشهر وينتهي كل شيء وهو لا يريد ذلك ، بالله لا يريد الابتعاد لقد تعذب وعذبها معه حتى فاضت الكؤوس عن آخرها.
كما أن حديث الشيخ يبدو صحيحًا ، هذا خطأه وحده كان عليه أن يتحرى أكثر ، من المؤسف أن يجهل الإنسان الكثير عن دينه ، لام نفسه على تقصيره في حق ربه ، أخرجه من شروده صوت هاتفه يرن باستمرار ، تنهد بقوة قبل أن يخرجه ينظر إلى الرقم بهدوء شديد ثم وضعه على أذنه وصمت يستمع إلى محدثه ثم رد بنبرة هادئة:
_ تمام مسافة الطريق وجاي .
أغلق أحمد المكالمة و تلقائيًا توجه بصره إلى غرفتها ، نظر إلى ساعة يده كانت تقترب من الثالثة فجرًا ، زفر بصوت مرتفع ثم نهض وتوجه إلى غرفتها ليوقظها ، ويخبرها بأنه سيسافر حتى لا يحدث مثل المرة السابقة شرد وهو يتذكر ذلك اليوم لقد جن جنونها حينها ….
خرجت من المرحاض تمسك منشفة بيدها تمسح بها وجهها وهي تسير باتجاه غرفتها خلسة وعلى رؤوس أصابعها ، والسبب بسيط تخجل أن يراها هكذا رغم أنها ترتدي المئزر وتحكم غلقه عليها ، كما أن الوقت متأخر ولكن إحدى عاداتها الاستحمام في مثل هذا الوقت ، شعرت فجأة بحركة ما داخل غرفته لتسرع من فورها تختبأ خلف الجدار حيث المطبخ تراقب بعينين متسعتين ما يحدث ، فقد رأته يتسلل وهو يخرج من غرفته ببذلته العسكرية و في يده حقيبة ظهره يتلفت حوله بحذر شديد.
تسارعت دقات قلبها بقوة وتلقائيًا ملئت عينيها الدموع ، أكان يريد السفر دون إعلامها بالأمر ؟ تبًا له !.
لم تشعر بنفسها وهي تتجه نحوه بعيون مشتعلة من الغضب تصرخ بحنق شديد والدموع لا زالت في عينيها:
_ سيادتك رايح فين ؟؟؟.
تصنم أحمد مكانه يفتح فمه بتشنج فكما يقول المثل المصري ” من خاف من العفريت ظهر له ” ، عض على شفتيه يستدير صوبها يطالع ملامحها الغاضبة ، وهي فقط ترمقه بنظراتها الحادة وتهز قدمها بانفعالٍ واضح ، بينما تشبك ذراعيها أمام صدرها.
_ أنتِ إيه اللي مصحيك في الوقت ده ؟؟؟.
_ ده مش موضوعنا ، أنت رايح فين ؟؟ هتسافر ومن غير ما تقولي ، أنت للدرجة دي أنا مش فارقه معاك ؟ .
قالت كلماتها بغصه شديدة ونبرة ضعيفة وهي تجاهد دموعها ، أنزل أحمد حقيبته متنهدًا وهو يقول :
_ ملك لو سمحتي أنا محبتش اقلقك وكنت هتصل عليك واقولك أكيد.
انفلتت شهقاتها وهي تعطيه ظهرها تقول:
_ مهو باين .
وضع أحمد يديه حول كتفيها فانتفضت بتوتر شديد ، جعله يبعد يديه عنها وهو يتنحنح مغيرًا الموضوع قائلًا ببسمة صغيرة:
_ يا مجنونه أنتِ لسه فيك العادة دي ، في حد ياخد حمام في الجو التلج ده .
كتمت ملك ابتسامتها لتذكره ، وعادت لجمودها تقول بحاجب مرفوع:
_ وأنت مالك ، أعمل اللي اعمله تهمك صحتي أوي ، بلاش الاهتمام المزيف ده .
اتجه لها أحمد يردد باستنكار لحديثها الأحمق فإن لم يهتم بها فبمن سيفعل ؟ :
_ اهتمام مزيف؟ من كل عقلك بتقولي كدا .
_ إيه بكدب مثلًا ؟ وهو أنا أفرق معاك ؟؟ .
لعبت ملك على أوتار قلبه وهي تبتسم بسمة صغيرة اخفتها ببراعه وهي تضع يدها على فمها ، بينما أحمد خرج عن صمته يمسك بها من كتفيها متجاهلًا انتفاضتها يقول ببسمة ونظرات صافية مفعمة بالحب:
_ طبعا تفرقي أنتِ متعرفيش مكانتك عندي يا ملك؟ .
تدللت ملك عليه مستغلة تلك اللحظة التي لا تتكرر كثيرًا :
_ معرفش ، يكونش بعيد الشر بتحبني ولا حاجه ؟؟.
رقت نظرات عينيه وفقط حدق بها يبتسم بسمة واسعه وهو يترك كتفيها ليلمس وجنتها الرطبة بمشاعر صافية :
_ أنتِ روحي اللي عايش علشانها أصلا .
ما بال الهواء اختفى من الجو فجأة ، لأن التنفس بات صعبًا شعرت ملك بالدوار فجأة لا تصدق ما سمعته منه ، وهو الآخر بدا مذهولًا لكنه سرعان ما ابتعد عنها ينحني يحمل حقيبته يهرب من أمامها كما العادة ، قبل أن يصرخ بأعلى صوته معلنًا هزيمته أمام تلك البونيتين المهلكتين ، والذي غرق فيهما إلى نقطة بعيدة المدى وبات الرجوع أمرًا مستحيلًا.
غمرت ملك مشاعر عديدة لدرجة لم تعد تسيطر عليها ومجددًا حركتها عواطفها ، لتهرول صوب الباب تقف أمامه تحول بينه وبين أحمد ، الذي ينظر لها بعيون متسعة بصدمه ، سقطت دموعها أكثر وهي تهمس له :
_ ما تروحش خليك معايا .
طالعها أحمد بعينيه للحظات قبل أن يخفضها متهربًا من نظراتها المترجية ، رفعت ملك ذراعيها تحاوط الباب وهي تقول بدموع :
_ مش هخليك تمشي ، خليك معايا هنا .
أخرج أحمد صوته أخيرًا يقول وهو يمسك نفسه بصعوبة عن إلقاء كل شيء خلف ظهره وفقط يبقى معها :
_ ملك ده شغلي ومينفعش ماروحش لو سمحتي تبعدي عن الباب أنا أصلا اتأخرت.
حركت ملك رأسها برفض :
_ لا مش لازم تروح ، خليك يا أحمد.
_ أنا نفسي ما اروحش وافضل معاكِ أكتر مما تتمني بس الظروف ضدنا من كل حته سامحيني يا ملك .
وبالطبع كل ذلك الحديث كان صامتًا لم يخرج من حلقه ، فقد حدثها بعينيه ، لتجهش ملك في البكاء أكثر وهي تبتعد عن الباب تجلس على الأرض بانكسار.
لم يطاوعه قلبه الذهاب وتركها هكذا لذا انحنى وجلس على ركبتيه ، يمسح دموعها بحنان وهو يبعد خصلات شعرها المبللة عن عينيها يقول ببسمة صغيرة:
_ متقلقيش هرجع إن شاء الله وأنتِ هتكوني مستنياني.
شعرت بثقل في لسانها منعها الحديث وهي تنتفض أمامه ، لم يملك أحمد سوى أن يضم رأسها إلى صدره لتتعلق هي به متابعة البكاء أكثر ، همس أحمد بنفس مثقل يربت على خصلاتها :
_ يعز عليك دموعك يا ملك ، كفاية أرجوك كفاية عياط .
أخيرًا استطاعت ملك إخراج صوتها لتردف بنبرة مثقلة بالهموم :
_ مش في أيدي حاجه غير العياط ، أنا طول الوقت مستنياك يا أحمد.
مسح أحمد على وجهها بعد أن أبعد رأسها لتنظر له مرددًا بحزن بائن :
_ زهقتي ؟؟؟.
نفت ملك بعينيها المحمرتين من الدموع :
_ يشهد الله إني ما زهقتش أبدًا بس آخرة الانتظار إيه ؟؟ .
أعاد رأسها إلى قلبه مرة أخرى وضمها يدفن رأسه في كتفها لتنهمر دموعه هو الآخر ، لا يدري إجابة لسؤالها ، عانقته هي بالمقابل تستمتع بتلك اللحظة لربما كانت الأخيرة من يدري .
عاد من شروده وهو يقف أمام فراشها ينظر لها بعيون شغوفة وهو يهمس داخل عقله :
_ خير يا ملك إن شاء الله ، صبرك وانتظارك ليهم نهاية ، أنا خلاص مش ناوي أضيع يوم بعيد عنك أنتِ حبيبتي اللي عيشت حياتي بتمناها هحاول علشانك وهعمل اللي مفروض يتعمل ، هتأكد من كلام الشيخ وهرجعلك يا ملك إن ربنا أراد.
تقدم نحو الفراش أكثر حتى جلس بجانبها ، مسح على خدها بلطف يزيل دموعها ، ثم سرعان ما أبعد يده ليطبع قبلة صغيرة هناك ، ابتسم متنفسًا بأريحية نعم لا زال حسان في باله ولكنه فاض به الكيل ، ربت على كتفها بحنان وهو يناديها :
_ ملك … ملك اصحي.
تململت في نومها تفتح عينيها ببطء شديد وهي تجعد حاجبيها ثم عادت تغلقهم مرة أخرى ، لم ييأس وناداها مرة أخرى وهذه المرة استيقظت تتطلع إليه بشرودٍ لبضع ثواني قبل أن تندفع لمعانقته وهي تقول بدموع :
_ أنت رجعت أخيرًا ، أنا خوفت خوفت عليك كتير ، بطل توجع قلبي يا أحمد والله تعبت .
ابتسم أحمد يبادلها العناق بقوة وهو يدفن رأسه في شعرها:
_ خلاص يا حبيبتي كل ده هيتغير.
ابتعدت ملك عنه تنظر له بملامح منصدمه ، ابتسمت بغير تصديق تمسك بوجهه :
_ أنت أنت قولت إيه دلوقت ؟؟؟.
أخفى أحمد ابتسامته على ملامحها الجميلة ، وادعى عدم الفهم يقول مشاكسًا :
_ قولت إيه بقولك خلاص يا ملك كل ده هيتغير .
جعدت ملك جبينها بضيق وهي تنظر له بتهكم شديد:
_ لا مش دي أنت قولت حبيبتي.
_ مين أنا يا بنتي ؟؟؟ شكلك بتحلمي كتير اصحي يا بت أنا مبحبكيش.
فغرت ملك فمها وانفجرت بالبكاء أن تسمع ذلك منه حطم فؤادها ، ليضحك أحمد بقوة وهو يمسك بوجهها يقول بكل ذرة حب داخله :
_ أنا بعشقك بس.
حدقت ملك بشفتيه بصدمه حينما باغتها مرة أخرى وهو يردد بذات النبرة العاشقة وفي عينيه بسمة واسعه لم يرد أن ينتظر حتى يرجع لا يعلم ما قد يحصل لذلك أخبرها ، والله إنه الآن بعد رؤية سعادتها ما عاد يريد من الدنيا شيءٍ.
كانت ملك تمسك بوجهه دموعها تنهمر بقوة وفي عينيها تدق السعادة ، يا الله أهذا حلم كسابق أحلامها ؟ لا تصدق وكأنه علم فيما تفكر لذا نظر بعينيها مباشرة يمسح دموعها بحنان شديد وهو يقول:
_ مش حلم يا ملك .
اندفعت تحتضنه بكل قوتها ، تتنفس بصوت مرتفع وهي تجهش باكية ، حاوطها أحمد بيديه حتى هدأت انتفاضة جسدها ، جاء ليبتعد فتشبثت فيه أكثر ، توسعت ابتسامته وضمها إليه أكثر ، وأثناء ذلك سمعها تهمس بصوت منخفض:
_ أنا مش بحلم صح أنت معايا ؟؟.
أخرجها من حضنه ليحاوط وجهها يمسح دموعها بحنان ، وهو يسند جبهته على خاصتها يقول بنبرة حب صادقة :
_ لا مش بتحلمي ولا أنا بحلم ، أنا معاكِ دايما ومش هنفترق تاني .
تمالكت ملك نفسها ثم سألته :
_ إيه سر التغيير ده ؟؟ .
أخرج أحمد تنهيدة قوية قبل أن ينظر بعينيها اللتين تنتظران منه جوابًا شافيًا :
_ هقولك لما أرجع إن شاء الله دلوقت لازم أمشي.
تمسكت ملك بذراعيه تقول بنبرة خائفة :
_ لا …لا ماتسبنيش تاني .
حاول أحمد تهدئتها وهو يقبل وجنتيها بمحبة ليشتت انتباهها ، ثم همس بجانب أذنها:
_ مش هاسيبك يا حبيبتي أبدًا خليك واثقه فيا ، مفيش وجع تاني .
تعلقت ملك به تهمس بصوت مختنق :
_ بجد خلاص العذاب ده هاينتهي ؟؟ .
قبل أحمد يديها وهو يومـأ برأسه:
_ أيوه أنا مش هطلقك أبدًا ولا هاسمحلك تبعدي ، بصي هنتكلم في كل حاجه بس لما أرجع إن شاء الله لأني اتأخرت ولازم أمشي.
_ ماشي ، خلي بالك من نفسك يا أحمد أبوس ايدك .
ضمها أحمد إلى قلبه معتذرًا على كل مرة تسبب في حزنها وبكائها ، طال عناقه لها ورغم فرحتها استشعرت الخوف لتتمسك به بقوة ، همس هو بنبرة حانية :
_ آسف على كل مرة عيطتي فيها بسببي وعلى كل عذاب سببتهولك ، سامحيني يا قلبي.
همست ملك بنبرة بها شيء من القلق والتوتر:
_ مسمحاك قلبي ما يقدرش يشيل منك ابدا مهما تعمل ، أحمد أنا خايفه .
أخرجها أحمد من حضنه يبعد شعرها للخلف متنهدًا وهو يربت بحنان على خدها :
_ متخافيش لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا ، خليك قويه علشاني آخر اختبار يا ملاكي مستعدة ؟؟.
_ أنا مستعدة لأي شيء يقربني منك بس تكون النهاية سعيدة وترجع بحضني تاني .
ضم رأسها بين يديه يقبل جبهتها قبلة طويلة قبل أن يبتعد عنها بعينين لمعت بهما الدموع ، أولاها ظهره وهمس بصوت مبحوح :
_ اشوف وشك بخير ، الصبح بإذن الله هادي هياجي ياخدك متقعديش لوحدك .
******
صباح اليوم التالي ……
نظرت له مستغربة تراه يهرول هنا وهناك على استعجال ، اعتدلت في جلستها وأخذت تمسح على عينيها بقوة ثم تعاود النظر لما يفعل ، خرجت من صمتها تقول :
_ مالك يا هادي ؟ عمال تجري رايح جاي كدا ؟ وبتدور على إيه ؟؟
أجابها هادي وهو يقف أمام المرآة ينهي تسريحة شعره بعد أن عثر على القميص الذي يبحث عنه وارتداه على عجلٍ :
_ مستعجل يا نعمه ، اتأخرت على ملك وزمانها مستنياني .
جعدت نعمه جبينها تقول بقلق:
_ليه ؟ في حاجه ؟ ملك كويسه ؟؟.
تعجب هادي نبرة صوتها وملامحها المتوترة ، وظهر ذلك جليًا على وجهه :
_ هي كويسه ، مالك قلقانه كدا ؟؟ .
صمت لثواني ثم حدقها بشك:
_ نعمه أنتِ مخبيه إيه عني أنتِ وملك ؟؟
_ ها وهنخبي إيه بس ؟ أنا قلقت عليها لأنك بتقول رايحلها يعني من الصبح كدا وشكلك مش على بعضك .
نظر لها هادي بطرف عينه وأجابها يرفع حاجبه:
_ نعمه مرواحي ليها ليه أكتر من سبب ؟؟ ليه بقى الأسباب اللي تقلق اللي بتخطر على بالك ؟.
صمتت نعمه ولم تجب تبحث عن شيء لقوله ، زفرت بحنق تستغفر الله بداخلها :
_ وبعدين بقى يا هادي محدش يعرف يتكلم معاك ، أنا أحوالها مكنتش عجباني لما زورتها وكانت قلقانه من ..من عدم الخلفه ..
زفر هادي الهواء يقول وهو يجلس على طرف الفراش يرتدي حذاءه :
_ كل شيء بأوانه ، ربنا يرزقهم يالا أنا رايحلها أحمد كلمني وهو سافر هروح اجيبها.
ختم حديثه وغادر من أمامها ، جلست نعمه على السرير تردد استغفارها وعقلها شارد مع ملك .
وصل هادي لشقة أخته بعد ساعة يطرق على الباب حتى فتحت له ملك بوجه مشرق وابتسامه صافية ، جعلت هادي يحدق بها بصدمه أخته تبتسم وهذه المرة لم يشعر بأنها مصطنعه أبـدًا ، دعته للدخول وهي تقول:
_ وحشتني يا هادي تعالى ادخل .
دخل هادي وعانقها دون أي مقدمات يهتف ببسمة سعيدة وهو يرفعها عن الأرض:
_ وأخيرًا شوفت ابتسامتك ياه وحشتيني يا ملك .
بادلته ملك العناق تبتسم بعيون لامعه:
_ الحمد لله يا هادي موجة وعدت .
أنزلها هادي وأمسك بيديها يقول:
_ تصدقي إني كنت دايما بتمناك لأحمد بس لساني متربط أقوله إيه ؟ تعالى اتجوز أختي المجنونة بيك .
توسعت عيني ملك بصدمه ليمسك هادي بوجنتها يردف بنبرة هادئة :
_ آه عارف ومن زمان وحتى أوقات كنت بشوفك في عينيه كل ما تيجي سيرتك ، بس استغربت سكوته يالا لما ربك أراد بقى اتجمعتوا تاني ، وحسان يشكر والله جمعك مع حبيب الطفولة من غير ما يعرف ، اصلا مين كان يتخيل إن حسان وأحمد أصحاب وفي نفس الشغل سوا ، يالا الله يرحمه ويغفر له .
ابتسمت ملك له بحزن واكتفت بالصمت جوابًا ، أخذ هادي حقيبتها الصغيرة وقال ببسمة صغيرة:
_ طيب يالا بينا ، نعمه هتتجنن عليكِ ، سبحان مغير الأحوال زمان مكنتوش بطيقوا بعض دلوقت الحب طافح بينكم ، وكل شويه تسألني عنك وتقولي أروح أشوف ملك وهي لسه راجعه من عندك .
ضمت ملك ذراعه بين يديها وهي تضحك بخفوت على حديثه ، وبعد مدة وصلوا إلى منزلهم ، اندفعت ملك تعانق والدتها الحبيبة وهي تبتسم من أعماق قلبها ، دمعت عيني والدتها وهي تحتضنها بقوة تهمس :
_ أهلا ببنتي ونور عيني.
قبلت ملك يديها بحب :
_ حبيبتي يا ماما ، خلاص مش عايزه أشوف دموعك تاني أنا كويسه وسعيدة اطمني .
_ بجد يا ملك ، أنتِ مبسوطه مع أحمد ؟؟ .
لمعت عينيها لما أتت والدتها على ذكره وقالت بصدق :
_ الحمد لله يا أمي مبسوطه ، ادعي له يرجع بالسلامة.
خرجت نعمه من غرفة ابنتها تقول ببسمة :
_ وأنا مليش من الحب جانب أنا كمان ؟؟.
اتجهت لها ملك وعانقتها بمحبة وبعد أن جلسوا تبادلوا أحاديث عادية وكل ثانية تنكزها نعمه في جانبها ليضحك هادي بقوة فقد لاحظها :
_ قومي يا ملك هتموت وتعرف إيه سر الاشراق ده؟ .
هتفت والدته ببساطة شديدة وهي تربت على حجرها :
_ واضحه للأعمى يا هادي ، ملك حامل صح ؟؟ .
تنفست ملك الهواء بصعوبة مردفة بخجل وهي تضع يدها على يد والدتها :
_ نقول إن شاء الله يا أمي لسه شويه .
نهضت نعمه بعد أن نفذ صبرها تسحب يدها وهي تقول :
_ خلصتوا تحقيقات مع البت ، جه دوري بقى قومي يا ملك معايا .
ضحك الجميع على حديثها ، دخلت ملك معها الغرفة تجلس على الفراش وهي تبتسم بسمة واسعه ، جلست نعمه بجوارها:
_ طمنيني حصل إيه وشك بيلمع يا بت ؟؟
_ خلاص مش هايطلقني أبدًا واعترف لي….
قاطعتها نعمه تردف بحاجب مرفوع:
_ قديم ده ما إحنا عارفين إنه بيحبك.
نظرت لها ملك بتهكم ثم قالت باسمة :
_ وعارفين إنه ساكت بردو وعمره ما نطق ، فده إنجاز بالنسبه ليا وآه قال إنه هيدينا فرصة وكفاية العذاب اللي عيشناه.
ابتسمت نعمه لها بفرحة حقيقية ثم سرعان ما غامت عيونها بالحزن ، لاحظت ملك ذلك ، ضيقت عينيها تسألها:
_ في إيه يا نعمه أنتِ مش مبسوطه باللي قولته ؟؟.
نهضت نعمه توليها ظهرها ، وهي ترى انعكاس صورتها من المرآة:
_ لا مبسوطه طبعا وفرحتلك من قلبي بس ..
قامت ملك ووقفت خلفها تضع يدها على كتفها :
_ بس إيه ؟ قولي يا نعمه .
استدرات لها نعمه تقول بعينين دامعتين :
_ خايفه يا ملك ترجعي تحزني تاني ، أنتِ قولتيلي كام مرة ضعف فيها وبعدها ندم وسابك ومشي ، وده كان بيعذبك ويجرحك ، سامحيني بس خايفه عليك .
جلست ملك على الفراش والتمعت الدموع في عينيها وبدأت تسقط على خديها ، أكملت نعمه ببكاء رغمًا عنها :
_ مش قصدي ازعلك والله أنا آسفه.
ابتسمت ملك بتكلف وهي تقول بشرودٍ :
_ لا متتأسفيش أنا متفهمه يا نعمه ، وعايزه الصراحه جوايا نفس خوفك ده ، خايفه يكون كل ده حلم وافوق منه على كابوس فظيع ، حاسه بأحمد ومحاولاته والصراع اللي جواه ، حسان مش بيفارق تفكيري ولا تفكيره ، بس هو ساكت وكان المرة دي جدي في كلامه هو قالي إنه هايفهمني كل حاجه لما يرجع إن شاء الله .
سقطت دموعها أكثر وشعرت بغصه حادة تمنعها الحديث ليخرج حديثها ضعيفًا مختنقًا :
_بس خايفه مايقدرش خايفه نرجع لنفس النقطة ، آه لو حسان يرجع دقيقه واحدة بس يقول فيها أنا مسامحكم وعيشوا حياتكم ، أنا مش عايز الوصية دي الغوها وخليكم مع بعض ، أنا على طول بزوره وبطلب منه يسامحنا ، وكل يوم بصلي وادعي ربنا إني أشوفه في الحلم حتى بس من غير ما يكون مضايق مني ، مش بشوف إلا نظراته اللي بتقتلني ، يارب خليه يسامحني .
ضمتها نعمه بين أحضانها تربت على ظهرها بحنان :
_ هايسامحكم إن شاء الله ، شوية صبر بس يا ملك وهتتعدل ، ربنا بيبدل حال بحال وإن شاء الله هايجبر بخاطركم .
*****
كان يسير يضع يديه في جيب بنطاله يركل الحجارة بشرودٍ شديد ، توقف بعد مدة ينظر حوله مستغربًا أين وصلت به قدميه ، صحراء شاسعة وهناك على بُعد منه مجموعة من الخيم وأناس يجلسون خارجها ، رآه أحدهم وتقدم منه يبتسم له ما إن تعرف على هويته ، ألقى السلام قائلًا :
_ السلام عليكم ورحمه الله وبركاته.
بادله أحمد البسمة ورد السلام ، عاد الرجل يقول :
_ شكلك مضيع طريقك يا باشا .
حك أحمد شعره يقول :
_ شكلي كدا ، أول مره أوصل للمنطقة دي ، أنت أسمك إيه ؟؟.
_ أنا شيخ العرب محمد رفعت ، وأنت يا ولدي ؟.
ابتسم أحمد قائلًا :
_ أنا عبد لله ، بقولك يا شيخنا ليك في أحكام الشريعة الإسلامية ؟؟.
أومأ الرجل يقول:
_ الحمد لله يا ولدي ، قول عايز تسأل عن إيه ؟
أخبره أحمد بما يريد وبعد بضع دقائق أجابه الرجل وكانت إجابته نفس الإجابة التي أخبره بها الشيخ عبد الله ، الذي قابله حينما تأخر في المسجد وطلب منه الخروج لتأخر الوقت .
تنهد أحمد ثم شكره بهدوء وانتبه إلى أحد رفاقه يناديه ، نظر الرجل إلى محمد الذي يهرول صوبهم :
_ صاحبك وصل آهو ، مع السلامه يا ولدي ، اتمنى تكون لقيت طريقك.
قال الأخيرة وهو يضحك بخفوت ، ليبتسم أحمد وهو يقول تزامن ذلك مع وصول محمد له :
_ لقيته يا شيخنا .
قال محمد مستغربًا:
_ هو إيه اللي لقيته ؟؟.
وضع أحمد يده على كتف محمد :
_ ده موضوع طويل .
ابتسم محمد يقول :
_ والطريق طويل ، إيه اللي جابك هنا عند الشيخ محمد ؟.
نظر له أحمد مندهشًا :
_ أنت تعرفه ؟؟.
ابتسم محمد وقال :
_ ايوه طبعا ، ده حبيبي ده .
ضيق أحمد عينيه يرمقه بشك :
_ حبيبك ؟ اومال ليه أول ما شافك مشي ؟؟
تنهد محمد يقول :
_ زعلان مني بقالي كتير مجتش شوفته واتغيبت عن ميعاد المحاضرات بتاعته .
انتبه أحمد لحديثه يردف مستغربًا :
_ محاضرات إيه ؟؟.
زفر محمد الهواء يجيبه ببسمة واسعه:
_ بص يا سيدي ده شيخ محمد ولقبه شيخ العرب ، كان شيخ في الأزهر وطلع معاش وهو ساب كل حاجه وجه هنا وبقى يعلم الناس دينهم يجمعهم ويشرح لهم ، شايف الخيم اللي هناك دي .
نظر أحمد حيث يشير ، فتابع محمد حديثه :
_زمان أول ما جه كانت خيمه واحده بس اللي هي بتاعته دلوقت ما شاء الله عليه ، ناس كتير جاتله لما سمعت باسمه وسيرته الطيبه ، مجرد القعدة معاه بتريح قلبك إنسان ربنا وضع في وشه القبول ، كل ما الاقيني مضايق اجي اقعد معاه واستفاد من كلامه ، حاجات كتيره كنت جاهلها في الدين بفضل الله ثم بفضله عرفتها عمره ما بخل علينا بمعلومة ومش بيقولنا أي كلام وخلاص .
قال أحمد بعد صمت لما توقف محمد عن الحديث وأخذ ينظر إلى الخيم والشيخ يجمعهم لصلاة العصر :
_ يعني ثقه يا محمد ؟؟
أومأ محمد برأسه تأكيدًا وهو يقول :
_ آه طبعًا وكلامه كله من القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وحافظ كمية كتب للإمام مالك و الشافعي والغزالي وغيرهم ، راجل بركه ربنا يبارك فيه لو عايز تحضر ابقى تعالى مش هيمانع أبدًا ، الإنسان مقصر كتير في حق دينه وربه يا أحمد ، أبسط الأمور والله ما نعرفها ، وده يزعل أوي عارف إننا مش فاضيين بسبب شغلنا بس ساعة لقلبك تطهر فيها نفسك وتكسب معلومة جديدة لازم نعمل توازن ما بين متطلبات الدنيا والآخرة بردو .
ابتسم أحمد براحه يقول :
_ عايز طبعا تعالى عرفني عليه قبل ما نرجع لشغلنا ، تقريبا في مأمورية طالعينها على الصعيد علشان جماعة تجار المخدرات دول ، والفرع طالب دعم جهز نفسك .
_ الله المستعان يا صاحبي ، تعالى يالا .
_ تمام اسبقني دقيقه وجيلك .

يتبع….

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الصمت المعذب)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى