رواية السماء تشهد أيها الماجن الفصل الرابع 4 بقلم رضوى جاويش
رواية السماء تشهد أيها الماجن البارت الرابع
رواية السماء تشهد أيها الماجن الجزء الرابع
رواية السماء تشهد أيها الماجن الحلقة الرابعة
٤- ادم وحواء
دخلت حجرتها لترتاح قليلا قبل أن تعد حقيبتها، فقد حان وقت الانتقال إلى شمال إيطاليا وبدء الجولات هناك .. تمددت على فراشها ليس لديها رغبة في القيام بأي شيء سوى الاسترخاء فقط ..
شردت وعيناها معلقتان بسقف الغرفة تتذكر ما كان من أحداث بالأشهر القليلة الماضية والتي غيرت فيها وأخذت منها كثيرا .. تنهدت ومدت كفها تبحث عن هاتفها الذي اهملت الاطلاع عليه منذ وصولها رغبة في الانقطاع عن عالمها والاستمتاع بذاك العالم المحيط من الآثار والجولات التي لا تنتهي.. فتحت هاتفها وبدأت في تصفحه لتنتفض معتدلة في جلستها تطالع شاشته في اضطراب تقرأ تلك الرسالة التي ارسلتها نهى ابنة عمتها ولم تنتبه لها .. حتى أن هاتفها رن عدة مرات أيضا ولم تتبين متى كان ذلك، فهى قد قررت غلق هاتفها عن استقبال أي مكالمات أو رسائل منذ وطأت قدماها الأراضي الإيطالية..
اتصلت مسرعة بنهى تنتظر إجابة على الطرف الآخر، وما أن همت بإغلاق الخط حتى ردت نهى في لهفة صارخة: ألووو .. حياة !؟.. اجيبي..
هتفت حياة صارخة بدورها: ماذا يحدث يا نهى!؟.. ولما طلبتي مني العودة في رسالتك وبشكل سريع وفوري!؟..
هتفت نهى باكية: جدنا مريض للغاية ويسأل عنك كل دقيقة .. أرجوكِ عودي على وجه السرعة .. حالا يا حياة .. حالا .. فقد لا يكون هناك متسعا من الوقت لكي ..
وصمتت نهى ولم تنه جملتها التي لم تكن تحتاج لمزيد من الكلمات لتدرك حياة ما تعنيه، وخاصة عندما بدأت نهى في النحيب وكان ذاك أبلغ من إكمال ردها ما دفع حياة لتهتف في اضطراب: سأستقل أول طائرة قادمة للقاهرة اليوم .. سأكون عندك خلال ساعات يا نهى .. بلغي جدي أن يصمد لأجلي فلن أطيق الشعور بالذنب لتركه يرحل دون وداعي ..
همست نهى: حسنا ..
انفصل الخط بينهما فاندفعت حياة تجمع حاجاتها مسرعة من الغرفة، ومنها لاستقبال الفندق لحجز مقعد على أول طائرة منطلقة من روما متجهة للقاهرة ..
*****************
وقفت نهى أمام الحاجز الزجاجي تتطلع إلى جسد جدها المسجي وبكت في لوعة .. ليهتف مهني مهدئا: سيكون بخير .. الأطباء أكدوا لي أنه تعدى مرحلة الخطر..
همست نهى: الحمد لله ..
همس مهني :- لقد أكد لي طبيبه المعالج أنه لا ينفك يذكر اسم حياة مرددا إياه بشكل مُلح..
همست نهى وهى لا تحيد نظراتها عن جسد جدها :- لقد تلقت رسالتي أخيرا وهى قادمة على أول طائرة للقاهرة لعل مجيئها يكون هي دواء جدي الشافي .. أنت تعلم كم يحبها ويفضلها ..
أومأ مهني مؤكدا :- نعم .. جيد إنها في طريقها إلى هنا .. آمل أن تصل ليتحسن حاله ..
همست نهى :- ستعود فلن تحتمل أن يتعذب جدي في بعادها ..ستعود بأسرع مما تتخيل..
أومأ مهني في تفهم ولم يعقب بكلمة ..
************
جلست تربط حزام الأمان متنهدة في راحة فقد استطاعت الحصول علي هذا المقعد بشق الأنفس وتنفست الصعداء ما أن أقلعت الطائرة ..
ساعات قليلة وتكون جوار فراش جدها الحبيب، فهى تعرف أنه لن يرحل دون أن تراه ربما للمرة الأخيرة .. كانت ترفض تماما فكرة تلك الرحلة والابتعاد عنه وخاصة أن حالته الصحية مؤخرا لم تكن على ما يرام إلا أنها أزعنت لرجاءه ووافقت بعد إلحاحه لتخرج من عزلتها قليلا وتحاول أن تغير من أجواء الكأبة التي فرضتها على نفسها بعد تلك الأحداث التى تعرضت لها وأدخلتها في أزمة نفسية كبيرة كادت أن تدخل جدها لغيبوبة طويلة بسبب حزنه على حفيدته الأثيرة لديه ..
تطلعت من النافذة على تلك السحب الفضية وسرحت في ذكريات بعيدة قفزت إلى مخيلتها وجذبتها سريعا إلى خضم أحداثها حتى أنها لم تنتبه لذاك الذي جاء ليجلس بالمقعد الشاغر جوارها، ولم تدر رأسها حتى لتستطلع من الذي يجاورها فلم تكن قد استطاعت الفكاك بعد من أسر تلك الذكريات لمخيلتها، لكنها انتفضت فجأة عندما وجدت منديلا مشهرا أمام ناظريها، وهمس قادم لمسامعها بصوت تعرفت على نبراته، لكنها كذبت حدسها كالعادة: تلك العيون الجميلة لا يليق بها الدموع ..
تطلعت إلى صاحب اليد الممدودة بالمنديل لتفغر فاها في دهشة، هاتفة في تعجب: ما الذي أتى بك إلى هنا !؟.. ألم تكن في سبيلك ل..
قاطعها مؤكدا بابتسامة: أولم تكوني في سبيلك لشمال إيطاليا معنا بدورك !؟.. إنها تقلبات الحياة .. لحظة أنت هنا واللحظة القادمة أنت هناك .. وفي لحظة ثالثة أنت بعالم آخر تماما ..
مدت كفها تتناول المنديل من يده التي كانت لا تزل ممدودة إليها، جففت دمعها الذي ما أدركت تساقطه إلا عندما رأت المنديل قبالة ناظريها وشعرت بغمامة أمام عيونها..
همس متعاطفا :- هل أطلب لك مشروب ما!؟.. المضيفة إحدى الصديقات واستطيع إحضار ما يحلو لك ..
ابتسمت ساخرة: لما لا أشعر بالغرابة !؟.. شيء متوقع.. على العموم .. شكرًا .. لا رغبة لدي في استغلال صديقاتك العزيزات .. اهنأ بخدماتهن وحدك..
وتطلعت من النافذة معلنة رغبتها في إنهاء الحوار، لكنه لم يلق بالا لرغبتها تلك طالما هو لا يزل يملك الرغبة في الحديث والتواصل، وهمس متسائلا في فضول :- ما الذي كان يبكيكِ!.. ما سبب تلك الدموع يا ترى !؟..
أدارت رأسها إليه في عنف، هامسة في سخرية: سببها بعض الفضوليين .. فأنا أكره الفضول وأصحابه..
هتف في لامبالاة: ليس فضولا صدقيني .. فليس هناك ما يدعو للفضول تجاهك مطلقا، اعتقد أني أوضحت هذه النقطة من قبل …
جزت على أسنانها غيظا، لكنها كتمت غضبها داخلها في محاولة لتبدو بمظهر امرأة قادرة ومسيطرة، ليستطرد هو بنفس اللهجة الواثقة التي تمقتها بشدة: لكن شعرت أن من اللطيف لو شاركتك بعض أحزانك، فالساعات لا تزل ممتدة أمامنا للوصول لوجهتنا .. لكن لا عليكِ .. كنت مخطئا ..
وجذب ذاك القناع الذي يوضع لحجب الضوء عن العين استعدادا للخلود للنوم، قاطعا معها أي فرصة للتواصل ..
شعرت بالراحة لفعلته، فهى لا تريد متطفلين على مزاجها العكر منذ سمعت بخبر مرض جدها، الذي يبدو أنه ينازع الموت حتى يستطع أن يرها قبل أن يرحل للأبد .. تطلعت من جديد للنافذة وغابت مرة أخرى بين دفاتر ذكرياتها التي تراها مجسدة أمامها على صفحة السماء ..
لا تعرف كم مر من الوقت وهى على هذه الحالة، لكن تلك الرجة العجيبة التي حدثت بالطائرة جعلتها تشهق في فزع لتمسك بذراع مقعدها متشبثة، أو ما اعتقدت أنه كذلك حتى تحرك قابضا على كفها بدوره، لتدرك أنها ذراعه الممدودة جوارها .. رفع قناع الأعين متطلعا إليها وهو لا يزل متشبثا بكفها مهدئا: لا عليكِ.. ربما هو مطب هوائي لا أكثر..
لكن الأمر تكرر من جديد، وبدأت الطائرة في الانحراف قليلا عن مسارها، وبدأت الصرخات تعلو مع محاولة طاقم الضيافة تهدئة المسافرين، وشرح بعض التعليمات لضمان سلامة الجميع .. إلا أن المزيد من الرجات تكررت تباعا، وعلت الصرخات وزادت وتيرة الفزع، وما عاد أحد بقادر على الحفاظ على هدوئه، والطائرة تهوي وقائدها ليس بقادر على السيطرة عليها ..
******************
صرخت نهى غير قادرة على كتمان صدمتها ما أن أبلغها محامِ العائلة الأستاذ مهني خبر سقوط الطائرة القادمة من روما، والتي تأكد من سجل ركابها أن حياة كانت من بينهم، لتصرخ في لوعة: أنا من أخبرها بضرورة مجيئها على وجه السرعة .. أنا من تعجلها لتأتي وترى جدي .. أنا السبب..
هتف مهني بها في محاولة لتهدئتها وردها لصوابها: أرجوكِ تمالكي أعصابكِ حتى لا يصل الخبر لجدك .. فهو يعيش فقط على أمل عودتها .. دعيه يعتقد أنها في الطريق إليه..
همست نهى باكية: كيف لى أن اواجهه وأنا بهذه الحالة!.. لن أستطع الكذب والادعاء أمامه .. الأمر اكثر من قدرتي على التحمل ..
وعلا نحيبها الموجع وهى تهتف في تحسر وشفقة: مسكينة حياة .. لم تنل بحياتها إلا الشقاء والوجع.. ها قد انتهت تلك الحياة التي كانت تكره، وما عادت قادرة على إحداث المزيد من الأوجاع بروحها، فقد فارقتها للأبد ..
همس مهني متحسرا بدوره: رحمها الله.. لا اعلم كيف سيكون رد فعل جدكما إن علم بالأمر!.. سيقض ذاك الخبر عليه ..
صرخت نهى هاتفة في ذعر : سأخسر كلاهما .. حياة وجدي .. لن أستطيع العيش دونهما .. ماذا عليّ أن أفعل!؟..
هدأ مهني من روعها، هامسا في تعاطف: كل ما عليكِ فعله هو التماسك قدر استطاعتك، فلو علم جدك لن ينجو هذه المرة يا نهى .. لقد نقله الأطباء أخيرا لحجرة عادية بعد استقرار حالته .. علينا أن نعمل على الحفاظ على سرية الخبر، حتى تتحسن صحته قليلا، ثم نبحث كيف نعالج الأمر ..
أومأت نهى موافقة في استسلام، وهى تحاول كتمان شهقات بكائها وجعا وحسرة على رحيل رفيقة عمرها ..
*******************
كان صوت النوارس يحدث ضجيحا غير محتمل بأعلى رأسه التي يكتنفها دوارا عجيبا لم يستشعره من قبل..
حاول أن يبعدها مشيحا بكفه حتى يتسنى له العودة للنعاس من جديد، فهو يشعر بوهن وإرهاق عجيب ينتشر بكامل جسده يجعله غير قادر على تحريك عظمة واحدة من دون شعوره بألم رهيب بسائر الجسم، كأنما خاض معركة مع ثور بري ..
عاود النعاس ربما للحظات وربما لساعات، لكنه استعاد وعيه من جديد على ذات الصوت المزعج للنوارس محلقة بالقرب من مسامعه، لذا قرر أن يستطلع الأمر ففتح عينيه في تباطؤ وتردد وقد ضاقت حدقتيه لتصبحا قادرتين على استيعاب ضوء النهار الباهر الذي يزعجهما، وأخيرا رفع رأسه في تثاقل متطلعا حوله في تعجب ..
جال بناظريه في كل ما حوله لبرهة لكنه فقد قدرته على الاستمرار في رفع رأسه فانقلب ليسقط على ظهره متطلعا للسماء التي كانت تغطيها طيور النورس البحرية وقد أدرك ما يجري، وخاصة عندما بدأت ذاكرته في استرجاع شريط الأحداث في الساعات أو ربما الأيام الأخيرة قبل سقوط الطائرة ليصبح وحيدا على تلك الجزيرة ..
أغمض عينيه من جديد محاولا الغرق مرة أخرى فى النعاس متناسيا كل ما حدث بالفعل وكأنه كابوس سخيف .. فالموت هو عنوان المرحلة، سيان كان بسقوط الطائرة أو البقاء بتلك الجزيرة وحيدا ..
**************
كان يجلس يتطلع للغروب قبالته والشمس تتوارى خلف البحر منذرة بقدوم جحافل الليل التي بدأت تنشر ظلمتها .. ارتجف موضعه وهو يفكر أن هذه ستكون الليلة الثانية التي يبيت فيها وحيدا على هذه الجزيرة .. ولولا ذاك الكوخ أو ما يطلق عليه كوخا، والذي صنعه على قدر استطاعته من بعض سيقان الأشجار لتصبح سقفا يحتمي تحته من بعض الحيوانات التي قد تهاجمه ليلا، ما استطاع أن ينجو من الموت على تلك الجزيرة حتى الآن ..
ارتجفت أوصاله عندما استشعر حفيفاً وجسم ما يقترب ..مد كفه نحو ركوة النار يتلمس الرماد ماسحا به على طول جبهته وسائر الوجه مخفيا معالمه، واندفع بحذر متسلقا تلك الشجرة التي كان يستند على جذعها لتوه، توقف عندما وصل لارتفاع مناسب عن الأرض وكذا لفرع قوي يستطيع الجلوس عليه دون أن يخزله فينكسر لثقله ..
لحظات وصدق حدسه وهو يرى ذاك الخيال على ضوء جذوة النار التي استطاع إشعالها أخيرا، وصنع منها ركوة تحيطها الحجارة، ليشوي عليها تلك الأسماك التي استطاع صيدها يتحرك متجها نحو اللهب ..
لم يكن يوحي الظل القادم نحوه كما يحاول تبينه بالأعلى أنه لحيوان ما جذبته رائحة الطعام لكنه أكثر شبها بظل بشري ينحني ويتحرك في خفة متسللا ..
ارتجف من جديد وقد جالت بخاطره جميع مشاهد آكلي لحوم البشر بالأفلام السينمائية التي شاهدها، والتي لم يكن يتوقع حتى في أسوء كوابيسه أن يكون عشاء لأحدهم يوما ما..
لكن ها قد أتى اليوم الذي سيكون وجبة مشبعة لواحد منهم، ها هو يقترب متخفيا بأوراق الشجر التي ينثرها على جسده كنوع من التمويه ومحاكاة البيئة ..
لم يكن يعلم ما عليه فعله بالضبط .. هل ينتظر موضعه حتى يرحل ذاك الكائن !؟.. أم عليه مهاجمته والقضاء عليه حتى يتخلص نهائيا من تهديده المستقبلي !؟..
أصبح صاحب الظل أسفل الشجرة التي يعتليها مباشرة، وهنا فقط استطاع اتخاذ قراره وانقض قافزا من عليائه على ذاك الكائن الذي أطلق صرخة مدوية وكلاهما يسقط أرضا..
من حسن حظ آدم انه سقط وهو لا يزل يحتفظ بتفوقه معتليا ذاك الوحش الآدمي، وأمسك بإحدى الأحجارالمحيطة بركوة النار ورفعها عاليا ليهوى بها على رأس ذاك البشري المتوحش، لكنه توقف مصعوقا وهو يتطلع لصاحب ذاك الظل الذي أرعبه ..
تلك اللحظة التي توقفها كانت فاصلة لحسم المعركة، فذاك الوحش امتدت كفه بالمثل ممسكة بأحد الأحجار التي كانت تحيط بركوة النار كذلك، ورفعها ليضرب بها رأس ادم الذي صرخ ممسكا بجبينه الجريح…
**********
همس السعيد في نبرة واهنة متطلعا لحفيدته في ترقب: أما من أخبار عن حياة !؟..
تماسكت نهى قدر استطاعتها باذلة مجهود جبار في السيطرة على رغبتها في الانفجار باكية في أحضان جدها تخبره الحقيقة: لااا.. ليس هناك من أخبار.. هاتفها لا يزل خارج نطاق الخدمة ..
هتف مهني معللا، يحاول جذب خيط الحديث من نهى حتى لا تضعف ملقية بالخبر المشؤوم: ربما لم تنتبه لهاتفها، فخلال الجولات السياحية الكثير من الضجيج والصخب.. وعند عودتها تكون مرهقة لا رغبة لديها سوى في النوم ..
هز الجد رأسه متفهما، وهمس وهو يغمض عينيه بغية الراحة: لا يهم .. تفعل مايحلو لها .. الأهم أن تكون سعيدة وعلى ما يرام ..
لم تستطع نهى الاحتمال أكثر، فاندفعت خارج الحجرة تنتحب في وجع .. ليتبعها مهني متطلعا إليها في إشفاق غير قادر على فعل أي شيء حيال حكم القدر ..
**************
كان الوحش لا يزل ممسكا بتلك الحجارة التي أصابت بها رأس آدم، تحسبًا لمهاجمة آدم له من جديد، والذي انحني متوجعا يمسك موضع اصابته رافضا الإبتعاد عن موضع تفوقه باعتلائه جسد ذاك الكائن وهتف في سخط :- اللعنة .. قلتها وسأظل أفعل .. لا خير فيكن أبدا .. ما أن تظهر إحداكن إلا وتهل المصائب واحدة تلو الآخرى..
تنبهت حياة لصوته، ونبرته الساخرة المميزة التي لا تخطئها آذانها، على الرغم من أنها لم تميزه نظرا لذاك السواد الذي يرسم به وجهه أشبه بجندي صاعقة في مهمة انتحارية، وهتفت في دهشة: آدم عبدالخالق.!؟.. أهذا أنت!..
هتف ساخرا، وهو لا يزل واضعا كفه على موضع اصابته: هو بعينه، التي كادت أن تضيع على يديكِ لتوها ..
ما أن ادركت كنه ذاك الرجل حتى تنبهت لوضعه، فدفعت به بعيدا عنها ليسقط جانبا.. ونهضت في محاولة لتعديل هندامها وضبط غطاء رأسها الذي انزاح قليلا للوراء بعد سقوطهما ..
هتف ساخرا وهو لا يزل يضغط بكفه على موضع جرحه فوق حاجبه الأيسر: تعدلين هندامك!؟.. أنتِ أشبه بفرع شجرة جاف يتحرك بتلك الأوراق العجيبة التي تضعين .
هتفت تبرر: أحاول التخفي .. وقد نجح الأمر حتى الآن على الأقل..
هتف مؤكدا في سخرية: نعم نجح بامتياز، وكاد أن يصيبني بأزمة قلبية ..
لم تعقب، لذا استطرد في تأدب مغاير لحقيقة شخصيته:- على أي حال.. مبارك نجاتك .. هل هناك من ناجين غيرك !؟..
هزت رأسها نفيا مؤكدة في أسف: لا أظن.. عندما استيقظت على الشاطئ وجدتني وحيدة تماما .. لم يكن هناك غيري.. كنت اعتقد أني نجوت وحدي فاختبأت بإحدى الفجوات الصخرية الموجودة قرب الشاطئ على الجانب الآخر من الجزيرة .. لكني اقتربت عندما وصل إلى رائحة شواء البارحة، وتنبهت لضوء تلك الركوة التي اشعلتها ..
هز رأسه متفهما وهتف مرة آخرى:- حمد لله على سلامتك .. لقد كتب الله لكلانا عمرا جديدا ..
هزت رأسها في إيجاب، وجلست في تردد قرب ركوة النار تشعر بالبرودة تنخر عظامها لقربهما من شاطئ البحر بشكل كبير .. فخطوات قليلة وتلامس أقدامها أمواجه .. تنبه لارتجافتها وهو يتفحصها على ضوء ذاك اللهب الذي تتراقص ظلاله على ملامح وجهها الذي يحكي قصة معاناة عاشتها ليومين معتقدة أنها وحيدة على تلك الجزيرة كما كان يعتقد..
هتف متعاطفا: يبدو أنكِ جائعة ..سأشوي تلك الأسماك وحتى انتهي سأحضر لك بعض من الفاكهة التي استطعت جمعها من أشجار قريبة فانا لم اتوغل لقلب الجزيرة بعد .. كان وصولك إلى هنا مخاطرة كبيرة..
واستطرد وهو يتجه لكوخه الخشبي الذي كان يضع به غذائه: وشجاعة هائلة أيضا..
عاد بثمرتي فاكهة، ومد كفه بهما فتناولتهما في سعادة وبدأت في قضم إحداهما بشهية متجاهلة تفرسه بها، وهو يهتف مسترسلا: على الرغم من أن مظهرك لا يوح أبدا بأنكِ تمتلكين تلك القوة الداخلية ..
توقفت عن الطعام، ورفعت ناظريها إليه وهتفت في صرامة: تتحدث وكأننا عشرة سنوات لا بضعة أيّام لم نلتق فيها إلا ساعات قليلة.. ماذا تعرف عني حتى تحكم على ما أملك وما لا أملك!؟.. من الأفضل لك التركيز على ما يخصك وترك ما لا يعنيك .
لم يهتز للحظة لذاك السيل من الهجوم العدائي من قبلها، بل أنه هتف في بساطة :- حسنا .. أنتِ على حق.. لكن أظن أنكِ منذ اللحظة التي ظهرتِ فيها وأنتِ أصبحتِ تحت بند “ما يخصني”..
نظرت إليه غير مصدقة ما يقول، وهتفت في تعجب: هل أنت واعٍ لما تنطق به!؟.. أنا لست إحدى مقتنياتك، ولن يحدث ..
هتف موضحا: ومن قال هذا .. ما قصدته أنكِ أصبحتِ مسؤولة مني وعليّ الحفاظ عليكِ وحمايتكِ حتى يحدث أمرا من اثنين .. الموت هنا .. أو النجاة ..
هتفت في ثقة :- أشكرك كثيرا .. لكن اعتقد أنه من الأفضل لكلينا أن يكون كل منا مسؤل عن نفسه ..
ونهضت مؤكدة وهى تشير بثمرة الفاكهة التي لا تزل بحوزتها :- أشكرك على حسن الضيافة..
واستطردت وهى تشير لجرحه الذي لم يكن خطرا كما توقعت فذاك الحجر الذي ضربته به كان من النوع الجيري الذي يتفتت بسهولة فلم يحدث قطعا غائرا بل مجرد خدش بسيط فوق حاجبه الأيسر أعطاه مظهرا شقيا لأحد المشاغبين :- وآسفة على ذاك الجرح ..
هتف ساخرا : تذكار قيم .. شكرًا.. تصبحين على خير وأرجو الاتصال قبل الزيارة القادمة التي أتمنى من صميم قلبي ألا تتكرر ..
تحركت خطوات مترددة وتساءلت في نفسها .. هل سيتركها ترحل بالفعل !؟..
تطلعت لقلب الجزيرة المعتم وتلك الأشجار المتشابكة التي عليها اجتيازها لتعود لموضعها السابق بذاك التجويف الحجري الرطب والذي لزمته ليومين تقتات على بعض الفاكهة قبل ان تلقاه معتقدة أنها ستموت ويكون ذاك موضع قبرها ..
لا .. لن تعود .. هكذا حزمت أمرها، وهتفت في ثبات حاولت ادعائه وهى تعاود الجلوس مرة آخرى قرب النار المستعرة : اعتقد أن بقائي معك هنا أفضل من بقاء كل منا بمفرده .. وخاصة ونحن لا نعلم ما ينتظرنا بهذه الجزيرة ..
اتسعت ابتسامته دون أن يعقب بحرف واحد يفسد عليها شعورها بأنه اقتنع بتلك المبررات الواهية لبقائها قربه .. لكن مهما يكن .. فقد اعترف داخليا أنه شعر بسعادة عجيبة .. سعادة من نوع خاص عندما اكتشف أنها على قيد الحياة .. وأنهما ها هنا على هذه الجزيرة وحيدين .. كأنما آدم وحواء قد بُعثا من جديد ..
***********
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية السماء تشهد أيها الماجن)