روايات

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الخمسون 50 بقلم آية محمد رفعت

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الخمسون 50 بقلم آية محمد رفعت

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) البارت الخمسون

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الجزء الخمسون

الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء)
الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء)

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الحلقة الخمسون

غاب قمر هذا المساء بسعادةٍ جمعت الشباب بأكملهم ليومٍ كامل، احترم فيها الشباب رغبة الفتيات في اختيار نوعية الطعام المرغوب في تناوله، فالعيش بتلك الدوامة جعل الامور غير اعتيادية بينهما،فأغلب الوقت كان يقضوه بصحبة العمال حتى أوقات تناول الطعام، لذا رضخوا لرغباتهم ومع ذلك طلب “آسر” أصنافًا شهية من الطعام الإيطالي لخبرته في مذاقها،ومع ذلك تناولن الفتيات ما قُدم إليهم بصدرٍ رحب، ومن ثم عادوا للسرايا لاستقبال يومهم الاعتيادي من جديدٍ، وتلاه قمر لليل جديد، وتتبعه الأخر حتى انقضى شهرين كاملين، قضوه بالعمل وبعدد كبير من العمال نجحوا أخيرًا بإعادة بناء سرايا “فهد الدهشان” من جديدٍ، وكأن ببنائها ذاك لمحة لتسلل شعاع نور مختلف عن ذي قبل، فمن يصدق بأن من ساهم ببناء هذا المبني هو بنفسه أكبر عدو كان يخشاه أفراد العائلة، فبات من أفرادها المقربون، واليوم قد ختم بوضع اللمسات الأخيرة وقد بات جاهزًا لسكنته، حيث إختار آسر بناء السرايا بلمسة حديثة يغمرها جانب من الصعيد، فمن يقف مقابل البناء يحتار حقًا بتصنيفه، إن كان حديثًا أم سرايا فخمة تابعة لأحدى عائلات الصعيد المرموقة، فشعر من يقف مقابلها ويتأمله بسعادةٍ وثقة لترك مهامها لابنه الذي أبدع بمعاونة الشباب بجعلها مميزة للغاية، وقبل أن تخطو قدمًا به، أشار “فهد” لآيان قائلًا:
_لم خلجاتك من المندارة..
احتازته دهشة جعلته يتساءل في ذهولٍ:
_ليه، أنت هتطردني بدري كده يا كبير!
ضحك “فهد” حتى ظهرت أسنانه البيضاء، ثم قال:
_لا مش هنتخلى عنك واصل، بس مكانك معتش بالمندارة.. مكانك جوه سرايا فهد الدهشان.
ثم استرسل باستنكارٍ:
_اوعاك تكون ناسي انك جوز بنت الكبير، يعني يحقلك في البيت زيك زي اللي فيه..
لمعت عين “آيان” بالدموعٍ، فردد بصوتٍ قاتم:
_المكانة دي أخدتها بسببك وبسبب آسر، وعلى فكرة بقى لو مكنتش سمحتلي اني أدخل كنت هدخل لاني اتعودت على الشباب.
ضحك “فهد” بصوتٍ مسموع، ثم أشار له بالاقتراب، فضمه لصدره وصعد به للأعلى، فولج من باب سراياه الخاصة يدًا بيد، فوجد الجميع بانتظارهما بالداخل، وكأنهم يتوقعوا وجوده كونه جزءًا من العائلة، لا ينكر بأنه كان ينوي المغادرة بصحبة زوجته لسراياه، ولكن فرصة تواجده بصحبة من أصبحوا عائلة له ثمينة وبالطبع لن يخسرها، وخاصة اليوم لانه مميزًا بالنسبة لعبد الرحمن،فاليوم هو زفافه كما وعده فهد من قبل،بأنه لن يخطو بداخل سراياه دون أن يعلن زواجه، وما فعلته تالين جعل الجميع يحترمها حقًا،فقد رفضت أن يقام لها حفلًا ضخمًا مثلما اعتادوا،بل طالبت الاحتفال بوجود العائلة ومن ثم تسافر بصحبة زوجها لاداء عمرة أفضل من كل تلك الترتيبات المعتادة،لذا استقبل “عمر”و”سليم”،”خالد”و”ريماس” من مطار القاهرة الدولي لحضور تلك المناسبة السعيدة، فما أن توقفت السيارة حتى أسرعت “رؤى” و”تالين” لأحضان والدتهم التي بدت بصحة متحسنة عما قبل،فكانت تعاني من مرضًا خبيث أخفته عنهما طوال تلك المدة، فكان يصر “خالد”على البقاء بالخارج لاجل علاجها ولكنه لم يرغب أن يبوح لابنتيه بما يعلمه، ضمت”ريماس” تالين لاحضانها وهي تردد بسعادة بالغة:
_الف مبرووك يا روح قلبي…كنت خايفة أموت قبل ما أحضر فرحك وقبل ما أشوف اختك..
بكت على صدرها وهي تردد بحزن:
_متقوليش كده يا ماما،ربنا يخليكي لينا يا ررب..
انضمت لهما رواية،فاحتضنتها بفرحةٍ وهي تلومها بضيقٍ:
_ده كلام تقوليه لبناتك في يوم زي ده، انتي كويسة وزي الفل اهو ده اللي يشوفك يقول عليكي اختهم مش امهم،مش كده ولا ايه يا نادين..
اتت من خلفها لتحتضنها هي الاخرى وهي تخبرها بمرحٍ:
_شيلي العين عنك شيلي، لو اعرف ان السفر بيحلي كده كنت سفرت من زمان انا وابو العيال..
تعالت الضحكات بينهن،فقالت ريم:
_تسفري وتهميلنا كيف، وبعدين انتي عايزة ايه تاني ما انتي خدتي بنتها لابنك بدر!!
ضحكت نواره ثم قالت:
_بناتها الاتنين خطفناهم ولو في واحدة تالته كنا هنجوزها برضه من هنا..
اشرق وجهها المجهد لوجودها بصحبهم، فمالت على رأس رواية وهي تهمس لها:
_انا مش هسافر تاني، كفايا غربة بقى انا عايزة اقعد وسط بناتي..
احتضنتها رؤى وهي تتوسل لها برجاء:
_ياريت يا ماما، كفايا كده..
فصلتهما نادين وهي تعنفهما بعتاب:_انتوا جاين تعيطوا في فرح البت لا بقولكم ايه فوقوا كده ورانا ليلة طويلة مش كده ولا ايه يا بنااات..
اتجهت نظراتهن تجاه “حور” و”ماسة”، فرفعوا من صوت الموسيقى، وجذبت تسنيم وروجينا تالين للرقص، فجلست ريماس لجوار هنية التي ربتت على يدها بحنانٍ:
_افرحي ببناتك ومتزعليش على اللي فاتك، ربنا هيعوضك بلمتهم حواليكي يا بتي..
منحتها ابتسامة مشرقة ثم صفقت بيدها مثلهما وهي تتابع رقصات الفتيات..
********
بالصالون..
انتبه “آيان” لإشارة “آسر” له بالجلوس لجواره، فدنى منه ثم جلس، بدأت الفتيات بتوزيع الحلوى وأكواب العصائر عليهما، واختاروا الجلوس بركنًا جانبي، يمكنهم من رؤية وسماع الجميع وبذات الوقت يبعد عن الأعين، فقال “فهد” لخالد حينما قال بثباتٍ:
_اللي حصل من كام شهر كان خير لتجديد السرايا وتقوية علاقتنا بابن المغازي..
ابتسم “آسر” ثم قال بإعتراضٍ:
_من قبلها وهو أثبت ده.
ضحك “سليم” ثم قال:
_ من أول ما جيت اهنه وأني كنت خايف عليك من ولدي، بس اللي مصدقتهوش انه اتقبل وجودك وحابه.
انتقلت النظرات تجاه “بدر” الذي تنحنح قائلًا:
_ما أنت اللي عملته زمان مكنش هين.
مازحه آيان:
_خليك محضر خير إحنا جاين نتكلم عن الحاضر.. هتنبش باللي فات ليه..
ضحك أحمد ثم قال:
_هو بدر كده، طول عمره عصبي وحمش على الرغم من ان أنا اللي المفروض كنت أعاملك بالعصبية والكره ده بس اتقبلتك أسرع منه..
ضحك الجميع ولكنه بتر على وجه أحمد حينما لمح الحزن يقبع بداخل حدقتي زوجته، فانسحبت بهدوءٍ دون أن يشعر بها أحدًا.
اتجهت الأعين تجاه عبد الرحمن الذي نهض ليقترب من مقعد عمه، فانحنى على ركبتيه ليكن بنفس مستوى المقعد، ثم قال بعاطفة عله يستميله:
_عمي أنت طول عمرك راجل كريم والبلد بتحلف بكرمك..
أجابه فهد بمكرٍ ساخر:
_لساك عايز ايه؟ ، جواز وجوزتك لسه ايه تاني!
أضاءات مصابيح وجهه، وهم بالوقوف على قدميه وهو يردد بسعادة:
_تديني افراج بقى عايز أطلع انا وعروستي.
تعالت ضحكات الشباب الرجولية، واحتلهما مزح ساخر على ما يفعله، فقال سليم بسخرية:
_معرفش الواد ده متصربع على الجواز كدليه،المفروض يا كبير كنت تعاقبه شهرين تلاته عشان يتعلم الصبر..
جحظت عينيه في صدمة:
_شهرين تلاته،خليك محضر خير يا عمي..
ثم دفع بدر قائلًا:
_ما تشوف أبوك يا عم..ده أحنا حتى نسايب!
رد عليه بسخطٍ وهو يكمل تناول الحلوى:
_ولا أعرفك.
لكزه يحيى هو الاخر بغضب:
_ما تلم نفسك يالا،انا حاسس ان شوية كمان والكبير هيديك حبس انفرادي في الاسطبل مع عمي ذكريا..
هز رأسه نافيًا:
_محدش يقدر يحبسني انا قتيل النهاردة..
كاد آسر بخنق رقبته، فقال وهو يكز على أسنانه:
_البنات قاعدين هتحترم نفسك بالذوق ولا نظامك أيه؟
كاد آيان بالاختناق فقد كان يتوسط جلستهما،لذا فصل بينهما وهو يردد بضيق:
_عبده المرادي مش هشيل عنك،فاحترم نفسك واقعد في جنب..
كاد بأن يجيبه ولكن كممت الأفواه حينما نهض “فهد” عن مقعده، ثم أشار لهما وهو يتجه للدرج:
_الوقت اتاخر، كل واحد ياخد مرته و يطلع أوضته.
نهض عبد الرحمن عن مقعده وتساءل بضحكة تكاد تصل للاذن:
_وأنا يا كبير؟
ضحك جاسم وهو يقول:
_لا الواد ده مش طبيعي.
ردد خالد بخوف مصطنع:
_أنا ابتديت اخاف على البت..
منح فهد نظرة صارمة لعبد الرحمن، ثم قال:
_خد عروستك واطلع، وخد بالك لو جالي منك شكوى انت عارف عقابك هيكون أيه!
أعدل من جرفاته وهو يجيبه بارتباكٍ:
_ربنا ما يجيب مشاكل..
فصعد بها للأعلى، ومن خلفه الشباب، فكأنما منحهما الأذن لنيل حرية بعد قيد احتجزهما لأشهر كانت بالنسبة لهم كالأعوام، لذا صعد كلا منهما بصحبة زوجته للأعلى، ليعود عاطفة الشوق الذي تمكنت من حجر القلوب العاشقة برباط قاسٍ!
*********
بغرفة “أحمد” الخاصة..
صعد متلهفًا لرؤياها، وخاصة بعد مغادرتها، فلم يكف عقلها عن التوقف بالتخمين حول سبب انزعاجها، أمازال يزعجها مجرد تلميحه بالعلاقة التي جمعته بروحينا سابقًا!
بحث عنها بالغرفة، حتى وجدها تجلس على المقعد الأبيض القريب من الشرفة الخاصة بغرفتهما، دنى منها أحمد، ثم جلس على ركبتيه ليكن من أمامها، فجذب يديها وقربهما من شفتيه ببطءٍ سلب زمامها، فطبع قبلة رقيقة على خد يدها، فارتجفت أصابعها التي تحتضن لهيب شفتيه، فتقابلت عينيها الدامعتين بعينيه المتعبة من لوعة الفراق، فتحرر لسانه بعد فترة من الصمتٍ:
_كل ما بحس إنك بتتضايقي لما بتكلم أنا أو أي حد عن العلاقة اللي كانت بتجمعني بروجينا بحزن إنك مش واثقة في حبنا..
ثم ارتفع بجسده قليلًا، ليتمكن من محاصرة خديها بيديه، واقترب بوجهه منها وهو يهمس:
_ الزعل اللي بشوفه في عيونك بيقتلني.
ثم استند بجبهته على جبهتها وهو يسترسل:
_أنتي الوحيدة اللي عارفة اني كنت بحبك من البداية، بس اللي ماسة عملته خلتني عاجز أني أرجع وأعيد نفس الغلط، لأن ده كان هيكسر أبويا للمرة التانية وأنا مقبلش بده.
هزت رأسها نافية، ثم ابتعدت للخلف حتى يتمكن من سماعها ورؤية عينيها الصادقة:
_عارفة كل ده يا أحمد، ومالوش لزوم نتكلم فيه، لأن روجينا دلوقتي بقى ليها حياتها الخاصة وإحنا لينا حياتنا.
تعمق بالتطلع لعينيها فشعرت بتشكيكه لما قال، فرفعت يدها تزيح خصلاتها التي تعبث بجفنيها ثم قالت باستسلامٍ:
_مش هنكر اني كنت بتضايق، لما بشوفكم بتتكلموا، ومع إني واثقة ان مستحيل تتخطى حدودك بس غصب عني كنت بغير عليك وبحس جوايا بوجع مالوش أي مبرر.
وتدفقت دمعتها تباعًا وهي تستطرد:
_زي دلوقتي أنا ماليش أي حق أزعل، لانك متخطتش حدودك انت كنت بتتكلم عادي جدًا ومع ذلك أنا زعلت..
نهضت “حور” عنه وكأنها تتهرب من رؤية عينيه التي ستفضح ما يشعر به بتلك اللحظة، ثم قالت ببكاءٍ:
_فمتحاولش تبرر حاجة لإني أنا اللي غلط يا أحمد مش أنت..
انتصب بوقفته، ثم لحقها فلف ذراعيه من حولها، وأجبرها على التراجع حتى بادت تقابله، فدفن رأسه بين رقبتها حتى لمسته خصلات شعرها الطويل، فأغلقت عينيها بتأثرٍ قربه المهلك لإنذار عشقها الضعيف، وخاصة حينما همس لها بصوته الرخيم:
_مزعلتش من كلامك يا حور، بالعكس أنا فرحان انك بتحبيني أكتر ما كنت متخيل.
ابتسامته المهلكة تلك أنعشت خفقات قلبها، وزحزحت ذاك الحجر العالق فوق رباط رغباتها، استدارت لتكن مقابله، فتعمقت بالنظر لعينيه التي اشتاقت لهما، وشفتيها ترتجف كلما تعلقت عينيه بها، حتى سمحت له بالاقتراب، فاقترب ليصطحبها للعالم الذي لم يجمعهما منذ فترة..
*********
بغرفة “عبد الرحمن”
ولج من خلفها ليغلق باب الغرفة فافزعها صوته الصاخب، لعقت “تالين” شفتيها وهي تتراجع للخلف بارتباكٍ وخفة، فلم يعيقها الفستان فكان تصميمه بسيطًا مميزًا، يعلو كتفيه بفراشات بيضاء ويهبط باتساع من الاسفل، خلع عبد الرحمن جاكيته الاسود وجرفاته بضيقٍ، فلم يعتاد على ارتداء الحلى من قبل، ارتعبت تالين مما يفعل فتراجعت للخلف وصوتها المرتعش يهمس بخوفٍ:
_أنت بتعمل أيه؟!
تفاجئ من هيئتها ورجفة جسدها من شدة الخوف، فقال بابتسامةٍ هادئة وهو يشير لها بالاسترخاء:
_أنا عارف ان هزاري خلاكي تاخدي عني فكرة طين، بس أنا والله بريء من أي ظنون تطاردك كده أو كده، أنا بس بفك الجرفات لانه خانقني مش أكتر..
كلامه لم يؤثر بها، فكانت تتراجع للخلف متجاهلة ما يبرر بقوله، فتناست تمامًا طرحة فستانها الطويل فدعستها بقدميها رغمًا عنها، فأسرع عبد الرحمن تجاها ثم أمسك بيدها ولكن اختل توازنها فسقطت على الفراش وهو من فوقها، فزعت حدقتيها التي تتطلع بها تجاهه، فدفعته عنها بكل قوتها حتى سقط أسفل الفراش فردد بوجعٍ:
_يا بنت المجنونة.. ضهري آه.
ثم جلس على الأرضية وهو يرمقها بنظرات محتقنة، فتكورت على ذاتها على الفراش ثم قالت بشراسةٍ:
_خليك مكانك لو قربت هقتلك يا عبد الرحمن..
أشار لها ساخرًا:
_وعلى أيه خليكي مكانك.
ثم نهض وهو يسند ظهرها بيديه، واتجه للمقعد، فجلس عليه وهو يهمس بغيظٍ:
_هي جوازة منيلة أنا عارف، عنيهم فيها..
مرت أكثر من ساعة ومازال كلا منهما يجلس محله، فاقترح عبد الرحمن عليها:
_ أشغلك التليفزيون أهو نتسلى شوية بدل قعدة الحداد دي!
أجابته بحدةٍ:
_مش عايزة أتفرج..
زم شفتيه بسخطٍ:
_طب تيجي نخرج في البلكونة نتهوى شوية بدل الكبتة دي..
قالت بنفس نبرتها الحازمة:
_مبخرجش اخرج أنت..
ردد بملل:
_أمممم. لا كده مش هينفع..
ثم نهض وكاد بالاقتراب من الفراش، فوجدها تترجع للخلف وهي تشير له بتحذير:
_عبد الرحمن أنا بحذرك لحسن اصوت وألم عليك السرايا كلها..
ضيق عينيه بسخريةٍ وهو يجيبها:
_ياما هو انتي ليه محسساني انك قاعدة مع متحرش، ده انا جوزك يا حبيبتي فكي كده..
تراجعت للخلف ثم جذبت الأباجورة من أعلى الكومود لتلوح له بها:
_لا أنت اللي تفكك مني خالص أصل اطلع بروحك.
تطلع لها بصدمةٍ، ثم ردد:
_فكك مني، انت جاية من بولاق!
مرر يديه بشعره بتفكيرٍ للخروج من تلك المعضلة، فابتسم بمكرٍ حينما راودته تلك الفكرة المجنونة، فقال بحزن مصطنع:
_خلاص يا تالين انا مش هفرض نفسي عليكي، خليكي هنا وانا هروح انام في الڤرندا في البارد ده عشان اسيبك تاخدي راحتك في الاوضة.
وحمل الوسادة ثم توجه للخارج بابتسامةٍ شيطانية، فتطلعت له بنظرات مرتبكة وهو يبتعد للخارج، فتسللت لحافة الفراش ثم جلست تراقبه بتوترٍ، طال بها لدقائق معدودة، حتى اتبعته ووقفت على باب شرفة الغرفة تتأمله بحزنٍ وقلب موجوع لنومته أرضًا، فنادته بتوترٍ:
_عبد الرحمن….
لم يأتيها رده مع انه مازال مستيقظ ويبتسم بمكرٍ لنجاح مخططه، فاقتربت منه ثم انحنت لتحرك جسده وهي تناديه بشفقةٍ:
_قوم نام جوا الجو برد..
فجأها حينما استدار بجسده تجاهها، ثم حاصرها بين ذراعيه وهو يهمس لها بمكرٍ:
_ويهمك في أيه أمري!، ما أنتي من شوية كنتي هتموتني..
جحظت عينيها بصدمةٍ:
_أموتك! ، انت اللي تصرفاتك مريبة..
تطلع بعينيها بنظرةٍ أهلكت مشاعرها المرهفة، فدنى ليصبح قريبًا للغاية ومع ذلك لم ترتد للخلف تلك المرة، وكأنها مازالت تحت تأثيره، فهمس بصوته الرجولي الذي أسبر أغوارها:
_مهو اللي يشوف جمال زي ده وميتجننش وميبقاش فعلا طبيعي..
ثم رفع يديه ليزيح حجابها بخفةٍ، فانسدل خصلات شعرها البني على كتفيها، فتاه بها كالمسحور، واقترب وهو يردد بصوته المغري:
_شكلك جميل من غير الححاب..
ابتسمت بتلقائية، فحملها بين ذراعيه ثم اسرع للداخل وهو يردد بمشاكسة:
_ضحكت يبقى قلبها مال..
تعالت ضحكاتها ويدها تتعلق برقبته خشية من أن يسقطها، ولكنه لم يتركها، بل اخمد مقاومتها لتيار عشقهما الجارف، فاستسلمت لتلك الامواج التي حاوطتها لتنعش رغباتها تجاهه..
********
بغرفة “يحيى”..
مرت أكثر من ثلاثون دقيقة ومازالت بداخل حمام غرفتها، وكأنها عروس تختبئ حرجًا، مل” يحيى”من الانتظار، لذا نهض ليطرق الباب وهو يتساءل بقلقٍ:
_ماسة إنتي كويسة؟
أتاه صوتها الحزين:
_لأ.
اختصارها للكلمة دون تبرير جعل الأخير يقتل من فرط الخوف عليها، فعاد ليطرق وهو يقول متلهفًا:
_افتحي الباب..
فتحت الباب وظهرت من خلفه تتحرك تجاه الفراش وعينيها مدفونة بالأرض، تطلع للجلباب المنزلي الذي ترتديه باستغرابٍ:
_أنتي لسه مغيرتيش هدومك!
رفعت عينيها الباكية تجاهه ثم قالت بصوتٍ مختتق:
_لا ومش هغير.
رفع أحد حاجبيه وهو يتساءل بذهولٍ:
_انتي مش كنتي داخلة تلبسي، أيه اللي حصل فجأة؟
أجابته بتسرعٍ وكأنها كانت تنتظر سؤاله:
_الهدوم اللي أخدتها جوه مدخلتش فيا، أنا كنت بقول هخس بعد الولادة لكن دي كانت حجة ساذجة بصبر بيها نفسي.. لاني تخنت الضعف بالشهرين اللي فاتوا وجسمي باظ خالص.
كبت ضحكاته بصعوبةٍ بالغة، فذلك الموضوع يعد حساس وهامًا بالنسبة للنساء، وإن تلاعب بانفعالات وجهه ربما تتلاعب هي بروحه، لذا بدى ثابتًا للغاية، وهو يدنو منها، فجلس لجوارها على طرف الفراش ومن ثم جذب القميص الذي تضعه على قدميها، ليلقيه أرضًا وهو يردد باستنكارٍ:
_مبحبش القميص ده وحش!
ثم استرسل بابتسامة هادئة:
_وبعدين مالك كده، انتي في كل حالاتك قمر وأنا مبسوط بيكي كده يا ستي..
ثم غمز لها بمشاكسةٍ تغمدها المرح:
_يعني بقالي ساعتين بثبت الواد عشان ينام وفي الاخر تطالعيلي وانتي بتقوليلي تخنت وبتاع ده بالذمة ده كلام!
أزاحت دمعاتها اللامعة بحدقتيها ثم تساءلت بجدية:
_بجد يا يحيى يعني أنت مش فارق معاك اني تخنت، أقصد لسه شايفني جميلة يعني؟
اختطف ورقة من ربيع رحيقها النادر، وهز يجيبها بغرامٍ يشد على حروفه:
_كل يوم بيعدي وانتي فيه جنبي بشوفك أجمل وأحلى من اليوم اللي قبله… بأحبك…
ازاح الغبار عن روحها المعذبة، وأخذت تشدو من خلفه ليذقيها فنون عشقه التي منحتها الثقة التي فقدتها بذاتها كأنثى، لم يكن جلادًا لروحها بل أعاد لها البهجة لتعود للحلم من جديدٍ وربما ستود من ذاتها أن تسترجع جسدها الرشيق لأجله هو، ولكن بنهاية الأمر سيكون قرارًا بيدها هي..
********
بغرفة “بدر”..
لف”بدر” من حولهما غطاء سميك، ثم جلسوا سويًا لجوار المدفأة، فألقت “رؤى” بثقل رأسها على صدره وعينيها شاردة بالتطلع للنيرانٍ، مرر يديه على طول شعرها المفرود على ذراعيه وهو يحاول اكتشاف سبب حزنها العميق هذا، فلأول مرة يشعر بأنها ليست معه قلبً وقالبًا، فعلاقة حبهما تلك لم تكتمل بما ود، لذا سألها بشكلٍ صريح:
_أنتي في حاجة مزعلاكي مني؟، حاسس إنك متغيره ومش طبيعية!
من منا حينما تهاجمه الأوجاع يشتاق لأن يخرج ما يضيق به صدره للقريب من ذاك القلب.. “ما بك”.. فكأنما ننتظر سماع تلك الكلمة بفارغ الصبر حتى نفصح لها ما بداخلنا، وهو لها أقرب من أي شخصًا، التفتت” رؤى”بجسدها إليه، فتمكن من رؤية دموعها المختبئة خلف حدقتيها، فرفع يديه ليزحهما عنها وهو يردد بصدمةٍ:
_أنني بتعيطي! .. في أيه إتكلمي؟
خرج صوتها متقطع من فرط بكائها:
_هو أنا ليه محملتش لحد دلوقتي!
تفاجئ من سؤالها الغريب، وخاصة حينما استرسلت بدموع:
_أنا متجوزة قبلهم وتسنيم وحور وروجينا كلهم حوامل.
تحرك لسانه الثابت لينطق بعدم استيعاب:
_أول مرة أشوفك بتقارني نفسك بحد، والأكيد أن ربنا له سبب في التأخير ده..
هزت رأسها بحزنٍ، ثم عادت لتردد بارتباكٍ:
_بس على الأقل ندور، أنا مثلًا أروح أكشف وأنت كمان.
ليس أحمقًا حتى لا يفهم ما تخبئه بعينيها وتحاول إلقائه عليه عبر كلماتها المرتبكة تلك، فاعتدل بجلسته ثم قال بشكٍ:
_أنتي روحتي لدكتور يا رؤى؟
بلعت ريقها الجاف بصعوبةٍ بالغة، فحاولت استجماع شجاعتها المهدورة وهي تبرر له بخوفٍ:
_ لما كنت مع حور كشفت عند الدكتورة بتاعتها.
بنفس النظرات الثابتة التي لا تفشي الكثير تساءل:
_وقالتلك أيه؟
فركت أصابعها بقسوةٍ كادت باضرامهما وهي تجاهد خوفها الذي سيقتلها لا محالة:
_آآ… قالتلي اني كويسة وإن آآ…
انقطع حديثها وهي تراقب ردة فعله بتوترٍ، فقال بهدوءٍ غير متوقع لها:
_ولزمته أيه اللف والدوران ده كله ما تقوليلي روح اكشف!
ردت عليه بانكسارٍ لمسه بنبرتها:
_أقولك ازاي وأنا عارفة أن الموضوع ده بيبقى حساس وخصوصًا هنا في الصعيد..
ابتسم بسخريةٍ وهو يتأمل خوفها المبالغ به ثم قال:
_كل أفكاركم عننا غلط، إحنا بشر زيكم عادي، عندنا الدكتور والمهندس والغني والفقير، وأغلبنا ناس متحضرة ومفيش عندهم الجهل ده، زي ما برضه هتلاقي الجهل في كل مكان حتى لو كانت دولة متحضرة مش مصر بس، كل مكان فيه الحلو والوحش..
قوست حاجبيها بضيقٍ:
_أنا بكلمك عن الحمل وانت بتتكلم في مصير دول!
ضحك بصوتٍ مسموع ثم قال بسخريةٍ:
_أعملك أيه ما أنتي معاشراني وعارفني انا وأهلي على أيه وجاية تقوليلي عندكم بالصعيد!!
ثم استكمل حديثه بجديةٍ تامة:
_وعمومًا يا ستي، بكره الصبح هروح أكشف مع اني شايف اننا لسه متجوزين قريب وكل ده مالوش أي لزمة بس هريحك حاضر.
ارتسمت ابتسامة رقيقة على وجهها، فاقتربت منه وهي تتساءل:
_يعني أنت مش زعلان مني.
قال باستغرابٍ:
_هزعل ليه..
ثم اقترب منها وهو يردد بمكرٍ:
_المفروض أفرح لانك بتحبيني وعايزة تخلفي مني أيه اللي يزعل في كده..
تراجعت للخلف وهي تشير له بتحذيرٍ:
_أبعد أنا بقولك أهو!
قربها إليه وهو يخبرها بخبثٍ:
_في حاجات مينفعش تتحكي..
تعالت ضحكاتها التي أنارت وجهها الحزين، فكم كانت تخشى مصارحته لما يقلقها منذ تلك الاسابيع، واليوم تمكنت من ذلك وتفاجئت من تفهمه واحترافه في اجتياز ما قالت، فغيره يتملكه غضب رجولي ويعتبر تلك اهانة صريحة موجهة إليه…
*********
بغرفة “روجينا”..
على عتبة غرامك فقدت قلبي، وأصبحت كالدميمة بين أصابعك، أتبع شوقي الذي ينجرف كلما رأك، فيصبح العالم من حولي كالغرفة الضيقة التي لا تسع سوى حبي البائس، فأخبرني هل أنت راضٍ عما فعله بي حبك المجنون؟
حتى وإن كان حبك سمًا سأرتشفه بصدرٍ رحب، فأنا أعلم أن عذابك هو جنة لي، حتى وإن كنت ظالمًا قاسٍ، فكل ما تمنيته هو أنت فيكفيني كوني جوارك، أتنفس نفس الهواء، فكن رحيمًا بي وأحفظ قلبي الذي اختارك وجعلك موطنًا للأجئة لا وطن لها، أشكو إليك عما فعلته بي وأجد عينيك تواسيني، وكأنها تود أن تحتضني لتحميني من قسوتك أنت، وها قد تغلب حبي عليك وانتصرت برائتي لتجعلك آسير لحبي… قلبي يناجيك.. فاقترب..
في تلك اللحظة انتهى كل شيء، لم يعد هناك مجال للعتاب، الا يكفيهل تلك الفترة التي استغرقتها للصفح عنه، فتح”آيان”ذراعيه لها، دعوة صريحة لها بالاقتراب، فقطعت تلك المسافة الفاصلة بينهما لتندث بين أحضانه، ضمها إليه بشوقٍ، وهمساته تسري لتخترق آذانها:
_كنت عارف أن هيجي يوم ونعيش فيه زي أي زوجين، واليوم ده جيه يا روجينا.
ثم رفع ذقنها إليه حتى لا تتهرب من نظراته كما تفعل، ليعود لحديثه بابتسامةٍ خبيثة:
_أنا هنا معاكي في نص بيتك وفهد مش ممانع!
ضحكت رغمًا عنها، وهي تردد بعدم تصديق:
_فهد تاني!
هز رأسه بخفةٍ ليعود لتصحيح ما قال:
_الكبير.
ثم قرص اذنيها، ليخبرها بمشاكسةٍ:
_هنبتديها تعليقات سخيفة من أولها.
عادت لنوبة ضحكها وهي تترجاه:
_خلاص خلاص أنا آسفة.
تركها، فدفعته بيدها وهي تشير له بغرورٍ:_بتمد ايدك عليا وأنت هنا في أوضتي، أنا ممكن أطردك بره تنام بالمندارة تاني على فكرة..
قطع موجة المزح فيما بينهما، حينما دنى ليستند بجبهته على جبهتها، فلفحت أنفاسه الهامسة وجهها:
_أهون عليكي تعملي فيا كده.
هزت رأسها نافية، فزار وجهه ابتسامة خبيثة، فاقترب خطوةٍ منها وقدميها تترجع خطوة حتى سقطت على الفراش من خلفها، فشعر بارتباكٍ غريب يتخلل على معالمها، لذا توقف بمحله وتصنع القائه لنظراتٍ غير راضية للغرفة:
_آسر كان غلطان لما ساب كل واحد يفرش اوضته براحته، لأن ذوقك مش عجبني بصراحة.
كزت على أسنانها بغيظٍ:
_نعم!
رد عليها بعنجيهةٍ:
_ذوقي أحسن منك وده باين في السرايا بتاعتي.
وضعت يدها بمنتصف خصرها بغضبٍ:
_وأيه اللي مش عاجبك فيها ان شاء الله.
جلس جوارها وهو يشير لها على طلاء الغرفة والستائر، والفرش:
_لونها بينك حتى الفرش كله بناتي هو محدش قالك انك معتيش لوحدك ولا أيه؟..
والقى الوسادة تجاهها وهي يسترسل ساخرًا:
_ميكي ماوس! أنا حاسس إني داخل أوضة طفلة عندها خمس سنين!
جذبت الوسادة ونظرات تتوعد له، فاقتربت منه قائلة بعصبية:
_عجباني..
رد بصوتٍ رخيم أذهب عقلها:
_وأنتي كمان عجباني بجنانك ده..
ابتسمت على استحياءٍ ثم كادت بالعودة لمحلها، فقيدها لتظل محلها، من ثم احتضن وجنتها بيديه لتقترب منه أكثر، واستطرد بعشقٍ:
_وحشتيني..
انخضعت له وتركته يخطف روحها العاشقة، عله بذلك يحطم أخر حاجز بينهما، فقد عاد ليسترجع عشقها الذي كاد بأن يفقده، عاد ليخلد لحظاتها لتصبح خاصة لسواهما..
********
بغرفة “آسر”..
كان ينعش ذاته بحمامٍ دافئ حينما انقطعت الكهرباء، فأغلق الدوش وهو يناديها بقلقٍ:
_تسنيم!
عدم سماعه لردها جعل قلقه يزداد، فجذب المنشفة ليعقدها من حوله، وخرج للغرفة سريعًا يبحث عنها، فتفاجئ بالكهرباء تعمل بالخارج، نادها بصوتٍ أعلى:
_تسنيـــــــم!
انتبه آسر لعدة أسهم على الأرض صنعت من دوائر الشمع الملون، تتجه للشرفة، فجذب بنطاله الموضوع على الفراش ثم ارتدائه واتجه للشرفة، فوجد طاولة صغيرة تحمل قالب من الكعك ويحمل عدة ألواح صغيرة على كلًا منهما صورة لهما سويًا، وشمعتين تحملان رقم تسعة وعشرون، تجعد حاجبيه بذهولٍ وهو يخمن كناية التاريخ المدون فابتسم لما تحضره له معشوقة قلبه، أغلق آسر عينيه بتلذذٍ عجيب حينما تسللت رائحتها لأنفه فعلم بأنها تختبئ بمكانٍ قريبًا منه، فاتجهت عينيه صوب الستائر التي تفصل بين الشباك المعدني الذي يحيط بشرفته ليمنحهما مساحة خاصة، فرفع الستار ليتفاجئ بها من خلفه، انعقد لسانه وهو يتأملها بذلك الفستان الساحر الذي يراه على أغلب الفتيات العاريات، ترتديه له زوجته لأجله هو، فمن قال بأنه محرم علينا ارتداء مثل تلك الفساتين ولكن لمن سترتديه؟ … أتريدين أن يراكِ بها كل رجلًا وكأنكِ سلعة مباحة للجميع، أم أنك ثمينة ولا تخصي سوى رجلًا واحد، زوجًا لكٍ.. يصونك عن الأعين ويحميكي كالجوهرة نادرة الوجود!!
فربما ذات يومًا ستشاقين للحشمة ولكن قبلها سيحن قلبك لرؤيته يغار عليكي ويأمرك بارتداء ما يخفيك عن الأعين، ولكن ربما بذاك الوقت الذي تفقين به من غيبوبة الدنيا الزائفة وتحاولين إخفاء جسدك عن أعين الذئاب ستجدين اختيارك المثالي من وجهة نظرك يأمرك بالتبرج كونه اعتاد على رؤيتك هكذا، لذا كوني حذرة باختيار أي صورة تفضلين أن يراكِ بها زوجك..
أمسك “آسر” يدها ليرغمها على الخروج من خلف الستار، ثم لفها بين ذراعيه وهو يصفر بإعجابٍ شديد:
_أيه الجمال ده كله!
جاهدت لمحاربة خجلها، وهي تجيبه بتهربٍ:
_أنا عارفة انكم مش بتحتفلوا بأعياد الميلاد، بس ده احتفال صغير وخاص بينا..
رفع يديه ليزيح شعرها للخلف ثم قال بابتسامة مشاكسة:
_ملحقتش افرح انك اتجرأتي أخيرًا وعايزة تفاجئيني، بتهربي كعادتك.
حاولت السيطرة على دقات قلبها التي تدق كدفوف الحرب من قربه منها، ثم قالت:
_آآ… أنا جايبالك هدية تحب تشوفها..
وتركته وأسرعت للطاولة، فمرر يديه بين خصلات شعره وهو يتابعها بهيامٍ، فعادت له بهدية صغيرة ملفوفة بشريط أبيض، فتحه آسر ليجد نوت صغير، ففتحه ليجد بأول ورقاته
“كل سنة وأنت معايا..”
لف ورقاتها ليقرأ الثانية
“بحبك” ..
أبعد النوت ليجد محفظة من الجلد وساعة أنيقة وحزام من نفس لون المحفظة، كانت هدية بسيطة وليست باهظة الثمن ولكنها عنت له الكثير، يكفيها تذكر عيد ميلاده، وادخرها من مصروفها الضئيل، فطوال تلك المدة كان الجميع يهمل زوجاتهم واحتياجتهم، كل ما يشغل تفكيرهم الانتهاء من بناء المنزل الذي سيأويهم أولًا، ترك آسر العلبة على الطاولة ثم جذب يدها وطبع قبلة رقيقة على أصابعها وهو يهمس بنبرته الذكورية الجذابة:
_شكرًا لإني في بالك وعلى طول فاكراني..
ثم ضمها إليه ليلامس بشفتيه جبهتها فمنحها قبلة اخرى وكلماته تخرج ببطء:
_بأحبك..
ثم حركها ليتجه بها للكست الصغير، فتح أزرره ليغدو أحد أغانيه الهادئة، فتميل بها بحرافيةٍ، وضعت تسنيم رأسها على كتفيه، ولكنه رفض ذلك فأبعدها عنه وأجبرها على التطلع لعينيه العاشقة، تاهت بهما وخاطبته بما أخفته هي.. وصاحت بصوتٍ يئن عشقًا له.. فهمسة اللقاء تترك القلب يئن لوعة لرؤياك.. فأخبرني كيف السبيل للنجاة وقد غرقت سفينتي بين أمواج عشقك السرمدي، وحينما تهفو تلك النسمة العابرة، فتحتضن قلبي البائس،أراها تهمس بلوعةٍ العشق الذي يذبح فؤادي، فترى هل ستكون البلسم لفؤادٍ بات متعطش لحنان لمسة يديك؟ أم ستكن أنت جلادي!
أجابها الآسر بنظراته الدافئة، فبات يجيب على ما سددته من اتهاماتٍ، خاطبتها عينيه فأجابتها بعشقٍ..
جلاد.. هل عشقي لكِ قسوة!.. بلي أنا أحبك وأحب أن يميزك حبي، فلطالما كنتي الهواء الذي ينعشني، أنا بدونك بائس، وكأني فقدت كل شيء يجعل قلبي ينبض للحياة، فأخبريني هل هناك حياة بدونك؟… لا عزيزتي بل أنتي حياة لقلبي وروحي وعشقي…
سحبت تسنيم عينيها عنه ثم انخفضت برأسها لتحتضنه، فانخفض ليضع رأسها على رقبتها، ويديه تحتضنها بتملكٍ، فخرج صوتها منخفض وهي تقول:
_أنا عرفت النهاردة نوع الجنين..
اتاها صمت مطول، فلم تستمع سوى صوت انفاسه العالية، فتساءلت بفضولٍ:
_يعني مش عايز تعرف هيجيلك ايه؟
فتح عينيه ليقابل نظراتها المهتمة لسماع ما سيقول، فقال بابتسامة فتاكة:
_يونس، مع اني كان نفسي في بنوتة شبهك بس كل اللي يجبه ربنا كويس.
تساءلت بدهشةٍ:
_عرفت منين..
وضع يديه على بطنها المنتفخة وهو يجيبها بعاطفة:
_احساسي..
ثم اقترب ليحملها اليه:
_زي ما عيونك بتقول كلام كتير انتي مش قادرة تقوليه..
ثم ابتسم بخبث وهو يدنو منها:
_وانتي كمان وحشتيني..
صدمت من قراءته المبالغ بها لعصارة افكارها، فلم يمنحها حتى وقتًا للاستيعاب بل عرقل قدميها لتنزلق معه عبر شراع مركبهما الخاص، فاصطحبها رويدًا رويدًا حتى سلمته قلبها وحبها…
**********
غاب القمر عن عرشه حياءٍ واعتلت الشمس محله لتتبختر بردائها الذهبي الساطع، فقد تتابعا على الحكم سبعة أيام متتالية، وقد حان وقت الاستعداد لعودة كبير المغازية لسراياه، فامتلأت السيارات بالفواكه والكثير من الاطعمة المختلفة، خيرًا وفير من سرايا “فهد الدهشان” وهدايا قيمة تتابع ابنته في عودتها ليكن أول جزء من رد الاعتبار لها، فصعدت “روجينا” لسيارة آيان وظلت بانتظار عودته، فاصطحبه آسر للاسطبل، فسأله آيان باستغرابٍ:
_جايبني هنا ليه؟
ابتسم آسر وهو يشاكسه بحديثه:
_مستعجل على الرجوع اوي كده ليه!
قال بفرحةٍ لمسها بنبرته:
_ومستعجلش ليه، اخيرًا رجعت منتصر ومعايا مراتي..
رفع حاجبيه بعنجهية:
_وكل ده اتحقق بفضل مساعدتي ولا هتنكر..
ضحك آيان وهو يشير له باستسلام:
_مقدرش يا كبير..
مرر آسر يديه على ظهر همام بحنانٍ، ومن ثم تطلع لآيان وبنظرة جادة، شملت معنى عتيق لصداقة وأخوة قال:
_نادتك هنا عشان اقدملك هديتي..
ضيق عينيه وهو يتساءل باستغرابٍ:
_هدية أيه؟!
أشار بعينيه لفرسه:
_همام ومهجة…
كانت صدمة لآيان، الذي ردد بذهولٍ:
_ازاي وأنت بتعزهم جدًا..
ابتسم وهو يربت على كتفيه:
_بس بعزك أكتر منهم، ثم اني هديتي ليك بتأكدلك مكانتك عندي ولا أيه؟
منحه بسمة صافية، ثم التقط منه اللجام:
_دي أحلى هدية جاتلي في حياتي، أنا على الرغم من حبي للخيل بس عمري ما فكرت أحتفظ بيهم..
عدل آسر من قميصه الغير مرتب وهو يرد عليه:
_واهي جتلك..
ثم اتجه لبرق ليشير اليه:
_ده مقدرش افرط فيه، لان تسنيم متعلقة بيه جدًا، يرضيك اخد تذكرة لعشماوي..
تعالت ضحكاته فشاركه الاخير بمرحٍ، واتبعه للسيارة فوجد فهد ينتظره، فما ان دنى منه حتى قال بصرامة تعمد جعلها جادة للغاية:
_بنتي في عينك اوعاك تزعلها ولا تخلي اللي فات يتعاد..
قدر خوفه على ابنته حتى وان كان يثق به، فقال بتهذبٍ:
_أفيدها بحياتي وانت عارف ده..
منحه ابتسامة حملت بالثقة، ومن ثم سمح له بالمغادرة فصعد للسيارة التي تحركت بهما للسرايا…
********
بسرايا “المغازية”
زينت السرايا بأنوارٍ علقت على أسوارها استقبالًا لزوجة كبيرهما بعد تلاقي الامر صريح منه، فالرجل هو من يملك زمام الأمور المتعلقة بالمعاملة الكريمة من أهل زوجها، إن شعروا باهميتها وحبه لها يحترمها الجميع خشية منه، وإن وجدوه يهينها ويهدر كرامتها دعسوها قبل أن يفعل هو، وقد أعاد لها آيان ما سلبه منها من قبل، فاجتمع الجميع بالسرايا استقبالا لها، وبعد عدة دقائق وصلت السيارة للداخل، فانتباها وخزة عنيفة ضربت قلبها الذي ارتجف خوفًا لتلك الذكريات التي عانتها بالداخل، فشعر بها آيان، فتسللت يديه لتحتضن يدها، وأصر الدخول بها ويديه تتمسك بها بقوةٍ، فما أن خرجت من السيارة حتى شددت من يديه وهي تتطلع للدرج الجانبي الذي فقدت على درجاته جنينها، فهاجمتها عاصفة من الخوفٍ أن يعاد ما واجهته هنا مجددًا، ولكنها اندهشت حينما رأت “فاتن” تخرج بذاتها لاستقبالها بعينين دامعتين، فاقتربت منها وبدون اي سابق انذار احتضنتها وهي تردد ببكاء استطاعت روجينا التماس صدقه:
_حقك عليا يا بتي، أني كنت السبب في كل اللي انتي عشتيه..
ثم ابتعدت عنها لتتطلع لها وهي تستطرد بندم:
_يعلم ربنا اني ندمت على اللي عملته فيكي، وربنا خدلك حقك مني..
ثم ازاحت دموعها وهي تشير لها بالدخول:
_خشي بيتك واعتبريني زي امك من اللحظة دي..
أحيانًا الكلمات لا تكفي لزرع الآمان، ولكن وجود آيان لجوارها جعلها تشعر بالاطمئنان، فولجت للداخل ووجدت ناهظ باستقبالها، فاحتضنتها بفرحة وهي تردد بسعادة:
_وحشتيني اووي..
منحتها ابتسامة مشرقة وهي تؤكد لها:
_وانتي كمان والله وحشتيني اوي..
كادت باتباعها للغرفة الجانبيه، فاوقفها آيان بعدما لف ذراعيه حول كتفي زوجته:
_حيلك، واخدها وراحه على فين دي مراتي يا حبيبتي يعني قبل ما تخطي خطوة بيها تستأذنيني.. مش كده ولا ايه يا فتون؟
أتت فاتن من خلفه على الفور تجيبه:
_كده ونص.. همله اخوكي في حاله يا بت..
مطت شفتيها بضيق:
_كده بتبعيني عشان ابنك ومراته.
ضحكوا سويًا، فامتلأت عين فاتن بالدموع، وضمته اليها وهي تردد بانكسار:
_وحشتني يا حبة عيني، السرايا ملهاش حس من غيرك..
أمسك يدها ثم طبع قبلة حنونة على كفها، قائلًا:
_خلاص رجعت ومعتش هيكون في بعد تاني.
ربتت على ظهره ثم قالت:
_خد مرتك واطلعوا ريحوا في جناحكم شوية، زمانها راجعة تعبانه من المشوار
أومأ برأسه اليها ثم أشار لروجينا التي كفت عن الحديث الجانبي بصحبة ناهد ثم لحقت به للاعلى، فخشيت ان ترى جناحها الكئيب من جديد ولكنها تفاجئت به يسلك طريقًا مختلف عن غرفته، فما أن فتح باب الغرفة حتى ابتهج صدرها لرؤية اللون الوردي يحتضن حوائطها، حتى أساسها بنفس لونها المفضل، فاتجهت نظراتها اليه، فغمز لها برومادية عينيه:
_عشان تعرفي اني بحبك بس!
ضحكت وهي تهرول لاحضانه، فدفنها بسن اضلاعه بتملكٍ، ثم همس لها:
_ولسه اوضة الاميرة اللي هتشرفنا دي.
رفعت رأسها بحماسٍ اليه، فأشار على الباب الجانبي للغرفة، فاتجهت اليه بدهشةٍ، فكانت تظنه باب الحمام ببداية الامر، ولكنه باب سري للغرفة الصغيرة التابعة اليه، ولجت روجينا للداخل بإعجابٍ شديد، فادمعت عينيها شوقًا لرؤية ابنتها الصغيرة، فتعلقت نظراتها بالسرير الصغير المتحرك، فهزته بتسليةٍ، وقف ايان من جوارها وهو يتأمل فرحتها بهيامٍ، فاتجهت نظراتها اليه ثم قالت بنبرة مفعمة بالعاطفة:
_انت عارف اني بأحبك..
هز رأسه وهو يجذبها اليه، فضمها وهو يخبرها بخشونة نبرته المغرية:
_أنا بعشقك..
أحببتك… فعشقتك… فتمنيت الموت بأحضانك… وبات حبك كالخمر الذي يثملني كلما أتجرع من ڤيثارة شوقك.. علك ملاذي!
**********
يومًا يمر ويتبعه الأخر، حتى أتى يومًا كان منتظرًا من الجميع، وبالأخص “فهد الدهشان، اليوم الذي سيحمل به حفيده بين ذراعيه، حتى وإن كان يومًا قاس على ابنه الذي كاد بأن يجن من فرط خوفه على زوجته ولكن عمت السعادة الوجوه حينما خرجت من غرفة العمليات سالمة، فاجتمعوا بغرفتها للاطمئنان عليها، وبعد دقائق طرق الباب وولجت الممرضة تحمل الرضيع بين يدها، واقتربت لتضعه بيد أبيه، فاعترض وهو يشير لها:
_اديه لجده الأول..
حملته الممرضة واتجهت لفهد الذي حمله بين يديه بابتسامة ودمع يلمع بعينيه، فتطلع لرواية التي تجلس جواره على الاريكة الجلدية السوداء، فقالت بفرحةٍ:
_ما شاء الله، قمر ربنا يحميه..
ثم أشارت لفهد بضحكة مشرقة:
_حاسة انه هيطلع شبهك يا فهد..
ابتسم وهو يجيبها:
_هيطلع لابوه مش ليا..
اقترب منهما آسر ثم قال:
_وأنا طالع لمين يعني يا حاج!
ضحكوا سويًا، فاسرعت روجينا اليه لتحمله، ثم طبعت قبلة على جبينه:
_انا بخطبه لبنتي يا آسر..
اقترب منها ثم قال بمزح:
_معندناش بنات للجواز يا روجين، شوفي عمك يحيى عنده واد زي القمر..
ردت عليه ماسة بغضب:
_لا محدش هياخد مني ابني انا اصلا مش هجوزه!
ضمها يحيى اليه ثم همس:
_ليه الواد هيفضل عازب طول عمره ولا ايه!
ضحك احمد ثم قال:
_لا هيتجوز،بس بنتي انا يابو نسب..
بدر:
_لا يا يحيى فكك انت ما صدقت تخلص منه هتتدبس في نسب معاه..
ردت عليه حور:
_ما تخليك محضر خير يا بدر وركز مع مراتك، مهي برضه في بطنها بنت!
اتجهت نظرات بدر لرؤى التي تحتضن بطنها بعاطفة، فتخشى علي جنينها من الهواء المار، ثم قال:
_لا انا بنتي هي اللي هتنقي وتتشرط.
رد عليه عبد الرحمن بتهكم:
_لما تبقى تيجي بالسلامة يا عم نبقى نتخانق..
ضحك آيان ثم قال:
_والله ما حد عاقل فيكم الا آسر، سبكم بتتخانقوا ومستغل الفرصة جنب مراته..
اتجهت النظرات تجاه آسر، فكان يجلس جوار تسنيم، يمرر يديه على خصلات شعرها وهو يسألها بحنان:
_حمدلله على سلامتك يا روحي، لسه دايخة؟
أشارت له بهزة بسيطة، فطبع قبلة على جبينها وهو يردد بحزن:
_شوية وهتبقى احسن بإذن الله.. تحبي اخرجلك العيال دي برة عشان ابتدوا يعملولي أنا شخصيًا صداع..
ضحكت وهي تؤكد له، فتوعدت لها حور قائلة:
_كده يا تسنيم ماشي..
رفعت تالين يدها ببراءة:
_انا معملتش حاجة واقفة بادبي من ساعتها..
احتضنها عبد الرحمن وهو يغمز لها بمشاغبة:
_انت محترم يا باشا من يوم يومك..
دفعه خالد للخلف وهو يحذره:
_مش قولتلك خليك بعيد عن البنت اليومين دول لما نتأكد من الحمل. ولا نسيت كلام الدكتور..
زم شفتيه بضيق:
_معرفش ليه يا عمي انت مش مستنضفني من ساعة ما اتجوزت بنتك مع ان عندك بنت تانية بس مركز معانا احنا..
ضحك عمر ثم قال:
_بيحبك يا عبده..
اضاف سليم بتسلية:
_انت ابن حلال وتستاهل توصيته دي.
صاح جاسم باعتراض:
_ما تخفوا على الواد شوية وتسبوه يتهنى بعروسته ولا أيه يا كبير..
اتجهت النظرات لفهد الذي مازال يحمل الصغير بحنان، وكأنه بعالم غير عالمهما لا يصطحب به سوى رفيقة دربه زوجته ومعشوقة قلبه، فنهض ليضع الصغير بين يد تسنيم ثم خلع خاتمًا خاص به لم يخلعه من يده قط، قد ورثه عن جده “فزاع الدهشان” ويقال انه يخص كبير الدهاشنة سابقًا، فتفاجئ الجميع حينما وجدوه يضعه بسلسال جلدي ثم لفه حول عنق الصغير وهو يردد بابتسامة غامضة:
_أعز الولد ولد الولد..
ابتسموا جميعًا وقد اتضحت جملته بمعنى صريح خلف ما فعله، وردد الآذان وهو يخبره بأن اسمه هو “يونس فهد الدهشان”…….
…….. تمت بحمد الله…..

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء))

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى