رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الثاني والأربعون 42 بقلم آية محمد رفعت
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) البارت الثاني والأربعون
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الجزء الثاني والأربعون
رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الحلقة الثانية والأربعون
حسبك أيها القلب، أبات قربه منك يضعف قواك، أما أن مشاعرك تتمرد لوعة له، ويحك فما فعله يصعب عليك بالخنوع إليه، من تتلهف لقربه منك هو بذاته من كسرك وحطمك بين يديه، فكن عزيزًا وحارب رغبات عشقك السام، فالقرب منه شبيه بجرعة سم لا علاج لها تلك المرة.
مسحت بأطراف أصابعها دمعاتها البائسة وهي تلتقط ملابسها الملقاة لجوارها، ارتدتها وصوت بكائها المكبوت يعلو رويدًا رويدًا حتى بات مسموعًا لمن يغفو جوارها، فتح “آيان” عينيه بلهفةٍ لمعرفة ما بها، فإتكأ بمعصمه حتى جلس بإستقامةٍ ثم تساءل ويده تقترب من وجهها:
_مالك؟
رفعت عينيها تجاهه لتمنحه نظرة أشعلت نيران قلبه، ومن ثم أخفضتهما قائلة وهي تحاول ارتداء فستانها بيدها المرتعشة:
_أنا عايزة أرجع البيت حالًا لو سمحت..
طعمت ملامحه بالألم، فقد ظن بأن بعدما صارت بأحضانه بدد ذكريات الماضي، ظن بأن هناك أمل لعودة حياة جديدة بينهما، فقربها منه ثم رفع ذقن وجهها ليجبرها على التطلع إليه، ثم قال بحزنٍ:
_بس أنا عايزك جنبي يا “روجينا”.
أبعدت يديه عنها ثم قالت بصراخ باكي:
_مش عايزة أكون جنبك، لانك لما بتقربلي بكره نفسي أكتر من الأول، يمكن وجود أي شخص بنحبه جنبنا بيدينا الأمان والسعادة لكن أنت وجودك جنبي بيحسسني بالرخص وبيزيد وجعي..
طعنته كلماتها، فهوت دمعة عزيزة على وجهه، ليخفيها بابتسامته وقوله الساخر:
_عندك حق، أنتي فعلًا صح..
ثم جذب قميصه الأبيض يرتديه بأهمالٍ، ليتجه سريعًا لحمام الغرفة، فما أن أغلقه حتى استند برأسه على جسده وهو يواجه ذلك الألم القاتل، ففتح دوش المياه على أخره، ثم سكن بجسده من أسفله، وعرض” فهد” يدور برأسه، كان متردد ببدأ الأمر من الموافقة، ولكنه مستعد الآن لفعل أي شيء حتى يكتسب قلبها من جديد ولكن تلك المرة لن يدعي بها الحب،بل وهو عاشق لها حد الجنون، وبالرغم من أن ظنونه توجهه للإهانة التي سيتعرض لها على يد الدهاشنة، فمن المؤكد بأن فهد طلب منه ذلك ليلقنه درسًا قاسيًا لن يخلو من اهاناته، هكذا ظن الأمر، لف “آيان” المنشفة حول خصره ثم وقف أمام المرآة يتطلع على ذاته بنظرةٍ كره، كره لحياته بأكملها، فلم يجد شيئًا ينعش ذكرياته من تلك الحياة القاسية، فأطبق على كف يديه بغيظٌ، فحطم مرآة الحمام وما تحمله من متعلقات شخصية، وما أن استمعت “روجينا” لذلك الصوت حتى تملكها الرعب، فصاحت بقلقٍ:
_أيه اللي انكسر ده….
وحينما لم يأتيها رد، نادته بلهفةٍ:
_آيان!
لم يجيبها فبكت بفزعٍ، وأبعدت الغطاء عنها ثم حاولت أن تقف على قدميها، فخطت خطوات بسيطة ثم ارتعشت قدميها فسقطت أرضًا، ومع ذلك لم تستسلم وزحفت حتى وصلت لباب الحمام فطرقت عليه وهي تردد ببكاءٍ:
_آيـــــــان..
انتبه إليها، فلف أحد المناديل الورقية حول جرح يديه ثم فتح الباب ليجدها تجلس أرضًا والبكاء يتبع عينيها، انحنى تجاهها ثم قال:
_أيه اللي قومك من السرير..
منحته نظرة متفحصة ثم قالت:
_أنا سمعت صوت كسر، أنت كويس؟
احتارت عينيه في فهم تلك المرأة، التي باتت إليه لغزًا صعب حله، فحملها بين ذراعيه ثم عاد ليضعها على الفراش مجددًا دون أن ينبس بكلمة واحدة،ونهض عنها وكاد بالإبتعاد ولكنها أمسكت يديه التي تنزف بالدماء ثم قال بدموعٍ:
_أنت عملت أيه؟
ابتسم ساخرًا:
_أنتي أصعب من فهد، مش قادر لا أفهمك ولا أفهمه!
وضعت المنشفة لتكبت الدماء المنسدلة بغزارة من يديه، ثم قالت ببكاء:
_أنت لازم تروح لدكتور إيدك مجروحه جامد..
جذب يديه منها ثم قال:
_لا متقلقيش هبقى كويس..
وتركها ونهض ليلف شاش أبيض حول جرحه وجذب ملابسه من الحقيبة التي أعدهت للتو، ثم عاد ليجذب فستانها وعاونها بارتدائه، قربه منها كان نقيض لما تشعر به، ولكن كان عليها الإبتعاد عن مخضع ألمًا ليست جاهزة للعيش به مجددًا، حملها آيان بين ذراعيه ثم هبط بها للأسفل، فوضعها بالسيارة واتجه للسرايا، فما أن توقفت سيارته حتى حملها ليتجه بها للباب الخلفي، فتوقف عن استكمال خطاه حينما رأى من يقطع طريقه،وصعقت “روجينا” حينما وجدت أبيها يقف مقابلهما..
********
تأمل ملامحها الساكنة أمرًا مدمر لقلبه، وكأن عينيه تتعهد في تلك اللحظة أن تحفظ كل إنشن بوجهها داخل قلبه، حتى وإن كان يعلم بأنه ينبغي غض البصر عنها، ولكنه اشتاق لها ولرؤياها، حتى وإن كانت قريبة منه أغلب الوقت، أفاق “عبد الرحمن” من غفلته تلك حينما وجدها بدأت أخيرًا بإستعادة الوعي، فاحتضنت بيدها جبينها وهي تجاهد دوارها الحاد، فرأته يجلس مقابلها لذا نهضت عن الأريكة وهي تهمس بإرهاقٍ:
_أيه اللي حصل؟
ابتعد عن مجلسها القريب، ثم جلس على المقعد المقابل لها ويده تقرص أرنبة أنفه:
_مفيش، أغمى عليكي وأنا كنت بحاول أفوقك..
لمعت عينيها بالدموعٍ، فنهضت عن الأريكة وهي تبحث عن حذائها لتهرب من ذلك اللقاء الغير محبب، فخشيت بأن يظنها تفعل كل ذلك لتقترب منه أو عله يعود التطلع بالأمر، نهضت ثم كادت بالرحيل ولكنها توقفت حينما قال بخشونةٍ:
_اقعدي، لسه كلامنا منتهاش..
قالت وهي تجاهد لإخفاء بكائها:
_كل شيء انتهى حتى الكلام يا “عبد الرحمن”..
أطبق على شفتيه السفلية بقوةٍ، فسماعه اسمه يزف على ترنيم شفتيها كالبلسم الذي يطيب جرحه الغائر، فنهض عن المقعد ثم وقف مقابلها ساكنًا، يتعمد اللعب على أعصابها، قبل أن يقول:
_مش عايزة تعرفي عمي إختارلي مين؟
ترقرقت عينيها بالدموع، فقالت وهي تهم بالهروب من أمامه:
_لا مش عايزة أعرف..
أمسك يدها فأجبرها على التوقف، ثم اقترب منها ليصبح قريبًا بدرجةٍ خطيرة على قلبها، فقالت بصدمة:
_أنت اتجننت، ابعد!
ابتسم وهو يخبرها:
_اتجننت بفضلك أنتي، ولسه مكمل في الجنان متقلقيش..
ثم رفع يديه ليزيح دمعات وجهها، فهمست بصوتٍ رقيق وهي تحاول الصمود أمامه:
_عبد الرحمن، أنت بتعمل أيه؟
استند بجبهته على جبهتها، ثم قال:
_اتعودي على قربي، عشان خلاص كتب كتابنا الاسبوع الجاي وفرحنا لما باباكي ومامتك ينزلوا مصر..
جحظت عينيها بعدم استيعاب، فابتسم بخبث ثم قال:
_عمي قالي انه مش هيلاقيلي أحسن منك وأنا بصراحة اقتنعت..
منحته نظرة شرسة، قبل أن تطوله لكزتها المؤلمة وهي تصرخ بغضب:
_يعني أنت كنت بتضحك عليا!
ابتعد عنها وهو يحاول حماية وجهه ثم قال بضحكة جذابة:
_أمال انتي اللي مسمحولك بس تلعبي بأعصابي ولا أيه!
كزت على أسنانها بغيظٍ:
_والله ما هسيبك يا عبد الرحمن..
دنا منها وهو يغمز بجراءة:
_وهو ده المطلوب يا روحي، انك متسبنيش خالص..
ابتسمت برقةٍ على كلماته، فشعرت بأنها إذا ظلت لجواره هكذا ستسمح له بما لا يحمد، لذا ودعته وانصرفت على الفور..
********
ابتلعت “روجينا” ريقها بصعوبةٍ بالغة، فجاهدت لخروج كلماتها المتقطعة:
_بابا آآ…
قطع حديثها حينما وضع كف يديه من أمامها، ومازالت نظراته تتقابل مع نظرات “آيان” الذي يتطلع إليه بثباتٍ تام، فرفع “فهد” صوته ينادي:
_صـالح..
أتى يهرول وهو يجيبه:
_أمرني يا كبير..
أشار له على المقعد القريب منهما، فدفع المقعد حتى وضعه مقابل لآيان، فأخفض يديه بها، ليضعها على مقعدها ومن ثم دفعه العم “صالح” للداخل، لتختفي روجينا عن اعينهما وقلبها يخفق قلقًا على ما سيحدث به من أبيها..
بالخارج..
ظلت النظرات الماكرة تتبادل بينهما، إلى أن عبئ “فهد” ذلك السكون حينما دنى بخطاه الواثقة ليقف مقابله، ثم قال بغموضٍ:
_شايفك قريب من بتي وأنت لساك مخدتش قرارك يابن المغازي!
طوفه بنظرة ثابتة قبل أن يجيبه:
_أخدته يا فهد، وشنطي في العربية..
ابتسم بمكرٍ ثم أشار لأحد رجاله قائلًا:
_جهز المندارة الضيف هيقعد فيها..
ثم طرق بعصاه الأرض وغادر من أمامه دون أن يقول أي كلمة أخرى، فأشار له “صالح” قائلًا:
_تعال معايا..
اتبعه “أيان” حتى وصل للمندارة القريبة من السرايا، فصعد معه الطابق العلوي، ووجده يفتح أحد الغرفة ثم جذب المنشفة لينفض التراب عن أحد المقاعد وأشار له قائلًا:
_5دقايق وهتلاقي الاوضة كيف البدر.
هز رأسه بهدوءٍ ثم جذب المقعد وجلس يراقبه وهو ينظف الغرفة بهمة ونشاط، فبدى له بأن هذا الرجل المسن عاش عمرًا بأكمله يخدم “فهد” وعائلته، لذا سأله بمكر:
_بقالك اد ايه شغال هنا!
أجابه الرجل وهو يضع ملاءة جديدة على الفراش:
_بقالي 40سنة، من قبل ما البيه الكبير يموت..
ابتسم ساخرًا وهو يسأله بإستنكارٍ:
_وهو في حد يضحى بكل ده من عمره عشان يخدم حد..
رد عليه “صالح” بابتسامةٍ مشرقة:
_أصلك متعرفش “فهد” بيه وعيلته كويس، وأني هعوز أيه غير الاحترام والعيشة الكريمة اللي بلاقيهم اهنه، وكبيرنا بيحترم الصغير قبل الكبير وكلتنا نفديه بارواحنا مش بعمرنا بس..
انتابه دهشة كبيرة، فلطالما كان حائرًا في سر العلاقة القوية بين “فهد” ورجاله، والآن ازدادت حيرته أضعافًا، انتهى “صالح” من تنظيف الغرفة، ثم قال:
_الاوضة بقت زي الفل اهي، ولو احتاجت أيتها حاجة ناديني بس..
وكاد بالمغادرة ولكنه التف اليه ثم قال بابتسامةٍ صغيرة:
_تعرف يا ولدي، انت من دور عيالي عشان اكده هقولك نصيحة، أوعاك تكون داخل اهنه ولسه في جلبك سواد وكره للكبير، لانك اكده هتبقى بتخسر نفسك، اني عشت عمري كله اهنه وعمري ما شوفت حد بيقلل احترام منيه ولا حد يستجري يناديه باسمه اكده،حتى ولاد عمه “سليم” و”عمر”، وأنت في عمر ولده وبالرغم من اكده سايبك تناديه كيف ما تريد، يمكن اللي بيشفعلك عنده حاجة واحدة بس..
رفع آيان حاجبيه وهو يتساءل باستغراب:
_حاجة أيه؟
رد عليه بنفس البسمة البشوشة:
_انك متعرفوش يا ولدي، أنت عشت عمرك كلته بتتخيل فيه الشر والوحش عشان اكده وجودك اهنه لسبب ميعرفوش غير الكبير نفسه والعلم لله هو رايد منك أيه، جايز يكون بيديك فرصة انك تعرفه زين..
وغادر بعدما زاد من حيرته،فجلس أيان على الفراش وهو ينفث عما بداخله،فتذكر الحديث الذي تم بينه وبين فهد بالمشفى قبل قدومه لهنا..
##
_بعد اللي مهران قاله مبقتش عارف أفكر ولا قادر أستوعب أن كل اللي عملته ده مكنش للي يستحق، أنا حتى عاجز اني اعتذرلك يا فهد..أنت متخيل إزاي كرهي ليك لسه جوايا لحد اللحظة دي حتى بعد ما عرفت الحقيقة!
ابتسم “فهد” ثم قال:
_اللي يتربى على حاجة 27سنة صعب يتقبلها بسهولة يابن المغازي… وأني مش مستني انك تحبني او تحب عيلتي، أني عايزك تنهي اللي بينا بطلاقك لبتي وكل حي يروح لحاله..
اتقبض قلبه لسماع ما قال، لذا صاح بعصبيةٍ بالغة:
_لا يا فهد انا مش هطلق مراتي، انا بحبها وعارف انك مستحيل تصدق الكلام ده بس دي الحقيقة، انا ماليش هدف ولا غاية اعيش عشانها غير هي حتى وانا عارف ان قلبها مبقاش ليا زي زمان بس هحاول اني اخليها ترجع تحبني من تاني..
طرق بعصاه الأرض بغضبٍ اتبع نبرته الصارمة:
_أوعاك تكون فاكر اني مقدرش احمي بنتي واخلصها منيك..
أخفض رأسه للأرض بحزنٍ:
_عارف انك تقدر، بس أنا مش هقبل انك تفرقني عنها ويمكن ده يكون سبب العداوة الجديدة اللي هتجمعنا مرة تانية.
ضحك بصوتٍ مسموع ثم قال ساخرًا:
_بتهددني يابن المغازي!
هز رأسه نافيًا:
_لا.. أنا بحاول اوضحلك الامور حتى لو مكنتش لابق في اختيار كلامي..
منحه فهد نظرة مطولة، زينها الغموض والثبات، انهاها حينما انتصب بوقفته وهو يخبره بكبرياء’
_يبقى تسمعني زين، لو عايز تبقى مع بنتي تنفذ كل اللي هقولهولك، انت غلطت لما كنت بتحاول توطي رأسي قدام الخلق ودلوقت وقت الحساب، وزي ما بتقول انك بتحب بنتي يبقى مترضاش ليها انها تبقى متهانة ومكسورة،الراجل الصوح هو اللي يخلي كرمته وكرامة مرته فوق…ولو عايز ده يحصل يبقى تجيب حاجاتك وتيجي لحد باب بيتي..البيت اللي هنت ناسه هتعيش فيه وسطيهم..
*******
بالمشفى..
حاول أكثر من مرةٍ أن يرتدي الذراع الأخر من القميص، ولكنه لم يستطيع، فضغط بأسنانه على شفتيه ليكبت تلك الشهقة التي يصاحبها ألمًا حاد، وتطلع تجاهها فوجدها تجمع ملابسه ومتعلقاته الخاصة بالحقيبة الصغيرة التي تحملها، لاح على وجهه ابتسامة خبيثة، فخلع ذراعه الاخر من القميص ثم ردد بتعبٍ مصطنع:
_تسنيم..
رفعت عينيها تجاهها فأشار لها على القميص، اقتربت منه على استحياءٍ، ثم جذبت القميص الملقي خلفه، وعاونته على ارتدائه لتغادر من أمامه سريعًا تجاه الحقيبة، فرفع حاجبيه بسخطٍ وهو يشير على الأزرر المفتوحة:
_يعني همشي كده ولا أيه! ، لو معندكيش مشكلة أنا كمان معنديش مانع..
منحته نظرة شرسة، قبل أن تقترب منه، فأغلقت القميص وهي تخبره بضيقٍ:
_وأنت ما بتصدق صراحة..
غادرت ابتسامته عنه فجأة، فأمسك بيدها التي تغلق أخر زر من القميص، ثم تعمد وضعها على جرحه القريب من قلبه، فقشعر جسدها وهي تتخيل آلامه في لحظة لمس يدها لجرحه، فرفعت عينيها تجاه وهي تهمس بخوفٍ:
_آســر..
ابتسم كالمغيب بعينيها، ليخبرها:
_عنيا مش بتشوف غيرك، وكأن مفيش على وجه الأرض ست جميلة غيرك..
ثم رفع يدها إليه ليطبع قبلة رقيقة على أصابعها، ومشاعره تهمس على لسانه الناطق:
_وحشتيني..
أغلقت عينيه بقوةٍ تحتمل تأثير قربه وكلماته الساحرة، فجذبها لتجلس على قدميه ثم احتضنها عله يمنحها آمان قربه منها، فمسد بحنان على ظهرها وهو يقول:
_البعد ده معتش هيطول، وهترجعي نامي في حضني زي زمان..
رفعت وجهها تجاهه ثم قالت بدمعةٍ حزينة:
_البيت من غيرك ممل، حتى الجناح مبقتش بقعد فيه.. حساه زي القبر من غيرك..
طبع قبلة على جبينها ثم قال ببسمةٍ ماكرة:
_هنحيه من تاني مع بعض..
وأبعدها عنه ثم حاول التمسك بحافة الفراش لينهض على قدميه، فتشبثت بيديه لتعاونه على المضي قدمًا، حتى خرج من الغرفة فأسرع تجاهه “بدر” و”أحمد” ليعاونوه، فرفض “آسر” أن يستند عليهما، فود أن يتغلب على ضعفه ذلك بعدما اختار الوقوف على قدميه، لذا خرج وهو ينتصب بمشيته حتى وإن كان بداخله يئن، هبط للأسفل حتى صعد لسيارتهم، وجلست هي من جواره، فتحركت السيارة للسرايا..
********
خرج “آيان” للشرفة، يتأمل السرايا والحدائق بنظرةٍ إعجاب، فاهتدت نظراته على فهد الذي يجلس على الأريكة الموضوعة بمنتصف الحديقة، ولجواره كان يجلس “عمر” و”يحيى “، فهبط ليجد اجابة صريحة لما يجوب برأسه، فما أن دنا منهما حتى انزعج يحيى منه ومع ذلك لزم الصمت احترامًا لقرار عمه، فوفف أيان مقابله ثم قال:
_أديني جيت.زي ما اتفقنا يا فهد، ممكن تفهمني بقى عايزني ليه هنا!
جذب كوب الشاي الساخن ليرتشفه وهو يجيبه بثباتٍ قاتل:
_ولا حاجة، بنتي كانت ضيفة في بيتك كام يوم وإحنا مينفعش منردش واجب الضيافة ده حتى تبقى عيبة في حقنا..
ثم استدار بوجهه تجاه يحيى، فأشار له قائلًا:
_خد ابن المغازي يا يحيى وروحوا نضفوا الاسطبل زمان ولدي على وصول ولو ملقهوش مترتب هيتضايق..
ضيق”يحيى”عينيه بدهشةٍ مما قال،فأشار له”عمر”بأن ينفذ ما قاله دون أي كلمة،فاحتبس غضبه بداخله وهو يشير له بيديه:
_طريق الاسطبل من هنا..
أزاح أيان عينيه عن فهد بصعوبةٍ،فكان يشعر لأول مرة بأنه عاجز…عاجز عن فهم هذا الشخص وما بدور بتفكيره..فان كان يتعمد اهانته لما كان أرسل معه ابن شقيقته معه،فكيف سيعرض أحد أعمدة الدهاشنة للإهانة إذا كان يتعمد اهانته شخصيًا!
اتبع”آيان”،” يحيى” حتى وصل للاسطبل، فوقف المساحة الكبيرة والخيول العربية الاصيلة باعجابٍ شديد، وما أثار إعجابه هذا الفرس المميز الذي يستكين بمكان منفرد عن الجميع، وكأنه يميز نفسه ويعلن سيادته على الجميع، اقترب “آيان” منه وقبل أن تلامسه يديه، حذره “يحيى” قائلًا:
_خد بالك لايدك تنكسر، الخيل ده مش زي اللي هنا ده خاص بآسر وصعب حد يقربله..
قال وهو يدنو به دون مبالاة:
_اسمه أيه؟
أجابه يحيى ساخرًا:
_وهتعمل بإسمه أيه، متقربلوش وخلاص لو مش عايز إنه يأذيك.. والله أعلم المرادي هترموا التهمة على مين فينا..
ابتسم “آيان” ثم دنا من الفرس، فمسد بيديه على عنقه ويحيى يتابعه بدهشةٍ من سكون الفرس أسفل يديه، هل يعقل بأن هذا هو همام الثائر الذي لا يطيق أحدًا على ملامسته سوى فارسه، فلم يشغل باله كثيرًا بما يفعله حتى وإن أثار ذلك فضوله، ثم تركه وحمل الأعشاب ليضعها أمام الفرس، فخلع “أيان” قميصه الأبيض ثم وضعه على المنصة الخشبية، وشرع في تنظيف قدم همام، والغريب على يحيى بأنه كان يفعل مثل ما كان يفعله آسر معه لذا شعر وكأنه هو الذي لجواره..
قضى “أيان” ساعة كاملة بصحبة “يحيى” بالاسطبل، فرغمًا عنهما كانوا يتعاونا في حمل الأثقال، والعمل سويًا طوال تلك المدة، فتأقلم “يحيى” على وجوده بنفس المكان الذي يقف هو به..
*******
وضعت “رواية” و”نادين” الطعام الشهي على السفرة الضخمة استعدادًا لاستقبال “آسر”، حتى الفتيات تعاون على تنظيف السرايا جيدًا، فانطلق صوت بوق السيارة يعلمهم بقدومه..
هبط”آسر” من السيارة، فاستقبلته نسمة هواء باردة أنعشته، فأغلق عينيه بابتسامةٍ صغيرة، ثم اتجه يسارًا بخطاه البطيئة، سأله أحمد باستغرابٍ:
_أنت رايح فين؟
قال وهو يستكمل طريقه:
_هبص على همام قبل ما أطلع..
لحق به “أحمد” بينما حملت “تسنيم” الأغراض وصعدت بها للأعلى، استند “آسر” بيديه على الأخشاب المصفوفة جوار بعضها البعض حتى وصل للاسطبل، فجابت عينيه المكان وكأنه يبحث عن شخصًا ما، فاهتدت نظراته تجاهه، لم يكن ظهور أيان بالنسبة اليه مفاجأة، وكأنه كان يتوقع ما سيفعله أبيه، ترك “أيان” كومة القش الذي يحملها أرضًا حينما رأه يقف أمامه فدنى منه ثم بدى مرتبكًا فيما سيقول:
_بقيت أحسن؟
ابتسامة شبه ساخرة ظهرت على طرفي شفتيه قبل أن يجيبه:
_يهمك أمري!
لعق أيان شفتيه بتوترٍ، ثم قال بضيقٍ كون لسانه ليس معتاد على مدح أحدًا:
_أكيد، بعد ما فدتني بروحك يهمني انك تبقى واقف على رجلك من اول وجديد.
هز رأسه والبسمة لم تفارق وجهه، فأشار له أحمد وهو يمنع أيان نظرة مغتاظة:
_يالا يا آسر ندخل، لازم ترتاح..
أومأ برأسه له، ثم انصاع ليديه ليدلف للداخل، فوجد الجميع باستقباله، فدنت منه “حور” ثم قالت بفرحة:
_حمدلله على السلامة يا آسر..
وأضافت ماسة:
_ربنا يكمل شفاك على خير يارب..
وقالت “رؤى”:
_نورت بيتك..
منحهم ابتسامة صافية وهو يجيبهم بامتنان:
_شكرًا على كل اللي انتوا عاملينه هنا ده..
وكان يقصد تزينهم للقاعة لتكن باستقبله، اتجهت نظرات آسر لروجينا التي تدفع مقعدها تالين، فانحنى مقابلها وهو يسألها بحزن:
_ليه لسه قاعدة على الكرسي يا روجينا، مش بقيتي أحسن؟
رسمت ابتسامة صغيرة وهي تجيبه؛
_اتحسنت عن الاول كتير الحمد لله، المهم طمني أنت عنك؟
طبع قبلة على جبينها ويديه تمسد برفق على حجابها:
_بخير يا حبيبتي..
ثم نهض ليحتضن جدته التي هبطت متلهفة للقاء به، فأتت نادين من المطبخ حاملة لصينية المعكرونة الشهية فوضعتها على السفرة، وهي تناديهم قائلة:
_الاكل هيبرد يا جماعة.. يالا..
خرجت خلفها تسنيم بالشوربة، ثم وضعتها بحرصٍ على السفرة، فاجتمعوا جميعًا عليها، فقال سليم بفرحة:
_بقالنا زمن متجمعناش اكده…
رد عليه عمر:
_آسر جمعنا أهو يا سيدي..
ابتسم آسر ثم قال:
_متقلقش يا عمي كل ما تحن للقعدة الحلوة دي رنلي بس وأنا هطوح على أي مستشفى..
تعالت الضحكات فيما بينهما، فقال يحيى باستغراب:
_أمال فين بدر؟
ضيق احمد عينيه بذهول:
_كان هنا دلوقتي!
قاطعهما صوت الكبير حينما قال:
_بعته مشوار وزمانه راجع..
تطلع آسر لهما ففهموا ما ينوي أبيه فعله..
*******
بالخارج..
ما أن انتهى “أيان” من عمله، حتى جلس على الطاولة المحاطة بالمقاعد الخشبية بمنتصف حديقة السرايا، وهو يزيح عرقه بالمناديل الورقية، فانتبه لبدر الذي يقترب منه بتأففٍ وكأنه مجبور على القدوم إلى هنا، فقال بضيقٍ شديد:
_أنت.. قوم معايا عمي عايزك..
رفع عينيه تجاهه بغضب ثم قال:
_أيه أنت دي، ماليش أسم!
قبض بدر بيديه على المقعد وكأنه سيقتله بين اللحظة والاخرى ولكن تعليمات عمه تضع حوله الف حاجز، فقال من بين اصطكاك اسنانه:
_أنا لولا عمي قسما بالله كنت دفنتك وتويتك هنا ومحد يعرفلك طريق، بس مجبور أكلمك بكل هدوم..
منحه نظرة باردة قبل أن يترك مقعده ويجذب قميصه ليرتديه، فقال بدر بغضب:
_وتبقى تلبس هدومك بعد كده، السرايا فيها حريم ولازم تتعود على احترامهم وده شيء هيبقى جديد عليك يابن المغازية..
لم يعيره انتباهًا بل توجه ناحية السرايا بثباتٍ جعل الاخير يشيط غضبًا، فولج خلفه للداخل ومن ثم للقاعة، ليجد نفسه أمام فهد وعائلته بأكملها، صعقت روجينا حينما رأته يقف أمامها، فوقف الطعام بحلقها فقد ظنت بأنه رحل من هنا! ، كانت نظرات الجميع تعج بالكره والمقت تجاهه ومع ذلك تجاهلها، ودنا من فهد قائلًا بثبات:
_عايزني في أيه؟
رفع فهد عينيه تجاهه ثم قال ويديه تشير على المقعد المجاور له:
_اقعد.. لازمن تتعود ان الوكل اهنه على 3بيكون جاهز ومن نفسك تيجي كل يوم…
منحه نظرة حائرة، فعاد ليشير له مجددًا على الجلوس، فتحرك ببطء حتى جلس جواره، فاختار له فهد المقعد المجاور له والمقابل لآسر، فكان أيان يجلس على يساره وآسر على يمينه، وكأنه يخبره بأن مكانته هنا باتت مناصفة بينه وبين ابنه، وبالرغم من أن الجميع في حالة من الصدمة وأعينهم تملأها الكثير من الأسئلة وبالاخص “رواية”، الا ان لم يجرأ أحدًا على فتح فمه بحضور فهد، حمل فهد الملعقة بنفسه ثم سكب بطبق أيان الطعام وقدمه من أمامه، فشرد الاخير وهو يتطلع للطبق بعدم تصديق لما يفعله هذا الشخص معه بالرغم مما ارتكبه بحقه، فظن فهد بأن هناك ما يشغل تفكيره لذا فقال بسخرية:
_متخفش أني مش هسمك في بيتي ووسط عيالي، الوكل مفهوش حاجة..
رفع وجهه تجاهه ثم قال بحزن اتضح للجميع من نبرته:
_هتسمني وأنت بنفسك اللي حميني انت وابنك!
وجذب الملعقة وأخذ يتناول طعامه ببطءٍ شديد، وعينيه تتوزع بين وجوه الشباب بأكملهم، فبالرغم من أن لا أحدًا يطيق وجوده الا انهم كانوا يحترمون وجود فهد، فلم يجرأ أحدًا على التعرض له حتى بنظرة!
*******
بمنزل” مهران الدهشان”..
اقتتمت ملامح ابنه حينما علم باستقبال فهد لآيان بمنزله، فقال لرجاله بغضب كالجحيم:
_مكفهوش انه قتل ابوي لا كمان مقعده في بيته وبيضايفه…
ثم القى مقعده بعصبية بالغة وهو يستطرد:
_اللي مقدرش أبوي يعمله فيك يا فهد اني اللي هعمله..
ثم ردد بصوتٍ كفحيح الأفعى السامة:
_هحرقك حي يا فهد انت وعيلتك كلتها….
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء))