روايات

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الثالث عشر 13 بقلم آية محمد رفعت

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الفصل الثالث عشر 13 بقلم آية محمد رفعت

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الجزء الثالث عشر

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) البارت الثالث عشر

الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء)
الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء)

رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء) الحلقة الثالثة عشر

لأول مرة يشعر بالتشتت هكذا، تائه هو بصحراءٍ قاحلة لا يأويها مطر ولا قطرة مياه، يصفع بها ذاته ويعنفها ما بين عتاب ورحمة بما تعرضت له تلك الفتاة، بات قلبه رحيماً بها بعدما كان ناقماً عليها، لا يعلم كم ظل حبيس غرفته منذ أخر لقاء جمعه بها، فبمعرفته الحقيقة تلاقى ضربة عصفت برأسه وقلبه، فتح”بدر” عينيه على مهلٍ وهو يتأمل الحائط الصغير المجاور لباب غرفته، فعاد المشهد ليتجسد أمامه للمرة الثلاثون، عاد ليرى دموعها ويتذكر صراخها وبكائها، لم يحتمل ذاك الالم الغادر الذي يتغلب عليه دون أي شفقة منه على حاله، نهض عن فراشه ومن ثم جذب قميصه ليرتديه على عجلةٍ، ليتجه لغرفتها، ضم يديه معاً ليقربهما من الباب بترددٍ، فالوقت وإن لم يكن متأخر كثيراً ولكنه لا يصح لها الطرق على بابها ليلاً، تراجع عما يهاجمه وكاد بالعودة لغرفته، فتوقف محله بذهولٍ حينما وجد “روجينا” أمامه، انخطف لونها وبات جسدها كالثليج حينما رأته ومع ذلك حافظت على ثباتها، وتقدمت للغرفة، وقف مقابلها وهو يتساءل بحدةٍ:
_كنتِ فين لحد دلوقتي؟
ابتلعت ريقها بتوترٍ قبل أن تجيبه:
_كنت آآ…
قطعت كلماتها حينما فُتح باب غرفتها، لتظهر “رؤى” من أمامهم ثم اقتحمت حديثهما قائلة بخبثٍ:
_ها يا “روجينا” اتطمنتي عليها؟
تطلعت لها بعدم فهم، فاستكملت الاخرى حديثها مشددة على كلماتها الاخيرة:
_”تقى” بقت كويسة ولا لسه تعبانه؟
استوعبت “روجينا” ما تحاول “رؤى” فعله، فقالت باستيعابٍ:
_آه.. الحمد لله بقت أحسن، اخدت ادويتها ونامت..
أومأت برأسها وهي تشير لها:
_طب الحمد لله، ادخلي يالا.
اتبعتها للداخل و”بدر”يشيعها بنظرةٍ تناست حوارهما وتعمقت ببقبق عينيها الحزين، ود لو ظل عمراً بأكمله يتأملها، ود لو حصل على فرصة الحديث معها على انفرادٍ، يكفي أن يكن على علم بأنه سيحظى بفرصٍ ليصلح خطأ القدر القاسي!
************
فتحت جفنها الثقيل بصعوبةٍ، بعدما شعرت برائحة برفنيوم قوي يعيد ادراكها الحسي، فتحت “تسنيم” عينيها على مهلٍ وهي تحارب ذاك الألم القاتل الذي يحارب رأسها، أخر ما تتذكره رؤياها لصورة تضم رجلين احداهما يخصه ذكريات سيئة تحتفظ بها لنفسها هي، ظنت للحظة أن الماضي يعود للخلف ادارجاً فعاد هذا الرجل ليتجسد من أمامها، شعرت به يقترب ويقترب، فنهضت مرتعبة مما رأته، تلهث من فرط أنفاسها المتقطعة، وجدت من يحتضنها وصوتها الحنون يردد:
_اسم الله عليكي يا بنتي..
ابتعدت عنها وهي تتفحص وجهها بخوفٍ، فهدأت حينما وجدت “رواية” جوارها ومن الجهة الأخرى “ريم” و”نادين”، استقامت بجلستها بحرجٍ مما أصابها، فقالت وهي تهم بارتداء حذائها:
_انا آسفة قلقتكم عليا، أنا مش عارفة أيه اللي حصلي يمكن من السفر وضغط اليوم..
وقفت “ريم” قبالتها ثم قالت بعتابٍ:
_بتتأسفي على أيه يابتي، ده بيتك وانتي زي بناتنا بالظبط، ارتاحي ولما تبقي كويسة ابقى قومي.
ردت عليها بابتسامةٍ صغيرة:
_عارفة والله بس انا لازم ارجع البيت لحسن ماما زمانها قلقانه عليا أوي.
قالت “رواية” بتفهم:
_خلاص يا حبيبتي احنا مش هنضغط عليكي بس على الاقل عم “صابر” يوصلك ونعمة تبقى معاكي عشان نطمن اكتر..
اتسعت ابتسامة “تسنيم” وهي تتأمل تلك المرأة الحنونة، فأجلت صوتها قائلة:
_كنت حاسة إن والدتي جنبي طول الوقت، ولما فتحت عيوني ولقيتك مستغربتش انتي بجد طيبة وأنا حبيتك أوي..
احتضنتها “رواية” وهي تردد بفرحةٍ:
_وأنا والله يا حبيبتي ارتاحتلك جداً.
منحتها ابتسامة صافية، قبل أن تتبع “نعمة” التي سترافقها للمنزل، وقبل أن تغادر الغرفة استدارت لتمنحهم نظرة ممتنة قبل أن تضيف:
_شكراً ليكم على اليوم الجميل ده، عمره بجد ما هيتعوض بالنسبالي.
يكفي الابتسامات الصادقة التي رأتها على وجوههم، فأمسكت يد نعمة لتستند عليها، مروا من الرواق الطويل، ومن ثم اقتربوا من الدرج، وبالأخص المحل الذي فقدت به وعيها، جاهدت “تسنيم” برفع رأسها تجاه تلك الصورة مجدداً، ولكنها لم تستطيع، فاهتز جسدها بعنفٍ شعرت به نعمة فقالت بقلقٍ:
_أنتي كويسة يا حبيبتي، لو لسه تعبانه أدخلي ريحي.
قالت وعينيها مازالت مسلطة على الصورة:
_لا أنا كويسة.
ثم تساءلت بثباتٍ جاهدت للتحلي به:
_هو مين اللي في الصورة ده؟
ليتها كانت تحوي شخصاً واحد لما وضعت بتلك الحيرة التي وضعتها به نعمة حينما قالت:
_ده “وهدان” بيه أبو كبيرنا الله يرحمه ، واللي حداه يبقى ابن عمه “مهران” بيه.
ودت لو سألتها أياً منهما والد “فهد الدهشان” ولكنها خشيت أن يفضح أمر اهتمامها بمعرفة أدق التفاصيل الخاصة بهما، فاتبعتها للأسفل وعقلها وذهنها متعلق بتلك الصورة البشعة التي لن تنساها مهما مرت الأعوام، انتبهت من غفلتها على السيارة السوداء المصفوفة أمام البوابة الخارجية، فاتبعت “نعمة” ثم كادت بالصعود ولكنها توقفت حينما استمعت لصوت تطرب آذنيها لسماعه، فبات المحبب والمقرب إليها، حينما نادها قائلاً:
_”تسنيم”.. أنتي كويسة؟
استدارت للخلف فوجدته يقف مقابلها، الخوف والإهتمام يسود حدقتي عينيه، ود لو تمكن من البقاء بالغرفة لحين إستعادتها للوعي، ولكن هنا العادات والتقاليد تضع الف حاجز أخلاقي لا يتعداه كبيراً ولا صغيراً، النظرات كانت تتحدث لبعضها البعض رغم دهشة السائق والخادمة من صمتهما، فقررت “تسنيم” قطعه حينما قالت بارتباكٍ:
_الحمد لله بقيت أحسن..
ثم قالت بحرجٍ:
_آسفة اني قلقتكم عليا.
قال بلهفةٍ:
_المهم انك بقيتي بخير، ممكن نطلب الدكتورة لو لسه حاسة نفسك تعبانة.
نفت اقتراحه بلطفٍ:
_لا مالوش داعي انا فعلاً بقيت كويسة.
ثم تحملت على يد نعمة قائلة بإبتسامةٍ صغيرة:
_عن إذن حضرتك..
وصعدت للسيارة وعينيها مازالت تودعه بنظرات تخطفها بين الحين والآخر، غادرت السيارة وبقى هو من خلفها يتأملها حتى اختفت من أمامه، فاستدار ليعود للمنزل فتفاجئ بأبيه يقف بالشرفة العلوية للمنزل ويراقبه بنظراتٍ خبيثة، اتبعتها اشارة له بالصعود بالحال..
*********
كالتائه هو لم يعد يعلم ماذا يريد قلبه؟ ، شغل تفكيره قلقه الزائد عليها، نعم هي بالنهاية ابنة عمه ولكنه يشعر بأن ما بداخله ليس مجرد خوف طبيعي، هناك أمراً يتجاهله عمداً، ربما يخشى التفكير به، فكيف سيفعلها وهي لا تحل له!
من المفترض به أن يفكر بمن ستكون قسمتها به، ولكنه في كل مرة يجد نفسه يفكر بها هي.. “حور” اسمها يتردد بأعماق قلبه وكأنه يعرفها جيداً، ليت قلبه يستوعب بأنه ليس من المنطقي الوقوع في حب فتاة أخرى غير خطيبته، خرج “أحمد” لشرفته عل الهواء النقي يزيل همومه، فردد بصوتٍ مهموم:
_لا مستحيل أكون بحبها!
********
صعد “آسر” للأعلى، ثم طرق باب الغرفة فولج حينما استمع إذن الدخول، أغلق الباب من خلفه واقترب من “فهد” ثم قال:
_خير يا كبيرنا.
تطلع له بنظرةٍ ثاقبة،طوفته من رأسه حتى أخمص قدميه، والاخر يترقب سماع ما سيقول، فطوى صوته الرخيم صفحات الصمت حينما قال:
_تعالى اهنه وأقف جدامي.
انصاع له “آسر” وإقترب حتى أصبح قبالته، يتمعن له باهتمامٍ أحاط به فور رؤية جديته الصارمة، درس “فهد” عين ابنه جيداً قبل أن يطرح سؤاله الذي حصد على اجابته من قبل أن يخبره به، فقال:
_قولي بقا أيه حكايتك مع الموظفة دي.
بلل شفتيه بلعابه وهو يجيبه:
_حكاية أيه يابوي!
ابتسامة صغيرة ظهرت على جانبي شفتيه قبل أن يردد:
_فاكر أبوك اهبل إياك!
رد سريعاً:
_العفو… أنا بس مش عارف أيه اللي وصل لحضرتك.
طالت بتأمله وملامحه ثابتة دون ان تفشي شيئاً، ففاجئه حينما رفع يديه على كتفيه ليخبره بحنانٍ:
_أني مبنصبلكش محكمة يا ولدي، الموضوع وما فيه إني عايز أفرح بيك أني وأمك، وبصريح العبارة اكده البت عاجبه أمك وشكلها كده عجباك أنت كمان.
ابتسم وهو يجيبه بمكرٍ:
_من نحية عجباني فهي عجباني، يعني حلوة ومحترمة وبنت ناس…لكن الموضوع موصلش للحب والكلام ده،يمكن اعجاب بالبداية لاني على اقتناع تام أن الحب بيجي من العشرة بين الزوجين زيك كده أنت ووالدتي.
أنصت “فهد” لتحليله بنظرةٍ فخر كونه نجح في زرع بعض السمات الطيبة بابنه الوحيد ومن ثم قال بصرامةٍ:
_السبوع الجاي هنروح نطلبها من أبوها.
رفع حاجبيه باستنكارٍ:
_بالسرعة دي!.
خلع العمة التي تضيق برأسه بعد يوماً جاد، ثم قال بحزمٍ دون أن يتطلع له:
_روح نام عشان ورانا مشاغل كتير بكره.
علم بأنه تلاقى الكلمة الاخيرة فلم يعد يملك الحق للحديث بذاك الامر، فابتسم بفرحةٍ لذاك النبأ العظيم..
**********
اشتاق كلاً منهن لتلك الجلسة السرية التي تعد حدث هام للحديث عما مضى من حياتهن وصحبتهن التي دامت لأكثر من ثلاثون عاماً، فقالت “نادين” بمرحٍ:
_أنا مش خايفة من اني اكبر بالسن، الخوف لما تلاقي العيال داخلة عليكي ويقولولك عايزين نتجوز وهب دب تلاقي عيل سقيل بيقولك تيتا كده يبقى كبرنا رسمي نصبي فهمي.
تعالت ضحكات “رواية” و”ريم” على تفكيرها الأحمق، فقالت “ريم”:
_مفيش فايدة فيكي والله عمرك ما هتتغيري، أني مش عارفة ربنا صبر”سليم” عليكي المدة دي كلتها ازاي..
لم تفهم مغزى كلماتها الا حينما استرسلت “نواره” ما بدأته “ريم”:
_أه والله معكي حق، أني قولت سليم اكيد هيعملها وهيتجوز عليها بس باينه واقع لشوشته.
لكزتها بغضبٍ فتعالت الضحكات فيما بينهما، فقالت بسخريةٍ:
_يقدر يعملها كنت قتلته..
وبغرورٍ مرح قالت:
_انتي متعرفيش يا صعيدية منك ليها القاهروية تقدر تعمل ايه واديكم شوفتوا اللي حصل مع فهد ورواية زمان، وازاي اتراجع على اخر لحظة وكسر كلام كبار البلد كلها عشان”رواية”.
فور تذكر هذا الحادث المسجل بتاريخ الدهاشنة، تطلعوا جميعاً بابتسامة حالمة لرواية التي بادلتهن الابتسامة حينما تذكرت ذاك اليوم الذي لا ينسى، اضافت” ريم” بجدية:
_الحمد لله ان فهد فاق، ولولا برضه ان عمي مهران اتجوز البنت مكنش الموضوع هيتحل بين العيلتين ولا كان اتضح ان اللي قتل عمي “وهدان” الله يرحمه يبقى من المغازيه مش من عيلة البنت دي.
رددت نواره بحزنٍ:
_ربنا جبر بخاطرها واهي عايشه معاه الوقتي مرتاحة ومعاها واد وبت،اللي شافته كان صعب جوزها الاولني يموت بعد الفرح بشهور وجوازتها التانيه تتفشكل وتتجوز راجل كبير اد ابوها..
ردت عليها ريم:
_مهي لو مكنتش اتجوزته يا نواره كان اهل البلد مبطلوش في سيرتها واللي استغربته ان فهد مفكرش بالنقطة دي.
ثم تطلعت لرواية وابتسمت وهي تستطرد:
_مهمهوش غير حبيبة الجلب.
اصطبغ وجه “رواية” بحمرة الخجل، من حديثهما الذي يعيد ذكريات حبها من جديد، فخشيت ان يفضحها خجلها فيجعلها كالمرهقة من أمامهم، لذا استأذنت وتوجهت لجناحها فما أن ولجت للداخل حتى خرجت لشرفتها، واختارت الجلوس على أقرب اريكة لترفرف بذكريات الماضي الحالم…
##
_أنا مش مجبرة أفضل هنا أنت سامع ولا لا!
قالت كلماتها المتعصبة وهي تضع ثيابها بحقيبة السفر الكبيرة، ثم عادت لتجذب متعلقاتها الشخصية، فأتى من خلفها ليلقي بالحقيبة أرضا وهو يصيح بعصبيةٍ تامة:
_يوووه احنا اتكلمنا بالموضوع ده كام مرة يا رواية حاولي تفهمي وتقدري الوضع اللي انا فيه ؟
ابتسامة منكسرة ارتمست على وجهها المتورم من أثر البكاء، اتبعها صوت موجوع:
_أنا فعلاً مش فاهمه ولا عايزة أفهم، اخرج من هنا يا فهد، انزل لعروستك وسيبني لحالي.
جذبها من مرفقها ثم قربها اليه وهو يردد بصدمةٍ:
_حالك!!… أنا حالك، راح فين حبك ليا؟ ، كنتي دايماً بتقوليلي انك هتفضلي جنبي وعمرك ما هتتخلي عني ودلوقتي عايزة تسيبني يا رواية؟
انهمرت الدموع التي احتجزتها اطول وقت تمكنت منه، فرفعت عينيها تجاهه ثم قالت بوجعٍ شق صدره:
_طول عمري وانا جنبك ومعاك يا فهد، بس المرادي لا، مش هقدر أكون جنبك وأنت بتسن السكينة وبتدبحني بدم بارد، آسفة مش هقدر أساندك وانت بتدوس على قلبي وبتكسر كل حاجة حلوة اتولدت جوايا ليك..
قرب يديه ليحتضن وجهها، فأزاح دمعاتها بيديه معاً، فتحررت أحباله الصوتية الغليظة:
_أنا بكسر قلبي قبل ما بكسرك يا رواية، صدقيني أنا مجبور أعمل كده، الست دي انا كنت السبب في موت جوزها وانتي عارفة الناس هنا مبترحمش.
صرخت به بصوتٍ متقطع:
_ومفيش عوض ليها غير انك تتجوزها!
اغلق عينيه بقوةٍ يجاهد بها بالتحلي بثباته ومن ثم قال بصلابةٍ:
_الكلام معتش له لازمة يا رواية الفرح النهاردة والمأذون تحت!
انسدلت دمعاتها دون توقف مع سماع اخر كلماته، فتمسكت بيديه التي تحتضن يدها ثم رددت ببكاءٍ:
_لسه في فرصة يا فهد، أنا مقدرش أعيش من غيرك ولا أتخيلك مع واحدة غيري، انا عارفة انك بتحبني بس انت لازم تثبتلي ده، تعالى ناخد آسر وروجينا ونمشي من هنا..
سحب يديه المحتضنة لوجهها وهو يطالعها بصدمةٍ:
_أهرب يعني!!..انتي متخيلة اللي بتقوليه يا رواية، شايفاني عيل بيغلط ويهرب من غلطه! …. عايزاني اصغر جدي وكبار العيلة؟
اطبقت على معصمها بغلٍ، ففاض بها الصمت لتصرخ بصوتها المذبوح:
_لا انزل واتجوز وافرح بس خليك متأكد ان بمجرد ما توقع على القسيمة هتكون بكده خسرتني انا وعيالك يا فهد..
وجذبت الحقيبة الملقاة ارضاً ومن ثم اعادت وضع الملابس امام عينيه ثم غادرت لغرفة ابنائها، فما ان ولجت للداخل حتى سمحت لذاتها بالانهيار حينما استمعت لخطوات قدميه التي تهبط الدرج، ففتحت ذراعيها لمن يراقبها بخوفٍ، فهرع الصغار الى حضنها، لتهمس روجينا بطفوليةٍ:
_بتعيطي ليه يا ماما، بابا زعلك صح؟
ابعدتها عنها بحنانٍ ثم عبثت بخصلات شعرها الحريري وهي تردد بانكسار:
_لا يا روحي انا زعلانه لان بابا مشغول ومش هيعرف يسافر معانا.
ضيق آسر عينيه بضيقٍ:
_وهو احنا لازم نسافر يا ماما؟
انفلتت دمعاتها فاحتضنت الصغير وهي تردد بوجعٍ يعصف بصدرها:
_ايوه يا حبيبي.
ثم مسحت دمعاتها وابعدتهما عنها، لتشير لهما بابتسامة مصطنعة:
_يلا عشان منتاخرش.
وحملت الصغيرة ثم تمسكت بيديه ليغادر المنزل سوياً، وكلاً من به لا يملك الجرأة لإيقافها، خرجت للحديقة الامامية واتبعت طريقها نحو الخروج بقلبٍ متصلب يأبي الابتعاد عن معشوقه حتى وإن عاش بعيداً ولكن تحت سقف منزل واحد، توقفت عن المضي قدماً حينما وجدت ذاتها تمر من أمام المخيم الذي يضم المأذون والرجال، فوجدته يجلس على الطاولة من جواره، تعلقت أعينها به مطولاً وكأنها تبحث بتلك الأعين عن الإنسان الذي عشقته بجنون، تعلم بأن تلك المنطقة باتت محظورة بذاك الزفاف لانها تخص الرجال فقط، ولكن لا طريق للخروج سواه، تعلقت اعين الجميع بها وعلى ما بدى لهما بانها تغادر زوجها في ليلة زفافه اعتراضاً عليه، كانت خطوة جريئة لم تمتلكها البعض في مثل ذاك المجتمع الذي يجبر النساء على العيش لأجل تربية الابناء، فأغلبهن يرضى بالذل والمهانة لاجل الصغار وبعضهن يقبلن بالزوجة الثانية في سبيل الحفاظ على الزواج الغير متكامل من الاساس!
أطبقت “رواية” أصابعها على يد آسر ومن ثم استكملت طريقها للخارج، وكأن بخطاها الذي يبتعد عنه رويداً رويداً كان كالسوط الذي جلد روحه قبل ان يوقظ قلبه الذي يئن لاجل كل قطرة تسقط من عينيها، ترك القلم الذي كاد بأن يدمر به حياته ليسقط من يديه، ومن ثم ابعد الطاولة لينهض بكل عزم وهو يردد بصوتٍ وصل لمسمعها رغم ابتعادها عنه:
_الجوازة دي مستحيل هتم واللي يحصل يحصل.
تصنمت محلها، فحاولت انعاش رئتيها بالهواء ثم قرصت ذاتها وكأنها تحاول إن تثبت لذاتها بانها لا تتوهم، فاستدارت لتجده يقف وسط الرجال وهو يستكمل حديثه بشجاعة:
_انا ممكن اكون السبب في اللي هي فيه بس انا مقصدتش اقتل جوزها، وكمان ميرضيش ربنا اني عشان ارجعلها حياتها اقوم اخرب بيتي بايدي!
واستكمل بصرامةٍ:
_انا ممكت اعوضها بالفلوس او أي حاجة بعيد عن اني اتجوزها وادمر عيلتي، ده اخر كلام عندي.
اغلقت عينيها بقوةٍ وهي تستمع اخر كلماته، فابتسمت براحةٍ بعد عناء حاولت به أن توصله لتلك المرحلة وها قد تخطاها، لم تجد اي شيء تفعله بذاك الوقت الا الاقتراب منه مثلما كان يقترب منها، فاحتضنته دون أن تعبئ بعدد الرجال من حولها، احتضنته وشهقات بكائها مزقت القلوب من حولها، لم تعد قادرة على الصمود أكثر من ذلك، فالحرب التي خاصتها فتكت بقلبها وطاقتها، فهمست جوار اذنيه ببكاءٍ يحمل نبرة توسل من الاعين التي تتربص بها :
_خدني من هنا يا “فهد”.
لم يتردد ثانية واحدة، فحملها وصعد بها لمنزلها مرة اخرى ومن خلفه اتبعه آسر وروجينا، وعلمت بعد ذلك بأن عمه” مهران” تزوج بتلك الفتاة وقد انتهت العداوة التي كادت بأن تتعمق بين العائلتين لتصبح أكثر حدة بينهما وبين المغازية لسببٍ لا يعلمه الكثير!
********
وأخيراً حظيت ببعض الراحة بعدما أنهت والدتها تحقيقاتها حول تأخرها بثرايا “الدهاشنة”، هي الآن بمفردها تسترجع تلك الذكرى المؤلمة التي باتت متعلقة بطفولتها، أغلقت”تسنيم” جفن عينيها بقوةٍ وهي تردد بصوتٍ شاحب من بين شهقات بكائها الحارق:
_معقول الشيطان ده يبقى جد “آسر”!..
##
منذ طفولتها اعتادت الذهاب مع والدها إلى الحقول، كانت ترافقه أينما ذهب، ارتباطها به جعلها تشعر بالآمان الذي فقدته، كانت تلك الصغيرة تعتاد على مداعبة والدها الدائمة لها وأخرهما لعبة الاختباء التي كانت وسيلتهما للترفيه، فتلك المرة أرادت”تسنيم” أن لا يتغلب عليها والدها ويجدها بسهولة مثلما يفعل كل مرة، فركضت بعيداً عن الحقول بمسافةٍ كبيرة، ثم اختارت مكان قريب من تلك البحيرة البعيدة عن الحقول، فاختبأت خلف أحد فروع الأشجار الضخمة ثم كبتت أنفاسها بيدها لتضمن الا يصل أييها اليها، وأخذت تراقب الطريق بلهفةٍ وحماس، فزع جسد الصغيرة حينما استمعت لصوت صرخات مكبوتة ومن ثم ضوضاء مخيفة تأتي من الإتجاه المعاكس لها، فاستدارت تجاه ذلك الحقل القريب من تلك البحيرة تتفحص باهتمامٍ مصدر هذا الصوت الغريب، جحظت عين الصغيرة في صدمةٍ حقيقية حينما وجدت امرأة ملقاة أرضاً، ويدها وقدميها مقيدان بحبلٍ غليظ للغاية، ومن خلفها رجل ملامحه محفوظة بذاكرتها لتلك اللحظة، كان يحاول تقيد فمها بقطعة من القماشٍ، وبالفعل تمكن من ذلك، رأته تسنيم يجذبها من خصلات شعرها الأسود كسواد الليل الحالك ثم اخذ يتحدث اليها بغضبٍ بدى على معالم وجهه المقبضة، استغاثت تلك السيدة به بأن يدعها وشأنها، فانتفض جسد تسنيم حينما رأته يجرد تلك المرأة من ثيابها ومن ثم اعتدى عليها بوحشية تامة.
طفلة لا يتعدى عمرها الحادية عشر، تتعرض لمحاولات اعتداء من خالها والآن ترى بعينيها اغتصاب وحشي لإمرأة عاجزة لا حول لها ولا قوة، وكأن العالم القاسي يشعرها بأن تلك المعاملة هي المعتادة بين النساء، ارتجف جسدها الصغير بعنفٍ ويدها تشدد من كبت صرخاتها وبكائها خشية من أن تصدر أي صوتاً قد يعرضها لنفس مصير تلك المرأة الغامضة، نصف ساعة مرت عليها كالنيران التي تنهش قلبها الصغير قبل أن تتمكن من جسدها، رأت ذاك الشيطان بعدما فرغ من أمر تلك المرأة يعقد حجابها الذي دنسه حول رقبتها ثم ازداد من ضغطه عليها حتى استكانت حركتها فأصبحت هادئة لا تعافر ولا تتوسل للنجاة، ليته اكتفى بذلك، بل جرها بقسوةٍ ليلقي بها بتلك البحيرة، ثم مضى بطريقه وكأن شيئاً لم يكن!
تاركاً من خلفه أعين تلك الصغيرة التي اختتم الحادث ذكرياتها فجعلها تعيش اسوء طفولة، بل اصطحبها لتظل تعذب حتى الآن..
عادت من ذكرياتها بدموعٍ تلمع بحدقتيها الخضراء، وكأن بتذكارها لما حدث بتلك الليلة دفعها لعيشها من جديد، لا تعرف من تلك المرأة ولكن من المؤكد بأن أهلها حالهما لا يقل عن حالها، فالجميع ضحايا لذلك الشيطان الذي خيل لها بأنه “وهدان الدهشان”!
***********
الجميع يصرخ ويبكي بشكلٍ جعل هذا الصغير الذي لا يتعدى الخامسة عشر مفزوع يحارب فكرة الخروج لمشاهدة ما يحدث بالخارج، وبعد دقائق من المحاربة انتصر فضوله فخرج يتسلل ليتأمل ما يحدث بالخارج، تصلبت معالمه وجحظت عينيه المتورمة من أثر البكاء اشتياقاً لوالدته المتغيبة منذ الصباح ليجدها الآن ملقاة أرضاً جثة هامدة، ملابسها متمزقة تظهر جسدها بشكلٍ مقبض، حجابها الذي خرجت به بالصباح معقود حول عنقها، والمياه تتساقط منها بغزارة بعدما انتشل احد المزراعين جثمانها من البحيرة….
نهض من نومه مفزوعاً، العرق يتصبب من جسده بغزارة وكأنه كان بسباق حاد، ترك الفراش وهم الاقتراب من البراد الصغير الموضوع لجواره، جذب الزجاجة الباردة ومن ثم تجرع نصفها والقى نصفها الاخر على وجهه، ثم القاها ارضاً وهو يردد بصوت كفحيح الأفاعي السامة:
_نهايتك ونهاية الدهاشنة كلها قربت يا”فهد”، هانت وشرفك هيبقى تحت رجلي…… تحت رجل” أيان المغازي”……..

يتبع…

لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية الدهاشنة 2 (صراع السلطة والكبرياء))

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى