رواية استقلال غير مقصود الفصل الرابع 4 بقلم شمس محمد
رواية استقلال غير مقصود الجزء الرابع
رواية استقلال غير مقصود البارت الرابع
رواية استقلال غير مقصود الحلقة الرابعة
“استقلالٌ غير مقصودٍ”
“الفصل الرابع_ ضرائب الاستقلال”
من بين صوابٍ وخطأ نقع نحن في الطريق، فلا ندري أين طريق الصواب ولا أين المفر من الخطأ، ثم نتأرجح بين الإنعراج والاستقامة، ثم نقف ونستمع للنفس اللوامة، نحن ها هُنا نتمنى الطير حاصلين على الحُرية كما تحصل عليها اليمامة، لكن لا مفر من طريقٍ مظلمٍ ملئته الغمامة.
________________________
(4)
صعد “قُـصي” إلى الأعلىٰ بغضبٍ بعدما تشاجر وتصادم مع شقيق حارس العقار وقد أُضرمت النيران بداخلهِ بسبب هذا اللزج الذي تخطى حدود الأدب والتعقل، وربما بسبب فتاةٍ طائشة مثلها حصلت على حُريتها بصورةٍ خاطئة، رُبما تجعلها مطمعًا في الأعين، وقد ولج شقته بضجرٍ وترك الأشياء بعنفٍ حتى انتبه له رفيقه وهتف منفعلًا بمعاتبةٍ:
_ما بالراحة يا عم؟ مالك طلعت قالب بوزك كدا ليه؟.
انتبه له رفيقه وثبت عينيه عليه ثم هتف بجزعٍ وكأنه يوجه حديثه للعالم بأكملهِ يعاتبهم:
_علشان إحنا عايشين وسط ناس أغبيا، ومجتمع كله فاهم الحرية غلط، فاهمين إن قلة الذوق تعتبر حرية بس مبياخدوش بالهم إن طالما رأيهم يخص ناس تانيين يبقى قلة أدب منهم وتعدي على خصوصياتهم، فاهمين إن فرض أرائهم على الناس إجبار منهم بس مناقشة الناس ليهم حرام عليهم وتدخل منهم ، عاملين نفسهم شاطرين وكل واحد عنده خيبة مش عارف يداري عليها فبيجيبها في غيره، طب ما تروح تشوف نفسك يمكن تفلح وتداري على خيبتك وتسيبك من الناس، بس نقول إيـه بقى؟ على رأي اللي قالوا قبل كدا “الناقص بيكمل نفسه بمعايبة غيره”.
لاحظ رفيقه غضبه وأنفعاله فأقترب منه جالسًا بقربهِ ثم هتف بحيرةٍ يستفسر منه عن سبب وصوله لتلك الحالة:
_مالك يا “قُـصي” هو حد زعلك تحت؟ بعدين إيـه الجديد يعني ما دي بلدنا ودي ناسنا وكل مكان فيه الحلو والوحش، صحيح يمكن تلاقي هنا الوحش أكتر بس فيه حلو برضه، بعدين ياعم بص على الحلو، وتِف على الوحش وخلاص، أنتَ هتتعب نفسك ليه، بعدين هو مين أصلًا زعلك هنا؟ دا أنتَ الناس كلها بتحبك وبتتمنالك الخير.
هتف “قُـصي” بنبرةٍ ضاحكة بها لمحة سخريةٍ:
_باعم محدش بيكرهني ولا حاجة، بس فيه عالم عبيطة ربنا يشفيها، بعدين على رأيك هناخد برأي العُبط يعني؟.
هرب من التفكير في الضحكات ثم تحرك يساعد رفيقه في تركيب معدن الفراش لكن صوت ضميره يأنِ بسبب ما استمع إليه، لكن أولًا وأخيرًا صدح صوتٌ بداخلهِ يؤكد له أنها مجرد فتاةٍ لا يعرفها ولا تعرفه وهي مجرد مقابلة سطحية جمعته بها وليس إلا..
__________________________________
في الخارج توقفت سيارة الأجرة أمام إحدى الصالات الليلية وقد راقبت “علياء” المكان بعينيها من نافذة السيارة حتى خرجت منها مع رفيقتها ووقفت تتابع الناس أثناء دخولهم وقد سألتها بإندفاعٍ:
_هو إيه دا يا “رنـا”؟ أنتِ جيباني فين؟.
ضحكت لها الأخرى بحماسٍ وشبكت كفها معها وهي تهتف بلهفةٍ:
_دا نايت يا “لولي” هوريكي هنا سهرة تجنن، وهخليكِ تعيشي يوم محصلش وهعرفك على كل صحابي تعالي بس هتتبسطي جدًا يلا.
سحبتها معها وهي تتحدث وكأنها تجرها نحو أبواب الجحيم والأخرى مُشتتة بينها وبين نفسها، وتلك المرة كل الأصوات بداخلها أنذرتها بخطورة ماهي مُقدمة عليه، كل الأصوات حثتها أن هناك كارثة أكبر منها وأكبر من عقلها، لذا سحبت ذراعها من الأخرى ووقفت محلها حتى التفتت لها رفيقتها تطالعها بتعجبٍ فيما وقفت “علياء” تطالعها بتيهٍ ولازالت تائهة بين خطأٍ وأخطأ، لكن هل هي تمتلك القوة لكي تقف في وجه الخطأ أم أن سلطة الطريق أكبر منها؟ وقد أتخذت قرارها وعادت للخلف وهي تقول بصوتٍ محتدٍ مهاجمٍ:
_أنتِ فهمتيني غلط يا “رنـا” أنا مش من النوع دا، مش علشان قعدت لوحدي هنا وبقيت بدور على راحتي يبقى هدور على حل شعري، مكان زي دا وجودك فيه حرام وغلط، وأنا مش سايبة بيت أهلي علشان أمشي غلط، أنا كل غرضي إني أنجح وأعيش في هدوء وحياة شبهي، لكن أنتِ فهمتي غلط خالص، صوابعك مش زي بعضها.
أغتاظت الأخرى منها وقد نشُبت نيران الغل بداخلها غيظًا من إندفاع الأخرى في وجهها وهتفت بتهكنٍ بعدما رفعت أحد حاجبيها:
_في إيـه يا “علياء”؟ أنتِ هتعيشي الدور ليه؟ فاكرانا في المدينة الفاضلة؟ طالما يا حبيبتي سيبتي بيتك وخرجتي منه يبقى أكيد عاوزة تاخدي حريتك وتشمي نفسك، وكلنا جايين هنا نعمل كدا ونتبسط، هتفضلي قافلة على نفسك حتى وأنتَ لوحدك؟ تعالي وشوفي الدنيا وشوفي الناس وهي بتعيش.
تحولت نبرتها من الحِدة إلى اللين وقد التفتت “علياء” تُمشط المكان بعينيها وقد عادت تقف أمام رفيقتها تهتف بتهكمٍ وهي تُشير إلى المكان والشباب والمراهقين الوالجين نحو الداخل:
_دا مكان حد عاقل يدخله؟ كله عيال مراهقة وصغيرين نصهم سارق الفلوس من أهله ومن الدروس، دول متعبوش في جنيه من دول، طب بلاش هما أنتِ يا عاقلة يا كبيرة إزاي داخلة هنا؟ ما طبيعي الناس تتكلم عنك، عن إذنك يا “رنـا” أنا همشي وهروح شقتي، أنا مش خارجة ألف على حل شعري، ولو فكراني كدا وزيك، فمش كل الناس أتربت في بيتك، سلام.
تركتها وخطت مُسرعةً نحو الطريق تعبره باكيةً وكأنها لُطِمت فوق صفحات وجهها بتلك الصدمة لكن الحق بأكمله يقع عليها هي، هي من أخطأت في رسم أحلامها وبالغت في الخروج حُريتها، جلست على المقاعد الُرخامية فوق الطريق وبكت بقوةٍ تنتحب حتى فاض الدمع منها يواسيها عن طريق إخراج عبراتها بتلك الطريقة.
__________________________________
في شقة “صفية” والدة “قُـصي”..
عاد ابنها “فـريد” من مقابلته مع أقارب زوجته وقد دلف الشقة بتعبٍ وإنهاكٍ بلغا مبلغهما في رأسهِ وجسدهِ، وقد سألته هي باهتمامٍ بالغٍ حينما التفتت له بجانبها الأيسر:
_ها طمني عملت إيه؟ وصلتوا لحل ولا لسه هيفضل الحال زي بيت الوقف كدا؟ طمني يابني فيه حل ولا البيت هيتهد؟.
تنهد هو بثقلٍ ثم هتف بقلة يحاول من خلالها طمأنة أمـه:
_ فيه إن شاء الله، هتيجي معاينة للبيت ويشوفوه بس بتاخد وقت شوية ممكن أسبوعين لأن القرار جاي بإزالة الأدوار المخالفة وهما كانوا خمس أدوار، هيدفعوا فلوس مخالفات عقارية ويشوفوا حد في الحي ياخد قرشين ويخلص الليلة، قولي يا رب.
لوت فمها واستغفرت ربها سرًا، ثم وزعت نظراتها على أحفادها الثلاثة وقررت أن تتغاضى عن أي شيءٍ فقط لأجلهم، قررت أن تُكف عن الحديث والتأنيب والإيلام حتى لا تغضبهم منها وسكتت تمامًا، بينما زوجته فهتفت بثباتٍ بعض الشيء:
_طب أخواتي وافقوا ولا حد منهم عارض؟ أصل الوقت بيكون كتير والمخالفات العقارية دي بتاخد وقت أوي وورقها صعب يخلص في يوم وليلة كدا.
أنتبه لها وهتف ساخرًا بصوتٍ تهكمي لاذع:
_أخواتك خسرانين إيه يعني يا “نـيرة”؟ أخواتك على قلبهم مراوح علشان مش خسرانين حاجة، أنا اللي الدور بتاعي مخالف وكل اللي فوقيا، بس الراجل طلع حنين ومتفهم وقال هيظبط الدنيا على قد ما يقدر بس البيت يفضل فاضي للإحتياط محدش ضامن حاجة، وربك يسهل وتعدي على خير بقى، يا كدا يا هنكون ضعنا بجد ولا طولنا بلح الشام ولا عنب اليمن، هنترمي في الشارع.
شهقت والدته تلقائيًا ثم هتفت بصوتٍ مُلتاعٍ على ابنها:
_بعد الشر عنك يا حبيبي، بيت أبوك مفتوح تحت أمرك أهو، وربنا ينصرك ويردلك حقك ويقويك، قول يا رب وتوكل عليه وربك رحيم بعباده يا “فريـد” محدش بيضيع حقه في الدنيا دي، قرب بس من ربنا وربنا يردلك حقك.
أومأ لها موافقًا بتعبٍ ثم أغمض عينيه وأرجع رأسه للخلف يستند على الأريكة وهو يتمنى الهرب مما يعانيه ويحمله بداخله والمعضلة الأكبر أنه وبكل آسفٍ فُرِضَ عليه حماية عائلته وأسرته ويتوجب عليه أن يتولى مهمة الإبحار حتى ينجو بهم لبر الأمان سالمين..
__________________________________
عُدنا مكسورين الجناح،
رافقنا الفشل، وتركنا الفلاح..
ظلت تتجول “علياء” في أرجاء المنطقة وتبحث بعينيها عن العديد من المُشتريات وخاصةً الملابس والإكسسوارت والحُلىٰ النسائية المُقلدة وقد تناست ما حدث حتى لا تبكي في الطُرقات خائفةً، فهي وبرغم كل شيءٍ لازالت نقية كما طفلة بريئة أرادت أن تختبر شعور الفراشات فتجولت في الحديقة وسرعان ما جذبتها أضواء اللَهب المُشتعلة وما إن طفقت تتحرك وتطوف قامت النيران بالامساك في جناحيها، وكأن الضوء ماهو إلا لصٍ سرق حدسها وقام بحرقها..
وصلت لشقتها بعد مرور ما يُقارب الساعتين وولجت شقتها الصامتة ثم دلفت تتحمم وخرجت تحاول من جديد استعادة شغفها المسلوب في هذه الليلة، وقد قامت بإخراج منتجات العناية بالبشرة ثم بدأت في ذلك منتهجة التجديد لعلها تنس الموقف السخيف الذي صدمها منذ قليل..
بعدها قامت بتأدية فرضها وتضرعت للخالق ووجدت نفسها من بعد الشتات تستقر هنا، حيث كل الأماكن تهزمها ووحدها سجدة مليئة بالحديث مع الخالق تُنجيها، وقد أنهت الصلاة ثم تحركت صوب الشُرفة تجلس فيها ولازالت ترتدي اسدال الصلاة وذلك لرفرفة نسمات الهواء حولها فمسحت على كلا ذراعيها بكفيها معًا ووجدت نفسها تبكي مُجددًا..
كانت تشعر في تلك اللحظة تحديدًا بنفس شعور الإنسان عند حصوله على تحقيق إنتصاراتٍ لكنها إنتصاراتٍ مُحزنة، تلك التي يتخطى فيها المرء المشاعر المُبهمة المولودة في حلقته الحياتية، لو كان العالم أفضل بعض الشيء في بيتها والحُرية فيه موجودة بنسبةٍ أكبر لكانت حلقت فيه براحتها كاملةً، لكن العصفور الصغير دومًا لا يتقنع سوى بالحُريةِ كُلها، فيسير مُرفرفًا في البراح؛ ظنًا منه أنه سينل المُستراح..
تركت العنان لعبراتها المُنسابة وهي تحاول فهم ما يجري في حياتها، كل مافي الأمر ليلتين فقط كيف تألمت فيهما لهذا الحد؟ وكيف بالرغم من عدم إهتمام أي أحدٍ بشئونها لكنها تشعر أن كل الأعين تتجه صوبها، وقد شعرت بظل أحدهم يميل على الشُرفة المجاورة لها وقد استند بمرفقيه على معدن الشُرفةِ وهتف بسخريةٍ يوجه حديثه لها دون أن يُطالعها:
_شربتي بانجو ولا لسه يا “سـعدية”؟.
حركت رأسها نحوه بحدةٍ تحاول فهم ما يرمي إليه وقد تلاقت الأعين ببعضها وهي ترمقه شزرًا بنظراتٍ نارية فوجدته يهتف بتهكمٍ لاذعٍ:
_أنا ماليش إني أتدخل بس أنا هكلمك كلمة ورزقي ورزقك على الله رغـم إني معرفش حاجة عنك وهما يومين بس اللي شوفتك فيهم، لو فاكرة إن هنا مفيش حد شايفك، فربنا أعلى وأعلم وشايفك، الإنسان أصلًا حُـر بطبعه بس حريته دي ليها حدود، يمكن متقبليش كلامي ويمكن أكون بتحشر بس أنا مش بسكت عن الغلط، أرجعي بيت أهلك أحسن.
توسعت عيناها حتى وصلت لمرحلة الجحوظ وقد علمت إلى ما يرمي إليه بكلماته وحينها ثارت أنفاسها وصدرها يعلو ويهبط بعنفٍ فاستقام هو واقفًا وهتف بحزنٍ لأجلها:
_متحطيش نفسك موضع شُبهات وترجعي تزعلي من نظرة الناس ليكِ، ومتصاحبيش حد مش شبهك وترجعي تعيطي، بصي أنا مش فاهم بنصحك ليه بس يمكن علشان في وقت من الأوقات كنت تايه ومحتار ومالقيتش حد يقف ليا ويساعدني، بس هقولك حاجة مهمة، الصَاحِبُ سَاحِب فَانظر مَنْ تُصَاحِب وسيدنا محمد قَالَ ﷺ “المرءُ على دينِ خليلهِ فلينظُر أحدكُم مَنْ يُخالِل” يعني الإنسان لازم ينقي ناسه صح، يشوف بقلبه قبل عينه، وعلى فكرة أنا سمعت البنت اللي جاتلك هنا وعرفت إنكم رايحين مكان مش كويس، علشان كدا كنت بتريق عليكِ، وآسف.
كاد أن يختفي كُليًا من أمامها ويولج الشقة لكنها بالرغم من حديثه وقسوته وبالرغم من العلاقة العابرة التي جمعتهما لا تتعدىٰ السويعات؛ لكنها أصرت على تبرئة نفسها قائلةً:
_وأنا مدخلتش المكان علشان ماكنتش أعرف أصلًا، وأخلاقي مستمحش ليا إني أعمل حاجة كدا، وأنا عارفة إن ربنا شايفني وعالم أنا بعمل إيـه، وأنا مش بنت وحشة ولا قليلة الأدب علشان أعمل حاجة تغضب ربنا، معرفش أنا بقولك ليه رغم إني يدوبك عرفاك من ساعات، بس يمكن لأنك زي الناس كلها شايف إن خروج البنت من بيتها يبقى صياعة، ومش شايف إنه احتياج ليها، ولتاني مرة هقولك أنا مدخلتش المكان دا ومش مهم عندي تصدق، وياريت كل واحد فينا يفضل في حاله، عن إذنك.
ألقت حديثها في وجههِ دُفعةً واحدة ثم انسحبت من حصار نظراته المدهوشة وقد لاذت بنفسها أخيرًا وولجت تغلق باب شرفتها بعنفٍ ثم أرتمت على طرف الفراش ورفعت كفيها تمسح على وجهها وتُدلك عينيها؛ تلك المسكينة التي تمنع ظهور عبراتها لم تعلم أن فؤادها بات غريقًا في دموعها.
أما هو فوجد نفسه يتنفس أخيرًا بعدما أنقبض فؤاده خوفًا مما سمعه من رفيقتها والآن أخرج أنفاسه بعدما استشف الصدق في حديثها وكلماتها كما أنه صدق المُرافعة التي تولتها في الدفاع عن نفسها وقد ولج هو الآخر شقته لكن تلك المرة كان سعيدًا، لم يسعد لأمرها هي بعينيها؛ بل سعد لأنها وبرغم كل ذلك لم تفقد كل مبادئها.
__________________________________
“يستطيع الإنسان أن يقاوم كل شيءٍ
إلا حزنٍ يراه في عين أمـه”
بعد مرور شهرٍ كاملٍ من تلك الليلة، استمرت “علياء” في عملها كما هي رغم كل التجديدات التي طرأت على حياتها وأيادي التجديدات التي طالتها ورغم نظرات زملائها بالعمل لها لكنها تجاهلت كل شيءٍ وألقته خلف ظهرها وأقدمت نحو ما تريده هي، وقد سعت بكل شغفٍ لديها حتى تنجح ذاك النجاح الذي تخيلته هي، قاومت ووقفت لكن نظرة أمها لها لم تنساها هي، تلك النظرة التي رمقتها بها حينما مرت عليها في منتصف الأسبوع المُنصرم تزورها، وحينها رمقتها والدتها بحسرةٍ وحزنٍ رغم اشتياق والدتها لها ورغم نطق نظراتها بذلك إلا أن الصراع حُسِم لحزن أمها عليها..
أنهت عملها وتحركت بثباتٍ نحو الخارج متجاهلة عن عمدٍ نظرات الجميع لها وقد اصطدمت في الخارج برفيقتها ذاتها “رنـا” وقبل أن تتخطاها هي عرقلت الأخرى فعلها وهتفت بلهفةٍ:
_استني بس، أنتِ مش بتردي عليا وزعلانة مني، ومش عارفة أروحلك علشان عارفة إنك في الشغل وخايفة أروحلك البيت تطرديني، متزعليش مني أنا قولت إنك أكيد نفسك تعيشي زي الناس والبنات ما بقت عايشة اليومين دول، والمكان مش وحش كدا يعني، يدوبك هما كام أغنية وتفرحي وتخرجي الكبت وخلاص، معرفش إنك عندك عرق صعيدي كدا، متزعليش يا بت بقى جاية أصالحك.
تنهدت “علياء” وهتفت بثباتٍ خالطته المُعاتبة لها:
_أنا زعلانة علشان أنتِ عارفة إني مبعملش حاجة غلط وطول عمري طريقي واحد، وزعلانة علشان فكرتيني عيلة صغيرة لما تخبي عليها الكلام هسكت وخلاص، أنا لما سيبت البيت، سيبته علشان مش شبه طموحي، مش عارفة أساعد نفسي هناك، مش علشان أخرج وأروح أماكن زي دي وسط عيال مراهقة؟؟ مش مكسوفة من نفسك وأنتِ شحطة كدا ورايحة مكان زي دا؟.
ضحكت رغمًا عنها وهي تعاتبها بجملتها الأخيرة وقد شبكت الأخرى ذراعها في مرفقها وهي تقول بنبرةٍ أكثر ودية:
_والله من الكبت، طول اليوم شغل وطحن ومصاريف وخناقات، إحنا في مطحنة، بس أنا بقى هعرفك على صحابي والمرة دي في كافيه محترم زي الناس، وبلاش تقفشي كدا، هما كانوا مستنينك المرة اللي فاتت، بس طالما بكرة أجازة عندك تعالي معايا وقضي ساعتين أفصلي بيهم من الشغل الهم دا.
رمقتها “علياء” بتشككٍ فأشارت لها الأخرى أن تسير معها وقد وافقت هي على مضضٍ لكن في قرارة نفسها أتخذت القرار، فإذا وجدت الموقف ذاته بشبه السابق ستذهب لا محالة في ذلك، وبعد مرور نصف ساعة تقريبًا توقفت سيارة الأجرة أمام أحد الكافيهات العامة ونزلت كلتاهما ودلفتا المكان وماهي إلا دقائق مرت عليهما تبعها جلوس الاثنتين وقد تولت الأخرى مهمة التعريف لمجموعة من الشباب والفتيات بنبرةٍ مرحة:
_دي “علياء” صاحبتي يا جماعة، دول يا ستي صحابي اللي قولتلك عليهم، أتعرفت عليهم في شغلي الجديد وكل خميس لينا سهرة حلوة مع بعض كدا نقضي اليوم، وقولت أعرفك عليهم علشان متبقيش لوحدك ومخنوقة.
أومأت لها موافقةً وابتسمت باقتضابٍ لهم ترحب بصوتٍ قلق وسرعان ما قفزت أمامها صورة “قُـصي” وحديثه الآخير حينما أخبرها أن المرء يُشبه من يُجالس، حتى وإن كان غيرهم ويُنافيهم لكن العين لن ترى سوى تواجده بينهم، وكذلك هي رغم أنها تختلف عنهم كُليًا إلا أن حتى تواجدها بينهم لم يُريحها، حيث كثرة مزاحهم بطريقةٍ أكثر من ودية، تلامسهم بطريقة مباشرة عن طريق ضرب الأكُفةِ ببعضها وحينها استاءت هي منهم وأخرجت هاتفها تبحث فيه وتتصفحه.
لاحظت هي نزول النرجيلة الفحمية لهم فرفعت رأسها نحو “رنـا” التي مالت عليها تهتف بنبرةٍ أقرب للهمسِ:
_المكان كله بيشيش عادي، بعدين هو حد قالك أشربي زيهم؟ كل واحد هنا حر يعمل اللي هو عاوزه ويريحه.
زفرت “علياء” وأنزلت رأسها تُطالع هاتفها وسرعان ما جال هو بخاطرها من جديد وكأن عقلها يصنع مقارنةً وهمية بينه هو وبين أشباه الرجال التي تُجالسهم، وقد بحثت عن اسمه في محرك بحث الفيسبوك، لكنها لم تجده، وسرعان ما جالت بذهنها فكرة جديدة وهي أن تبحث عنه في المجموعة الإلكترونية الخاصة بجهاز الإسكان الإجتماعي، أو عبر الصفحة العامة الخاصة بهم، وبالفعل هي مجرد لحظات ووجدت ضالتها حيثُ رأته في قائمة سجلات الإعجاب وقد تنهدت بأريحية وهي تشعر بالأمان ليدور في خُلدها حديثه من جديد وتحديدًا قوله:
“يعني الإنسان لازم ينقي ناسه صح، يشوف بقلبه قبل عينه، وعلى فكرة أنا سمعت البنت اللي جاتلك هنا وعرفت إنكم رايحين مكان مش كويس، علشان كدا كنت بتريق عليكِ، وآسف”
أخذت قرارها ووقفت فجأةً تمسك حقيبتها وهتفت بلهفةٍ:
_عن إذنكم يا جماعة، أنا مضطرة أمشي علشان فيه مشوار مهم ويدوبك ألحقه، فرحانة جدًا بالمقابلة دي ولو ربنا أراد تتكرر إن شاء الله، عن إذنكم.
ألقت الحديث وهي تلقي تركيزها في جمع مُتعلقاتها ثم أنسحبت من المكان سريعًا وما إن خرجت من وسطهم تنفست أخيرًا بحريةٍ وكأنهم كانوا جاثمين فوق صدرها، وقد عادت لشقتها بعدما أخذت سيارة أجرة إلى هناك وصعدت إلى شقتها تُغلق على نفسها فيها وقد قررت أن تُكافيء نفسها بما فعلت وقد صنعت مشروبها المفضل حيث القهوة المزودة بالحليب والسكر وقطع الثلج، وأرتدت منامة جديدة حريرية وقامت بفرد خصلات شعرها وقامت بتشغيل الشاشة الصغيرة المُعلقة على أحد أفلامها المفضلة وكأنها تحلق فوق السحاب بتلك الأمسية البسيطة الهادئة ورائحة عطرها الأنثوي تفوح في أرجاء الغُرفة التي زودتها بإضاءةٍ ذهبية خافتة والهدوء يرافقها أخيرًا…
بعد مرور بعض الوقت لاحظت صوت سعال أحدهم يخترق أُذنيها وكأنه أوشك على لفظ آخر أنفاسه فقامت بإغلاق التلفاز وأرهفت سمعها تلتقط المصدر المُسبب لذلك، وقد وجدته آتيًا من الشقة المجاورة فتحركت نحو الشرفة تفتحها لتجد الليل خيم على المنطقة والمكان لكن اختلائها بنفسها داخل كهفها هو السبب في ضياعها بتلك الطريقة، وقد أقتربت تلتصق في شرفته بجسدها فوصلها صوت سعاله وتأوهه وحينها ركضت ترتدي اسدالها ثم فتحت ثلاجتها تسحب منها الدواء الخاص بالحُمى والسُعال ثم ركضت له تطرق الباب بلهفةٍ وهي تُناديه قلقة بقولها:
_أستاذ “قُـصي” أفتح لو هتقدر طيب، حضرتك كويس؟.
ظلت تطرق الباب وتُناديه حتى فتحه لها بوجهٍ غزته الحُمرة وطالعها بعينين دامعتين وظل يسعل بصوتٍ خشن جعلها ترمقه بشفقةٍ ثم مدت يدها له وهي تقول بلهفة:
_أتفضل الدوا دا، هيحسنك كتير بس أهم حاجة إنك تنام وترتاح وتتغطى كويس، أنا سمعتك بتكح جامد وعارفة إن مفيش حد هنا معاك، أتفضل خده.
أخذه من يدها بعدما أومأ لها ثم هتف بصوتٍ مُحشرجٍ:
_شكرًا يا آنسة “علياء” معلش لو أزعجتك يعني.
ردت عليه تجاوبه بلهفةٍ:
_لأ خالص، هو الموضوع مش بإيدك يعني، أعن إذنك وألف سلامة ولو محتاج مسكن أو حاجة أنا معايا برضه، بس الدوا حلو يا رب يجيب نتيجة، تصبح على خير.
ألتفتت توليه ظهرها بعدما كانت تقف على أعتابهِ فيما أنتظرها تولج شقتها ثم أغلق بابه لكن كان هناك أعين تراقبهما ووهمت نفسها بما تُريد وقد وقف “قُـصي” حائرًا وهو يمسك زجاجة الدواء ويفكر فيها، يبدو أنها تُجلي عن ذهنه كل ما ألقاه على كهلها من تُهمٍ لتثبت لها مدى نقائها وبراءتها بعيدًا عن الصورة التي صدرتها له الظروف المُحيطة وقد ابتسم هو شيئًا فشيءٍ وفتح الزجاجة يتجرع منها ما فيها جُرعةً واحدة.
__________________________________
“لا يُهم ظنهم فينا،
المُهم وما يُهم نظرتنا نحن في أنفسنا”
ظلت تتقلب كمن يتحرك فوق الجمر المُشتعل بسبب تسرعها وما فعلته، هي من طلبت منه أن يصبح كلًا منهما بعيدًا عن الآخر، واليوم هي من تطفل عليه وتتدخل في شئونه؟ لكنها لم تُخطيء فهو يعيش بمفرده هُنا ومن المؤكد يحتاج لمعاونة أحدهم وقد شاء الخالق أن تصبح هي المُغيث له، وهكذا أسكتت صوت ضميرها الحيِّ وقفزت تهتف لنفسها بتأنيب:
_عادي يعني، هو واحد تعبان وجارنا مفيهاش حاجة، بعدين هو لوحده مكبرة الموضوع ليه بقى؟ المفروض تفرحي إنك لحقتيه وأهو ملهوش صوت شكله نام أو هدي شوية، نامي بقى.
صرخت لنفسها ثم أرتمت على الفراش ووضعت الوسادة فوق رأسها تهرب من صوت نفسها حتى سقطت في بئر النوم أخيرًا، بينما هو فصنع لنفسه كوبًا من الينسون حتى يهدأ صدره قليلًا ويستقر ألم حنجرته لكنه شرد فيها أثناء صنعه للمشروب، تلك الغريبة المُنفردة لم يرْ مثيلًا لها قط، على الرغم من علاقاته المحدودة بالجنس الآخر إلا أن هذه تبدو بهن كلهن، جمعت الخصال الحميدة والشاقة في ذاتها، لكنها حقًا مُنفردة كعصفورٍ فصيلته نادرة الوجود وُجِدَ وسط شاكلةً من الطيور..
لم يخرجه من شروده سوى صوت هاتفه فسحبه يجاوب دون استبيان هوية المُتصل الذي لم يكن سوى أمـه وما إن جاوبها هو هتفت هي بلهفةٍ قلقة:
_مالك يا حبيب قلبي، أنتَ تعبان صح؟ صوتك ماله؟؟.
حاول يجاوبها بثباتٍ حتى لا تقلق أكثر لكن صوت تعبه ظهر في نبرته حين هتف:
_أنا بخير وكويس يا حبيبتي متقلقيش، دور برد بس علشان سوقت الموتوسيكل وأنا لابس خفيف وملبستش الچاكيت، المهم أنتوا كويسين؟ محتاجين حاجة؟.
جاوبته هي بقلة حيلة بعدما تنهدت بعمقٍ:
_لأ يا حبيبي إحنا بخير مش ناقصنا غير وجودك، أنا قولت أكلمك قبل ما أنام وأفرحك إن كلها أسبوع أو عشر أيام بالكتير وأخوك يرجع شقته، وأهو أنتَ ترجع بيتك وترتاح بقى، خلي بالك من نفسك وخد علاج وأشرب حاجات دافية، علشان خاطري بلاش تكبر دماغك وتنام، ولا أجيلك طيب؟.
أقترحت عليه بجمودٍ تهدده حتى أوقفها هو بلهفةٍ ثم وعدها أنه لن يُهمل في نفسهِ وعليه أطمئنت هي بعض الشيء وأغلقت معه أخيرًا ثم ولجت غرفتها تحتضن حفيدها على الفراش وهتفت بنبرةٍ خافتة وهي تُمسد فوق خصلاته:
_يا رب أشوفك زي عمك بشهامته وأخلاقه وحنيته، وتاخد من أبوك الحلو بس، يا رب متبقاش زيه سلبي وضعيف وبتسمع لأي حد، أشوفك زي عمك يا رب، وربنا يوعده ببنت الحلال اللي تصونه وتحفظه وتقدر قيمته، علشان هي هتاخد أجدع راجل في الدنيا دي كلها.
ابتسمت بحنينٍ ثم أغمضت عينيها وقلبها يتضرع للمولىٰ أن يحفظ الآخر ويحميه، فيما وقف “قُـصي” شاردًا في حديثها وهو يشعر بالحيرة، يبدو أنه أعتاد على العيش هُنا لمدةٍ شهرٍ كاملٍ وهي بجواره ساكنة وصامتة، يُراقبها بعينيهِ ليلًا وهي تجلس في شرفتها تُنجز مهام عملها وتتابع العديد من الكورسات التعليمية وكم أراد أن يتدخل ويعاونها لكنه دومًا ينصاع لصوت شهامته وأخلاقه حتى لا يتسبب لها في مُضايقاتٍ تُزعجها وتسيء لها، والآن سيتوجب عليه تركها؟ هنا بمفردها؟.
في اليوم التالي تحديدًا في منتصفه قُرابة الغروب..
كانت “علياء” تتجول في السوق التجاري تبتاع لنفسها مشتريات الشقة كما أعتادت أن تفعل في نهاية كل أسبوعٍ
وقد لفت نظرها أقترابه من المكان الذي وقفت فيه هي وتلقائيًا ابتسمت خاصةً حينما رآها هو وأقترب منها يُخاطبها بثباتٍ:
_فرصة سعيدة إني لقيتك هنا، أنا كنت عاوز أشكرك على موقفك إمبارح معايا، الدوا جـه في وقته وأنتِ جيتي في وقتك، وآسف لو كنت ضايقتك قبل كدا بكلامي بس والله العظيم أنا أتكلمت من باب الشهامة كراجل عاش هنا وشاف الناس وطريقتهم وكلامهم، أتمنى متزعليش، لأني مش من النوع اللي يحب حد يزعل منه.
ابتسمت هي الأخرى له ثم هتفت بنبرةٍ هادئة أكثر استقرارًا:
_لا شكر على واجب، ومفيش داعي للآسف، هو سوء تفاهم والحمدلله راح لحاله، عمومًا يعني ألف سلامة عليك وفرصة سعيدة إني قابلت حضرتك بخير وكويس كدا، وعلى فكرة كلامك كان في وقته، شكرًا لحضرتك.
تركته ورحلت فيما وقف هو ينظر في أثرها بعينين مُبتسمتين، وكأنها شريدة تبحث عن الأمان أو فتاة تسير أسفل الأمطار تبحث عن مأوىٰ يحميها، لذا تحرك يجلب لنفسه المشتريات ثم العودة لبيته حتى يتناول الطعام ويخلد للنوم، أما هي فأنهت ما تفعله وعادت لشقتها ودلفت مدخل البناية فوجدت “عبده” شقيق الحارس يجلس على المقعد الخشبي وما إن رآها سعل بشدةٍ مُصطنعة وظل هكذا حتى التفتت هي له فسألها بنظرة خبثٍ:
_ملاقيش عندك حاجة للكُحة يا آنسة؟ أصل صدري قايد نار ومش لاقي دوا، قولت يمكن ألاقي عندك ولا حاجة؟.
قد يبدو حديثه طبيعيًا لكنها فهمت ما يرمي إليه بخبث كلماته ونظراته المتفحصة بوقاحةٍ لها وقد أندفعت هي ترفع صوتها فيه بنبرةٍ عالية تصرخ في وجهه:
_أنتَ عاوز إيـه بالظبط؟ ما تحترم نفسك يا حيوان أنتَ، وبطل قلة أدب، وبص عدل على قدك، بدل ما قسمًا بربي هقدم شكوى فيك وأخليك تتشحططك وعيشك يتقطع، ولو على الدوا الصيدلية مش بعيد عنك، شد نفسك وروح هات دوا ودور على حاجة للشهامة بالمرة يمكن رجولتك تتعالج.
برقت عيناه نحوها بشررٍ وهي تهينه بتلك الدرجة وحينها أوشك على أن يقترب منها لكي يأخذ حقه من لسانها السليط رافعًا كفهِ لكي يصفعها لكن ظهور “قُـصي” في هذه اللحظة كان هو النجاة بذاتها، وقد حال بينهما ودفع الشاب حتى أسقطه فوق الأريكة وهتف بنبرةٍ هادرة منفعلة:
_أنتَ حيوان وقليل الأدب ومعندكش ذرة رجولة، في راجل يمد أيده على واحدة ست يا حيوان؟ قوم وريني نفسك وأنا أوريك الرجولة عاملة إزاي، بس خليك فاكر إني مخزنلك من بدري وقطع عيشك هييجي على إيدي أنا إن شاء الله.
أجتمع معظم ساكني البناية ومعهم الحارس الذي ركض مهرولًا نحوهم وظل يعتذر للآخر نيابةً عن شقيقه ذي الطباع الحادة والوقحة وقد ألتفت له “قُـصي” يهدده بقولهِ:
_أنتَ على راسي يا عم “عـيد” بس أقسملك بالله لو أخوك ما أحترم نفسه لأكون راميه في الشارع ومحزنك عليه، عرفه يسيب الناس في حالها ويخليه في حاله ويبطل قلة أدب، بدل ما أوريكم أنا قلة الأدب شكلها عامل إزاي ومحدش هيسد عليا ويقف قصادي، فــاهـمين!!!.
هدر بكلمته الأخيرة بإنفعالٍ ثم التفت لها يُخاطبها بإنفعالٍ:
_اتفضلي يا آنسة، أطلعي شقتك يلا، ولو حد ضايقك هنا تاني عرفيني وأنا موجود، وقلة أدبي موجودة برضه.
صعدت هي أمامه تتقدمه وهو بعد مرور عدة ثوانٍ صعد خلفها فوجدها تقف أمام باب شقتها وكأنها تنتظره وقد أقتربت منه تهتف بلهفةٍ:
_أنا آسفة ليك جدًا، هو اللي إنسان قليل الأدب ولسانه طويل وحيوان، أنا بتجاهله عمومًا كل مرة بس المرة دي بقى هو زود أوي في قلة أدبه، تلميحاته كانت سخيفة ونظراته كانت شبه وشه المخرم.
تلاشي عن وجهه الوجوم وسألها ساخرًا عن مقصد كلمتها:
_مخرم؟ يعني إيه وشه مخرم دي؟.
حركت كتفيها بقلة حيلة وهي تبتسم رغمًا عنها ليشاركها هو البسمة ثم هتف بثباتٍ بعدما هديء قليلًا عن السابق:
_عمومًا ولا يهمك وخلي بالك من نفسك، الناس مبترحمش يا “عاليا” بتمسك في بعضها كأنهم مساريع، وأنتِ بنت وعايشة لوحدك وطبيعي تكوني مطمع للزي دا ولغيره، قعادك هنا غلط وتعب زيادة عليكِ ومتنكريش، مفيش حد بيبعد عن بيت أهله بيعيش كويس.
هتفت هي بنبرةٍ شبه باكية تخبره عن الحقيقة التي لم يراها:
_لأ فيه، لما يبقى البيت بيقلل من أحلامك وطموحاتك يبقى لازم تمشي منه، لما تضيع عمرك في شغل وتعب وفي الآخر كل دا بيروح على الفاضي يبقى لازم تمشي، مفيش حد بيفضل مكانه ثابت حياته بتتغير، لازم الإنسان يقوم ياخد خطوة واحدة بس تخليه ينجح في حياته.
أنفعلت وهي تحدثه وتهدج صوتها فيما هتف هو بصوتٍ عالٍ كونها لا ترى الأمر من وجهة النظر العامة وتكتفي فقط بالرؤية من جهتها:
_وأنتِ غبية، أنا آسف بس أنتِ غبية أوي كمان، مش واخدة بالك من نظرة الناس ليكِ ولا من كلامهم، مش واخدة بالك إنك حاطة نفسك موضع شُبهات ليهم وهما ما صدقوا؟؟ مش واخدة بالك إنك علشان تغيري حياتك خدتي خطوة غلط، مفيش بنت ينفع تسيب بيت أهلها وتخرج وتطلب بالحرية وتعرف تعيش مرتاحة، نار أهلك ولا جنة الشارع، وجودك هنا غلط مش هينفع تنكريه، علشان مهما كان اسمك للأسف بنت عايشة لوحدها وسابت أهلها علشان تدور على كيفها، محدش عارف إيه الحقيقة بس كلهم شايفين بمزاجهم ومهما كان دوشة البيت اللي مش عاجبك دا فيه مليون واحد يتمنوه، وحياتك اللي خنقاكِ دي ومش عاوزة تعيشيها فيه غيرك في الشارع بنات وشباب نفسهم في ساعة واحدة بس جوة بيت يأويهم، وأهلك وصداعهم دول غيرك نفسه في نص اهتمامهم بس بيه، كل دا رمتيه ورا ضهرك؟ علشان إيـه؟!!.
صرخ وهو يسألها لترد عليه هي بنفس الصراخ الباكي:
_علشان عاوزة أنــجح، عاوزة ألحق أعمل لنفسي حاجة قبل العمر ما يمشي بيا، عاوزة ألحق حياتي وأنا على الأقل محققة ربع أحلامي، بكرة هتعاير بفشلي إني معملتش لنفسي حاجة وهتعاير إني متجوزتش علشان أي حد جاي طمعان في شغلي وفلوسي مش علشاني، خرجت علشان أعمل زي اللي بشوفهم على النت وهما محققين أحلامهم وكأنهم واصلين للسما وبتمنى وأقول يا رب وأنا كمان زيهم، خرجت علشان أنا أصلًا وسطهم لوحدي، مفرقتش بقى قاعدة جنبهم ولا لأ، بس كدا كدا أنا لوحدي معاهم، زعلانة وأنا لوحدي وفرحانة وأنا لوحدي، خسرانة أو كسبانة لوحدي، يبقى على الأقل تبقى وحدة بجد.
لاحظ هو صراخاتها وصوتها المُتألم فتنهد بثقلٍ ثم هتف بنبرةٍ أهدأ عن السابق بعدما علم أن لكلٍ منهما نظرة تُغاير الأخرى وتخالفها بل وتراصدها في القوة:
_والناس للأسف مش شايفة كل دا، وآه إحنا وسط مجتمع بيرفض الحريات، وسط ناس معندهاش رحمة عاوزين جنازة يشبعوا فيها لطم، كل واحد فيهم ناقص ومكلكع وماشي يعدل على غيره، وهما نفسهم لو أتحطوا في موقف واحد بس شبه اللي غيرهم عايشه مستحيل يقدر يتصرف صح، ربنا يسهلك طريقك ويقويكِ على اللي أنتِ داخلة عليه بس أنتِ كدا حكمتي على نفسك بالوحدة علطول، علشان الناس كلها هتشوفك بنظرة واحدة مش هيغيروها وهي إنك بنت سابت بيتها وخرجت تدور على حل شعرها براحتها، وأنتِ حق نفسك عليكِ إنك تتقي الشُبها.
ألقى حديثه ثم فتح باب الشقة وولج على أعتابها بينما هي نظرت له باكيةً ثم أولته ظهرها وولجت شقتها هي الأخرىٰ وفي هذه اللحظة تم إغلاق البابين بصوتٍ عالٍ وكأن كلاهما قوة تُضارب الآخر وتعارضه مثل كتلة ثلج باردة وكومة نيران مشتعلة أقيمت بينهما حربٌ والنتيجة لم تُحسم بعد..
__________________________________
تصبح غبيًا حينما تتمنى مرور الوقت،
وفي حقيقة الأمر أنتَ نسيت أنها أيام من عمرك..
بعد مرور عشرة أيام جلست “علياء” تُهاتف والدتها تطمئن عليها وبالرغم من حديثها المُقتضب معها إلا إنها حاولت أن تقوم بإذابة الجليد المُطوق علاقتهما، وفي الحقيقة كانت تستمد منها الأمان خاصةً بعد رحيل “قُـصي” وعودته إلى بيتهِ منذ ستة أيامٍ، وقد شعرت طوال تلك المُدة بالخوف وكأنه كان يحرسها خفيةً، وقد أغلقت الهاتف معها ثم تحركت صوب الشُرفة تقف فيها وتشتم الهواء النقي وهي تعيد التفكير من جديد في حياتها التي أنقلبت بقرارٍ متهورٍ لم تحسب حسابه كاملًا..
في شقة والدة “قُـصي”…
جلس في غرفته التي حاول أن يتأقلم عليها من جديد بعد عودته لهنا، لقد كلفه الأمر كثيرًا وهو ينتظر الليل حتى يتحرك لعمله الثاني، لكن تفكيره دومًا ينحرف نحوها هي، يفكر فيما يمكن أن تفعله ويفكر في إحتياجها للأمان، ويفكر في طريقتها المتهورة، يفكر في كل ما يخصها حتى أضحى صرفها عن رأسهِ أمرًا يَصعب تحقيقه وقد دلفت له أمه تجلس بقربه وهي تقول بنبرةٍ هادئة:
_مالك يا حبيبي؟ قاعد لوحدك كدا ومن ساعة ما رجعت من هناك وأنتَ سرحان وزعلان ليه؟ حصل حاجة هناك زعلتك؟ غيبت عني شهر وأكتر حاسة إني معرفكش فيهم، قولي يا حبيبي أنا سمعاك، فيك إيـه؟.
حرك رأسه نفيًا ثم ألقى رأسه على فخذيها وصمت عن الكلام، فمسحت على خصلاتهِ وهي تقول بنبرةٍ ضاحكة ساخرةً بحديثها:
_اسكت مش “نـيرة” أم قلب كبير كلمتني في موضوع خطوبتك من أختها؟ تحسهم يا واد عاملين عُصبجية عليا، بس على مين أنا قفلت في وشها الباب، مش كفاية وكسة الكبير وخيبته، كمان عاوزين يوكسولي الصغير؟ دا أنتَ أنضف من صنف عيلتهم كله فرد فرد، كفاية قلبك الأبيض وجدعنتك مع الكل، أختها علشان تستقل بعيد عنهم وعن بيت العيلة حطت عينها على بيتك، عاوزة تطير برة حدودهم بس مش على حسابك أنتَ، ربنا يفرحني بيك وأشوف عروستك في إيدك.
لفت نظره حديثها وبالأخص جُزئية منه جعلته يرفع رأسه وهو يسألها بإهتمامٍ عن مقصدها:
_تستقل؟ هي بقت فِرة في البلد ولا إيـه؟ كل البنات عاوزة تستقل وكلهم بيقعوا في حظي أنا؟ بعدين هي عاوزة تستقل تقوم تتجوز يعني؟.
ضحكت له وهي تقول بمزاحٍ تفسر له رغم اصطباغ حديثها بالحكمةِ:
_يخيبك، يا أهبل البنت لما بتتجوز بتاخد راحتها شوية عن بيت أهلها، وخصوصًا لو معاها راجل يفهمها ويساعدها ويقدرها ويسعدها، علشان كدا بقوا كلهم عاوزين يتجوزوا وبيفكروا في حياتهم مع بعض، علشان كدا الجواز فطرة في الإنسان بيدور عليها، وخصوصًا البنات بتفرح أوي لما تبدأ تحلو كدا والموضوع يتفتح علشان بتاخد حرية جديدة بس برضه بحدود، ويا سلام لما يحبوا بعض بقى، زيي أنا وأبوك كنت بعد الأيام علشان أكون معاه.
ألتقط مقصد حديثها وفهمه وقد لاحظ التوقيت في الساعة المُعلقة فانتفض من جوارها يهتف بلهفةٍ:
_يدوبك ألحق، وسعي يا “صافي” لعبتي في دماغي.
ضحكت هي على طريقته فيما تحرك هو بلهفةٍ على عُجالةٍ لكن صدى الحديث ظل يتردد في سمعهِ وكأن المقصد منه يُشكل دوائر في رأسه ليجد نفسه مستدلًا لتلك الفكرة التي طفقت تُنير عقله كما أنارت طريقه وهو يتحرك نحو عمله..
عودة إلى مسكن “علياء”…
الليل أقبل وازداد السكون حولها أكثر والخوف معه هو الآخر وقد زهدت هي كل شيءٍ حتى المكان حولها وقد تحركت نحو الخارج بعيدًا عن غرفتها لتصنع لنفسها وجبة طعام سريعة لكنها تعجبت حينما تهادى إلى أذنها صوتٌ غريبٌ عليها في هذا الليل وقد لاحظت ظل أحدهم أتيًا من عند أعتاب شقتها وقد شعرت هي بالذعرِ وقبل أن تأخذ هي أي خطوة وجدت الباب يدفع وتهجم عليها “عـبده” فجأةً وظهر عليه أثر الثمالة وقبل أن تصرخ هي كمم فمها وكبل حركة جسدها بذراعيه وهو يرمقها باشتهاءٍ وانتقامٍ في آنٍ واحدٍ، والآن وبكل آسفٍ يدفع العصفور ثم صراخه مناديًا بالحريةِ…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية اضغط على : (رواية استقلال غير مقصود)