رواية استقلال غير مقصود الفصل الخامس 5 بقلم شمس محمد
رواية استقلال غير مقصود الجزء الخامس
رواية استقلال غير مقصود البارت الخامس
رواية استقلال غير مقصود الحلقة الخامسة
“استقلالٌ غير مقصودٍ”
“الفصل الخامس_ استقلال خاطيء”
نسير نحو الخطأ راغبين لا مُرغمين..
نُحب ما نفعله بعدما كُنا له من بعدٍ كارهين، اليوم نحصد نتاج زراعتنا للخطأ ويتوجب علينا أن نصبح صامتين، لكن هي مرة واحدة، مرة واحدة يُناضل فيها المرء لأجل حياته، ليست الحياة المُرفهة، إنما تلك الحياة التي يخوضها بشرٌ أقل من العاديين..
___________________
(5)
عند إلى مسكن “علياء”…
الليل أقبل وازداد السكون حولها أكثر والخوف معه هو الآخر وقد زهدت هي كل شيءٍ حتى المكان حولها وقد تحركت نحو الخارج بعيدًا عن غرفتها لتصنع لنفسها وجبة طعام سريعة لكنها تعجبت حينما تهادى إلى أذنها صوتٌ غريبٌ عليها في هذا الليل وقد لاحظت ظل أحدهم أتيًا من عند أعتاب شقتها وقد شعرت هي بالذعرِ وقبل أن تأخذ هي أي خطوة وجدت الباب يُدفع وتهجم عليها “عـبده” فجأةً وظهر عليه أثر الثمالة وقبل أن تصرخ هي كمم فمها وكبل حركة جسدها بذراعيه وهو يرمقها باشتهاءٍ وانتقامٍ في آنٍ واحدٍ، والآن وبكل آسفٍ يدفع العصفور ثم صراخه مناديًا بالحريةِ..
حاولت دفعه بكل ما أوتيت من قوةٍ وهي تتلوىٰ بين ذراعيهِ وقد همس هو بجوار بأذنها بحديثٍ سامٍ ترجمه عقله له من أفعالها:
_متخافيش يا حلوة، أعتبريني حد من زباينك اللي بتنزليلهم كل يوم، هدفعلك ونقضي ليلة حلوة مع بعض وأوعدك مش هضايقك، بس أحترمي نفسك بدل ما أقول إنك طلبتيني بمزاجك.
توسعت عيناها بخوفٍ وهوىٰ فؤادها أرضًا وهي تحاول أن تصرخ حتى تهادت إليها فكرة تُخلصها منه وقد ضربت مُقدمة قدمه بقدمها ثم أبتعدت عنه تخطف المزهرية تهدده بقولها وهي تتجه نحو باب الشقة تفتحه من جديد:
_خليك بعيد، أقسم بالله هموتك لو دا حصل، خليك بعيد عني فتحت الباب وهو يقترب منها حتى خطفها من خصلاتها فجأةً وقبل أن ترفع ذراعها وتضربه بالمزهرية وجدته يلصقها بالحائط وقبل أن يغلق الباب وجد أحدهم يدفعه عليه وقد ظهر “قُـصي” فجأةً من العدم وما إن رآها صرخ باسمها ملهوفًا:
_”عاليا”… أنتِ كويسة؟.
أقترب منها وهي تهز رأسها باكيةً فيما ألتفت هو يُطالع الواقع أرضًا وقد فهم ما جرىٰ وحينها هجم عليه ينهال عليه باللكمات والضربات بعنفٍ أعمى أوقف عينيه عن البصر والبصيرة وهو يضرب الآخر حتى ظهرت دمائه فيما أنزوت هي تضم جسدها بكلا ذراعيها الضعيفين وهي تنتحب باكيةً وقد قضى “قُـصي” عليه حتى وجده شارف على قطع أنفاسه فتركه وهو يلهث بأنفاسٍ مُتقطعة ثم ألتفت لها يجلس على رُكبتيه أمامها يسألها بلوعةٍ:
_أنتِ كويسة يا “عاليا”؟ جه جنبك؟.
حركت رأسها نفيًا وهي تبكي حتى بكت بعنفٍ وجسدها يهتز فلاحظ هو ظهور جسدها وشعرها فأبتعد عنها يخطف المفرش المتواجد فوق الطاولةِ ثم أخفى جسدها به ورأسها ثم طالعها بحزنٍ وفرحٍ في آنٍ واحدٍ وكأن كلا عينيه أنشطرت لطريقٍ غير الأخرىٰ، وقد وقف من جديد يناظر المُلقى أرضًا بغلٍ دفينٍ وقبل أن ينقض عليه من جديد صرخت هي تتوسله بقولها باكيةً:
_لأ!! علشان خاطري لأ، أنا خايفة.
لقد وضع في مأزقٍ في تلك اللحظة، حيث تباينت مشاعره وردود أفعاله أمامها، أينادي على الجميع ويفضح أمر ذلك الوغد لكنها ستتضرر، أم يأخذها ويرحل من هنا كما هي؟ أم يقف بجوارها ويساندها؟ حقًا عجز عن التصرف حتى أخرج هاتفه مُسرعًا ما إن وصلته تلك الفكرة ليتحدث مع حارس العقار وقد جاوبه “عـيد” بلهفةٍ:
_خير يا أستاذ “قُـصي”؟ فيه حاجة؟.
صرخ فيه لكي يصعد إليه بأقصى سرعةٍ لديه وقد صعد الآخر مُسرعًا بخطواتٍ راكضة حتى وصل إليه فسحبه من تلابيبه يهتف بنبرةٍ جامدة وهو يشير نحو شقيقه:
_الكلب دا حاول يتهجم على الآنسة اللي ساكنة هنا، وأنا اللي عملت فيه كدا، علشان هي متتأذيش أنا هسكت دلوقتي بس وربنا ما هسيبه غير لما يتسجن، علشان ميعملش كدا في مكان تاني، خده دلوقتي وأنا هتصرف، ولو فكرت تمشيه أنا هبلغ عنك معاه، خده ونضف المكان منه لحد ما أجيلك..
دقائق مرت أختفى فيها “عبده” من الشقة بعدما أنزله شقيقه وقد عاد لها هو يجلس في مواجهتها يُهاتفها بنبرةٍ منكسرة ومُحشرجة لأجلها هي:
_عرفتي ليه قولتلك روحي بيت أهلك؟ عرفتي ليه خوفت عليكِ هنا؟ علشان إحنا وسط عالم زي الحيوانات، محدش هيتقبل حريتك هنا وكلهم هيفهموكي غلط، أنا لولا إني جيت هنا صدفة الله أعلم باللي كان حصل، مفيش بنت في مجتمع عربي ينفع تسيب بيت أهلها وتخرج منه وتعيش زي ماهي عاوزة، فيه ضريبة لكل حاجة، سمعتها وبصة الناس ليها، كل حاجة فيها الحلو وفيها الوحش، يمكن تكوني خدتي راحتك وجربتي العيشة اللي كان نفسك فيها، بس قصاد دا كنتي هتخسري أهم حاجة تملكها بنت، زي ما أتحكم عليكِ إنك بنت مش كويسة، ربنا أمرك بستر نفسك، وإنك تتقي الشُبهات، علشان كدا لازم تمشي، روحي بيتك وعيشي مع أهلك وسطهم، هناك أمان ومحدش هيقرب منك، النهاردة أنا لحقتك، بكرة مين هيلحقك؟..
نزلت دموعها أكثر وهي تنتحب بصوتٍ مُتقطعٍ وقد أعتدل هو في وقفتهِ يؤكد عليها الحديث بقولهِ الصارم:
_قومي غيري هدومك ولمي حاجتك علشان هوصلك لبيت أهلك، ومش همشي من غير ما دا يحصل، أظن مش هتستني لحد ما تموتي هنا ولا يتقال عنك إنك مجرد بنت فاتحة شقتها مفروشة، قومي يا “علياء”…
أنهى حديثه ثم أولاها ظهره وأغلق الباب عليها وقد لاحظ الآلة التي استخدمها الآخر لفتح الباب وفكر بجديةٍ لما يحمل شابٌ مثله مثل تلك الأداة التي تُستخدم لفتح الأبواب وقد مال عليها يلتقطها ثم قبض عليها وجلس على الدرج ينتظرها لقرابة النصف ساعة؛ بينما هي في الداخل فقد لملمت شتات نفسها أخيرًا وسارت لغرفتها وهي تبكي بقهرٍ وخوفٍ وقد أضحى الخوف رفيقًا لها حتى أرتمت على الفراش بجسدٍ متراخي انتحبت باكيةً بصوتٍ أعرب عن القهر الآلم وهي تتوقع كل ماهو كان سيئًا وأصابها، فماذا لو كان حدث ما خطط له الآخر وتم الإعتداء عليها؟ ماذا لو كانت تأذت في أنوثتها وفقدت أغلى ما تملكه الفتاة في حياتها؟..
تملك الخوف منها وكأنها لاقت مصرعها لتوها، لذا أنتفضت بلهفةٍ تُبدل ثيابها وكأن المكان حولها أضحىٰ سجنًا لها ويُضيق الخناق عليها، هرولت مُسرعةً وهي تحاول النجاة بنفسها من هذا المكان وقد حاولت بمجهودٍ مُضني لملمة شتاتها ولازالت تبكي خائفةً كلما تكررت الصورة أمام عينيها تدب القشعريرة في جسدها وتشتد منابت رأسها من فرط الخوف والذُعر..
__________________________________
“اللهمّ قوني بك اذا انفلتَ صبري
وضاقت نفسِي وسئمَت”
في الخارج وقف “قُـصي” قُرابة الساعة ينتظرها ورغم ذلك لم يسأم ولم يمل من الإنتظار بل وقف على أمل خروجها حتى مرت دقائق أخرى عليه تبعها صوت قلقلة المفاتيح في الباب وتلاها ظهورها بعينيها المتورمتين الحمراوتين فطالعها هو براحةٍ أخيرًا كونها أنصاعت له وخرجت من كهفها وقد مال هو عليها يسحب الحقيبة من يدها وحملها وأشار لها أن تتقدمه قائلًا بثباتٍ يُنافي إضطرابات مشاعره نحوها:
_أتفضلي أنا هوصلك.
حركت رأسها موافقةً وسبقته نحو الأسفل وهو خلفها وحينها كانت شاردة تمامًا حتى لفت نظرها تواجد “عبده” مرتميًا فوق أحد المقاعد البلاسيتكية حينها وحينها دُبَّ الخوف في قلبها وتوقفت محلها متخشبة ترمقه بعينين زائغتين وهي تتذكر الموقف الذي تجسد نصب عينيها وحينها جاورها “قُـصي” فوجدها تتمسك به وأخفت نفسها خلفه وهي تقبض على قميصه وقد مد يده يمسد على كفها المُمسك بذراعه وهتف بصدقٍ:
_أنتِ مش لوحدك يا “عاليا” أنا معاكِ ومحدش هيقرب منك تاني ولا يرفع عينه فيكِ حتى، أتطمني.
أنهى حديثه ثم سحبها من مرفقها مُرغمًا على ذلك ثم وقف بجوار “عـيد” حارس العقار وهتف بصرامةٍ تأججت نيرانها في عينيه:
_أقسم بالله ما هسكت عن اللي حصل، وأخوك هرميه في السجن وهبلغ عنه في جهاز الإسكان، علشان أخوك مبيراعيش ربنا في لقمة العيش، ولو سكتله هيسوق فيها، أوصلها وأتطمن عليها وهاجيلكم تاني ويا ويلكم مني.
هدر بحديثه منفعلًا ثم خرج بها من البناية وهي ترتجف كما الورقة في مهب الريح صدمتها عواصف الخريف، بينما هو فظل يراقبها بعينيه حتى بكت هي من جديد وكأن المشهد لم ينفك تصويره أمام عينيها وقد جذب نظرها نحوه حينما سد عليها موضع الشرود وهتف بثباتٍ:
_صدقيني عياطك مش نافع، لازم تكوني أجمد من كدا خلاص، وتتعلمي من الدرس وتقفي على رجلك من تاني، ترجعي لحياتك القديمة وسط أهلك وبيتك وتنعمي في الأمان وسطهم، محدش هيقدر يقرب منك طول ما أنتِ متحاوطة فيهم، أرجعي لوالدتك وعيشي معاها وخليكِ جنبها، أنتِ قدام المجتمع كله بنت، روحتي ولا جيتي بنت، عارف إن دلوقتي مفيش فرق بين راجل وبنت وكله عاوز حريته، بس دي بلد كاملة ومجتمع للآسف غبي، يبقى مُجبرة إنك تعيشي وسط المجتمع الشرقي العقيم دا وتحافظي على نفسك، مش هينفع تخرجي تناطحي فيهم لوحدك.
أغمضت عينيها الباكيتين وهتفت أخيرًا بصوتٍ مُحشرجٍ:
_أنا دلوقتي عاوزة أكون في أمان، مش عاوزة حاجة تاني، ماكنتش عارفة إن الراحة تمنها هنا غالي أوي كدا، مش طالما معملتش حاجة حرام تغضب ربنا يبقى يغور المجتمع على اللي عايشين فيه، إيه الغلط؟ عملت إيه غلط أنا علشان أشوف النظرة دي في عينهم؟ أنا كنت عاوزة أرتاح وأعيش في هدوء وأنجح وأقدر أخطط لحياتي صح، بس للآسف نسيت إني وأنا في حالي هلاقيهم كلهم في حالي معايا..
تنهد هو بثقلٍ وصمت عن الحديث حتى وصلت سيارة الأجرة التي سبق وطلبها حتى تتولى مُهمة توصيلها للبيت وقد أجلسها في الخلف ووضع بجوارها الحقيبة وجلس هو بجوار السائق ثم سألها عن العنوان حتى جاوبت هي بنبرةٍ مختنقة من البكاء فتحدث الرجل بقلة حيلة يخبرها:
_ المشوار دا بعيد يا بنتي، أنا هقفل البرنامج وهوصلك أنا معلش بقى يا أستاذ الحياة تقيلة والعيال عاوزة مصاريف.
وافقه “قُـصي” وهتف بنبرةٍ مُنهكة:
_اللي تؤمر بيه يا حج عيني ليك، وصلنا بس.
شرع الرجل في قيادة السيارة ورفع رأسه يُطالع المرآة يراها فيها وحينها لمحها تبكي ولمح الوجوم في نظرات من يجاوره وقد أنصاع لصوت فضوله متسفسرًا بقلقٍ:
_بتعيطي ليه يا بنتي فيه حاجة؟ جوزك مزعلك؟.
سألها بإهتمامٍ حتى أنتبهت هي له وقبل أن تجاوبه برفضٍ قاطعٍ وتنفي تلك القرابة بينهما تدخل “قُـصي” وهتف بثباتٍ وكأنه أضحىٰ بارعًا في التصرف بتلك الأمور:
_لأ مقدرش أزعلها، هي بس أختها كلمتها وقالتلها إن والدتها تعبانة شوية وعاوزة تشوفها وهي قلقانة عليها علشان كدا بتعيط، شد حيلك بس ووصلنا علشان نطمن بس على الحجة.
حرك الرجل رأسه موافقًا وهتف بنبرةٍ ذات طابعٍ وديٍ:
_ربنا يباركلكم يابني ويخليكم لبعض، وحدي الله يا بنتي وأدعيلها ربنا يبارك في صحتها، لامؤاخذة أنا بتدخل بس علشان أنتِ زي بنتي، الأسبوع اللي فات والله يا بني ركبت معايا بنت منهارة من العياط، وفي الآخر طلع عيل ضاحك عليها وخد منها الحلق والسلسلة بتوعها بعدما سابت بيت أهلها علشانه، الدنيا بقت صعبة أوي، وفي الآخر طلع مفهمها إنهم هيعملوا لايفات على الزفت التوك توك دا، وهي جتله وضحك عليها ورماها في الشارع، الناس بقت طبعها زفت، ربنا يسترها على ولايانا يا بنتي.
رفعت رأسها نحوه وقد تذكرت عبارة الرجل الذي يعمل في مقر العمل وحدثها في السابق بحديثٍ مُشابهٍ تردد صداه في سمعها من جديد:
_مش كل الناس بتاخد اللي هي عاوزاه، فيه ناس بتاخد حاجات كتير حلوة بس بتتحرم من حاجات تاني أحلى، وفيه ناس عندها كل حاجة حلوة بس برضه لسه فاكرة إن ناقصها الأحلى، ربنا يستر على ولاينا يا بنتي.
ترقرق الدمع في عينيها من جديد لكنها تمالكت نفسها وقد أدركت لتوها أن ما حدث كان درسًا لها، كان يتوجب عليها أن تتعلم ألا تُغامر بسيرتها ونفسها وتصبح موضع الظنون السيئة، يبدو أن الدرس كان في غاية القسوة لكنها تعلمته وفهمت أن ليس كل ما تشتهيه الأنفس تحصل عليه.
وقفت سيارة الأجرة عند مقدمة شارعها وقد ترجل منها “قُـصي” بمغامرةٍ لأجلها وأنزلها بعدما دفع أجرة السائق وقد رفعت رأسها نحو البيت وهتفت بصوتٍ خافتٍ:
_خايفة ميقبلونيش، خايفة ماما ترجعني.
حرك رأسه نفيًا وهتف يُبدد ظنونها بقولهِ:
_مفيش أم بتقفل بابها في وش ضناها، يمكن تلاقيها هتموت وتاخدك في حضنها، أطلعي وأنا معاكِ ولو حصل أنا مش هسيبك في الشارع لوحدك، الدنيا لسه بخير.
بعد مرور دقائق أخرى وقفا سويًا أمام باب شقتها وقد وقف هو خلفها حتى فتحته أمها لها وما إن رآتها ذكرت اسمها بلوعةٍ حتى أرتمت عليها الأخرى باكيةً تتشبث بها فضمتها على الفور وهي تُضيف بنفس البنرة المُلتاعة:
_قلب أمك يا بنتي، مالك يا حبيبتي جرالك إيه يا ضنايا.
هتف “قُـصي” بثباتٍ يُطمئها:
_متقلقيش كدا يا فندم، الفكرة بس إن فيه مشكلة حصلت هناك وفيه حرامي أتهجم على البيت وهي أتخضت علشان كانت لوحدها، أنا جارها ووصلتها لحضرتك، عن إذنك.
شهقت أمها بفزعٍ على ابنتها ووزعت نظراتها بينه وبينها فطمأنها هو ثم وضع هو الحقيبة عند عتبة الشقة وهتف من جديد بخجلٍ من موقفه وخاصةً مع تأخر الوقت لتلك الدرجة:
_أنا مضطر أستأذن علشان ألحق أرجع تاني على هناك، حمدًا على السلامة يا آنسة “علياء” وربنا يوفقك.
أوقفته أمها بلهفةٍ وهي تمسح على ظهر أبنتها:
_طب أستنىٰ يابني بس، أدخل أشرب حاجة، كتر خيرك.
_مش هينفع والله يدوبك هتحرك علشان الوقت متأخر، وآسف لو تسببت في إزعاج لحضرتك، بس كان لازم تكون في أمان وأظن مفيش آمن من حضن الأم، وأنا قولت للآنسة كدا، عن إذنكم.
كان حديثه يحمل رسالة متوارية ألتقطتها وهي تتشبث بأمها وقد تواصلت نظراته بننظراتها للمرة الأخيرة قبل الرحيل، تلك المرة كان حزينًا وهو يراها وكأنه يرى أحلامه تتركه، رآها تنسلت من بين أنامله وربما تلك المرة بلا رجعة، هذا الذي ظل يراقبها ويراقب سكونها ليلًا في شرفة شقتها وهي تجلس فيها تنجز مهامها وتتحدث مع شقيقاتها، وتداعب نفسها وتُدللها حتى نسى وحدته لكونها تجاوره، فيما طالعته هي بنظرة مؤلمة، لقد رآت فيه لتوها فتى الأحلام، يحمل كل الصفات النادرة التي ظنتها شبه مستحيلة في أيامنا هذه..
أمين، وفي، صادق، رجل بمعنى الكلمة، مقدام
فعل لأجلها كل شيءٍ حتى يُنصفها في الوقت الذي تخاذلت فيه عن إنصاف نفسها، وقد أغلقت والدتها الباب بعد رحيله وهي تضم ابنتها، ذلك الباب الذي سبق وواربته اليوم يُغلق تمامًا على ابنتها بين ذراعيها..
__________________________________
أختر أهون الشرين…
في صبيحة اليوم التالي، كانت “علياء” في شقة والدتها وقد هجرها النوم وظلت طوال الليل بين ذراعي أمها وفي الصباح قضت الساعات الأولى منذ شروق الشمس في غرفتها حتى ولجت لها أمها تحمل الطعام فوق الحامل ثم جلست بقربها وهي تقول مُهدهدةً لها كما لو كانت صغيرتها صاحبة الخمس أعوام:
_لولي حبيب ماما يلا يا حبيبتي علشان تفطري، دا البيت نور برجوعك فيه من تاني، قومي يلا ناكل مع بعض.
أعتدلت “علياء” على الفراش وطالعت وجـه أمها بحنانٍ ثم هتفت بصوتٍ مُحشرجٍ باكٍ نادمةً على فراقها لذلك القلب الحنون:
_أنا آسفة إني سيبتك ومشيت، والله أنا بحبك مش بكرهك، أنا بس كنت باصة لحاجة مش عندي ونسيت كل اللي عندي، كنت باصة لحياة مش بتاعتي ومش شبهي، أنا خلاص مش عاوزة استقل ولا عاوزة حاجة، عاوزة بس أكون هنا في حضنك وأمانك، الناس برة صعب أوي ومحدش فيهم بيغلط نفسه، كان لازم أفهم إن هما عمرهم ما هيبصوا للبنت بصة كويسة، مكانش ينفع أسيب بيت أهلي وأخرج برة واستغرب نظرتهم ليا، أي كلام هنا في مجتمع زي دا عن حرية الناس وإحترامهم لبعض بيتحط من باب الوقاحة، يبقى نمشي عدل علشان تحتار الناس فينا، وأهو محدش بيتعلم بالساهل، كان درس ولازم آخده، المهم إنك مرحبة بيا.
ضمتها “رجـاء” بين ذراعيها تمسح على ظهرها وهي تقول بحبٍ وأملٍ تفاقما لأجلها في قلبها:
_يا بت بطلي عبط، دا أنا فضلت أشحن قلبي منك وأقول لو جت هطردها وأعمل وأسوي، بس لما أترميتي على حضني وقلبي حس بقلبك جنبه أنا نسيت حصل إيه أصلًا، مفيش أم بتكره، الأم دايمًا بتحب وقلبها كبير أوي، وأنا بحبك يا عبيطة، بحبك أوي ونفسي أشوفك أسعد بنت وأحلى عروسة في الدنيا، لما قررتي تمشي وقولتي إنك مش مرتاحة وإنك عاوزة تتمتعي شوية قولت خلاص خليها تمشي يمكن أنا واقفة قدام فرحتها، ورغم كدا أنا مقدرتش في يوم أوقف الدُعا ليكِ، البيت هنا بيتك وبراحتك، وليكِ عليا أعمل اللي يريحك كله، أخواتك هييجوا يوم الجمعة الصبح ويمشوا نص اليوم، والخميس ترتاحي أنتِ وتنامي، واللي عاوزاه قوليه، بس متمشيش وتسيبي بيتك.
أبتسمت الأخرى ومسحت على ظهرها وهي تقول بنبرةٍ مختنقة من العواطف والمشاعر المُتأججة بداخلها:
_مش هامشي خلاص والله، أنا خلاص جيت هنا ومش هخرج من البيت دا، وبالنسبة لموضوع أخواتي البيت بيتهم وخليهم ييجوا وقت ما يحبوا، دا بيتهم زي ماهو بيتي، بس وقت ما نحب نغير جو أنا وأنتِ نروح الشقة هناك مع بعض، مش هروحها لوحدي من غيرك.
ضحكت لها الأخرى ورغم مساورة الشكوك في عودة ابنتها إلا أنها سكتت وأكتفت فقط بتواجدها معها بين ذراعيها وفقط، ثم ناولتها الطعام وتابعتها وهي تأكل معها لكن الشرود غلف عيني “علياء” وهي تفكر فيه هو لا غيره وأيقنت أن اللقاء بات مستحيلًا بينهما..
__________________________________
“يخطئ القلب في لحظة؛ فـيعاقبه العقل سنين..”
في شقة والدة “قُـصي” وسط النهار..
عاد من العمل الأول بجسدٍ منهك نظرًا لبقائهِ طوال الليل في البناية يُنهي إجراءات الإبلاغ عن “عـبده” ولم يرحل إلا حينما تأكد من معاقبة الآخر وتسليمه لأمن الجهاز في الإسكان متوليين هم مهمة المُعاقبة، وقد تم ترحيله مع شقيقه من البناية والمنطقة بأكملها..
عاد لبيته أخيرًا يبحث عن أمه ثم جلس بجوارها فوق الأريكة يستند برأسهِ على ظهرها فتعجبت هي من حالته وخاصةً الحزن البادي على وجهه وقبل أن تسأله عن سبب حالته صدح صوت جرس الشقة وتحركت هي تفتحه فوجدت ابنها البكري أمامها، وقتها رمقته بتعجبٍ فولج هو الشقة وبعد مرور دقائق هتف بثباتٍ يفسر سبب مجيئه بقولهِ:
_أنا جيت أقولك إني أتخانقت مع “نـيرة” وأخواتها وبيعت الشقة خلاص، بس الأول روحت ورجعت الشقة القديمة من صاحب البيت وهو كتر خيره وافق والسعر مختلفش كتير، مش هقبل أعيش وسطهم وأنا ماليش لازمة كدا وكأنهم بيعطفوا عليا، أنا عندي عزة نفس عيلتها كلها متعرفش عنها حاجة، هي مكانتش راضية بس أنا حلفت عليها يمين لو مجاتش مش هتشوف عيالها تاني، وهرجع شغلي القديم كمان، أنا مش عيل علشان أسمع كلامهم، والفلوس اللي معايا في الليلة دي هديها لـ “قُـصي” يشغلها، اللي خلاني آمن ليهم، يخليني أحط روحي كلها في إيد أخويا.
طالعه شقيقه بذهولٍ ثم حرك رأسه نحو أمه التي مطت شفتيها بيأسٍ ذاهلةً هي الأخرى من الحديث، ليضيف “فريد” مُفسرًا من جديد:
_على فكرة عادي تستغربوا، بس لما وقعت في ضيقة محدش منهم وقف في ضهري ورموني بعيالي بأختهم نفسها بعدما ما كل واحد فيهم آمن على بيته ومراته وعياله، ومكانش هاممهم الموضوع غير بس لما أختهم طالبت بفلوس بدل حقها اللي هيضيع، يبقى ليه بقى أرخص نفسي أكتر؟ المكان اللي سبق وأهله مش عاوزينك فيه، خلي عندك كرامة ومتدخلوش بالغصب، المهم أنا عاوز أشكرك يا “قُـصي” على موقفك وإنك اتحملت بسببي تسيب البيت وتعيش لوحدك علشان مراتي والبنات يكونوا براحتهم، أنتَ ونعم الأخ والسند.
ضحك له أخـوه وهتف بثباتٍ وهو يربت فوق كفه:
_متقولش كدا يا “فـريد” أنتَ أخويا الكبير وفي مقام أبويا، بعدين عيالك عيالي ومحدش ينفع يقلل منهم ولا منك، لو هقعد في الشارع بس استر لحمي أنا مش هفكر مرتين، ربنا يكرمك ويفرحك بعيالك ويهديلك مراتك، مبقاش ينفع خلاص أقولك سيبها ولا حتى أبعد عنها، عيالكم بقوا طولكم وأنتَ بتحبها أوي، شوف بس عاوز مني إيـه وأنا عيني ليك.
أبتسم له الآخر ومسح فوق كفهِ وطالعه بإمتنانٍ وفخرٍ به وهو يشكره دون حديثٍ لكن عيناه نطقت بكل شيءٍ، تفوهت بدلًا عن الألسنةِ العاجزة، وقد تحرك “قُـصي” صوب الداخل يهرب من حيرة تفكيره فيها وقد حمد ربه سرًا أن الأمور لم تصل لأكثر من ذلك وأنه حضر في التوقيت المُناسب بعدما طالبه “طلعت” رفيقه بشيءٍ من الشقة أمسًا وقد تذكر الموقف حيث طالبه بـ:
_أنا قاعد مكانك هنا لحد ما تيجي مش همشي واللي يسألني هقوله راح يجيب حاجات تبع الشغل، بس هات الكاتيل وهات الراديو اللي عندك في الشقة، الصنايعية واكلين وشي وعاوزين حاجة تريحهم، هتبخل على أخوك يعني؟ معيش فلوس أجيب، حماتي فلستني.
وقتها قرر العدول عن طريقه وتوجه إلى الشقة في مدينة السادس من أكتوبر ليجدها هناك كما القطة في عرين الأسد، ترك فراشه وظل يجوب الغرفة هاربًا من صوت تفكيره المتحدث باسمها وقد أصرفها تمامًا وهو يتجهز لعمله الثاني مُسكتًا رأسهِ أنها بالطبع لن تقبل بشابٍ مثله أقل من أحلامها الكبيرة ومن المؤكد ستبحث عن استقلالها من جديد حتى ولو كان بشكل غير مقصودٍ ليصبح استقلالًا غير مقصودٍ..
__________________________________
إذا فعلت أي شيءٍ صحيح في حياتي فهو إعطاء قلبي لك..
بعد مرور شهرين كاملين..
استقرت الأوضاع كثيرًا لدى “علياء” وقد تعلمت حقًا من الدرس القاسي، حيث أضحت تبحث عن نجاحها وأهدافها من داخل بيتها، أدخرت الكثير من الوقت لتتعلم العديد من المهارات الإلكترونية مثل برامج التسويق والدعاية والتجارة عبر الصفحات الإلكترونية، كما قامت بوضع تطبيقًا جديدًا لحياتها الخاصة قبل العملية، ثم رتبت الكثير من مطلباتها وفقًا لمساحتها المادية، العديد والعديد قامت بفعله وهي في بيتها من داخل حجرتها دون أن تُقلل من شأن نفسها في أعين الآخرين…
وقد ولجت لبيتها يوم الخميس وتحممت وقامت بفرد خصلاتها وجلست تتناول الطعام مع أمها التي ظلت تراقبها بعينيها خِلسةً حتى سألتها هي بحيرةٍ من صمتها:
_عاوزة تقولي إيـه؟ مع إن حاسة إني أعرف والله.
هتفت “رجـاء” بلهفةٍ تستجديها قبل أن تغضب:
_والله المرة دي ماليش دعوة، الحكاية كلها إن دي واحدة ست كانت عندك في الشغل وأنتِ كتر خير أهلك ساعدتيها وخلصتي ليها ورق ومرضتيش تاخدي منها فلوس، هي بقى حبيتك وسألت عنك هناك، ومدام “تغريد” أديتها رقمي علشان عاوزاكِ لابنها، أتكسفت أحرجها والله، شوفيه يمكن ابن حلال ويستاهلك، هتخللي لوحدك يا هطلة.
كادت أن تتذمر وتسخط من والدتها لكنها توقفت عن الحديث وزفرت بقوةٍ ثم هتفت بجمودٍ واقتضابٍ:
_ماشي، هرفضه زي كل مرة، وطبعًا حضرتك قولتي ييجوا بكرة علشان أجازتي، وأنا هحاول أفتكر هي أنهي واحدة منهم، أنا ياما ساعدت كتير في أم الشغل دا، ربنا يتوب عليا منهم.
أنهت الحديث ثم عادت لاستكمال طعامها فيما كتمت والدتها ضحكتها وهي تتمنى أن تلك المرة تجد ابنتها الزوج المُناسب، رغم شبه اقتناعها أن تلك الفكرة لن تُجديها نفعًا، بل هي تشبه الحمل الثقيل فوق كاهلها، وكانت عباراتها الوحيدة لتبرير ذلك الموقف قولها:
_هو أنا طايقة نفسي علشان أطيق حد تاني معايا؟.
هكذا كان تبريرها الوحيد أنها دومًا تستثقل تواجد نفسها، ومن المؤكد لن تتحمل تواجد الآخرين معها وقد أنخرطت في التفكير حتى ولجت غرفتها وأخرجت هاتفها تبحث عن اسمه الذي لم يترك سجلات البحث لديها، وقد ضغطت على اسمه لتظهر صفحته الشخصية وقد أضاف صورة جديدة برفقة ابن شقيقه الصغير فوق الدراجة النارية مع بعضهما وقد أبتسمت هي وقامت بتكبير الصورة لترى ملامحه المتواضعة ووسامته البريئة لتضحك بعينيها وقد أرتفعت ضربات قلبها وهي تتمنى حتى أن تراه لو صُدفةً، لكن من المؤكد أنه لن يقبل بفتاةٍ مثلها لن تليق بشهامته وأخلاقه..
في اليوم التالي بمنتصفه..
تجهزت “علياء” وأرتدت تنورة سوداء اللون فضفاضة وفوقها كنزة صيفية باللون الزيتوني وحجاب الرأس باللون البيج المُزركش بزهورٍ صغيرة بنفس لون السُترة ووقفت تُتمم على مظهرها في المرآة ثم خرجت من غرفتها لتتقابل مع عريسها بوجهٍ جامدٍ يُشبه الآلة المُبرمجة، وقد ولجت تمسك الحامل وفوقه العصير ثم وضعته فوق الطاولة ليصلها صوت المرآة تهتف بفرحٍ غلفه الحماس:
_الله أكبر، عروسة زي القمر، يا زين ما اختارت يا “قُـصي” طول عمرك سوسة، طلعت مش سهل.
توسعت عيناها ووضعت الحامل فوق الطاولةِ ورفعت رأسها تُناظره فوجدته يبتسم لها ثم هتف بثباتٍ بريءٍ كأنه لم يفعل أي شيءٍ غريبٍ:
_طبعًا يا ماما، ودي مش أي حد، دي عروسة بنت ناس مستقلة، ومميزة زي ما حضرتك شايفة كدا، إيـه رأيك يا عروسة؟..
فرغ فاهها وهي تُطالعه ذاهلةً لا تصدق أنه يتواجد أمامها وبصفته عريسها؟؟ هل يُعقل أنه أتى لأجلها أم أن عقلها هو من يوهمها بذلك رأفةً بحالها الغريب، وحالتها الأصعب؟ فهل يعقل أن فارس الأحلام المُنتظر يأتي لعندها فاردًا كلا ذراعيه لكي يصنع لها بُساطًا تُحلق به فوق سماء أحلامها؟.
__________________
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية اضغط على : (رواية استقلال غير مقصود)