رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل العاشر 10 بقلم رضوى جاويش
رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء العاشر
رواية احذر من يطرق باب القلب البارت العاشر
رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة العاشرة
خرج الطبيب من غرفة أيوب التي نقلها إليه مالو وسعدون، كتب وصفته في رزانة، وناولها سعدون الذي كان يقف اللحظة، بصحبة سلمى ونفيسة، مؤكدا: عليه تناول دواءه بمواعيده، وفيما يخص إصابة قدمه، لابد من التغيير على الجروح وأخذ الحقن المنصوص عليها، وأؤكد.. إبعاده عن كل ما يخص الطائرة من أخبار، أو أي أخبار سيئة آخرى من شأنها إثارة توتر أعصابه، الرجاء العمل على احاطته بكل الهدوء والسكينة، فالتجربة التي مر بها لم تكن هينة أبدا.. وحمدا لله على سلامته ..
غادر الطبيب، وتطلع سعدون لأيوب من خلف فرجة الباب الموارب، فوجده قد غط في سبات عميق، فأغلق الباب، ودعاهن للأسفل، كانت الساعة قاربت السادسة صباحا، ولم يكن قد نام أحدهم تقريبا، ما دفع سعدون ليهتف مطالبا نفيسة: فجان دبل من القهوة المركزة يا نفيسة، عشان أعرف أعدل راسي، أخيرا اطمنا عليه، الحمد لله إنه بخير، ده كل الاحداث حصلت بعد ما مشيت من المطار، ده ربنا كتب له عمر جديد.
شهقت نفيسة، وتساءلت سلمى: ليه، ايه اللي حصل!
أكد سعدون، وهو يمسح على وجهه: الأخبار اهي كلها ع النت، قاعدة تزيع حكايات كتير، وبيقولوا لولاه، كان الأرهابيين، قتلوا ركاب الطيارة واحد ورا التاني، دول حتى قتلوا المساعد بتاعه اللي بيشتغل معاه من مدة، قصاد عينه.
شهقت سلمى، وضربت نفيسة على صدرها في صدمة صارخة: يا حبيبي يا بني..
استطرد سعدون متنهدا: طبعا قتلوا مساعد الطيار، واحتفظوا به عشان مكنوش هيفجروا الطيارة زي ما هم هددوا، كانوا هيطيروا بها لأقرب دولة بتقدم لجوء سياسي، ويسلموا نفسهم ويطلقوا سراح الركاب، عشان كده كانت حياة أيوب عندهم مهمة، بس طبعا كان بيضغط عليه لتنفيذ بعض الطلبات ولما يرفض كانوا بيعذبوه بشكل ما، لحد ما الحكومة أدخلت وبدأ تحرير الرهاين اللي كان هو آخرهم طبعا، عشان لو الحكومة ملتزمتش، يفضل معاهم عشان يضمنوا إنهم يخطفوا الطيارة زي ما قلت لكم لأي بلد يلجأوا لها سياسيا..
أكدت سلمى: طيب يبقى فعلا بلاش أي كلام على موضوع الطيارة ده، زي ما الدكتور قال، ولا عن أي حاجة ممكن تضايقه، لحد ما يتحسن شوية، ولو هو حابب يحكي عن حاجة، نسمع من غير ما نعلق.
همس سعدون مؤكدا: مش هايحكي، مش أيوب، ده شايل ياما جواه، وعمره ما حكى لمخلوق.
قال سعدون كلماته بنبرة موجوعة، متعاطفة مع حال أيوب، الذي يعرفه جيدا، ويحفظ طباعه.
لم تعقب إحدهن، ما دفع سلمى لتنهض محضرة كوبا من العصير وشطيرة، حملتهما صوب غرفة الشيخ، الذي تدرك أنه يقرأ القرآن لبعض الوقت، من بعد صلاة الفجر، طرقت الباب ودخلت لتسمعه ينه قراءته، مغلقا مصحفه، وقد علت على وجهه إمارات البشر، ما أن رأى محياها، هاتفا في حبور: أحلى صباح والله.
وضعت حملها قبالته، ومالت تلثم ظاهر كفه، متطلعة نحوه في سعادة، وهي تهمس: قد جعلها ربي حقا يا شيخنا.
دمعت عينى الرجل، وكأنما أيقن ما كانت ترمي إليه سلمى، هاتفا في حماس: أيوب عاد بالسلامة، قولي يا بنتي، بحق رجع!
هزت سلمى رأسها تأكيدا، وربتت على كفه مطمئنة من جديد، هاتفة: والله رجع، ونايم في اوضته، بس طبعا تعبان شوية، لكن الدكتور قال إنه هيكون بخير.
هتف الشيخ مذعورا: الطبيب كان هنا، وأنا ما أدري! قولي الصدق، هو بخير يا بنتي!
أكدت سلمى من جديد بنبرة صادقة: والله بخير، بس طبعا التجربة مكنتش سهلة، والدكتور قال لازم له راحة وبعد عن أي توتر، و..
قاطعها الشيخ هقترحا: يبقى ما في إلا الذهاب لبيت اللؤلؤ..
هتفت سلمى مازحة: ايه بيت اللؤلؤ ده يا شيخنا! بنقولك الراجل تعبان ورجله متصابة، تقولي نوديه الملاهي!
قهقه الشيخ هاتفا: ايش ملاهي! .. هاد بيتنا الكائن على البحر.
هتفت سلمى في فرحة طفلة: انتوا عندكم بيت ع البحر! .. وسايبنا هنا فالتكييف شبه الفراخ المجمدة يا شيخ! كان فين ده من بدري يا طويل العمر!
علت ضحكات الشيخ، مؤكدا: يتحسن أيوب، ويصير قادر على السفرة، لأنه يبعد عن المدينة، مقدار الساعة بالسيارة، وبنروح.
مدت سلمى كفها للشيخ بكوب العصير، هاتفة: اتفقنا، أشرب العصير بقى، وحاول تنام شوية، وأنا هخليك تطمن عليه لما تصحى.
تناول الشيخ العصير، يتجرعه في استمتاع بعد أن اطمئن باله على حال أيوب.
*****************
اتفق كل من سلمى وسعدون على التناوب في البقاء جوار أيوب، تركها سعدون تنال قسطا من النوم، لأنها لم تغفل حرفيا منذ البارحة، لا يعلم أن جفونها لم تذق طعم النعاس منذ ما جرى لأيوب، زاد عليه حكايتها مع مجدي ووفاته، الله وحده يعلم كم تحتاج لنعاس طويل بلا قلق أو ازعاج، تفصل فيه قابس عقلها المجهد، عن كل أحداث العالم.
شكرت لسعدون ونفيسة إدراكهما لحاجتها، فلم يوقظها أحدهما، حتى نالت كل كفايتها من النوم، سارت على طول الردهة، في اتجاه غرفة أيوب، التي كانت مرتها الأولى في الاقتراب منها، حين حُمل إليها في ساعة متقدمة من نهار اليوم، كانت غرفته بآخر هذه الردهة، تكاد تكون منفصلة عن باقي الغرف، لها مدخل خاص، لا يفضي للغرفة نفسها، بل لرواق متوسط الاتساع، منه يمكن الوصول للغرفة، كان جناحا خاصا بمعنى أدق.
بادرها سعدون، حين وعى لوصولها: فاق لدقيقتين وراح بعدها فالنوم تاني، الظاهر الدوا اللي كتبه الدكتور بينيم!
هزت سلمى رأسها متفهمة، وهتفت به: انزل بقى أنت اتغدى، وارتاح شوية، وأنا هاخد الشفت بتاعي.
همس سعدون، وهو يتجه لخارج الغرفة: لو احتجتي حاجة، كلميني هطلع لك، ولو سؤال عن مواعيد أي دوا، هتلاقيها كلها فالمفكرة اللي جنبك دي، تمام!
هزت رأسها في تأكيد، ليرحل سعدون تاركا إياها وحيدة مع ذاك الذي اسهد القلب قبل العين ليالِ طويلة خلت، واللحظة هي تبصره بخير يرقد قبالتها، فما كان منها إلا أن رفعت كفيها بشكل فطري، تشكر الله على استجابة دعواتها، لتنتفض موضعها، وصوت خافت عميق، يسألها مشاكسا: يا ترى مين المحظوظ اللي بتدعي له!
ساد الصمت لوهلة، وقد اضطربت ما أن تناهى لمسامعها صوته المتحشرج وهنا، لكنها استعادت روحها المشاكسة سريعا، هاتفة بمرح: أو بدعي عليه!
هتف باسما: ربنا يحفظنا..
قهقهت فتنبه في سعادة لقسمات وجهها التي تتبدل بشكل مبهج، لكرنفال من الفرحة، عندما تبتسم، شعر أنه يرغب في الاعتدال قليلا رافعا جزعه، لكن ألم ذراعه، وثقل قدمه المصابة، جعلته عاجزا عن إنجاح المحاولة، تنبهت لذلك، فتقدمت في عجالة تساعده، فكان ذاك هو قربها الثاني بعد حادثة ركض هزاع، الذي أدرك به، وبما لا يدع مجالا للشك، مدى تأثير ذاك القرب على قلبه، الذي زادت خفقاته، وعلت نبضاته، هذا القلب الذي تناساه منذ زمن بعيد، بعد الكثير من الخيبات وتجرع علقم المرارات، معتقدا أنه قُبر وانتهى بلحد الصدر، حتى يأذن الله بالرحيل، ها قد دبت فيه الحياة، وكأنما بُعث من جديد.
ساد بينهما صمت، شرد فيه ما جعلها تحاول الهائه عن التفكير في حادثة الطائرة، تبحث بالمفكرة عن إذا ما كان موعد دواء له قد حان، وما أن همت بالنطق، إلا وهتف في نبرة تقطر وجعا، جعلتها تبتلع لسانها متطلعة إليه، وقد علت قسماته حزنا مهيب: كان فهد شاب عشريني، لسه مستني من الحياة كتير، وحيد أبوه وأمه..
دمعت عيناها، عرفت أنه يحكي عن مساعد الطيار الذي قتله الإرها*بيين بالطائرة، لم تعلق، قررت تركه يحكي ويزيح ذاك الحمل الثقيل عن كاهله، ليستطرد متطلعا إليها: وكان بيحب..
اضطربت، وحادت بناظريها بعيدا، ليستكمل حكاية صاحبه: بيحب بنت زميلته من أيام الثانوية، مكنش فيه سفرية مش بيحكي لي عنها، كنت اسمع واسكت، خايف عليه ك ابن، لكن مكنش عندي نصيحة له كصديق، أصل أنا آخر حد ممكن يدي نصايح في أمور الهوى والعشق،
قال كلمته الأخيرة في نبرة ساخرة، واستطرد بعد برهة: كان قرر مفاتحة أهلها عشان يخطب حبيبته بعد الرحلة، المشكلة إن حدث مشكلة كبيرة بينهم قبل الرحلة بأيام، وكان طالب مني أتدخل عشان أصلح بينهم، تصدقي!.. عجيب إنه يطلب مني أنا بالذات أدخل في مشكلة عاطفية، هو شاف مني إيه عشان يطلب مني التدخل بينه وبين حبيبته!
همست في نبرة داعمة: شاف منك الثقة في أخ أكبر ممكن كلمته تفرق مع حبيبته، وتدوب الخلاف اللي ما بينهم..
تنهد متحسرا: يا ترى إيه حال حبيبته دلوقت بعد ما وصلها الخبر! .. ندم الدنيا أكيد جواها، عشان كان في بينهم زعل قبل ما يروح..
هزت سلمى رأسها في إيجاب، وعيونها دامعة، للمرة الأولى تراه يتكلم عن المشاعر والأحاسيس، بهذا التفهم، ليسألها مباغتا: تفتكري أي الندم أصعب! .. ندم على حاجة اتقالت أو اتعملت! ولا الندم على حاجة لا اتقالت ولا اتعملت! الندم بيوجع على اللي اتعمل، ولا على اللي متعملش!
صمتت لبرهة تفكر، قبل أن تجيب في تأني: اعتقد الندم فكل الحالات صعب ومجهد، بس على عدم الفعل أصعب.. طبعا كل حالة ولها وضعها، بس الندم على اللي متعملش بيفضل ملازمك إنك لو كنت عملت كذا، كانت نتيجة الأمر اتغيرت، بتفضل مشيل نفسك احتمالية تغير الحدث، فاهمني! ..
وقررت المزاح كعادتها، مستطردة: زي فيلم الآنسة حنفي كده، واه لو كنت خدت الوصل! ..
قهقه، وعلت ضحكاته، هاتفا في مرح: أنتِ بتجيبي أمثلة على وجهك نظرك، تنسف جدية وجهة النظر من أساسها..
هتفت مازحة: مش بحب اتكلم عن نفسي كتير، ده اجتهاد شخصي حضرتك.
هتف يسألها: أخبار الشيخ، وساجد!
أكدت باسمة: الشيخ زي الفل، وسأل عنك، وقلت له لما يصحى، هخليك تكلمه فيديوكول، الظاهر مخونا ومش مصدق إنك رجعت بالسلامة، أما ساجد فهروح اجيبه عشان يسلم عليك.
همت بالتحرك، لكنه استوقفها مفسرا: لا بلاش، مش حابب يشوفني كده، كفاية إنه كان معاكِ، عشان ابقى متأكد إنه كويس.
صمتت ولم تعلق على اطرائه المبطن، ما دفعها لتنهض مستئذنة، هاتفة في نبرة مضطربة: طب بمناسبة ساجد، أنا هروح اكمل معاه روتين النهاردة، وهبعت لك عم سعدون يقعد معاك، عن إذنك.
تحركت بالفعل صوب باب الغرفة، وما أن همت بتخطي عتباتها، حتى هتف يستوقفها من جديد: سلمى!
تسمرت متطلعة نحوه، ليستطرد هاتفا وابتسامة ممتنة مرتسمة على شفتيه، أربكت دواخلها: شكرا على حفظك للأمانة.
اومأت في تفهم، هاتفة بدورها: وعلى ذكر الأمانة، أظن إنك لازم تكلم حبيبة صاحبك، لازم تقولها إنه مكنش زعلان، وإنه كان ناوي يصالحها أول ما يرجع، يمكن ده مش هيغير حقيقة حزنها ووجهها على رحيله، لكن صدقني، هيفرق معاها كتير، وتبقى عملت اللي كان متوسطك تعمله بينهم قبل ما يروح.
ابتسم في شجن ممتنا، مادا كفه صوب مشغل الأغاني، لترحل هي في هدوء، وخلفها كان كاظم يترنم: كان صديقي، وكانت حبه الأبدي..
*****************
مرت عدة أيام، تحسن فيها حال أيوب كثيرا، فقرر النزول للأسفل، فقد سأم البقاء وحيدا بالأعلى، حين ينشغل عنه سعدون بشؤون الفيلا، وسلمى بمتابعة ساجد طيلة النهار، تعكز على عصاه، فما زالت ساقه لم تبرأ بعد، رغم تحسن حال ذراعه، كان ينزل الدرج في هوادة، وسلمى تخرج من المطبخ، في سبيلها للأعلى، تعود لمصاحبة ساجد بعد فترة من الراحة، قضتها بصحبة نفيسة، فتفاجأت به على درجات السلم، يجاهد للنزول، أسرعت نحوه في أريحية، تضع كفها أسفل ساعده، في محاولة منها، لتساعده على الوصول للردهة في سلام، لكنه طلب في رجاء: وصليني لغرفة الشيخ.
سارت جواره في هوادة، حتى وصلا لحجرة الشيخ، طرقت الباب، وما أن دخلا، حتى هلل الشيخ في فرحة: يا ألف حمدا لله على سلامتك يا الغالي، الله لا يغيبك أبد يا حبيبي.
جلس أيوب جوار الشيخ، جاذبا كف يده مقبلا في احترام، ليربت الشيخ على كتفه في محبة، دامع العينين، مؤكدا: كانت تجربة صعبة، لكن أنت طول عمرك رِجال، أنا كنت بعرف إنك راجع على خير، رؤيتي ما في مرة خابت.
سأل أيوب: أي رؤية!
تنبهت سلمى، واضطربت، تحاول الإسراع في المغادرة، لكن أيوب استوقفها مطالبا إياها باستدعاء سعدون ونفيسة، والقدوم إلى حجرة الشيخ.
فرحت بمطلبه، فقد كان حجة مناسبة للهروب قبل أن يروي الشيخ رؤياه التي كانت تشاركه فيها منقذة، عادت بعد قليل بصحبة سعدون ونفيسة كما أمر..
ليهتف أيوب في نبرة تحمل حبور وسعادة، وعيونه تحيد كل مرة لتسقط على سلمى بعد كل كلمة، ما أثار توترها: بما إن ربنا كرمنا بالنجاة، والتجربة دي خلتني أتأكد من أمور كتير كنت محتاج أتأكد منها، وأولها، متأجلش أي حاجة حلوة عايز تعملها وتسعدك، قررت إن فرح سعدون ونفيسة يكون خلال يومين.
ابتسمت نفيسة في خجل، واتسعت ابتسامة سعدون في سعادة، هاتفا في نبرة مترددة: بس طب نستنى لما حالتك تبقى أحسن شوية!
هتف أيوب مازحا: مش من قلبك على فكرة!
قهقه الجميع، لتهتف سلمى في سعادة: مبروك.
هتفت نفيسة في أريحية: عقبالك يا آنسة سلمى.
صمتت سلمى ولم تعقب، أصبحت سيرة الزواج ومشاهد الارتباط تثير غثيانها، وتدفعها للتفكير في أمور لا تفضل تذكرها، تحاول دفعها إلى ما خلف الذاكرة، بكل ما تخلقه من مشاعر داخلها.
هتف الشيخ مؤكدا: سيتم عقد القران هنا بالفيلا، بعدها نطلع على سفرة، بنروح بيت اللؤلؤ، نترك للعرسان الجناح الملحق، ويسكن الجميع بالبيت الرئيسي، إيش الحال!
هتف أيوب في سعادة: اقتراح ممتاز! بس كده هنروح بعربيتين عشان عددنا، سعدون وعروسه النفيسة في عربة، مين يسوق العربة التانية!
هتفت سلمى مؤكدة: وأنا روحت فين!
هتف الشيخ متعجبا: بتعرفي قيادة السيارات! والله ربي يحفظك.
هتف أيوب مشاكسا سلمى: هو في حاجة مش بتعرفي تعمليها!
أكدت مازحة تشاكسه: اه، مش بعرف اسوق طيارات.
قهقه الجميع، ليهتف الشيخ متخابثا: بتعرفي عن قريب، أيوب بيعلمك.
اضطربت سلمى، متحججة أنها سمعت صوت ساجد بالأعلى، واستأذن سعدون ونفيسة بدورهما، للاستعداد للزفاف الميمون، تاركي الشيخ وأيوب وحيدين، ليسود الصمت لبرهة، قبل أن يقطعه الشيخ متسائلا في تردد: وأيش بعد يا بعد عمري! أما يكفيك كل هاد العمر الضايع! متى بيرتاح قلبك يا ولدي!
اضطرب أيوب، وهمس محاولا غلق باب الحديث: لما ربنا يئذن يا شيخ، كله بأمره.
همس الشيخ: ونعم بالله، وأمر الهوى، وقلبك العاصي، أم أقول قلبك الجبان!
تململ أيوب ولم يعقب، فقد كان الشيخ يكشف ستر دواخله، مرة بعد مرة، وهو غير قادر على التخفي أو المراوغة أمام منطق حديثه.
ليستطرد الشيخ متنهدا: يا ولدي، الضحكة صارت شحيحة، وصار صعب تخرج من القلب، فتمسك بمن يدفع البسمة لمبسمك، تنور الوجه وتبدل الحال، حتى ولو ما يقصد، ما بالك بمن سعادتك هدفه، وفرحتك عنده فرض، هاد لو وزنوه بكفة والدنيا كلها بكفة.. كفته أبد هي الراجحة.
ساد الصمت من جديد، وأيوب لا ينطق حرفا، حتى هتف أخيرا متسائلا: أنت قصدك حاجة معينة يا شيخ!
أكد الشيخ باسما، وهو يربت على كفه: قصدي كل الخير، وإن قلبك ليه حق عليك، شاور عقلك وإدي لقلبك فرصته، ولما يتفقوا، أقبل بالقسمة، عشان لو الفرصة ضاعت، عمرك ما هتعرف ترجعها تاني.. وهتفضل ندمان عليها طول عمرك .. اسالني أنا! ما في شيء أكثر وجع من الندم على حال عدى ما أمكنك تبديله، ولو دفعت لتغييره سنين العمر اللي باقي كلها..
هز أيوب رأسه متفهما، ونهض في تثاقل، ليغادر الغرفة، تاركا والده لينال قسطا من الراحة، جذب الباب في سبيله للرحيل، ليستوقفه الشيخ: أيوب!
توقف مستديرا صوب الشيخ، الذي استطرد: سألتني أقصد حاجة معينة، إي بقصد! سلامات خسارة تروح .. راح ترحل بنهاية هاد الشهر، وأنت وقرارك.
لم يعقب أيوب بحرف، خرج مغلقا باب الحجرة خلفه، متوجها صوب حجرة مكتبه بأسرع إمكانية سمحت بها إصابة ساقه، حتى إذا ما وصل عتباته، دخل إليه زافرا في راحة، كأنما وصل حصن أمانه، يجول بناظريه بأركانه التي ظن في محنته أنه لن يبصرها مجددا، جلس على مقعده الجلدي الأثير، متطلعا للفراغ باسما، فما من إنسان يدرك، أن على قدر اشتياقه للجميع، وهو هناك بين براثن الموت، لم يشتق لمخلوق، مثل شوقه لمرأى وجهها الصبوح ولو لمرة، وأن يكن آخر ما يبصره بالكون، قبل أن يرحل، هو ابتسامتها.. أدرك أن الآلفة لها طعم الشهد، وأن صحبة امرأة بروح وضاءة تنير له عتمة روحه، لهو كل ما يرغبه امرؤ مثله، ذاق المرارات كلها، وقد لاح له فجر وليد بأفق حياته، فهل من المفترض أن يشرع نوافذ قلبه لأنواره، أم يسدل الستائر دونه كأحمق!
******************
قفزت العربة للأمام خطوة، ما أن ضغطت سلمى على دواسة البنزين، ثم رفعتها من جديد، تنبه الشيخ، الذي كان بصحبة ساجد المتحمس بالمقعد الخلفي، وأيوب الذي جلس جوارها، تاركا إياها خلف عجلة القيادة، متسائلا في مزح: سلمى! بتعرفي تسوقي، ولا ايه! أنا مستكفي حوادث!
قهقهت مؤكدة في مزاح: بعرف والله، بس إن جيت للحق، عمري ما سوقت عربيات اتوماتيك وبالنضافة دي، ده أنا آخرى عربية ضاربها السلك من اللي أخويا كان بيصلحهم فالورشة.
قهقه الشيخ مازحا: عليه العوض..
أكدت سلمى في ثقة: ما بيصير تقلق يا شيخ، أنت معك سلامات مش سلامة واحدة، قول يا رب.
أكد الشيخ باسما: يا رب.
همت بإعادة تشغيل العربة من جديد، هاتفة تشاكس من معها بالعربة: ننطق الشهادة بقى، وسيري يا نورماندي.
قهقه أيوب، وعلت ضحكات الشيخ ممازحا: ربي يستر، نورماندي غرقت بالفيلم على ما أتذكر!
هتفت سلمى: دي كانت نورماندي تو يا شيخنا، بتاعتنا نورماندي فور المعدلة.
كانت عربة سعدون ونفيسة تسبق عربتهم، لتدل سلمى على الطريق، فجاورت عربتهما تمازحهما، مطلقة نفير العربة في ضغطات منغمة، كما يحدث في زفة العروس بمصر، ارتفعت ضحكات الجميع على أفعالها، مؤكدا أيوب باسما: ربي يستر وما يوقفونا على استخدامنا بوق السيارة بلا داعي.
أكدت باسمة: طب بذمتك ينفع يبقى في عروسة من غير زفة! ينفع! .. والله ما يصير.
ضحك الشيخ مؤكدا في انشراح: سلمى تعمل ما بدا لها، مخالفات وايش مخالفات، افرحي يا سلمى وفرحينا وياك.
أعادت سلمى الضغط على بوق السيارة، لتحية العروسين، وقد علت ضحكاتهما على أفعالها، بينما أيوب يبتسم في رزانة.
تركت السيارة قلب المدينة العامر، وظهر طريق صحراوي ممتد، ليخيم على الجميع خشوع صامت، هتف الشيخ أمرا: أفتح يا أيوب، أي شيء بنسمعه.
ضغط أيوب مشغل الأغاني بعشوائية، لتصدح أم كلثوم، وصوتها يتسلل من العربة عبر الصحراء المترامية، خالقا جوا من السحر والروعة، وهي تؤكد في نشوة: وقابلتك أنت لقيتك، بتغير كل حياتي.. معرفش إزاي أنا حبيتك! .. معرفش إزاي يا حياتي..
ليشرد كل من بالعربة، البعض في أحلامه التي يرغب، وآماله التي يتضرع أن تتحقق، والبعض الآخر في ذكرياته البعيدة.. التي ولت وما زالت تلاحقه كظله، وما منها مهرب..
**************
وصلوا لذاك البيت الحجري الأبيض، كان رائعا بحق، أشبه بمحارة كبيرة بيضاء ألقاها البحر، لافظا إياها على الشاطيء الرملي الساخن، خطوات تبعد عتبات البيت عن أمتداد أمواج البحر الفيروزي، سنين طويلة خلت، منذ آخر زيارة لها إلى الإسكندرية ورؤية البحر، حيث كان يأخذهم أباها في رحلة إليها، لمدة لا تزيد عن ثلاثة أيام كل صيف، كانت هذه الأيام القليلة العدد، هي زاد المتعة الوحيد في حياتها، والتي افتقدتها منذ رحل الوالد.
تشارك الجميع تحضير الغذاء كل على قدر طاقته، وشملت الحماسة ساجد، الذي استطاعوا السيطرة عليه بكل الوسائل مانعين إياه من الاندفاع للبحر وحيدا، دون أن يكون أحدهم برفقته..
نُصبت الشماسي، في ذاك الفراغ الأخضر المتوسط الاتساع أمام البيت، والمسيج بسور فاصل ما بين خضرة أرضه، ورمال الشاطيء الصفراء التي تميل للون الأبيض.
مر النهار سريعا، ما بين تجهيزات الغذاء، والبقاء على الشاطيء مع ساجد لبعض الوقت، وترتيبات المبيت، وتغيير الأغطية واعدادات الاستقرار بالمكان، ليصبح أكثر راحة ورفاهية..
حلت التاسعة مساء، فاستأذن العروسان للرحيل، وكذا طلب الشيخ من أيوب اصطحابه لحجرتهما المشتركة، ظل جواره لبعض الوقت، لم يبق إلاها، بعد أن نام ساجد بالفعل، منذ ما يقارب الساعة..
كانت تنهي بعض أعمال المطبخ، يصلها صوت تتابع الأمواج بالخارج فيشعرها بسكينة عجيبة تدب في أوصالها، لكن صوته الرخيم الذي أتاها اللحظة، من غرفة الوالد وهو يقرأ له بعض الشعر قبل الخلود للنوم، ذاك كان الأنس الحقيقي، الذي يزيل الوحشة، ويبدد عتمة الوحدة، ويخلق في النفس ألف تساؤل، كان أهمهم، والأكثر إلحاحا، هو .. هل العفو حاضر دوما بين الأحبة! أم أن بعض الذنوب لا تغتفر! لا تمحوها توبة، ولا يزيلها من سجل المعاصي أي رجاء!
دمعت عيناها، وصوته يجلدها بسوط من مخمل، وهو يقرأ إحدى القصائد:
جـاءت إلـيَّ مــن السـمـاءِ مليـكـة، هيَ باختصـار هـيَ الأُنوثـةُ أجمـعُ..
وتقولُ ليْ يـا عقـلُ تُشبـهُ غيرهـا، بــل بينـهـا والـكـلُ فــرقٌ شـاسـعُ..
هـي آخـرُ العنقـودِ أحلـى مــا بــهِ، أُنـظـر إليـهـا فـــوقَ مـــا نـتـوقـعُ..
بـحـنــانِ عيـنـيـهـا دواءُ كـآبـتــي، وبحـضـنِ كفيّـهـا صغـيـراً أرجــعُ..
ما عادت تحتمل، تركت ما كان بيدها، واندفعت للخارج، فإذا بها تجد سعدون ونفيسة بالركن القصي من الحديقة، الصمت الحلو يلفهما، فأسرعت مغادرة صوب الشاطيء، تسير وحيدة لعل بعض من هواء البحر البارد في هذه الساعة، يخفف ولو قليلا من أوجاع قلبها، لابد أن تخبره، عليها ذلك في أسرع وقت، هي ما كان قصدها أي خداع، ولا كان بنيتها أي كذب من الأساس، كان الأمر في بادئه مجرد محاولة للنجاة من ضياع محقق، جر ورائه الكثير من الأمور التي أصبح بل لزوما عليها وفرضا توضيحها، وبشكل عاجل لا يقبل التأجيل، حين تعود سيكون ذاك آخر عهدها بأيوب وبيته وكل ما يخصه، ستعود إلى دنياها الرتيبة ببيت أخيها، للمناكفة مع زوجه وأولاده، ويمر العمر وينقضي الأمر..
لم تشأ الابتعاد كثيرا، فالشاطيء مهجور، ومن ما بيت بالقرب، إلا على بعد كبير، توفيرا للخصوصية، ما دفعها للعودة، لتجد أيوب يجلس وحيدا بالحديقة، وقد غادر سعدون ونفيسة موضعهما، اسرعت الخطى صوب الداخل، لكنه استوقفها مناديا، فسارت نحو مجلسه، ووقفت منكسة الرأس، لا تقو على النظر إليه، يكتنفها الكثير من المشاعر المتضاربة، التي تدفعها للبكاء بلا سبب واضح، أمرها في نبرة راجية: اقعدي لو سمحتي.
لمَ لم ترفض متعللة بأي حجة، واسرعت مبتعدة عن محياه! .. لا تعرف، فهي بحضرته تفقد الكثير من تعقل قلبها، واتزان عقلها.
جلست والعجيب أنه أدرك تغير مزاجها، فسألها في توجس: أنتِ كويسة!
أكدت بإيماءة من رأسها، فهمس مبتدرا: عجيبة الدنيا دي! على عكس كل التوقعات، بتمشي..
همست تؤيده: صحيح، يعني أنا سلامات بنت عم سلامة، سواق القطر، تلاقي نفسها فجأة قاعدة قدام البحر فبيت زي ده، مع حضرتك، أيوب بيه سليل البشوات، يبقى أكيد دنيا عجيبة.
تطلع نحوها في دهشة، وكأنه يرى جانب آخر من نفسها، لم يطلع عليه من قبل، جانب مس وترا حساسا داخله، جعله يهمس راغبا في إفراغ كل ما يسره بقلبه، معلنا عنه لها: سلمى!.. أنا..
انتفضت موضعها مقاطعة حديثه، حين جاءهما صوت ساجد صارخا من الداخل، فاستأذنت مندفعة لحجرته التي تتشاركها معه، ليدرك أنها لن تعود لمجلسه مجددا، ما دفعه للنهوض بدوره، مصاحبا خيبته، بعد أن فشل في محاولته الأولى، للإدلاء باعترافه..
*********************
مرت الأيام الثلاثة سريعا، قبل أن يقرروا العودة، أستشعر أيوب أنها تنأى عنه لسبب مجهول، تكون دوما بصحبة ساجد وأبيه، أو بصحبة سعدون ونفيسة، ولم يستطع أن يختلي بها للحظة خلال فترة بقائهم ببيت اللؤلؤ، فقرر الرجوع.
في الطريق للفيلا، كانت تقود السيارة في صمت لم يكن من عاداتها أبدا، اختفت روحها المرحة خلف ستار من مشاعر مجهولة لم يدركها، ليته يعلم ما سر ذاك التحول الذي بدلها لهذه المرأة الصامتة الشاردة طوال الوقت تقريبا، تجاهد بكل ما اوتيت من قوة، إلا تتقابل نظراتهما حتى ولو صدفة، كأنما تخفي عيونها عنه، حتى لا يقرأ سر ذاك التغير العجيب.
أشارت لمبنى ما على الطريق، ما أن دخلوا للمدينة، هاتفة بلهجة رسمية: دار الأيتام دي، بفكر اعمل لهم حفلة فالفيلا، عشان اعود ساجد على التواجد في مجموعات، وإزاي يتكيف اجتماعيا مع وسط فيه أطفال من سنه، ايه رأي حضرتك!
أمرها بالتوقف قرب الدار، فعلت دون أن تدرك إلى ماذا يرمي! دخل وغاب لبعض الوقت، ثم عاد مؤكدا مع ابتسامة دافئة، كادت أن تدفع الدموع لعينيها: اعتبري الأمر منتهي، اتفقت مع مديرة الدار على استقبال الأولاد، ليوم فالفيلا، تحت اشرافك!
هزت رأسها ولم تعقب، لكن الشيخ هتف مازحا في تخابث: والله أصبحت طلباتك أوامر.. وانتظر برهة قبل أن يكمل.. هنيالك يا ساجد..
استشعرت الحرج، وتنفست الصعداء ما أن فتح مالو البوابة مرحبا في حماس، دخلت السيارة لموضعها بالجراج، ليترجل منها الجميع، اندفعت حاملة ساجد، مندفعة به للداخل، متعللة أن عليها تجهيزه للعشاء والنوم.
تأكد أيوب أن والده وصل غرفته واستقر بها في راحة، ليلجأ لحجرة مكتبه، يحاول أن يرتب أفكاره، طاردا اضطرابه ما أن يفكر أنه يواجهها بحقيقة مشاعره تجاهها، لا علم لها بما قد يكون عليه ردها! .. هو يستشعر منها قبولا، لكن أقصى، وأقسى ما يخشاه، هو كونه واهم، وأنها لا تبادله مشاعره بالمقابل..
وضعت ساجد بفراشه، وظلت جواره، كأنها تحتمي بوجوده من نفسها، وايقنت أن لحظة الحقيقة حانت، وأنها لن تبيت ليلة آخرى، وهي تموت وتحيا، على أمل اخباره بسرها، وليكن ما يكون بعدها، تشجعت، ودفعت نفسها دفعا لترك ساجد بعد أن راح في سبات عميق، تهبط الدرج صوب حجرة مكتبه، طارقة عليه بابها.
هتف مبتسما ما أن أبصرها: سبحان الله، كنت بفكر ابعت لك، عشان عايزك في موضوع مهم.
أكدت برسمية لم تتنازل عنها منذ أيام: وأنا كمان كنت عايزة حضرتك في موضوع مهم.
هتف مازحا، يحاول تقليل التوتر الذي انتشرت ذبذباته بجو الغرفة: يبقى المواضيع عند بعضها.
لم تبتسم، وسألت بنفس اللهجة الرسمية: خير!
هم بالحديث، إلا أن سعدون قاطعهما معتذرا: أيوب بيه! في واحد بيسأل عن آنسة سلمى، مالو بيقول إنه جه قبل كده، وإحنا مسافرين، أنا بعد إذنك دخلته الصابون، لحد ما أشوف آنسة سلمى هتقرر إيه!
تعجب أيوب متطلعا صوبها، متسائلا: أنتِ تعرفي حد هنا!
أكدت سلمى متعجبة بدورها: لا، ده مين!
هتف أيوب في تأدب: تسمحيلي أقابله بالنيابة عنكِ!
اومأت سلمى في إيجاب، ليتركها أيوب متوجها حيث يجلس الضيف، الذي نهض متعكزا على عصا، ليهتف به أيوب: يا هلا، سمعنا إنك بتريد مقابلة الآنسة سلمى، خير إن شاء الله!
هتف الرجل: هي فين! عندي لها رسالة هامة.
أدرك أيوب أنه مصري، فهتف بدوره: موجودة، بس نعرف مين اللي عايزها!
هتف الرجل مؤكدا: أنا مرسال، من طرف الباشمهندس مجدي عمران، جوزها..
انتفض أيوب متطلعا للرجل في غضب، يهم بالإمساك بتلابيبه، ليعترف بكذب ما يدعيه.. إن كان هذا إدعاء كاذب، من الأساس!
****************
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)
بالله اكلي سريعا ما تتأخري علينا