رواية احذر من يطرق باب القلب الفصل التاسع 9 بقلم رضوى جاويش
رواية احذر من يطرق باب القلب الجزء التاسع
رواية احذر من يطرق باب القلب البارت التاسع
رواية احذر من يطرق باب القلب الحلقة التاسعة
٩- إلا أنتِ
ليلتان بثلاثة أيام مرت، كان عنوانهم الرئيسي هو القلق على مصير أيوب، لا معلومة واحدة تشفي الغليل، وتريح القلب المضطرب، النشرات الإخبارية كلها لا تذيع إلا خبر استيلاء مجموعة من الإرها*بيين على الطائرة التي يقودها، متخذي كل الركاب رها*ئن، حتى تحقيق مطالبهم، وإلا سيتم تف*جير الطائرة بمن فيها، وستكون الخسائر فادحة في الأرواح.
الوجوم داخل الفيلا هو سيد الموقف، سعدون يقضي يومه بالكامل تقريبا بالمطار، لعله يحظى بأي خبر من شأنه إراحة البال على ذاك الغالي الغائب، الذي يرجو الجميع عودته سالما..
دخلت سلمى المطبخ، تتظاهر بالتماسك في ظل الظروف الراهنة، التي يتحتم فيها على أحدهم، الاحتفاظ بأعصاب قوية، حتى إشعار آخر..
كانت نفيسة تبكي في صمت، دموعها تنساب في حزن، تحاول التماسك بلا جدوى، اقتربت منها سلمى في تعاطف، تربت على كتفها مهدئة، لتنفجر نفيسة في بكاء دامِ، وهي تلقي بنفسها بين ذراعي سلمى، التي تلقفتها بأحضانها، تحاول أن تهديء من روعها، حتى أنها شاركتها البكاء بدموع كان من شيمتها الصبر، حتى هدأت نفيسة، وابتعدت عن أحضانها قليلا، هامسة في شك: تفتكري هيرجع يا آنسة سلمى!
هزت سلمى رأسها في إيجاب، هامسة في يقين: آه، هيرجع، وهيكون زي الفل كمان.
همست نفيسة في تضرع: يا رب، يا رب يرجع بالسلامة، أصل أنتِ متعرفيش أيوب بيه يبقالي إيه!
وشهقت نفيسة من جديد، معترفة كأنما تلقي بحجر من فوق صدرها: أيوب ده أبني، ده كان أحن عليا من ابني الحقيقي.
مسحت دموعها من على وجنتيها بباطن كفها، مستطردة: أبني اللي كبرته، وعشت له عمري كله بعد ما أبوه مات، واترملت وأنا لسه شابة صغيرة، خليته راجل أد الدنيا، وجوزته وسفرته عشان يشتغل ويبني مستقبله بثمن بيع دهبي، اللي حوشته للعوزة بطول ليالي التعب والمرمطة، ولما حبيت أجي أقعد معاه هنا شوية، بدل قعدتي لوحدي فمصر، اتسبت فالمطار ومجاش خدني، لولا أيوب بيه، مكنتش ساعتها عارفة هعمل ايه!
شهقت سلمى، إنها تحكي نفس حكايتها تقريبا، مع اختلاف بسيط في التفاصيل، سألتها سلمى متعجبة: طب وابنك مجاش سأل عليكِ بعدها، مقلش أمي فين!
ابتسمت نفيسة في حسرة: لا، زي ما يكون ما صدق، خلص من حمل تقيل على قلبه، كان هيسبب له مشاكل مع مراته، أيوب بيه مسكتش، دور عليه وعرف يوصله، جابه وقاله إن هو حتى لو فكر ياخدني، أيوب بيه مش هايسمح له، لأنه مش أمين عليا، وإنه مش عارف نعمة إن يكون عنده أم، ضحت عشانه بالدنيا كلها، وهو مقدرش قيمتها، ومن يومها وأنا عايشة هنا، بخدم الشيخ وأيوب بيه بمحبة، وعمره ما قل بأصله معايا، وعمري ما حسيت إلا باحترامه وتقديره، خيرني لو حابة اقعد ولا ارجع مصر، قلت يا بت خليكي، ومرضتش أرجع، أصل هرجع ليه ولمين! وربنا كرمني كمان بصحبة سعدون، اللي عوضني كتير عن اللي شفته فحياتي، ده كان ناوي يبلغ أيوب بيه عشان نتم موضوعنا، بس جه وجود هيفا واللي حصل من وراها، وبعدين سفره.. ربنا يرجعه بالسلامة يا رب، وميوريناش فيه حاجة وحشة أبدا..
وبدأت في البكاء من جديد، لتربت سلمى على كتفها في محبة، هاتفة تحاول تغيير الموضوع، مشاكسة إياها: يعني أفهم من كده، إنك عايزة أيوب بيه يرجع، عشان يتم المراد! فعلا كل يبكي على ليلاه، ده أنت طلعت شقي يا نفسفس!
ابتسمت نفيسة من بين دموعها: ضحكتيني وأنا مليش نفس أضحك، أهم حاجة بس، ربنا يجيبه بالسلامة لأبوه وابنه، وكل أحبابه..
قالت نفيسة كلمتها الأخيرة في تخابث، مستطردة: وبعدين يا ستي، كله ملحوق، أهم حاجة نطمن عليه، يا رب يسلمك ويحفظك يا أيوب بيه، ويردك سالم غانم، يا رب.
همست سلمى في تضرع قلبي: يا رب..
تطلعت نحو أحد القدور الذي يغلي على نيران الموقد، متسائلة: إيه ده يا دادة!
أجابت نفيسة: دي شوربة خضار عشان الشيخ، ده على يدك، مكلش من يوم اللي حصل، اعملي حاجة معاه، خليه ياكل، كده غلط عليه.
هزت سلمى رأسها مؤكدة: حاضر، هحاول تاني وعاشر، ده بياكل بالعافية، وبخاف اضغط عليه اكتر من كده يتعب، بس عندك حق، لازم ياكل حاجة عشان ياخد ادويته، كده ما ينفعش.
وضعت سلمى بعض الحساء في طبق، وحملته صوب غرفة الشيخ، طرقت الباب، وللمرة الأولى منذ جاءت لهذه الدار، لا تسمع صوت أم كلثوم يشدو من داخل هذه الغرفة، يسود صمت اجواءها منذ جاء خبر طائرة أيوب الصادم، جاءها صوته المتحشرج أذنا بالدخول، دفعت الباب في تؤدة، ورسمت على شفتيها ابتسامة مفتعلة، هاتفة في مرح، كان من الواضح أنه لم يكن تلقائيا: كيفك يا طويل العمر! عساك بخير!
هتف الشيخ، وقد كان يغالب دموعا ما جفت بمآقيه، هامسا: أي خير يا بنتي! وحبة العين غايب، وما حدا بيعرف إن كان راجع، أم..
قاطعته سلمى مؤكدة: هيرجع، والله راجع..
وضعت طبق الحساء قبالته، هاتفة في نبرة حانية: ياللاه، هناكل بقى عشان ناخد الدوا.
هتف الشيخ، وهو يحاول إبعاد طبق الحساء، مؤكدا: ما في نفس لأي طعام، ما أني قادر.
همست سلمى، وهي تجلس أرضا، بالقرب من قدميه، متطلعة نحوه في رجاء: طب لو قلتلك عشان خاطري، طب يرضيك أيوب بيه يرجع، يلاقيك تعبان ومش بتاكل كويس ولا بتاخد ادويتك، عارف هيعمل فيا إيه!
تساءل الشيخ: وأنتِ ايش ذنبك!
أكدت وهي تحاول التظاهر بالثبات، تبتلع غصة بحلقها، تنتزع ابتسامة من قلب الوجع، تعلقها على قسمات الوجه: أصله وصاني عليك وعلى ساجد.
تطلع الشيخ نحوها في عدم تصديق، لتستطرد مؤكدة، بإيماءة من رأسها: أيوه، وصاني على كل اللي فالفيلا، ولو حصل حاجة بقى، أنا اللي هتعلق على باب الفيلا، وهبقى عبرة لمن يعتبر، يرضيك يا شيخ!
ابتسم الشيخ مؤكدا: والله ما يصير أبد والشيخ حي يرزق، إن حداً يمسك بسوء، ولا حتى أيوب يعملها، ما بتهوني من الأساس، إلا أنتِ يا غالية.
كان هذا كثير على قلبها لتحمله، كتمت رغبة عارمة فالبكاء، لا ليس بكاءً بالمعنى الحرفي، بل دموع امتنان، وهي تمد كفها ليد الشيخ، ملثمة ظاهرها في محبة وود، ليربت بدوره على قمة رأسها المنكسة صوب كفه، تحاول التماسك قدر استطاعتها، باذلة جهدا خرافيا، حتى لا تظهر دموعها مع كل هذا الفيض الحاني من المحبة، الذي افتقدته منذ زمن بعيد، تركت كف الشيخ، ومدت كفها لطبق الحساء، تحرك فيه الملعقة الفضية ليبرد قليلا، هاتفة في مزاح: هناكل الشوربة الجامدة دي، عشان ناخد الدوا ونرتاح، ياللاه همم يا جمل.. رفعت الملعقة باتجاه فم الشيخ، متسائلة في مزح: جمل ايه! انتوا بتقولوا عليه إيه هنا! ايووون… هممم يا بعير، ل وين الطيارة بطير!
قهقه الشيخ لأفعالها، وبدأ في تناول طعامه أخيرا، يتساءل ما بين الحين والآخر: راح يرجع يا سلمى!
لتأكد له في ثقة: بيرجع يا شيخ، والله هيرجع.
*******************
كانت تقف أمام ذاك الحاجز الزجاجي في حسرة، لا جديد في حالة ذاك المسجى، ظهرت إحدى الممرضات أمامها، فاستوفتها هامسة لها: الطبيب المعالج موجود لو سمحتي.
هزت الممرضة رأسها في إيجاب، لتتبعها في اضطراب، وما أن وصلت لغرفة الطبيب، حتى طرقت بابها، ودخلت في هدوء، لتجلس قبالة مكتبه حيث أشار، إلى أن أنهى مكالمته التليفونية، فسألته في قلق: إيه أخبار مجدي يا دكتور!
تنهد في اشفاق، هاتفا في تعاطف: مش عارف أقول لك إيه! حالة مريضنا لا تتحسن، قربنا على ٣ شهور، ولا تقدم في مؤشرات الحالة، و..
ساد الصمت، لتعاجله متسائلة: وايه!
أكد الطبيب: وربك كبير.
قالها الطبيب بلهجة عرفت منها أن لا أمل في الشفاء، وأنها مسألة وقت حتى يعلنوا النبأ الحزين، نهضت من موضعها مهرولة باتجاه حجرة مجدي، تتطلع من جديد لذاك الغائب بلا رجعة، جسد ميت على أجهزة تبثه الحياة عنوة، قد يعلنوا خلعها عن جسده في أي لحظة، ليوضع اسمه في قوائم المغادرين لهذا العالم، انفجرت باكية، تنعي عزيزها الراحل، قبل رحيل فعلي يؤجله الأطباء شفقة بها، وكل منهم يعلم أن لا أمل هناك من الأساس.
*****************
قضت النهار بطوله مع ساجد بالحديقة، تحاول التشاغل عن كل خواطرها وقلقها المتزايد، مع كل يوم يمر، ولا جديد يذكر فيما يخص أيوب، كانت ترهق نفسها جسديا، لعل هذا يكون الدافع لعقلها أن يتوقف عن العمل قليلا، ما يتح لها الفرصة لجعلها تسقط في نوم عميق بلا قرار، ينسيها بعض همها، ويعطيها فاصلا من اللاشيء، حتى تستطيع استعادة بعض توازنها المفتقد، لكن على ما يبدو بعض الأمور البسيطة التي تهبها لنا الحياة بلا ضمانات، نعتقد نحن بكل سذاجة، أنها أضحت ملكا لنا بالفعل، يمكننا استدعاءها بكل بساطة متى رغبنا، غير مدركين أنها قد تذهب بلا ضمانات كما أتت بلا ضمانات، وأن امتلاكنا لها ما هو إلا وهم كبير صنعه ذاتنا المتضخم بلا أي أمارة، إلا كِبر بشري أحمق.
صعدت حجرتها، ليبادرها صوت هاتفها، الذي ارتفع رنينه على غير العادة، ما دفعها للركض صوبه، هاتفة في لهفة، وهي ترد على أخيها: ايوه يا صبحي، خير!
هتف بها صبحي في صوت مخنوق، زاد من اضطرابها: أنتِ فين من الصبح!
هتفت سلمى مفسرة: الموبيل كان فاصل شحن، كنت سيباه يشحن فالأوضة معلش.
هتف صبحي في تردد، وصوت متحشرج: بصي، أنا.. أنا مش عارف اجبهالك إزاي!
هتفت سلمى بنفاذ صبر: انطق يا صبحي، أنا مبقاش فيا أعصاب، إيه اللي حصل!
هتف صبحي دفعة واحدة: مجدي تعيشي أنتِ.
سقطت سلمى أرضا، تعتصر الهاتف بأصابعها قهرا، وهو ما يزال موضعه على أذنها، هاتفة في نبرة مصدومة: مات! مات إزاي!
هتف صبحي من بين دموعه التي كان يحاول كبتها: أيوه! فضلت أرن على رقمه المقفول زي ما وعدتك، لحد ما فجأة فمرة لقيت التليفون اتفتح وبيرن، ولقيت واحدة فضلت تصرخ فيا وهي بتبكي، وكانت فاكرة إن اللي بيرن أنتِ، قالت لي إن اللي كنتي جياله مات بعد ما اترمى فالمستشفى الفترة اللي فاتت دي كلها، نتيجة الحادثة اللي حصلت له، وهو راجع من المطار.
لم تنزل دمعة واحدة من عين سلمى، وساد الصمت بينها وبين أخيها، الذي علت شهقات بكائه التي ما عاد قادرا على كتمانها، ليهتف مستطردا: هي قالت لي، لما عرفت أن أنا اللي على التليفون مش أنتِ زي ما كانت فاكرة، قول لأختك إن أخويا طلقها لما شافها فالمطار ومعجبتهوش، وهي ملهاش عندنا أي حقوق، وخليها تبعد عننا ومتحاولش تدور علينا، كفاية اللي حصل من تحت راسها، وأخويا راح فيها.
همست سلمى من جديد، كأنها ما زالت تحاول استيعاب الصدمة: يعني مجدي مات! يعني أنا بقيت أرملة حتى من قبل ما أدخل دنيا، ومن قبلها طلقني، عشان معجبتوش لما شافني!
بكي صبحي على حال أخته، ولم يعقب إلا بعد لحظات من الصمت الثقيل بينهما: وحدي الله يا سلمى، أنا جاي أخدك، معدش ينفع تقعدي عندك خلاص.
هتفت سلمى في وجع، كأنها لم تسمعه: أختك مبقاش في لقب مخدتهوش يا صبحي، الأول عانس عشان مفيش راجل راضي بها، وبعدين مطلقة عشان معجبتش، وأخيرا أرملة وهي مش دريانة وعرفت بالصدفة، شفت حظ أختك يا صبحي!
شهق صبحي باكيا من جديد: أنا جايلك يا سلمى، هااا، أهدي ووحدي الله، وأنا جاي ومش هسيبك، وحدي الله يا حبيبتي.
همست سلمى بلا وعي: لا إله إلا الله.
أنهت المكالمة، تتطلع للفراغ قبالتها، لا قدرة لها على استيعاب كل ما يحدث حولها، وكأن عقلها قد توقف فجأة عن العمل.
*****************
خر جبل تحملها صعقا، وما عاد لديها القدرة على مواجهة كل ما يحدث، باءت كل محاولتها فالتماسك بالفشل، لتسقط أسيرة الحزن، مغلقة عليها باب حجرتها، لا رغبة لها في مواجهة العالم الخارجي الدنيء بكل تحدياته، لا رغبة .. ولا قدرة.. وما عاد هناك إرادة لتفعل..
تتذكر وصية أيوب الغائب الحاضر، فتدفع نفسها دفعا لتقوم على خدمة أبيه وولده، لكن ما حدث من مجدي وله، يعيد لها الرغبة في الانعزال، لتتجرع كأس حزنها وحيدة.
القلق يعربد في قلبها، لا تدرك ما القادم! ولا غفلة للعين في ظل ذاك التوتر الذي تعيشه، كان النوم فيما سبق سلواها عندما يضيق الحال، وتتأزم الأمور بينها وبين خيرية في بيت أخيها، أما اللحظة، فلا مهرب تلجأ إليه من وجعها وضيقها إلا مصلاها، فحتى ساعات النوم التي كانت تتعاطاها فالماضي رغبة فالهرب من ظروفها، ما من سبيل لها اليوم، ولا قدرة لها على استحضار النعاس حتى لأجفانها.
نهضت متنهدة في قلة حيلة، توضأت، وصلت ما قدر لها أن تصل من ركعات، لعلها تزيح بعض من سخائم الحزن المطلة على سماء حياتها، وتعيد البسمة من جديد، نزلت للطابق السفلي، تتطلع لأركان الفيلا في ظل صمتها الموجع، وكأن كل ركن فيها، يبكي غياب صاحبها، تسير بلا هدف، والجميع نيام، لكن من أين لعيونها ببعض لحظات من غفوة، تفصلها عن العالم بكل مآسيه!
تقضي النهار بطوله بصحبة ساجد، وبعضه مع الشيخ، والليل يسلمها السهد والحزن لساعات من الدموع، ولا يد تربت على كتف القلب المنهك، أو كلمات تطيب الأوجاع التي تركت الروح مهترئة.
****************
مر يومان، لا جديد في وضع أيوب، لكن صبحي ما تركها، كان يتصل بها يوميا، حتى يطمئن عليها، واليوم لم يكن استثناءا، فها هو يدق على الهاتف من جديد، لتجيب هاتفة بنبرة واهنة: أيوه يا صبحي!
هتف صبحي يحاول أن يطمئنها: أنتِ أحسن دلوقت! يا رب تكوني بخير، متخافيش يا بت، أخوكِ فضهرك، أنا بدور على تذكرة وجايلك، بس مفيش حجز إلا بعد أسبوع.
هتفت سلمى، هاتفة: مفيش داعي يا صبحي، صدقني أنا بقيت كويسة، وبعدين مش هينفع أرجع دلوقت، في ظروف ملخبطة هنا، مع الناس اللي بشتغل عندهم، مينفعش اجي اقولهم همشي، واسيب لهم الدنيا ملخبطة، أول ما الدنيا تظبط، أنا أكيد هرجع يا صبحي، معدش ينفع قعدتي هنا خلاص.
هتف صبحي مستفهما: يعني إيه! محجزش!
أكدت سلمى: آه يا صبحي متحجزش، وفر الفلوس لعلاج ابنك، وأنا جاية، بس تظبط الأمور هنا، وهقولك، تمام!
همس صبحي مؤيدا، وهو ينهي المكالمة، لتترك الهاتف جانبا.
طرقات على بابها، ما كانت إلا لنفيسة، التي طلت برأسها هاتفة: عاملة إيه النهاردة!
همست سلمى: الحمد لله.
استرسلت نفيسة: الشيخ كان قلقان عليكِ، معدتيش عليه زي كل يوم، وهو اللي بعتني اطمن.
أكدت سلمى: أنا هنزل اقعد معاه شوية، بس بعد ما انيم ساجد.
أكدت نفيسة: لا متشيليش هم ساجد، أنا حميته، ودخلته نام من شوية.
هزت سلمى رأسها مبتسمة في امتنان، وقد نهضت لتنضم للشيخ، الذي ما أن هلت عليه، حتى انفرجت أساريره، هاتفا في بشر: وينك يا وش الخير! تعالي..
تقدمت تجلس قبالته، هاتفة في نبرة هادئة على غير العادة: خير يا شيخ! في خبر عن أيوب بيه!
هز رأسه نافيا، لكنه هتف في ثقة: بس أيوب راجع، على خير.
تطلعت إليه في اضطراب، هل الشيخ على ما يرام! لم تفصح عن قلقها، بل ابتسمت في محاولة لمداراة توترها، ليستطرد هو: شفته فالرؤية البارحة، وأنتِ معه.
هتفت في تعجب: أنا!
أكد الشيخ باسما: ايوه، والله كان أيوب واقع في جب عميق، ينادي وما في حداً بيسمعه، إلا أنتِ، سمعتي استغاثاته، وقربتي من حافة الجب، ودفعتي له بحبل عجيب، مجدول من لؤلؤ وشوك..
قاطعته متسائلة في تعجب: شوك!
هز رأسه مؤكدا، ثم استطرد: كان كل ما يمسك بالحبل، يطلع لما يمسك بجزء اللؤلؤ، ويتوجع ويهبط لما يمسك بجزء الأشواك، ظل على حاله، وأنتِ تدعميه مشجعة بالأعلى، حتى كان آخر ما أمسك به هو يدكِ، التي جذبته من قلب الجب، سالما معافى.
ساد الصمت، لتهتف سلمى أخيرا، بصوت متحشرج تأثرا: ربنا يرجعه بالسلامة.
همس الشيخ منشرحا: راح يصير، ما كان معه سلامة واحدة، كان معه سلامات.
ابتسمت لمزحته، كان تفاؤل الشيخ دافعا لها لتنشرح بدورها، تتضرع أن يجعل الله رؤياه حقا، ويعود أيوب من أجل هذا الرجل الطيب، وولده المحتاج لدعمه ومساندته في رحلة علاجه، وكل أحبابه، قفز تساؤل خبيث لعقلها، وأنتِ يا سلمى!
توقفت غير قادرة على الإجابة، أو كأن لا قدرة لها في أن تكون صريحة حتى مع نفسها، مدركة أن الصراحة مع النفس منزلة لا يصل لها الكثيرون، وتكلف صاحبها الكثير من التبعات، تنبهت أن الشيخ يناديها، فابتسمت له، وتبادلت معه أطراف الحديث لبعض الوقت، حتى حان موعد نومه، فغادرته بعد أن تأكدت من تناوله عشاءه ودواءه.
أبصرها هزاع من موضعه بالحديقة، فظل ينبح حتى تنتبه له، ابتسمت في ود، متجهة للخارج، فقد اهملت صحبته ليومين كاملين، أخذها الحزن رهينة بعيدة عن أحبابها، وقد قررت هزيمته، كان والدها دوما ما يخبرها أن الحزن جبان، يتسلل لنفس الإنسان بلحظات ضعفه، يحتل روحه في غفلة من إيمانه، وأن الله ما خلقنا يوما لنحزن، وخاف سبحانه على أرواحنا من الحزن وآثاره، فنهانا عنه، وأن لا ندعه يسيطر تماما على حياتنا، علينا محاربه بحسن ظننا في تدابير المولى، وأن الحكمة المبهمة في أفعال الخالق، قد لا يدركها العبد في حينه، لكنها موجودة، مفعلة، وفاعلة، وما على العبد إلا الرضا والتسليم.
ربتت على رأس هزاع، الذي ظل يتمسح بها مفتقدا إياها، دمعت عيناها في محبة، هامسة له: تفتقد أيوب!
نبح هزاع عند سماعه الإسم، باحثا عنه بناظره، معتقدا أنه جاء من سفرته، لتهمس سلمى به: يا رب يرجع لنا بالسلامة.
نبح هزاع من جديد، لتربت على رأسه مجددا ، قبل أن تغادر للداخل، تحركت بأرجل ثقيلة نحو حجرة المكتب، التي ما فُتح بابها منذ رحيله، انفرج الباب في هوادة، ومدت كفها صوب مفتاح تشغيل الإضاءة، ووقفت متسمرة على عتبة الباب، تتطلع بعين خيالها، لكل ركن زينه بمحياه، تبتسم حين تتذكر صوت الصرخات، التي كانت تصدر من مغنية الأوبرا التي يعشق، وسخريتها من ذوقه العجيب، تتطلع للكتب على الأرفف، لابد أنها تفتقده كما يفتقده كل شيء في هذا المكان، الذي كانت تشعر بحدس داخلي، أنه ملاذه الآمن بعيدا عن العالم وكل ترهاته، يضع فيه كل ما يحب، ويحيط نفسه بكل ما يمكن أن يكون مصدرا لقدر حتى ولو بسيط من السعادة.
خطت داخل الغرفة في رهبة، وتوقفت قبالة مكتبه، وقعت عيناها على صندوق غليونه الخشبي، فتحته متطلعة إليه في أعين دامعة، قبل أن تغلقه في حرص، متنبهة كيف يقدس حاجياته، ولا يسمح بالمساس بها، جلست للمكتب في تردد، وقفزت لذهنها، ذكرى تبادلهما أماكن الجلوس، يوم جلست لمكتبه تدون متطلباتها لعلاج ساجد، وهو أمامها يستمع في إنصات، لتضع له ورقة الحاجات أمامه كأنها طبيب كتب وصفة العلاج، ساعتها ارتفعت قهقهاته، التي كان من النادر سماعها، والتي تكاد تقسم، أنها تتردد حولها اللحظة مع استحضار الذكرى.
نهرت نفسها في حزم، وقد قررت الخروج من غرفة مكتبه قبل أن تصاب بالجنون، فما من شيء بهذه الغرفة لم يكن له ذكرى تحملها بين طيات روحها، مع هذا العزيز الغائب، الذي مس أعماقها بشكل عجيب لم يحدث مع مخلوق قبله، وهذا أكثر ما يثير رعبها، ويجعل النوم يولي هاربا من على أعتاب جفونها.
أغلقت الإضاءة، وجذبت الباب تغلقه في رفق، كأنما تجذب باب الذكرى عنوة، لتغلقه ببالها لعلها تستريح ولو قليلا من ذاك الصراع الداخلي الذي يمزقها، مصاحبا للقلق والخوف على مصير هذا الرجل، الذي تدين له بالكثير.
دخل سعدون لتوه إلى الفيلا، فاندفعت صوبه تسأله في لهفة: في جديد يا عم سعدون!
هز سعدون رأسه نفيا، وقد ظهرت على قسمات وجهه كل أمارات الحزن والتعب، فقد كان أكثر الجميع تأثرا بغياب أيوب، لكنه يشبهه كثيرا في قدرته على إخفاء مشاعره وأوجاعه، هامسا في نبرة تعكس عجزه: مفيش يا آنسة سلمى، في تكتم رهيب على الموضوع، واللي بنسمعه من معلومات من هنا أو هنا، غير مؤكد.
هتفت سلمى تتعجله: سمعت إيه!
أكد وهو يجلس في وهن: بيقولوا أن الحكومة بتحاول التفاوض على تنفيذ بعض الطلبات، لأن واضح أن الحكاية كبيرة، ولها شق سياسي محدش يعرف عنه حاجة، وواضح أن الموضوع مش هايمشي بسلاسة، ربنا يستر، ويعديها على خير.
لم تنطق بحرف، وقد ظهرت نفيسة على أعتاب الردهة قادمة من المطبخ، تطلعت تجاه سعدون في اشفاق، وتقدمت حتى وصلت لموضعه، جذبته لينهض معها في صمت، يسير جوارها وهي تربت على كتفه متعاطفة، لتقدم له بعض الحساء الساخن، وتوليه اهتمامها، حتى يكون قادرا على المواصلة من جديد، في مشوار القلق المتجدد الذي لا ينتهي منذ غياب أيوب بهذا الشكل المفجع، وما كان من سلمى، إلا الصعود لغرفتها، تلجأ مجددا لمصلاها، حتى تنزاح الغمة، دخلت فما طالعها إلا عباءته معلقة هناك منذ اللحظة التي وضعتها فيها، ولم تحركها، تذكرها بلحظات الأمان التي عاشتها في كنف هذه العباءة، التي كانت رمزا لأدفء لحظات حياتها أمانا، سالت دموعها، ما حثها للاندفاع صوب الحمام، تضع نفسها تحت الماء البارد، لعله يهديء من تلك النيران المستعرة بعقلها فكرا، وبقلبها شوقا، خرجت بعد أن هدأت قليلا، فردت مصلاها، وبدأت في الصلاة والدعاء، لم تكن تتوقف، كأنما الصلاة هي الملجأ الوحيد الذي يقيها شطط الفكر، وطغيان العاطفة، لا تعلم كم ظلت على حالها، إلا عندما تطلعت نحو ساعة الهاتف، كان الوقت قد قارب الفجر، فجلست شاردة في الفراغ قبالتها، تتضرع إلى الله من أجل بعض السلام الداخلي، ومن أجله، ليعود وتبصر محياه من جديد، وليكن ما يكون بعدها.
زاد نباح هزاع على غير العادة، تنهدت راغبة في بعض الهدوء، فنهضت لتنهره من نافذة حجرتها، حتى لا يوقظ صوته نباحه، ساجد من نومه مذعورا، أو حتى يقلق منام الشيخ، ومن بالفيلا، فالكل متعب، وفي حاجة لراحة بلا قلق أو منغصات، طلت من النافذة، وما زال النباح على أشده، لتبصر سلمى أنوار عربة تقترب من بوابة الفيلا، لا تعرف لم دق قلبها بهذه السرعة، واندفعت بلا هدف كالمجنونة لتهيط الدرج مهرولة، تكاد تتعثر مرة بعد مرة، لكن هاتف داخلي عجيب، يدفعها دفعا لتلبية نداء مجهول لا تعرف مصدره، خرجت للحديقة، لتجد هزاع قد حل وثاقه، لا تعرف كيف استطاع ذلك، لم تعبء به، وظلت تركض صوب البوابة الحديدية، التي لحسن الحظ كانت تحفظ أرقامها السرية، ضغطتها في كف مرتجفة، لتنفرج البوابة في بطء، في نفس اللحظة التي فُتح فيها باب السيارة في بطء مماثل، ليهبط منها أيوب مستندا على عصا وقف متسمرا للحظة، ثم بدأ في التحرك صوبها في هوادة، وقد تحركت السيارة مغادرة بدورها، تسمرت سلمى موضعها لا قبل لها على التحرك قيد أنملة، تتطلع صوبه بعدم تصديق أنه هنا، يتحرك صوبها في خطوات وئيدة، حتى أصبح لا يفصل بينهما إلا خطوة، رفع رأسه المنهك تجاهها، مبتسما في وهن، لتهمس هي أخيرا، بأول كلمة جالت بخاطرها: إزيك!
تحرك محاولا التماسك، لكن أقدامه خذلته، ليسقط بين ذراعيها، وتسقط معه بالتبعية، بفعل ثقل جسده، ونباح هزاع الحماسي الفرح، ينتشر بالأجواء، لتصرخ في هزاع أمرة: روح نادي مالو، وسعدون، ياللاه بسرعة.
اندفع هزاع منفذا في عجالة، ورأس أيوب مسندا على كتفها، وقد انخلع كابه الرسمي عن هامته متدحرجا بقربهما، وصدى العصا التي سقطت أرضا جوارهما ما زال مدويا، ليهمس في نبرة متقطعة الأحرف، وهو يرفع رأسه عن نحرها، متطلعا في نظرة تحمل شوق الدنيا: أنا دلوقت بس، بقيت بخير.
شهقت باكية في لوعة، حين تراخت رأسه على نحرها من جديد، وهي ترفع رأسها للسماء، شاكرة ممتنة..
يتبع….
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية احذر من يطرق باب القلب)