روايات

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وستة وعشرين 126 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الفصل المائة وستة وعشرين 126 بقلم ياسمين عادل

رواية أغصان الزيتون الجزء المائة وستة وعشرين

رواية أغصان الزيتون البارت المائة وستة وعشرين

رواية أغصان الزيتون
رواية أغصان الزيتون

رواية أغصان الزيتون الحلقة المائة وستة وعشرين

||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل المائـة وستة وعشرون :-
الجُـزء الثـانـي.
“أنتهى كل شئ.. أنتهى كما بدأ تقريبًا.”
___________________________________
لم ينم بهذا الإسترخاء المريح منذ فترة طويلة، تقريبًا منذ أن دخلت إلى حياتهِ فـ عصفت بها كما تفعل الريح العاتية في الأشجار المتجذرة الصامدة، تعمق في النوم وكأنه مستيقظًا منذ سنين. فتح عيناه وتلك الإبتسامة الهادئة على محياه، فـ أحس بالحركة جواره، ليلتفت برأسه فرأى “زين” وهو يركل قدميه في الهواء ومزاجه جيد للغاية، اتسعت شفتاه ببسمةٍ عريضة واعتدل في نومته كي يحمله بين يديهِ، ثم بدأ مداعبتهِ لتكتمل به إشراقة الصباح البديعة.
حملهُ وهبط به بحثًا عن أمه التي تركتهُ متعمدة لإيقاظهِ، ينظر يمينًا ويسارًا في محاولة لإكتشاف مكانها، حتى سمع همسات تُدندن من ناحية المطبخ، فـ سار نحوه وهو ينظر بإستطلاعٍ دون إحداث جلبة، فرآها تُجهز الإفطار بنفسها وكلها طاقة وحيوية، تتحرك گالفراشة الرشيقة بين المبرد والموقد، وإذ بها تخرج كل مواهبها الدفينة في فنون الطبخ، وهو يراقبها والسعادة ترفرف على روحهِ. أخيرًا أحس بالدفء الذي لم يعيشه يومًا، الحياة التي لم يكن يتخيل إنه بحاجه ماسّة إليها، ولم يفكر ذات يوم ما الذي ينقص حياته العادية، ما الذي ينشده؟!.. وإذا به يجد الجواب اليوم. لم تكن له أم تُعد الطعام ولم يشم رائحة الإفطار الشهي سوى اليوم، گمن يكتشف أشياءًا جديدة لم يعيشها من قبل.
دخل إليها وفي داخله مشاعر مرتاحة مسترخية، وبعد أن رأتهُ وبادلتهُ ابتسامة الصباح، دنى منها ليحتضن ظهرها وهو يهمس بصدقٍ بالغ :
– ده أحلى صباح في حياتي والله.
ثم ألصق شفاههِ بخدّها يُقبلهُ في رومانسية و :
– فتحتي نفسي وانا مش من عادتي أفطر الصبح.
اتسعت ابتسامتها وهي ترفع عنه الصغير وتجدد وعودها :
– بعد كده هنفطر كل يوم.
بدأ يهتم بالطعام الموضوع على الموقد ريثما تهتم هي بالصغير قليلًا، وهي تتطلع إليه بنظراتٍ تعشقه، لم تتخيل يومًا إنها ستسقط صريعة حُبهِ لهذه الدرجة، وأن شظايا الحرب التي أعلنتها عليه ستتحول لزهور الربيع الفاتنة كلما تراه. إنها الآن تعيش العوض الحقيقي عن كل ما عانته، وأخذت من الحياة النصيب الذي تستحقه بعد سنوات الحرمان.
*************************************
كانت مفاجأة غير متوقعة بالمرة، گالصاعقة التي نزلت على رأسه بدون أي إنذار، وبدا ذلك على وجهه بوضوح شديد.. إن كان ذلك هو حال “زيدان” بعد اكتشافهِ النائبة التي حلّت على رأس “حمزة”؛ فما بالك بـ صاحب المصيبة حين يعلمها!.
نفخ الرجل الذي يجلس معه دخان الأرجيلة خاصته وهو يرمقهُ بغرابةٍ، ثم سأله مستنكرًا :
– مالك شايل طاجن ستك ليه يا زيدان!.. كأن المصيبة تخصك انت ولا مؤاخذة.. ما تبلغ الراجل بتاعك اللي حصل وخلصنا.
تأفف “زيدان” منزعجًا وهو يشيح بوجهه بعيدًا، ثم أردف بشئ من العصبية المكتومة :
– ده مبقالوش كام يوم متجوز.. هروح أقوله خبر زي ده إزاي!.. الراجل ياعيني مش متهني على حاجه، صعبان عليا.
تغضن جبين الآخر، غير مصدق حالة الشفقة التي ظهرت على “زيدان” فجأة، بينما هو في طبيعتهِ لا يحمل كل هذا اللين :
– أنا أمرك غريب صحيح.. أول مرة أشوفك كده!، انا شغال معاه ولا بتحبه جد الجد ولا حكايتك إيه!!.
نهض عن مكانه وهو يقول :
– آه ياعم بقى غالي عليا.. أما أروح أشوف هعمل إيه في الحوار المنيل ده.
وانصرف عنه، محاولًا أثناء طريقهِ التواصل مع “حمزة” ليبلغهُ بآخر المستجدات، فكان الأخير بعالم آخر، ينهم من الدنيا حظهِ الوحيد الذي نالهُ منها.
تخللت رائحتها الناعمة حواسه كلها، بعدما نثرت من عِطرها الكثير قبل أن تخرج للعمل، فأيقظت غريزتهِ الطامعة فيها، ونشطت ذاكرتهِ بليلة أمس التي قضياها معًا بأحد الفنادق المُطلّة على النيل، بعد قضاء سهرة بديعة أقامها أحد أصدقائه القدامى بمناسبة زواجهِ الجديد. نهض عن مكانه وهو يسمع صوتها تغني في دورة المياة، فأوقفه اتصال “زيدان” المتكرر والذي لم ينتهي بأي شكل، فأرسل له رسالة صوتية قبيل أن يغلق هاتفهِ تمامًا :
– أنا مش فاضي دلوقتي ياأبو زيد.. شويه ونازل أوصل سُلاف على مكتبها.. تعالى هناك.
ثم فصل عن هاتفه الطاقة وتركه كي يذهب إليها بخطواتٍ حسيسة. فتح الباب فـ شعرت به، وفهمت من نظراتهِ العابثة مدى رغبتهِ الجامحة فيها الآن، فـ تعالت ضحكتها وهي تهتف بـ :
– إحنا نازلين المكتب مش هينفع أي حاجه آ……
لم يمهلها فرصة حتى لتتابع كلماتها التي تمنعه، بينما داخلها تأججت الرغبة فيه هي أيضًا. انحشر صوتها بعدما هاجمها بعدد كبير من القُبلات المتتالية على مكان يظهر فيه جلدها الأملس، فدغدغتها بعض الأماكن لتنفجر ضحكاتها :
– حمزة هتتأخر.. عندك معاد مهم النهاردة.
كان صوتهِ ثملًا، وكأنها گالخمر الذي يتلاعب بالرأس فلا تشعر بنفسك في حضرتهِ :
– مش مهم.. انتي أهم من أي حاجه.
ثم رفعها لتجلس على السطح الرخامي الضخم، وألصق أنفهِ بأنفها وهو يتابع :
– وحشاني كأنك بعيد عني سنين.. مش قادر ولا عارف أشبع منك بأي شكل.
في كل مرة يزداد فيها شغفًا وكأنها أول مرة، لا شئ يجعله يشبع أو يكتفي، فبات ابتعادهِ عنها يمثل أزمة حقيقية لا يدري كيف سيجد الحل لها. قرابة الساعة ونصف بدون أن يخرجوا من دورة المياة، حتى أفسد كل شئ فيها وخرجت معه بدون زينتها ولا ملابسها وحتى عطرها قد تلاشى بين مياة المسبح الصغير التي غمرتهم، وفي الأخير خرج بها يحملها بين ذراعيه وهي تلف جسدها بالمنشفة، مبتلة تمامًا، ومازالت ضحكاتها تداعب الهواء الطلق من حولهم.
************************************
وضع الصبي قهوتهِ أمامه، ثم انصرف من الغرفة بينما كان “حمزة” ينظر إليها في تعجب ليسأل :
– يعني خدتي القضية ورايحة تترافعي قصادي فيها!.
كانت جادة بعض الشئ، إمرأة تختلف تمامًا عن حبيبته التي يعشقها، إمرأة أخرى تقدس عملها وتفنى فيه. توارت ابتسامة مختفية أسفل جديتها وقالت :
– أه.. لقيتك رجعت لطريقك قولت أما أشوف أنا كمان طريقي.
لم تستطع الصمود طويلًا أمام نظراتهِ فـ خرّت تضحك في انهزام حتى ضحك هو أيضًا قبل أن يسألها :
– هو احنا بنضحك على إيه!.
حمحمت قبل أن تجيب :
– واضح إننا مش هنتفق في موضوع الشغل خالص.. عشان كده خلينا نفصل حياة العمل عن حياة البيت.
أقترب قليلًا وهو يستند على سطح المكتب ليقول متغزلًا :
– بصراحة حياة البيت أحلى، طرية كده وناعمـة.
أسبلت جفونها بإستحياءٍ ونظرت نحو الملف الذي أعطاه إليها بالأمس، فوجدته فرصة مناسبة للهروب من حِصاره لها، وقبل أن يتمادى معها بداخل مكتبها بدون الأهتمام بأي اعتبارات أخرى :
– دي بقى قايمة بالحاجات اللي المفروض تتم قبل السفر.
أرخى ظهرهِ للخلف وهو يجيبها :
– آه.. هنحتاج فترة علاج هتمشي فيها على تعليمات الدكتور بالحرف، هتاخدي الأدوية والمثبطات بتاعتك في مواعيدها، لحد ما الدكتور يقرر معاد السفر واحنا على طول هنسافر.
تطلعت للصورة الفوتوغرافية التي تجمعها بـ “زين”، طفلها الأولى الذي لن تستغنى عنه، ثم دارت خيالات إنهم سيصبحون ثلاثة في صورة وليس وأثنان فقط، دون أن تشعر بزغت ابتسامة سعيدة على محياها، جعلتهُ يحس تأثير ما يفعلهُ لأجلها، وإنه بالفعل ينجح في تلافي كل مرّوا به، فـ نهض من مكانهِ ليزرع الشك في ذهنها بخصوص ما ينتويه، لذلك تراجعت بمقعدها للخلف وهي تحذره :
– إياك تقرب، احنا في المكتب!.
تشكلت تعابير الإستنكار على ملامحهِ مستهجنًا تفكيرها المنحرف بشأنه :
– انتي فكرتي فـ إيه!.. أنا جاي أعلن دعمي لسعادتك.. بس انتي تفكيرك عني دايمًا ظالم.
وانحنى عليها يُقبّل رأسها – فقط -، ثم ابتعد وهو يعلن حُسن نواياه :
– شوفتي إني مؤدب إزاي؟.
طرقتين جامدتين على الباب، سرقوها من أوج ابتسامتها الرقيقة، بينما فتح هو الباب بنفسه ليجد “زيدان” أمامه في حالٍ لم يسبق له أن رآه عليه من قبل، فـ تلجّم لسانه قليلًا وهما يتبادلان النظرات :
– في إيه؟!.
أخفض “زيدان” عيناه لئلا تراه “سُلاف” التي وقفت من جلستها خصيصًا لترى ما المهم الضروري لهذه الطرقات العنيفة :
– في حوار كده لازمن نتكلم فيه.. دلوقتي.
فوجهت “سُلاف” سؤالها لزوجها :
– في إيه يا حمزة؟؟.
فـ أجاب “زيدان” نيابة عنه ليرفع عنه الحرج :
– مفيش يا ست.. واقع في حوار والباشا هو اللي هيخلصني منه، ما هو كده اللي ملوش سند في البلد دي لازمن يدوسوا عليه.
تفهم “حمزة” أن المصاب كبير، وربما يكون الأمر أعلى من توقعاتهِ، فـ قرر الإنسحاب من غرفتها بسرعة كي يحلّ الأمر :
– أنا مش هتأخر.
– لأ خلص معاه وروح انت على مكتبك.. أنا ورايا شويه شغل هخلصهم وأروح.
– ماشي.
صدقت بسرعة وبدون مجهود أن الأمر لا يمس “حمزة”، خاصة بعد إضافة “زيدان” لكلماتهِ المتعمدة لإصراف ذهنها عن الموضوع الأصلي. خرج “حمزة” برفقته ورأسه تترجم تلك النظرات لألف سيناريو، حتى اختلى به في سيارتهِ، فسأله بحدةٍ :
– إيه الموضوع الخطير اللي مغير وشك كده؟؟ في إيه!..
تحولت نظرات “زيدان” لأخرى، نظرات تشفق عليه، وتستصعب البوح بالحقيقة المؤلمة، فتضاعف قلق “حمزة” وتلينت نبرته قليلًا وهو يعيد سؤاله بتوجس :
– ما تقول يا زيدان في إيه؟؟.. عرفت مين اللي كان مراقب سُلاف وكلفتك تشوف هو مين؟.
أطرق “زيدان” رأسه بشئ من خيبة الأمل، ثم طرح عليه سؤالًا يسهل من عملية إخبارهِ بالحقيقة :
– قولي ياابو البشوات.. انت حضرت غُسل أبوك؟؟.
ارتجفت أطراف “حمزة”، تخبطت أفكاره وتجمد لسانه بعض الشئ، كأن عقله بدأ يستعيد لمحات من تلك الأيام القاسية، ثم تحللت عقدة لسانه ليقول في شك :
– لأ.. مقدرتش!.
لم يقدر على النطق بها، ولكن الحروف تقف على طرف لسانه تحاول الخروج منه :
– هو آ…. يعني آ….
قاطعه “زيدان” ليسهل عليه الأمر :
– آه.. أبوك عايش.
تحجرت عيناه، وبات جسدهِ گقطعة من الثلج الأبيض المتجمد، بينما تابع “زيدان” سلسلة المعلومات التي توصل إليها :
– عمل كده عشان يهرب برا البلد.. ولما كان بيهرب من لجنة طاردوه، العربية اتقلبت بيه هو واللي معاه، نص جسمه ووشهُ اتحرق، ودلوقتي مستخبي في شقة جوا حارة في بولاق.
لم يتردد “حمزة”، ولم يترك نفسه تعيش في صدمتها مطولًا، إذ مرّ بينه وبين القرار ثانية واحدة فقط وكان يقول :
– وديني عنده.. حالًا.
أدلّه “زيدان” على الطريق وقاد هو سيارتهِ لهناك مباشرةً، عيناه متجمدتين گالحجارة، وعقله لا يستطيع استيعاب ما يحدث، حتى قطع عليه “زيدان” هذا الصمت الطويل قائلًا :
– ناوي تعمل معاه أيه ياباشا؟.
السؤال الذي لم يدري “حمزة” جوابًا له حتى الآن، ماذا يفعل معه، فأجابه بعشوائية خالصة :
– معرفش.
استنكر عليه “زيدان” ذلك الجواب وقد بدأ ينفعل لأجله :
– متعرفش إيه!!.. ده لازم يموت.
جحظت عينا “حمزة” بذهول من تلك الفكرة الجريئة القاسية :
– انت بتقـول إيـه!!.
فـ تضاعف انفعال “زيدان” الذي كبحه طويلًا:
– بقولك اللي لازمن يتعمل.. الراجل ده مش هيرحمك ولا انت ولا مراتك ولا ابنك، ده راجل جاحد، هان عليه ابنه الوحيد يشوفه بيتقطع عليه وهو فاكره ميت والتاني عايز يهرب بكل أنانية.. ودلوقتي مش مكفيه اللي حصلك، لأ جاي ينخر وراك من تاني، الراجل ده لو مقابلش وجه كريم مش هتخلص عمرك كله من أذاه.. أوعى تكون فاكر إنه بيراقبك انت ومراتك عشان يطمن عليكوا ولا حاجه.. ده تلاقيه بيرسم للكابوس اللي هنعيش فيه كلنا.
بعض كلماته صائبة، أصابت الهدف تمامًا، ولكن فكرة التخلص منه لم تكن مقبولة لـ “حمزة” بتاتًا، فما زال محتفظًا بالإنسان الذي نمى بداخله، والآن هو عاجز تمامًا عن التفكير، ماذا يفعل حيالهِ على تلاعبه بمصيرهِ وتركه يعيش في ألم فقدان الأب، حتى وإن كان أب -فاسق-؟!
**********************************
كان يجلس معها لمناقشة إحدى القضايا التي أتت مؤخرًا للمكتب، يلاحظ فيها رجاحة العقل والكدّ والإجتهاد للوصول إلى حلول، وكأنها المرة الأولى التي يعملان فيها معًا، حتى آتاه إتصال دولي، فـ اضطر للإستئذان منها للإختلاء بنفسه :
– عن أذنك يا رضوى.
وخرج ليجيب في تلهفٍ مشتاق :
– أيوة يا عبيد.. أزيك عامل إيه، أنا بخير، هي كمان بخير.
تلاشت ابتسامته قليلًا وهو يتابع :
– لا سُلاف نزلت من شويه.. زين حرارته عليت بسبب التسنين وهي راحت تشوفه، في حاجه ولا إيه؟؟.
كانت عبارة “عِبيد” وكأنها أمر واجب النفاذ :
– عمي بيقولك تروح تطمن عليها بنفسك.. قلقان وحاسس إن في حاجه مش مظبوطة.
توتر “نضال” على الفور، فما عاشوه لم يكن قليلًا على الإطلاق :
– ماشي ماشي.. طمن عمي وانا نازل دلوقتي.
***********************************
كان في نفس المكان الذي لا يغادره، غرفتهِ الفقيرة أعلى سطح أحد المنازل القصيرة، الرطوبة تأكل كل شئ هنا، ورائحة العفن منتشرة وكأنها مقبرة للأحياء وليست مسكن آدمي، هكذا انتهى به الحال محاولًا الهروب من أيادي السلطات التي قد تكتشف بأي لحظة إنه على قيد الحياة.
صوت فتح الباب من الخارج جعله ينتبه وينظر نحوه متسائلًا بصوت مرتفع :
– مـين؟ ؟.
كانت مفاجأة غير متوقعة.. رؤية ولده هنا – الآن – غير مبشر بالمرة، شئ قد يُعطل عليه كل ما خطط له. كان ينظر إليه بإحتقار، نظرة مشمئزة وكأن عيناه وقعت على صندوق من القمامة. بعفوية وضع “صلاح” يده على حرق وجهه ليداريه، ظنًا أن ولده قد اشمئز من جرحهِ، فـ أردف “حمزة” في أسفٍ :
– ياريت كان في أيدي أختار أهلي.. كنت هتبقى آخر واحد أفكر أختار حتى أقابله في حياتي.
بالرغم من قلبه المتحجر ومشاعرهِ الميتة، إلا إنه أحس بالضيق يعتريه من كلمات ولده الجارحة :
– افتكرتك هتفرح لما تعرف إن لسه باقيلك حد من عيلتك، بدل ما بقيت مقطوع من شجرة وبتجري ورا حتة كـ××× دمرتنا كلنا وخدتك مني.
تجمعت الدموع في عيناه، وبرز لمعانها المؤثر وهو يسأله بصوت مبحوح :
– ليه عملت كده؟؟.. بتخدعني وتحط جرح على جرحي ليه؟.. بتعيشني شايل الذنب ليه؟.
فصرخ فيه “صلاح” هادرًا :
– تستــاهـل.. عـشـان جـريـت وراها ومسمعتش كلامي، ياما حذرتك وقولتلك، دلوقتي بعد ما أختك وأمك راحوا مرتاح، مبسوط بأنجازك؟.. عرفت تضحك عليك وتجيبك لعندها راكع يا دلدول (عديم الشخصية).
دنى منه “حمزة” وهو يحاول بكامل طاقته أن لا يخسر إنسانيته لآخر لحظة :
– انت ميت بالنسبالي.. أوعى تفكرني جاي أصحي الأشواق وألومك عشان خدعتني وطلعت عايش.. أنا جاي أحذرك تبعد عني وعن عيلتي، لو مسيتها أو مسيت ابني بسوء أنا هدفنك في مكانك.. قسمًا بالله ما هسمي عليك.
انحنى عليه قليلًا وجدد وعيدهِ الصادق، وعيناه تدق شررًا صادقة :
– مش هرحمك زي ماانت مرحمتش أمي ويسرا زمان، ولا رحمتني.. كل هدفك إني أبقى زيك ونجحت في ده، بس اللي جاي أنا اللي هنجح فيه، وصدقني كلامي ده مش تهديد، أنا بنفذ وبس.
من شدة غيظ “صلاح”، أراد أن يرى في عينا ولده الحسرة، بعدما ضربه بكلماتٍ تكفي وتفيض :
– كلامك ده متأخر يا بني.
وابتسم بسخرية وهو يقول :
– لقد نفذ السهم ياحمزة.. كل حاجه هتخلص زي ما بدأت، زي ما بدأت زمــان، فاكر؟!
أطبق “حمزة” على عنقهِ يخنقه، وهو يجزّ على أسنانهِ قبل أن يصيح في وجهه :
– بتقول إيــــه انت.. سـهم إيــه اللي نفذ، وزمان إيه اللي بتكلمني عنه!؟..أنا هقتلك ياصـلاح…
كاد “صلاح” يلفظ أنفاسه الأخيرة على يد ولده، لولا إنه تركه بآخر لحظة وركض للخارج، بعدما أدرك بناقوس الخطر الذي يدق جانب أذنه، حتى بلغ الأسفل بسرعة البرق، ليراه “زيدان” على حالته تلك :
– إيه نزلك مش قولت هتفضل فوق لحد ما الشرطة تيجي.
كانت أنفاسه متهدجة أثر ركضهِ، فخرجت الكلمات متقطعة من بين شفاهه :
– سُلاف في خطر يازيدان.. خليك هنا مكاني وانا رايح أشوف هي فين بسرعة
وركض نحو سيارته، فضرب “زيدان” كفيهِ معًا وهو يتمتم بغضبٍ :
– يادي الليلة اللي مش فايته.. قولت نقتله ونخلص من شره!.
أمسك هاتفه محاولًا الإتصال بها، فوجد رسالة نصية منها تتضمن :
” انا رايحة البيت عشان زين حرارته عليت، هوديه للدكتور.”
فأرسل لها رسالة صوتية فحواها:
– ابعتلي مكانك بالظبط فين.
ثم اتصل بها عدة مرات؛ لكنها لا تجيب إطلاقًا، مما جعل الجزاء تتدفق في عروقهِ بضغط أكبر، وقلقهِ تضاعف أكثر وأكثر وسط عجزه في الوصول إليها بأي شكل، حتى إنهم في المكتب أخبروه بإنها غادرت منذ أكثر من نصف ساعة، وهذا ضاعف من احتمالية إصابتها بالأذى.
*************************************
كان الصغير يبكي ويصرخ بهيستيريا شديدة، فأصابها بالقلق عليه أكثر، ووجدت إنه توجب عليها زيارة الطبيب على الفور كي يفحصه بنفسه. وضعت يدها على رأسه فوجدته يكاد يشتعل من شدة الحرارة، فـ ارتعدت فرائصها وهي تقول :
– بسرعة ياأم علي هاتيلي بطانية صغيرة أغطيه بيها وجهزي عربيته الصغيرة عشان اروح بيه المستشفى.
– حاضر يا أستاذة.
خرجت “أم علي” فـ استمعت “سُلاف” لصوت صرخة أتبعها شئ ارتطم بالأرض، فـ انخلع قلبها وهي تضم صغيرها لأحضانها، ورأت ملثمًا يوصد عليها الباب من الخارج، فـهرعت نحو الباب بتلقائية وهي تصرخ مستغيثة :
– انت بتــعـمـل إيــه؟؟.. انت ميـن افتـح البـاب.
عادت نحو الفراش وتركت الصغير الذي يكاد ينفطر من شدة البكاء، ثم بحثت من حولها على حقيبتها وحاولت إيجاد هاتفها المحمول، لكنها لم تجد له أثرًا :
– تليفوني!.. تليفوني فـين ؟.
وسرعان ما تذكرت إنها تركته سهوًا في سيارتها، فـ ركضت نحو الباب تحاول بأقصى قواها لتفتحه، حتى إنها أمسكت بمقعد خشبي وبدأت تدفع به الباب كي تكسره، وإذ بها تحس بسائل ينسكب من أسفل الباب، ورائحتهِ تشبه المواد المشتعلة كثيرًا، فـ ارتبكت حواسها أكثر أكثر، وبدت تتحرك گالمجنونة لا تدري ما الذي تفعله، ثم ركضت نحو المرحاض وبدأت تفتح كافة الصنابير، أغلقت سخان الغاز وبدأت تملأ دلوًا بالماء، ثم خرجت وسكبته على الأرض بإتجاه السائل مثير الإشتعال، لعل ذلك يفسد من قوته على الإشتعال، لم تتوقف عن ذلك حتى أغرقت أغلب أرضية الغرفة، لكنها بدأت تحس بصوت النيران، أجل النيران أيضًا لها صوت مثير للرعب وهي تنهش وتأكل في كل شئ من حولها. قرعت على الباب بكلتا يداها وهي تصيح وتصرخ :
– أفــتــحـوا الباب.. أم عــــلـــي ؟!.
ركضت نحو النافذة وفتحتها، ثم خرجت لتصرخ مستغيثة :
– ألــحــقـــونـــي.. البيـت بيتــحــرق.. حـد يلحقــنـا..
بدأ أثر الحريق يتسرب للداخل رغمًا عن كل المياة التي سكبتها، فـ ركضت نحو المرحاض لتأتي بكميات أخرى تفسد بها الحريق الذي قد ينشب محدثًا حادث غشيم، ثم ذهبت نحو الباب وطرقت عليه بكل قواها :
– أم عـــلــي.
طاردتها فكرة إنها النهاية، وإنها لن تنجو وطفلها من ذلك الحادث المدبر، فـ هطلت دموعها بغزارةٍ غير مسبوقة، متذكرة الحال الذي مات به والديها، وإنها قد تلحق بهم في أي لحظة، فـ حملت الرضيع الذي يبكي بكاءًا يُفطر القلوب، وحاولت أن تهزّه بين ذراعيها وهي تهدئه؛ ودموعها لا تتوقف أبدًا. بدأت رائحة الدخان الكثيفة تتسلل إليها من كل مكان بالباب، والحرارة المنبعثة منه تكاد تحرقها من شدتها.
حينئذٍ كانت لحظة وصول “حمزة”، وقد رأى من مسافة مقبولة هذه الهالات الرمادية التي تكونت ببعض الأماكن في منزله، فـ انخلع قلبه من فرط الخوف، وركض ركضًا سريعًا للداخل ليجد النيران تنهش في كل شئ، حتى تُعجزه عن المرور خلالها، فـ ركض نحو غرف الخدامين بالأسفل، واستعان بأحد الأغطية بعدما أغرقه بالماء، ثم غطى نفسه به ليمر عبر النيران إلى الدرج ثم إلى الأعلى، كل ذلك وهو ينادي بأسمها :
– سُـــــلاف!!.. زيـــن..
استمعت صوته الآتي من بعيد، فـ صرخت تنادي عليه لتدله على مكانهم :
– ألحــقــنـا يا حــمزة.
كانت صدرها قد تعبأ برائحة الدخان، وبدأ يضيق عليها بشدة وهي تعافر للخروج بصغيرها من هنا، حتى استمعت لصوته من الخارج يصيح :
– أبعدي عن البــاب.
كافح “حمزة” ذلك الدوّار اللعين، والغمامة التي بدأت تظلل عيناه، وبأقصى قواه كان يدفع الباب بالمقعد الحديدي حتى بدأ ينكسر من قوة الدفع، وفي النهاية انكسر قفله بالفعل. ركض إليهما وفي لحظة خاطفة كان يضمهما لصدره، ثم حمل الصغير عنها إذ رآها في حالٍ وهِن، وغطاها بالغطاء المبلل ومررها أمامه، تمسكت “سُلاف” بالدرابزين الخشبي فـ خارت قواها وسقطت على السُلم، لتصدح منها صرخة مستغيثة عالية :
– آآآآآه.
ركض “حمزة” نحوها بحرص لئلا يقع الصغير من بني يديه، فصرخت فيه “سُلاف” لأن يتحرك لإنقاذ صغيرها :
– خرج الولد.. خرج زيـن بــسرعــة… آآآه
– قومي يا سُلاف.. قومي خلينا نخرج بسرعة من هنا.
كان بكاءها المتقطع ينخر في قلبه وعظامهِ وهي تصيح :
– رجلي أتــكـســرت.. ألـحق خـرج زين بسـرعـة بقولك..
فأوفض به للخارج كي يضعه في مكانٍ آمن ليستطيع هو إخراجها من هناك بعدما انكسرت ساقها، ليرى “نضال” وهو يهرع إليه بعدما رأى الحريق من بعيد، فركض نحوه وترك الصغير بين يديه وهو يهتف بـ :
– ابني أمانة معاك يا نضال.. هجيب سُلاف وآجي.
فهلع “نضال” أكثر وهو يهدر بـ :
– لأ هـاجي مـعاك..
– أرجـوك متضيعش وقتي.. لازم حد يفضل هنا بالواد أرجوك.
وعاد يركض للداخل بأنفاس شبه متقطعة، گالذي سيلفظها خلال لحظات.. دخل راكضًا وهو ينادي :
– أنا جيـت.. جـ… انا هنا يا سُلاف.
انحنى عليها وحاول أن يرفعها عن الأرض، بعدما بدأت تفقد وعيها بالكامل :
– مش هـ….. اقدر.. أخرج… اخرج يا حمزة.
– مـسـتــحيــل..
سحبها قبل أن تصل النيران إليهما وقد بدأت تتشعب في كل مكان بالمنزل، وهي تشعر بألم شديد كأن أحدهم يقطع في أجزائها، لكنها عاجزة حتى عن الصراخ، سحبها حتى وصل بها لمفترق السلم، فـ انسابت كافة أعصابهِ وبدأ يراها ضبابًا، بعدما انخفض السكر في الدم وأصابه استنشاق الدخان ببداية تسمم :
– يلا يا حببتي.. عـ… عشان خـ… اطري، يـ….
هزها فلم تبدر منها أي حركة، حتى لم يسمع صوت أنفاسها، فترقرقت الدموع من عيناه الغائمة وقد سقطت رأسه على صدرها وهو يرجوها :
– سُلاف… لسه الطريق فـ .. لسـ… ـه فـ أوله يا حببتي، قـومي… طب عـ شان زيـن
لم يسمع صوت نبضاتها، توقف قلبها عن ضخ الدماء، فـ انسال خيط دموعهِ الرفيع حتى لمس ثيايها، واشتبكت يداه بأصابعها وهو يهمس بآخر كلماته :
– مش دي النهاية.. مش ده اللي كنا اتفقنا عليه ياسُلاف.. بتمشي تاني ؟.. طب ليـه!. ده انا استنيت… آآآه ، كتير أوي.
بدأت أنفاسهِ تتخافت، يكاد يغرق في عرقهِ من فرطهِ، حتى سكنت رأسه الثقيلة في النهاية، وأنفهِ الملاصق لصدرها استنشق عبقها في نفسهِ الأخير، قبل أن يُسلم روحهِ لقابضها، وتيبست عظام كفهِ فأصبح من المستحيل حلّ الكفين عن بعضهما إلا في حال الكسر.
“نضال” واقفًا في انتظار خروج الزوجين من الداخل سالمين، يرفض تصديق أي شكل آخر للنهاية سوى إنها بخير، وستعيش الحياة التي اختارتها بكل سعادة، يضم طفلها لصدرهِ ويطمئنه إنها ستأتي الآن وتحمله عنها، إلى أن خرج المسعفين بعدما أطفأ رجال المطافي كافة الحرائق، يحملون ثلاثة أسرّة للمفقودين، بينهما سريرين مع بعضهما البعض لا يستطيعون الفصل بينهما بسبب تيبس الجثامين بعضها ببعض. ثم دنى منه أحدهم وطأطأ رأسه وهو يبلغه :
– للأسف التلاتة آ……
– بـس مش عايز أسمعك.. مش عايز.
ذلك المشهد الذي رآه من بعيد جعل “زيدان” يركض للداخل وهو ينظر من حوله على هذا التجمهر في ذهولٍ وصاح :
– الباشا فـين.
ثم وقف أمام “نضال” وهو يفسر له :
– أنا جاي أقوله إنهم خدوا صلاح والمهمة تمت.
وألقى بعيناه للأمام ليرى المشهد الذي رفض تصديقه في البداية، ثم ردد بهيستريا :
– لا لا… الباشا ميموتش كده بالساهل.
وأسرع نحوهم هرعًا، حتى وقعت عيناه على حذاء “حمزة”، بينما هو مغطى بالملاءة البيضاء على سرير محمول بين سريرين، من حوله رجال الإطفاء والمسعفين، فـ انهار “زيدان” على ركبتيه وبدأ النواح، ليحمّل نفسه مسؤولية ما حدث بعدما تركه بمفرده كي يأتي إلى مصيرهِ، متأثرًا لفراقهِ تأثرًا حقيقيًا.
في حين التفت “نضال” وولى ظهرهِ لهذا المشهد الذي تكرر للمرة الثانية، بعد مرور أكثر من ستة وعشرون عامًا، يلحق بهم نفس المصير؛ لكنه الآن شاهدًا على ما حدث، ولم تُسرد له القصة كما سُردت منذ زمن، فـ أصبح الألم ثلاثة أضعاف. سار “نضال” بعيدًا عن المنزل وهو يحتضن “زين” گالمُغيب وهو يهمس بـ :
– ماما هتيجي يا زين.. هتيجي ورانا على طول يا حبيبي، متعيطش، ماما زمـانـها جـايـة.. جـايـة بعد شويـه…..
—تــــمـــــت—

||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل المائـة وستة وعشرون :-
الجُـزء الثـانـي. (خاتمة 2)
“قد تضطر للتدخل لتغيير مصيرك، قد يحالفك الحظ حينها وتمنع وقائع القدر؛ أو تسقط صريعًا لنفس المصير الذي كافحت للفرار منه.”
____________________________________
ضُرب جسدهِ كاملًا بالأرضية، ضربة قوية جعلت عظامهِ تصطك ببعضها، ليس فقط من وقع السقوط، وإنما الإندفاع والإنفعال الغير مقصود هو الذي جعل جسدهِ لا يتقبل السقطة بسهولة.
أنفاسه متهدجة ، يكاد يغرق في عرقهِ رغمًا عن مُكيف الهواء الذي يعمل على درجة (٢٢°)، نظر حولهِ فزعًا، وكأن عيناه تبحث عن شئ ما، وسرعان ما قاوم ذلك الألم المسيطر على عظامهِ ونهض ركضًا للخارج وهو ينادي بأعلى صوت لديه :
-سُــــلاف!… سُــــــلاف.
خرجت من غرفة الصغير مهرولة، أثر سماع صياحهِ الذي يُنبئ بأمرٍ خطير، حتى رأته يسرع نحوها والخوف يتقافذ من عيناه :
– في إيه يا حمزة؟؟. حصل إيه ؟؟.
ضمّها إليه في انفعالٍ غير مقصود، فـ استشعرت من نبضاته السريعة وأنفاسه المتقطعة هول الأمر.. مسحت على ظهرهِ بحنوٍ رقيق، ثم ربتت عليه وهي تسأل في خفوت :
– مالك ياحمـزة؟ قلقتني!.
بدأ يهدأ نسبيًا، مستعينًا بدفئها الذي تسلّط على بدنهِ فـ انبعثت إليه بعض الطمأنينة. صمتهِ دلّ على تحجر الكلمات في حلقهِ، فلم تُطيل الإلحاح، واكتفت بمتابعة تهدئتهِ إلى أن يستقر وضعهِ النفسي المتوتر، وبدا ذلك الأسلوب مؤثر معه حقًا، هو كان يحتاج الاستشعار بوجودها ليتلاشى ذلك الشعور المخيف الذي نتج عن الكابوس اللعين الذي رآه.
كُلنا نتمنى أن يعود الأموات بيننا، أن تعود إلينا بسماتهم ونحس أنفاسهم جوارنا ؛ لكن وضعه كان مختلف تمامًا، إنه لا يتمنى حتى رؤيته، لا يتمنى أن يعود من الموت ضمن الموتى الذي عادوا من قبل.. ليشمله قبره ويرعاه، وذلك يكفيه.
*************************************
كانت شوكتهِ تصطك بالطبق الخزفي دون أن ينتبه بذلك الصوت المزعج، وكيف له أن ينتبه وعقله مسافرًا لعالم آخر وكأنه انقطع عن الواقع!.. راقبته دون أن تشعره، فـ تضاعفت مخاوفها من تلك الحالة المفاجئة التي ظهرت عليه صبيحة اليوم، على الرغم من كون الأمس هو يوم فارق تمامًا في حياتهم.
تركت “سُلاف” صغيرها بين يدي المربية “أم علي” حتى انصرفت به، ثم التفتت إليه لتضع كفها على يدهِ برقةٍ انتشلتهُ من أوج شرودهِ؛ ثم قالت بنبرتها رزينة :
– مالك يا حمزة؟ إيه اللي حصل فجأة خلاك في الحالة دي!؟.
تهربت عيناه من النظر إليها كي لا ينفضح أمامها، ونظر إلى طعامهِ مُهيئًا لها إنه يتناوله :
– ولا حاجه، التفكير في المرحلة اللي داخل عليها في الشغل واخد كل تركيزي.
بالطبع لم تصدق كذبته المفضوحة للغاية، وقطبت جبينها بسخريةٍ مكتومة وهي تقول :
– شغل إيه!!.. مفيش حاجه في الشغل بتغلب معاك وانا عارفه ده كويس، في حاجه انت مخبيها عني!.
كاد يجيب بنفس أجوبته النافية، لولا دخول “زيدان” المفاجئ عليهما ليصيح بفظاظتهِ المعتادة :
– طب رد على تليفوناتي طالما سحلتني في شغلانه ما يعلم بيها إلا ربنا!.
نهض “حمزة” عن مقعده بشكل مفاجئ، وعيناه تبحث من حوله على هاتفه الذي لم يراه منذ مدة، ثم أردف قائلًا :
– تقريبًا نسيته في المكتب.
وزعت “سُلاف” أنظارها على كلاهما وهي تهتف بنبرة منفعلة :
– ممكن أفهم في إيه ولا لسه هتخبوا تاني!.
تنحى “حمزة” عن المائدة وهو يشير لرجلهٍ الغبيّ، والذي أكد بعفويته الغير مقبولة وجود أمرٍ ما يدسوه عنها :
– صدقيني شغل، كملي أكلك.. وانت تعالى ورايا.
مشى “زيدان” من خلفهِ وهو يبتسم لها بتلك البسمة السمجة، إلى أن اختفى كلاهما بداخل هذه الغرفة الكتومة التي تمنع وصول صوت الداخل للخارج. تسربت الشكوك المقلقة لنفسها، خاصة وأن علاقتهم الحديثة ما زالت في طور بناء الثقة، وغياب المصداقية الآن يبدد كل محاولاتها للأطمئنان معه. مازال غامضًا؛ وتحيط به تلك الهالة القاتمة التي تنخر في مشاعرها نخرًا، فـ باتت في حالٍ يجبرها على انتظار الأفصاح لها بما يحدث من حولهم، وإلا ستكون العواقب غير حميدة.
أوصد “حمزة” الباب جيدًا والتفت إليه يسأله في تلهفٍ :
– وصلت لحاجه؟؟.
تنهد “زيدان” بنفاذ صبر وهو يجيبه :
– ياباشا انا روحت المدافن بنفسي وقابلت التربي كمان، التربة مفتحتش من ساعة ما الباشا الكبير اندفن فيها، والراجل التربي كمان بيقول محدش هوب من الناحية دي.. مين بس اللي قالك إنه رجع من الموت!.
أبعد “حمزة” عيناه لينظر في الفراغ، خشية أن يرى أحد ذلك الشعور المرتعب يتراقص في وميض عيناه، ولكنه لم يستطع السيطرة على تلك الرعشه الخفيفة في نبرته :
– أنا حاسس بيه.. حاسس إنه حواليا شايفني وانا مش قادر أشوفه.
اعتقد “زيدان” أن ذلك من أثر الشعور بالفقد، وإنه يشتاق لوالده أو ماشابه، فـ تلوت شفتيه شاعرًا بالشفقة وهو يواسيه :
– الله يرحمه ويرحم أمواتنا، كلنا عايزين اللي راحوا يرجعوا، بس خلاص معادش ينفع وده قدر ربنا ولازم نـ…….
انفعل “حمزة” فجأة دون أن يشعر بنفسه، وصرخ في وجهه معترفًا بالحقيقة المخجلة :
– ولا عايزه يرجع ولا زفت.. أنا عايز أتأكد إنه مات بلا رجعة.
انفتحت عينا “زيدان” مدهوشًا، ولم يكن في وسعهِ إلا أن يحاول تهدئته :
– طب أهدى ياأبو البشوات مش كده صحتك.. اديني بس طرف الخيط وانا امشي وراه طوالي، رسيني انت على الحوار من أوله ولا هجيب أخره.
طرد “حمزة” زفيرًا حاميًا من صدرهِ، ثم صارحه بما يجول في صدرهِ :
– أنا محضرتش غُسل أبويا يا ابو زيد.. وجالي امبارح في الحلم كأنه وسطنا بالظبط.
– حلو.. إيه كمان؟.
عاد ينفعل مجددًا وهو يتابع سردهِ الموجز :
– مش حلو ولا حاجه، وجوده أكبر تهديد لحياتي إنها ترجع طبيعية وأعيش زي باقي الناس.. عشان كده لازم أتأكد إن الحلم اللي شوفته مالهوش علاقة بالواقع.
بدأ “زيدان” يجمع الخيوط بعضها ببعض، ليكوّن فهم تام بما يدور من حوله:
– آه.. عشان كده عايز تسيب البيت هنا وتاخد مُكنه (مكان) تانية؟.
– بالظبط.. كل المطلوب منك زي ما فهمتك، نثبت موته من ناحية، وندبر طريقة نبعد بيها انا وسُلاف وزين عشان لو اللي حاسس بيه صح نبقى في الأمان، وصلت؟.
– وصلت.
قالها وهي يمد له يده لمطالبته بالمزيد من النقود، فـ رمقه “حمزة” مستنكرًا وهو يهتف بـ :
– انت مش لسه واخد ٢٠ الاسبوع اللي فات!.
تذمر “زيدان” مفسرًا له سبب مطالبة الغير منتهية :
– ما هو ياباشا كله رايح في المصالح.. مش في أورطة رجالة مشغلهم ورايا ولامؤاخذة يعني!.
تأفف “حمزة” وهو يدور حول مكتبه ليفتح وحدة الأدراج، ثم أخرج حفنة من النقود تُقدر بعشرين ألف جنيهًا، وألقاها في يدهِ وهو يردف :
– آدي عشرين كمان.. يارب نخلص من ماسورة المصاريف دي!.
دخلت “سُلاف” دون سابق إنذار، ووزعت نظراتها الشكاكّة بينهما وهي تهتف بتهكم واضح :
– الأسرار خلصت ولا لسه في كمان؟!.
أشار له “حمزة” كي يتركهما بمفردهم، ثم دنى منها وهو يرسم تلك الإبتسامة المزيفة :
– صدقيني مش أسرار ولا حاجه، انا بس برتب لموضوع وكنت حابب أفاجئك بيه.
حاول إمالة عقلها عن التفكير بشأن حقيقة ما يحدث :
– إيه رأيك لو نسيب كل حاجه هنا ونسافر، حتى لو هنروح اليونان عند عمك.
قطبت جبينها في استغراب شديد، كيف حدث له ذلك التحول بين ليلة وضحاها؟، وما السبب العتيّ وراء تغيير رأيه حول الحياة في اليونان! ولماذا الآن تحديدًا قرر ذلك ؟ وما علاقة هذا بتغيره المفاجئ صباح اليوم؟.
ترآى له ذلك الغموض في عيناها، واستشف بسهولة إنها لا تقتنع طالما إنه يكذب. جعلت “سُلاف” من صمتها وهي تحدق فيه بتدقيقٍ وسيلة ضغط فعّالة عليه كي يتخلص من الهمّ الذي يُثقل حتى جفونهِ؛ لكنه تماسك بكل قوتهِ لئلا يفصح لها عن السبب الحقيقي وراء ما يقوم به من احتياطات للبعد عن محيط الخطر، وأجفل عيناه الفاضحة ليقول – وكأنه استسلم – :
– مش هقدر انسى حاجه طول مااحنا هنا، كل يوم أحلام وكوابيس، يسرا بتجيلي كل يوم في الحلم، مش قادر اتحمل أكتر من كده.
ساورتها مشاعر الشفقة عليه، فـ هي أيضًا لم تُشقى تمامًا، مازالت هناك ندوبًا تاركة أثر في روحها، مهما حاولت تغطيتها تراها وإن كانت مغمضة العينين. تنهدت “سُلاف” وكادت ترد على عرضهِ لولا إنه فاجئها بعرضٍ آخر :
– أو نروح ألمانيا تكملي العلاج هناك لحد ما نحدد معاد العملية.. واهو منه علاج ومنه فسحة، إيه رأيك ؟.
سيرة العلاج كانت سبب كافي لأن تختفي علامات الضيق من ملامحها، وبدأت الأشراقة تحلّ على وجهها وهي تتخيل مرة أخرى إنها ستصبح أم، وأن الأمل ما زال حيًا وقد عوضها الله عن سنوات الألم والحرمان. ابتسم “حمزة” تلقائيًا وهو يرى لمعان عيناها المتحمسة، وفهم على الفور إنها ستحبذ تلك الفكرة المثمرة، فلم يدّخر من وقته أكثر من ذلك، وبدأ بالفعل يتحرك لتنفيذ ما وافقت عليه :
– حالًا هتابع مواعيد الرحلات ونطلع في أقرب رحلة.
استوقفته قبيل أن يهمّ بالخروج، وقد أضحكها كونه تعلق بموافقتها التي لم تتفوه بها شفهيًا وإنما فهمها من نظرات عيناها :
– استنى بس، أنا عندي قضية بكرة و…..
– وانا كمان.. عندي قضية هقفلها على طول ولو خدت تأجيل هسلمها لحد من المكتب.. بسيطة.
بدت فكرة مقنعة بالنسبة لها، خاصة وإنها تتوق للسفر في أسرع وقت، للبدء في إجراءات تجهيزها للأمومة المنتظرة، والتي عاشت تحلم بها لعهودٍ مديدة. لم تقف في طريقهِ وإنما تركته يهرع من أمامها لكي يشرع في التنفيذ، وكل ما يحضر في ذهنها وأمام عيناها هي صورة لرضيعٍ من دمائها تحتضنه، فتشكلت ابتسامة عريضة على محياها هي تذكرت المرة الأولى التي حملت بها “زين”، واشتاقت على الفور لأن تضمه إلى صدرها الآن لتجدد ذلك الشعور، وسرعان ما ذهبت لتراه وتحقق رغبتها، حتى يأتي من يشاركه في حبها مشاركة عادلة ونزيهه.
*************************************
على غير عادتهِ لم يكن تفكيرهِ متمركزًا على القضية الأولى التي عمل عليها منذ عودتهِ لممارسة المحاماة، وإنما استحوذ على وعيهِ وإدراكهِ إعداد خطة المغادرة من هنا، أن يهجر وطنهِ هجرة قد تكون أبدية، في سبيل إنه يعيش معها حياة آمنه، ويُهيئ لطفله وسط خالي من الحروب والصراعات التي لطالما عاش هو فيها. انتبه “حمزة” مع صوت الحاجب وهو يناديه لدخول قاعة المحكمة، فـ أسرعت خطواتهِ من أجل إنهاء ذلك العمل الذي بقى له هنا، دون أن ينتبه لخصمهِ الذي استبقه بالدخول وأخذ مكانه في الأمام. نظر في ساعة يدهِ، وتلقائيًا التفتت رأسه يمينًا ينظر للمتهم القابع خلف السياج، فلمحت عيناه ملامحًا مألوفة له، وانخفض بصره كي يصطدم برؤيتها أمامه، هي بالفعل.. تجلس في محاذاتهِ مستعدة للمرافعة ضدهِ، وكأنها لم تكتفي بعد من مواجهتهِ. أجبرته على النهوض وترك مكانه ليذهب نحوها، وفي عيناه ذهولًا متشتتًا، جعله يقف أمامها للحظات دون أن ينبث كلمة واحدة، حتى قطعت عليه صمته الطويل ووقفت تحدثه بنفس ثقتها وثباتها الذي عرفها بهم :
– هتفضل باصصلي كتير ؟!.. الناس بدأت تبص علينا!.
– وصلتي للقضية دي ازاي؟.
ابتسامة ساخرة لوحت في الأفق، وهي تذّكره بكيانها الذي عاشت تدافع عنه، ومبادئها التي اختارت ألا تخونها أبدًا :
– أنا محامية يا حمزة لو كنت نسيت!.. دوري أوصل للقضية اللي أنا عايزاها، خصوصًا لو انت فيها.
كلمتها الأخيرة استرعت تحفظهِ، خاصةً وإنه اعتقد في بداية الأمر إنها لن تخوض أية مناوشات جديدة معه، ولن تكون ضده بعدما صار وضعهم مختلفًا عما سبق؛ لكن الوضع الراهن كان صادمًا له بعض الشئ. نظرت “سُلاف” من حولها لتلاحظ إنهم محط أعينٍ كثيرة، فـ تحركت من مكانها وهي تقول :
– خلينا نتكلم برا يا حمزة.
بالفعل لحق بها متحفزًا لسماع مبرراتها، بينما بداخله شعور يناقض ذلك الهدوء المرسوم على وجهه :
– هو أنا قولتلك إني هسيب شغلي!.
بدا حازمًا بعض الشئ وهو يرد على عبارتها التعجبية :
– على الأقل منقفش قدام بعض في المحاكم! انتي وضعك دلوقتي اختلف عن الأول.. مبقاش ينفع نناقر بعض زي الديوك.
حاولت التأثير عليه بقليل من الدلال دون أن تفرط فيه، كان كافيًا بالنسبة لها أن تُقلص المسافات بينهما بضعة خطوات لتضع يدها على صدرهِ وهي تقول :
– سيب القضية دي.. انت كمان وضعك اتغير وحياتك بتتغير، بقى عندك زوجة وابن لازم يكونوا في أولوياتك.
زوى ما بين حاجبيه وهو يقول مستنفرًا :
– إيه علاقة شغلي بحياتنا يا سُلاف!.
لم يروق لها عدم شعورهِ بفداحة ما يقوم به من تحايل على القانون وإهدار حق المظلوم في مقابل نصر الظالم طالما إنه الكارت الأعلى سعرًا، وصرحت بذلك دون أن تُجمّل الأمر :
– شغلك كله منعكس على حياتنا.. أنا عمري ما هقبل يكون جوزي أبو أولادي راجل ظالم، بينصر القوي عشان المظلوم ضعيف، بيدافع عن اللي هيدفع أكتر.. ظلمك للناس هنشوفه في عيالنا يا حمزة.
لم تكن كلماتها سامّة كما تعتقد؛ ولكنها كانت البذرة التي ستُنبت في قلبهِ سببًا يجعله يحيد عن طريق الظلام، حتى وإن كان الأمر شديد الصعوبة. بسمة آملة صعدت على ثغرهِ، وسألها بنبرة حملت تلميحًا واضحًا :
– عيالنا؟.
بزغت بهجتها هي أيضًا، وأومأت برأسها قليلًا وهي تؤكد :
– آه عيالنا.
گحبة مُسكن، خفّضت قليلًا من منسوب التوتر الناشب بينهما؛ لكنها لم تؤثر على قرارهِ قطعيًا، حيث كانت الشوائب الماضية تحول بينه وبين قرار خطير گهذا، فجعلته أكثر حيطة وتأنٍ :
– عمومًا حاجه زي اللي بتقوليها دي مش هتتنفذ في يوم وليلة.. أنا بنيت أسمي في وقت طويل جدًا و….
أمسكت يدهِ لتنبعث إليه حرارتها، ثم هتفت بتحمسٍ :
– كل حاجه سهلة لو انت عايز.. صدقني يا حمزة، أنت لازم تطهر نفسك.
لم يبدو لها وكأنه اقتنع تمامًا، فالأمر بالفعل يحتاج لمجهود مضاعف ووقت طويل، استطاعت أن ترى ذلك في عيناه التي لم تبرح النظر إليها، فـ تخلّت عن دلالها الذي مارسته عليه لبضع دقائق، وعاد وجهها يكتسب ملامحه الحازمة وهي تقول في بأسٍ وقوة :
– يبقى مش هتخلص مني ولا من وقفتي قصادك في المحاكم، وعمري ما هقبل أشوفك ماشي في الغلط وأسيبك مكمل فيه.. أنا وراك وراك لحد ما ترجع عن كل اللي عملته واللي لسه بتعمله.
مرت من أمامه مرورًا شامخًا، ذكّرهُ بأولى لياليهما حينما كانت گالمنشار الذي ظهر في حياتهِ فجأة؛ فـ انفلقت نصفين. لا يدري أيّ شعور يحسهُ الآن، أهو الفخر بها أم الضيق لأنها مازالت محتفظة بطباعها العنيدة؟.. لكن المؤكد إنه أحس بطمأنينة تغمرهُ، رغمًا عن كل الأحداث التي تحيط به، وقادتهُ أقدامهِ إلى داخل قاعة المحكمة مرة أخرى، كي تبدأ معركة جديدة بينهما، معركة قد يترك لها حرية الفوز بها عن طيب خاطر، لعلها تكون أول خطواتهِ للرجوع إلى الصواب.
************************************
عدة أيام مرت، كان مرورًا ثقيلًا عليه طالما إنه لم يصل للحقيقة بعد؛ لكنه لم يكن متفرغًا طيلة هذه الليالي، فقد أعدّ عُدته لكي يغادر مع طفلهِ وزوجته إلى بلاد الألمان، حيث هجرة طويلة من مصر، لا يعلم هل سيعود منها أم يقضي بقية حياته هناك.
الكل في عمل دؤوب، ترتيبات وتجهيزات السفر استغرقت وقت أكثر من المعتاد، لما تضمنتهُ التحضيرات من بعض القرارات التي اتُخذت بخصوص مكاتب المحاماة التي ما زالت باقية، والتي سيتولى “نضال” إدارتها بعد أن اتفق الثنائي على ذلك. جلس “حمزة” أمام مكتبه يجمع بضعة أوراق أخيرة كانت متبقية في خزنته، ثم أغلق حقيبته الجلدية الشخصية بعدما فرغ من ذلك، ونظر على يمينهِ ليرى الصغير “زين” جالسًا بداخل (شيالة الأطفال المتحركة) يداعب الألعاب الصغيرة التي تصدر صوتًا يساعد على زيادة الأنتباه لدى الأطفال، ابتسم “حمزة” بوداعةٍ وهو يقترب منه، حملهُ وقبّل وجنته قبل أن يقول :
– مستعد لرحلتنا الطويلة يا بطل؟
دخلت “سُلاف” وهي في عجلةٍ من أمرها، وبسطت أمامه يديها وهي تقول :
– اديني الولد عشان أم على تغيرله وتأكله قبل ما تتحرك يا حمزة.
ناولها إياه وهو يدنو منها متعمدًا، حتى لمست شفاه جبينها، فـ ألصقهما بجلدها للحظات طويلة وهي مستسلمة تمامًا له، ثم ابتعد قليلًا بعدما ترك الصغير بين أحضانها، وضمها هي إليه وهو يسألها :
– خلصتي؟.
– آه.. فاضل زين يجهز بس.
خرج معها للخارج وما زالت يداه على كتفها مصطحبًا إياها :
– فاضل ٣ ساعات بس على الطيارة يدوب نتحرك.
– متقلقش.
من خلف الستار الشفاف الذي يحجب الرؤية عن الخارج استطاع أن يلمح أحدهم، فـ أزاح الستار ليرى “نضال” يتقدم بخطواتهِ الثابتة، فـ التفت إليها ليقول :
– طب أطلعي انتي خلصي فوق وانا هخلص مع نضال قبل ما نتحرك.
استبقته للأعلى، بينما تحرك هو للخارج كي يقابله في منتصف الطريق. لم تعد العلاقة بينهما كما كانت، ولن تعود؛ ولكن على الأقل تقبل “حمزة” حقيقة أن “نضال” كان يثأر لنفسه، وأن ذلك لم يطغى أبدًا على خصالهِ الإنسانية التي يحملها بداخله، لم يدّعي الفضيلة والضمير، بل كانوا متأصلين فيه بحق؛ ولذلك كان الأجدر بتلك المهام التي كلفه بها بعد تفكير طويل ومتردد.
صافحه “حمزة” ببعض الفتور الذي واجهه “نضال” بمشاعر باردة أيضًا، ثم أردف بـ :
– خلاص خلصتوا؟.
– آه.. هيلبسوا زين ونتحرك.
تركوا المصافحة وسار كل منهما جوار الآخر بمحاذاة المنزل، ليبدأ “نضال” بالتعبير عما بداخله:
– أنا عارف إنك مش واثق فيا زي الأول ومش هطلب منك ده، لكن لما سُلاف عرفتني إنك أ….
قاطعه “حمزة” بجدية وهو يقول :
– أنا فاهم كل اللي هتقوله، بس الشغل شغل يا نضال.. أنا منكرش إنك محامي كُفء وإنك كنت جزء كبير من وصله المكتب القديم، ومش شاكك في مهارتك إنك هتقدر تدير المكتب وانا غايب.. وكل ده بمقابل طبعًا، يعني business is business.. مش هتكلم معاك في عواطفي ومشاعري ناحيتك، صحيح اللي اتكسر بينا مش قليل، لكن ده ميمنعش إني ممكن اشتغل معاك وانا مطمن.
توقف “حمزة” عن السير والتفت إليه ليقول :
– وكفايه إن اللي ضمناك سُلاف.
أخرج “حمزة” ورقة مطوية من جيب بدلتهِ الرمادية الأنيقة، وناوله إياه وهو يقول :
– ده توكيل بالأدارة زي ما طلبت، وأنا هباشر معاك كل حاجه لحد ما نرجع.
تفحص “نضال” الورقة بتمعن، ثم أومأ برأسه وهو يقول :
– تمام.
لم يقوَ على إخفاء الشوق الذي يحرقه، وقالها دون قصدٍ أو تعمد :
– خلي بالك من سُلاف يا حمزة.
ثم عاد يصحح عباراته مستكملًا :
– دي أمانة عم مصطفى ليا لما عرف إني راجع مصر.
لم تحمل تعبيرات “حمزة” أي إيماءات واضحة، غموض يغلب عليه گالعادة، وصاحب ذلك بسمة طفيفة لم ترتفع لسفح وجهه، مشيحًا بوجهه في الإتجاه الآخر وهو يقول :
– متقلقش، محدش بيوصي حد على نفسه يانضال.
هضم “نضال” كلمته بسرعة، وتصنّع إنه لم يبالي، بينما الحقيقة إنه گالرجل الذي ضمّ في قبضتهِ جمرة من نار، وهو يبتسم كأن لم يكن شيئًا، ممرًا ما قيل لكي يركز على المهام الصعبة المنوط بها، من أجل عيني الفتاة التي وثقت به وضمنته ورشحته لتلك الوظيفة، كي لا يخذلها على الأقل.
*************************************
يجلس في ساحة الأنتظار برفقة زوجته وطفله، ولم يشعر بالأمان بعد، شئ ما يعكر صفو حياته ويجعله قلقًا متوترًا أغلب الوقت، حتى في لحظات (الهروب) كما أسماها، يخشى أن تقع فيها الوقائع. كان كابوسًا لعينًا ولكنه تسبب في إيقاف حياته بشئ جزئي. كل ذلك وهو تحت ملاحظة “سُلاف” التي لم تمرر أي حدث مما تراه، بل تحفظ جميعهم في ذهنها لحين يأتي الوقت المناسب الذي تسأل فيه ما الذي قلب حياته رأسًا على عقب وجعله لا يراها ولا طفلها -حتى إن أدعى عكس ذلك-.
رنين هاتفه كان گقطرة المياة في فم ظمآن يكاد يموت لهثًا وهو يبحث عن الماء، أجاب على الفور وهو ينظر من حوله :
– إنت فين؟.. طب جايلك.
نهضت “سُلاف” عن مكانها وقد فاض بها الكيل :
– رايح فين واحنا في المطار؟؟.. انا لازم أفهم في إيه بالظبط.
– دقيقتين بالظبط وهقولك كل حاجه، استنيني هنا دقيقتين.
تركها ومضى حيث ينتظره “زيدان” ومعه الخبر الفاصل الذي طالت الليالي وهو ينتظره، ركض ركض المستغيث، ركض الفارّ من الوحوش الضارية، حتى بلغ “زيدان” بالفعل، وسأله لاهثًا :
– فين التقرير اللي معاك بسرعة.
ناوله إياه لكي يراه بأم عينه، قرأه بإمعان وتركيز وتفحيص، حتى أتاه اليقين بصدق النتيجة…
*عودة بالوقت للسابق*
شمله الطبيب بنظرات متوجسة، فقد كان في حالٍ لا يرثى له، حتى لم ينتبه إنه مبعثرًا ملوثًا بالغبار والتراب، إلى أن لفت انتباهه الطبيب وهو يسأله :
– إيه اللي مبهدلك كده ياأستاذ حمزة؟ هدومك كلها تراب!.
خطف “حمزة” نظرة سريعة لحالهِ، ونفض عن نفسه طبقات الغبار المتراكمة على ملابسهِ وهو يقول :
– ولا حاجه، أنا جيبتلك اللي طلبته.
أخرج “حمزة” كيس شفاف من جيبه يحمل خصلة شعر، وناوله إياه وهو يقول :
– دي العينة اللي عايزك تطابقها؟.
تقريبًا استنبط الطبيب سبب الحالة المزرية التي بدا عليها؛ فأخذ منه العينة وهو يسأله بترقبٍ :
– انت نزلت المدفن بنفسك؟ ؟.
– مكنش ينفع أثق في حد تاني يعمل ده.. المهم النتيجة تطلع في أسرع وقت.
دس الطبيب العينة في جيبه وهو يطمئنه :
– متقلقش، أقل من أسبوع ان شاء الله.
فاجئه “حمزة” قائلًا :
– هما يومين يادكتور، ولو عايز فلوس تاني معنديش مانع.
حك الطبيب جبينه وقد زادت مطامعهِ عقب ذلك العرض السخي :
– مش حكاية فلوس بس أصل…..
أخرج “حمزة” ورقة مطوية من جيبه الخلفي، ثم دسها في يد الطبيب وهو يهتف بجدية :
– آدي شيك بعشرين وفي واحد زيه لما النتيجة تطلع.. يعني ضعف اللي اتفقنا عليه، بس تنجز.
تحسس الطبيب ملمس (الشيك النقدي) بين أصابعه وهو يقول :
– اللي تؤمر بيه.
*عودة للوقت الحالي*
أطلق “حمزة” تنهيدة مرتاحة، گمن أتى من سفرٍ بعيد ولم يذق للنوم طعم، لم يهنأ على طعام، لم يشعر بالسكينة والراحة سوى الآن. أخيرًا سقط عن كاهله ذلك الحمل اللعين الذي أرقهُ وحرّم عليه النوم، وكأنه أصبح في خفة الريشة التي ترغب في الطيران مع سرب الهواء المنعش. طوى “حمزة” الورقة ليضعها في جيبهِ، وبعفوية شديدة كان يعانق “زيدان” وهو يناديه بأسمه لأول مرة :
– خلاص يا زيدان كل حاجه خلصت، أنا مش مصدق نفسي.
تفاعل “زيدان” معه وربت بخشونةٍ على ظهرهِ وهو يهتف بـ :
– يافرج الله.. ده انا كنت خلاص صدقت إنك منحوس والله.
ابتعد عنه” حمزة” وهو ينظر إليه في استنكار، فـ عاد “زيدان” خطوتين للوراء ليُعيد المسافة إلى طبيعتها قائلًا :
– خلاص انت لسه هتبحلق فيا!.. انا كده عملت معاك آخر موقف رجولة قبل ما تهج وتسافر.. وعنينا ليك ياأبو البشوات لو عايز أي حاجه.
ابتسم “حمزة” وقد فهم ما يرمي إليه، فطمأنه بأن جزاء سعيهِ لن يضيع هباءًا :
– هتلاقيني سايب لك الكاش مع نضال، وخليك معاه لو في حاجه احتاجك فيها.
– عنينا.
التفت “حمزة” تاركًا إياه على عجالة وبدون أن يطيل الحديث، حيث اشتاق لزوجته العزيزة التي أحس وكأنه لم يراها من زمن بعيد، افتقدها بحق. أقبل عليها وعلى وجهه إشراقة لم تراها منذ مدة، فتنغض جبينها وهي تراقب قدومه نحوها، حتى فاجئها بعناقٍ حار، يذيب الجليد ويُوقظ الرغبات الناعسة، يؤجج الأشواق ويُحييّ الرماد، ضمّها في رغبةٍ جامحة وهو يهمس بأذنيها :
– ده انتي وحشاني بشكل!.. ميتوصفش.
أحست برنين المشاعر يُدندن بين ضلوعها، وهي التي بدأت تستاء من تغير حالته الأيام الماضية، حتى خالجتها الشكوك.. وأول ما سألت عنه هو سبب كل ذلك :
– إيه اللي حصل قلب حالك كده؟؟.
ابتعد قليلًا وهو يسألها في مرح :
– عمرك شوفتي ميت بيصحى!؟.
مجرد السؤال جعلها ترتاب وهي تجيب :
– بسم الله الرحمن الرحيم.. لأ.
وضع يده على كتفها ودفع باليد الأخرى عربة الصغير “زين” وهو يقول :
– أنا بقى شوفت.. كان حتة كابوس إنما إيه! ضرب في نافوخي لحد ما ورم.. ما علينا، الوقت طويل في الطيارة وهحكيلك على كل حاجه، بس المهم دلوقتي إنك وحشاني بطريقة مش طبيعية، بأمانة.
كانت تستمع لثرثرتهِ وهي في غاية الإستمتاع، مجرد عودتهِ طبيعيًا أحيا فيها الروح من جديد، وجعلها تصغي إليه بسعادة منتشية :
– وفي حاجات كتير عايز احكيهالك، حاجات من زمان أوي.. عايز أتكلم كتير، وعايز أحلم ببكرة.. أقولك خلينا في بكرة أحسن.. بكرة هتاخدي علاجك ونظبط التحاليل عشان نحدد معاد العملية، بعدها هتبقي أحلي مامي، وهنجيب لزين أخ تاني وتالت ورابع، أنا عايز عيال كتير يعوضوني ويكونوا حواليا.
وضعت ذراعها حول خصرهِ وهم يسيران معًا ببطءٍ جميل، وهي تستمع لحديثهِ متخيلة معه كل تلك الأحلام الجميلة وكأنها تراها حيّة أمامها وليست مجرد أحلام، ومازال هو يثرثر ويثرثر :
– أنا كمان مش هستحمل العيشة برا، إحنا نخلص ونرجع على طول، لسه في قضايا هنقف قدام بعض فيها وفي معارك هندخلها سوا، السكة طـويلة قدامنـا ياسُـلاف..
ثم ضمها إليه ومازالت قيد بذراعهِ الذي يطوق كتفيها :
– السكة هتكون طـويلـة أوي.. أوعـدك…..
—تـمــت بــحــمـد الله—

لقراءة الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى