رواية أغصان الزيتون الفصل الخامس والخمسون 55 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء الخامس والخمسون
رواية أغصان الزيتون البارت الخامس والخمسون
رواية أغصان الزيتون الحلقة الخامسة والخمسون
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل الخامس والخمسون :-
الجُـزء الثـاني.
“الوصول ليس بداية الخيط، قد يجرّك بداية الخيط لوصول أعمق مما تتصور، حينها قد تبلُغ الحقيقة.”
____________________________________
كان مُستجيبًا لنداء “راغب” گالصاروخ المُنطلق، فور أن أبلغه بوصولهِ للمكان المتوقع لإيجاد “يسرا”. تغاضى عن تعبهِ وسهى عن الطبيب الذي سيأتي خصيصًا لمداوة جرحهِ وتطهيره، أو الأبلغ إنه استهان بالأمر بتعمدٍ في سبيل اللحاق بـ أثر “يُسرا” الذي بين أيديهم. خرج على عجلةٍ من أمرهِ وسرعان ما توجه للعنوان المنشود، لئلا يخسر دقيقة واحدة قد يصل فيها لشقيقتهِ.
—جانب آخر—
وقع المفاجأة على إدراكهِ جعل تصرفاته متخبطة، وزرع داخلهِ الشعور بالقلق والتوتر خشية إصابتها بمكروهٍ وهي في بيتهِ. وأمر الوصول إلى طبيب يستطيع المجئ إليه لحلّ الأمر من جذورهِ كان أمرًا مستحيلًا، في ظل علاقاتهِ الضعيفة هُنا بالقاهرة، فـ اضطر مُجبرًا أن على التعامل مع الوضع بنفسهِ قبيل أن يخسرها نهائيًا، وحينئذٍ لن يجد له شفيعًا منقذًا. خرج “حاتم” مهرولًا من بوابة المنزل وهو يحملها على كتفهِ، وبإستخدام المفتاح الإلكتروني فتح باب السيارة الخلفي لكي يضعها هناك، بحذرٍ وحرص شديدين أنزلها عن كتفهِ ووضعها في السيارة، وأغلق عليها بعجلٍ لـ يسعى راكضًا نحو مقعد القائد. نظر “حاتم” إليها عبر المرآة الأمامية، وبدأ بتشغيل السيارة وهو يغمغم بـ سخطٍ :
– مش هسيبك تموتي وتجريني وراكي لسكة نهايتها معروفة.. لولا إن أبوكي عارف بوجودك معايا أنا كنت سيبتك تقابلي وجه كريم وخلصنا القصة البايخة دي بنهاية على الأقل ترضيني!.
خرج متجاوزًا تلك المنطقة الأمنية، وعيناه تتجول يمينًا ويسارًا دون تركيز، حتى لم يعي بعد إنه مُراقب، وأن “حمزة” بدأ مطاردتهِ فور خروجه من تلك المنطقة الأمنية شديدة الحراسة، بعدما لمحهُ يعبر من أمامهِ بمحض الصدفة، فـ جرجرته تلك الصدفة لأعتاب شقيقتهِ المفقودة بدون أن يعلم. تعمّد “حمزة” لفت انتباهه، فـ أرعش أضاءة السيارة الأمامية لـ تتسلط على المرآة فـ تزعجه، فـ اضطر “حاتم” للنظر خلفه كي يتفاجأ بـ “حمزة”، لـ يزداد الأمر سوءًا وتعقيدًا. ضغط “حمزة” على الأبواق بدون توقف، حاول أن يتجاوزه ويقطع طريقه؛ لكن “حاتم” راوغه جيدًا، فلم يستطع “حمزة” تخطيهِ بأي شكل، واستمر سباق السرعة بينهما لبعض الوقت، حتى بدأت السيارات المحيطة تُبدي انزعاجها عن طريق إطلاق السباب اللاذع والكلمات البذيئة لكلاهما، حتى أن أحدهم حاول الصدام مع سيارة “حمزة”، فـ اضطر الأخير لتسديد ضربة خلفية له أطاحت بأحد كشافات الإضاءة، ثم تجاوزه و مرّ للحاق بـ “حاتم”. دقائق طويلة من المطاردة المتواصلة، حتى بلغ “حمزة” سيارته، فـ فتح الزجاج الجانبي وصاح به :
– أقف يا حاتم، أقف لو كنت راجل!.
تجاهله “حاتم” وكل تركيزهِ على الخروج من ذلك الحصار، وإلا قامت معركة هو ليس مستعدًا لها الآن، في ظل الحال الذي وقعت فيه “يسرا”؛ لكن “حمزة” لم يوليه تلك الفرصة، ولم يجعله ينفلت من بين يديه بعدما عثر عليه أخيرًا، ولذلك اقتتل في سبيل الإمساك به.
وقفت سيارة “حاتم” أمام بوابة المشفى، ودعس على الأبواق حتى آتاه أحد أفراد الأمن هرعًا، فـ صرخ “حاتم” في وجههِ :
– عايز كرسي بسرعة معايا حالة.. أنــجـز.
ترجل “حاتم” عن مقعدهِ وفتح الباب الخلفي ريثما يأتي المسعفين بمقعد متحرك، تلك اللحظة تحديدًا كان “حمزة” قد وصل خلفه بالظبط، ووقعت أنظارهِ على شقيقتهِ وهي محمولة بين ذراعي زوجها اللعين قبل أن يضعها على المقعد، فـ هوى قلبهِ إلى ساقيهِ، وهرع نحوهم دون التفكير في أمرٍ سوى سلامة “يسرا” :
– يُـــســرا!!.
فقد صوابهِ في تلك اللحظة، وبدا گالثور الهائج الذي رأى شارة حمراء، فـ توهجت دوافعهِ العدوانية الشرسة، ولم يشعر بنفسهِ إلا وقد سدد لـ “حاتم” لكمةٍ قاسيةٍ في أنفهِ، ثم ركل ركبتهِ ركلةٍ جعلتهُ ينحى قبل أن يتماسك كي لا يسقط أرضًا، تدخل أفراد الأمن بينهما لفضّ الإشتباك قبل أن يبدأ، فـ توعده “حمزة” وعيدًا مُنذرًا :
– لسه لينا حــساب يا حـاتـم، لــسـه.
وأسرع يدخل من خلف “يسرا” التي قادوها لقسم الطوارئ، كي يطمئن أولًا على حالتها المريبة، قبل أن يُصدر العقاب المناسب له، جِراء ما قام به في حق شقيقتهِ الوحيدة.
**************************************
لساعات طويلة كانت تعمل على ذلك الملف، لم تهتم بحالتها التي لم تستقر بعد، أو لوضعها المتألم الصعب، بل كرسّت كل جهدها لدراسة القضية وثغراتها دراسةٍ دقيقة، لكي تدخل السباق بكامل قوتها السابقة، وتكتب لنفسها الفوز كما كانت دائمًا. دونت “سُلاف” بعد الملاحظات التي ستحتاج إليها في القضية، ثم تركت كل شئ ونهضت عن مكانها، بعدما شعرت بوخزاتٍ موجعة موضع جرحها، فـ استعانت بالمُسكنات گعادتها لإسكات الألم المميت، وتحاملت على نفسها من أجل ألا تُظهر تألمها. مددت “سُلاف” جسدها على الفراش، وأرخت كتفها تمامًا كي تنسى ما تشعر به، وكل ما يجول في رأسها هي صورتهِ، وهو يُطلق ثلاثة رصاصات متتالية أصابت إحداهن كتفها. كلما تكرر المشهد أمامها كلما حقدت عليه أكثر، وما شغل ذهنها مؤخرًا كيف سينتهي بهم الحال. هي قررت منذ اليوم الأول الإنتصار عليه، ماذا لو لم يتقبل انتصارها؟ ماذا سيفعل بها وبطفلهِ؟. كلها أشياء كانت تشغل ذهنها مُسبقًا؛ لكن الآن استحوذت على تفكيرها أكثر.
**************************************
العديد من المكالمات المتتالية التي لم تجدي نفعًا، وفي النهاية فشل “حمزة” في التواصل مع “زيدان” أو الوصول إليه بأي شكل، فـ بقى الأمر گاللُقمة في حلقهِ يُصعب عليه ابتلاعها. رفع عينه عن الهاتف ليرى “حاتم” على بُعد أمتار عديدة منه، فـ تولدت بداخلهِ طاقة هائلة للهجوم عليه والفتك به، إلا إنه أصرف عقلهِ عن تلك الفكرة حاليًا، وأجفل عيناه وهو يتمتم بخفوت :
– مش هعديهالك يا حاتم!.. بس صبرك عليا.
أتى “راغب” من خلفهِ بغتةً، باديًا عليه التنفس بصعوبة، كأنه دخل إلى هنا ركضًا. أرخى عضلات وجهه المتصلبة قليلًا، ثم هتف بـ :
– معلش اتأخرت عليك.. إيه اللي حصل طمني؟.
صوته الحاد كان خير دليل على أن الأمر جدي للغاية، خاصة مع تعابيرهِ التي حملت بعض الغموض :
– معرفش، أنا لقيته جاي بيها على المستشفى ومن ساعتها وهي جوه.
تمالك “راغب” نفسهِ كي لا يسأل بفضول عن حالها، وأحاد الموضوع لأمر آخر كي لا يثير الشعور بالريبة تجاهه :
– طب وعمي عرف؟.. كلمته؟.
أشاح “حمزة” بوجهه بعيدًا دون أن يجيب، فـ تفهم “راغب” نقمتهِ المبررة على والده و :
– فهمت، خلاص هكلمه أنا.
لم يتحمل “حمزة” صبرًا أكثر من ذلك، خاصة وأن جرحهِ يأكل في نفسهِ، فـ سارع بدخول قسم الطوارئ وهو يصيح بإنفعال لم يقوَ على التحكم فيه :
– أنا عايز أفهم في إيه بالظبط!!.. بقالي ساعة برا ومحدش مطمني على حاجه!.
وقف أمامه اثنين من أطباء القسم، بينما الممرضة تقوم بتغيير المحلول الملحي المعلق في وريدها بمحلول آخر، وشرح أحدهم الوضع بـ إيجاز :
– طب اهدا يا أستاذ إحنا لسه بنقيم الوضع.. بس مبدأيًا أقدر أقولك إنها مكلتش ولا شربت لمدة يومين!، ده عملها انخفاض في نسبة السكر في الدم وكمان انخفاض في ضغط الدم، ده أدّى لحالة الإغماء اللي هي فيها.
تطوع الطبيب الآخر وسأله :
– هي المدام كانت فين يا فندم قبل ما تجيبوها على هنا؟؟.
لم يتعجب “حمزة” من سؤاله، بل فطن لوجود شائبة دفعت الطبيب لطرح سؤال گهذا :
– مع جوزها.
لم يخفي الطبيب الأمر، وصرح بحقيقة وضعها وما كشفت عنه الفحوصات :
– المدام متعرضة للضرب وده ظاهر على جسمها، طبعًا ده وضع عائلي و……
لم يدعه “حمزة” ينهي كلماته، وقاطعه آمرًا :
– أنا عايز تقرير شامل بحالتها، وتذكر فيه إنها اتعرضت للضرب واتحرمت من الأكل والشرب يومين كاملين.
أخرج “حمزة” حافظتهِ الخاصة واستعان ببطاقته الشخصية وهو يبرر مطلبه :
– أنا أخوها الشقيق ومن حقي أطلب التقرير ده.
تبادل كلا الطبيبن النظر لبعضهما البعض، ثم تدخل أحدهم قائلًا :
– تسجيل الدخول كان بأسم جوزها والتقرير هيتسلم له هو..إلا لو في وضع قانوني آ……
تجاهله “حمزة” تمامًا ولم يتحمل سماع باقي جملته :
– خلاص خلاص، أنا هعرف آخد التقرير بطريقتي.. وطالما تم دخول الحالة يبقى انقلوها لغرفة منفصلة.. دلوقتي.
خرج “حمزة” وعيناه تتجولان في الوسط من حوله بحثًا عن “حاتم”؛ لكنه لم يجده بأي مكان، حينما كان “راغب” يتحادث مع “صلاح” عبر الهاتف. تأجج “حمزة” گالقدر المغلي، وسحب الهاتف منه على حين غُرة ليهتف بـ :
– بنتك اتضربت واتمنع عنها الأكل والشرب يومين، إيه رأيك في جوز بنتك النبيل؟؟.
كانت مفاجأة صادمة بالنسبة لـ “راغب”، أشعلت جذوة الكراهيه التي يكنّها لـ “حاتم” أضعافًا مُضاعفة، وتجلّت صدمتهِ على وجهه بشكلٍ لم يتمكن من التحكم فيه. لمعت عيناه الناظرة نحو الباب، وأراد لو يطلّ عليها طلّة واحدة، لو ينظر إليها نظرةٍ يرضي بها حاله؛ لكنه عاجزًا عن رؤيتها حتى. نفض “راغب” هلاوسه المسيطرة على تفكيره، ونظر حيال “حمزة” متابعًا تطورات الإحتدام الناشب بينه وبين والدهِ، حتى قرر “حمزة” قرارهِ النهائي :
– هي كلمة واحدة ومش هرجع فيها، كل اللي عايزاه يسرا هعمله ليها، حتى لو وصلت إني أكون المحامي بتاعها وأخلعها من ابن الـ ×××× هعمل ده.. نقطة.
وأغلق المكالمة بعدما أنهى عبارته بـ كلمة “نقطة”، ثم هتف بـ :
– الحاجه الوحيدة العدلة اللي عملتها الـ×××× دي من ساعة ما دخلت حياتي إنها ساندت يسرا.
قطب “راغب” جبينه مستدعيًا تعابير عدم الفهم وهو يقول :
– قصدك مين!.. سُلاف؟.
نفخ “حمزة” وهو يتمتم بإنزعاج شديد :
– هو في غيرها!!.
نظر “حمزة” لهاتفهِ فلم يجد إشعارًا يستدل منه على فتح “زيدان” للهاتف، فـ تأفف بتذمرٍ و :
– حتى الحيوان اللي شغال معايا مختفي من امبارح مش عارف هو فين ولا عارف أوصله!.
تنهد “راغب” معلنًا استياءهِ من تواجد “زيدان” :
– مش عارف انت واثق فيه بأمارة إيه!.
فـ قطع عليه “حمزة” الحديث بشأن هذا الأمر قائلًا :
– مش ثقة ولا حاجه، أنا محتاج واحد زيه معايا اليومين دول.. المهم دلوقتي، إحنا عايزين تقرير بحالة يسرا عشان هحرر محضر ضد الـ ×××× ده.
ربت “راغب” على كتفه و :
– سيب الحكاية دي عليا.. المهم تطمن على أختك الأول.
***************************************
أصبح الصباح عليه وهو بالمشفى، لم يبرح مكانه أو يترك شقيقته للحظة، حتى في حال وصول والديه للمشفى لم يغادر إلا مع طلوع الصباح. عاد لمنزله من أجل تبديل ثيابه قبل بدء يوم جديد، اليوم سيكون لديه الكثير من الأعمال، أولها كيف سيثأر لـ “يسرا” ويقتنص حقها من “حاتم”، فالأمر لم يعد مجرد شجار بين زوجين، بل تعدى ذلك حتى أسفر عن نتائج لم ترضيه على الإطلاق.
ترك “حمزة” نفسه على الفراش لكي يضمد له الطبيب جراحه، وتحمّل ذلك الألم الذي يستشعره حينما كان الطبيب يحذره :
– بالشكل ده جرحك هيتفتح قبل ما يلم ياأستاذ حمزة، وساعتها ولا أنا ولا أي حد تاني مسؤول غيرك..الضغط على الجرح ده أكبر غلط.
أطبق “حمزة” جفونه وحاول أن يكون هادئًا مستكينًا، رغم أن الحروب في رأسه تدور دورانًا مخيفًا، وكل حرب تصارع الأخرى في أولويتها لديه، حتى أُصيب بصداع نصفي آلامه بليغة.
أنهي الطبيب تضميدهِ وجمع أشيائهِ، فـ نهض “حمزة” عن نومته حينما رنّ هاتفه بأسم “زيدان”، فـ أسرع يجيب عليه وقد بدأ الإنفعال يعاوده من جديد :
– انت فـين يا بنـي آدم من أول امبارح!!.
عقد “حمزة” حاحبيه وهو يخطو نحو النافذة ليكشف عنها الستار، فوجده بالفعل ينتظر بالأسفل، أشار “حمزة” للحارس كي يتركه يعبر للداخل، ثم أغلق المكالمة والتفت ليجد الطبيب ما زال هناك :
– شكرًا يا دكتور، متقلقش أنا هنفذ التعليمات بالحرف.
– ياريت.
خرج “حمزة” برفقته للخارج وهبط معه الدرج، ثم فتح له الباب ليجد “زيدان” أمامه بإبتسامة ساطعة في وجهه :
– صباح الفل ياأبو البشوات.
خرج الطبيب من جانبه، بينما كانت تعابير “حمزة” الحانقة بادية بوضوح على وجهه وهو يهتف بـ :
– انت اختفيت فين وليه!!؟.
– الله، مش قولتلي تأب وتغطس وتعرف هي فين؟؟.
تأهبت حواس “حمزة” وتحفزت كل عضلاته وهو يسأله :
– عرفت مكانها؟؟.
– لأ لسه، بس عرفت قصتها.
سحبه “حمزة” للداخل بشئ من القوة، فـ لفت انتباه “زيدان” تلك العضلات المتكدسة في بطنهِ العارية، وأكتافهِ المُعضلة الرياضية الرشيقة، لـ تبزغ ابتسامة معجبة على ثغره وهو يمدحه :
– ما شاء الله عيني باردة عليك يعني يا باشا، ده مجهود ذاتي ولا حُقن؟؟.
نظر “حمزة” لجسدهِ وعيناه تنطق بنظراتٍ مستنكرة، ثم صاح بعصبية تملكت منه :
– يا عم مش وقته الكلام الزفت ده!!.. ما تجيب من الآخر مش شايفني واصل لآخري إزاي.
ربت “زيدان” على ذراعه بهدوء فاتر، ثم جذبه للداخل وهو يهتف ببرود مثير للأعصاب :
– لأ أهدا معايا كده، ده انا جاي أبرد نارك النهاردة.. فاكر لما قولتلك أبو البت دي كان مشارك اسم النبي حارسه أبوك؟.
– آه.
جلس “حمزة” برفقته في البهو، حينما كان “زيدان” يتابع سردهِ المشوّق، والذي لم يتحمله “حمزة” لدقيقة واحدة :
– أسألني بقى أبوها مات إزاي؟.
ركل “حمزة” الطاولة بساقهِ، فـ وقعت وسقط كل ما عليها وهو يصيح بزئيرٍ مهتاج :
– يــــوه، هي فـزورة يا أبـو زيـد؟.. خلصني أنا مش مستحمل!.
أحس “زيدان” بأن الوضع غير محتمل أي إطالة منه، فـ قرر إفراغ جوفه بالكامل من كل ما يحتويه :
– خلاص خلاص متعصبش نفسك.. أبوها مات في حريق المصنع إياه هو وأمها كمان.
تغضن جبين “حمزة” بعد تلك المعلومة الفارقة و :
– حريق!!.
– آه.. بعيد عنك ماتوا محروقين.. وخد التقيلة بقى ، البت إياها اتولدت يوم الحريق ده.
ارتفع حاحبيه مذهولًا من كمّ الصدمات، في نفس الوقت الذي كان عقله يحارب فيه للوصول إلى المشاهد المحفورة في ذهنه منذ سنواتٍ مديدة ولم يتذكرها بعد :
– إزاي؟؟.
– الست أمها كانت حامل فيها لما قامت الحريقة، وعقبال ما وصلت المستشفى كانت ماتت، وخرجوا البت من بطنها بمعجزة.
ازدرد “حمزة” ريقه وهو يسأل :
– طب وأبوها؟؟.. إسـماعيل زيِّان ؟؟.
تلوت شفتي “زيدان” آسفًا وهو يجيبه :
– مات قبل ما ينقلوه، ومات معاه عمال وموظفين ياما.. المشكلة بقى إن في حد أتهم الباشا أبوك في الحريق دي، بس هو طلع منها زي الشعرة من العجينة!.
نهض “حمزة” عن جلستهِ، وقد بدأ ذهنهِ ينفض الغبار عن ذاكرتهِ الصماء، كي يستعيد ذلك المشهد الذي كان شاهدًا عليه، حينما كان عمره أربعة عشر عامًا…
—عودة بالوقت للسابق—
بداخل تلك السيارة المصفوفة على بُعد مناسب من مسرح الأحداث. بقى ذلك الرجل الذي شارف على أوائل الأربعينات بسيارته، يراقب ما يحدث من خراب بأعينٍ شامتة منتصرة. لم يُبقى فرحتهِ بداخله، بل إنه أظهر ذلك وأعلنه بصراحة واضحة. إلتفت “صلاح القرشي” ينظر لولدهِ الجالس جواره، ثم بدأ يُعلمه أحد الدروس المستفادة مما يراه :
– شايف يا حمزة؟.. أخد الحق صانعة يابني لازم تتعلمها كويس.
سأل الصبي ذا الأربع عشر عامًا بفضول :
– ولو مش حقي يابابا؟؟.
شدد “صلاح” قبضتهِ على كتف ولده، وبرقت عيناه بشررٍ طاغية، وهو يردف مجيبًا :
– مفيش حاجه إسمها مش حقك، طالما اللي قدامك فكر ييجي عليك يبقى لك حق عنده، والحق ده لازم تجيبه.. مهما كانت الطريقة.
ثم عادت عينا “صلاح” تتعلق بالنيران المشتعلة أمامه، وهو يتابع بحقدٍ ملأ جوفهِ :
– حتى لو النار دي خدت معاها اللي وراها واللي قدامها.. زي ماانت شايف كده.. فاهمني ياحمزة ؟.
فأجاب “حمزة” بدون تفكير لوهله واحدة :
– فاهم يابابا.
تراقص إنعكاس النيران في عيني “حمزة” وهو يتطلع للحريق بفتورٍ شديد، گأن دماء أبيهِ السامّة تجري في عروقهِ الباردة. في كل مرة يتلقى الدرس جيدًا، وفي النهاية من المؤكد أن التلميذ سيتفوق على أستاذهِ.
—عودة للوقت الحالي—
لقد استعادت ذاكرته المشهد كاملًا، وتذكر أين رأى ذلك المصنع العتيق القديم من قبل. لقد حضر بنفسهِ واقعة الحريق كاملة وعاش تفاصيلها، والآن أصبح الأمر كأنه طازجًـا. إنها ليست صدفة عابرة ألقت بها في طريقهِ، وإنما حبكة محنكة وترتيب منضبط للغاية، لكي تصل “سُلاف” إلى هنا الآن. لم تبرد نار “حمزة”، بل اشتعلت لتوّها، نارًا جديدة شعورها مختلف تمامًا عن شعور الحيرة والعجز. صمت رهيب دام لبضعة دقائق، قطعها “حمزة” بسؤاله :
– مين اللي أتهم بابا في الموضوع؟؟.
– أخو المحروق، أقصد عمنا إسماعيل يعني.. أخوه مصطفى زيّان هو اللي بلغ.
نهض “زيدان” عن جلسته وهو يتابع :
– نسيت أقولك، أخوه ده كمان كان في المصنع وقتها، حتى رجله اتصابت وقطعوها.. وهو اللي استلم سُلاف من المستشفى كمان بصفته عمها الوحيد.
اتسعت عيناه حاملة وميضًا غريبًا، والتفت إليه يسأل ونظراته تتلألأ بلمعانٍ متحفز :
– وعمها ده ألاقيه فين دلوقتي؟؟؟…
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)