رواية أغصان الزيتون الفصل التاسع والثمانون 89 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء التاسع والثمانون
رواية أغصان الزيتون البارت التاسع والثمانون
رواية أغصان الزيتون الحلقة التاسعة والثمانون
||^ أغـصان الـزيتـون ^||
الفصل التاسع والثمانون :-
الجُـزء الثـاني.
“لعلّ أول خطوات الإصلاح، هي إنقاذ ما تبقى منِك.”
___________________________________
كان وصول “زين” مرتبطًا بعودة الروح لجسدها من جديد، ركضت ركضًا عشوائيًا حتى بلغت الباب وفتحته، لترى “زيدان” برفقة فتاة يبدو عليها الإنتماء لجنسية أجنبية وبين يديها الصغير، فـ اندفعت تأخذه منها كي تضمه لأحضانها وهي تهتف بعدائية :
– هـاتـي ابني.
ضمته برفقٍ وهي تدخل به سريعًا للداخل، حتى اختلت به في غرفتها وبدأت تُفرغ طاقة الخوف الشديد الذي عايشته في غيابه. قربتهُ لأنفها كي تشم رائحتهِ، ثم أغدقت عليه بقُبلاتها حتى انزعج الصغير وبدأت نهنهاتهِ المتضايقة، فـ ابتعدت “سُلاف” على الفور وهي تردف :
– خلاص خلاص متزعلش.
وبدأت تفحص ثيابهِ وحفاضتهِ وقد هدأت ثورتها قليلًا، وبالفعل بدأ الأمان يعاود سكن نفسها من جديد، وقد قررت أن لا تنفصل عنه ثانيةً ولو كان ثمن ذلك روحها، بعدما عاشت اختبار فقدانهِ.
**************************************
وصل “صلاح” للمكان المقصود في وقت قياسي، وفي داخلهِ حريقًا يكاد يتفحم الوسط كله بسببهِ. الآن سيرى قاتل ابنته ماثلًا أمامه، سيرى ذلك الجاحد الذي مثّل بجثمان ابنته فصل عنها رأسها بكل جحود وقسوة، أحس وكأنه يريد تعذيبهِ عذابًا شرسًا، يتمنى لو إنه يموت ولا يعيشه، قد يكون ذلك طيبًا لجرحهِ المفتوح، ولو أن نسيان ذلك من المستحيلات.
استقبله “عباس” على بوابة المنزل القديم بالأسفل، ورحبّ بحضوره مهللًا :
– ياألف أهلًا وسهلاً.. نورت حتتنا ياباشا والله.
لم يأبه “صلاح” بأي شئ، سوى سؤاله عن ذلك الملعون :
– هو فين؟.
– فوق مع رجالتي.. متقلقش إحنا ظبطناه ظبطة هتعجبك، ومش فاضل غير إنك تسمع منه الحقيقة بنفسك.
تجاوزهُ “صلاح” صاعدًا للأعلى، گالذي يصارع الدرج لينهيهِ في أقل وقت ممكن، حتى وجد أحد الأبواب المفتوحة فدخل مباشرة. وقف أحد الرجال لإستقباله بعدما ألقى صبابة سيجارتهِ أرضًا :
– أتفضل يا بيه.
ثم أشار له نحو الغرفة المعنية :
– هتلاقيه هنا.. لو محتاجنا معاك إننا تحت الخدمة.
فـ استبق “صلاح” الخطوات للداخل وهو يرفض تدخلهم الآن :
– لأ خليكم.
اقتحم الغرفة وأغلق الباب عليهما.. كانت فارغة ما عدا المقعد المعدني الذي يجلس عليه ذلك القاتل مكبلًا مربوطًا، باديًا عليه آثار الضرب المبرح، وبضعة أشياء لا تهم في شئ ملقاه يمينًا ويسارًا. دنى منه “صلاح” ونظر في عينيهِ اللاتي تورمت أثر الضرب، فـ اشتعل صدرهِ بتوهجٍ غاضب، وهو يسأله مباشرةً ودون التواء أو تطويل :
– مين اللي سلطك تقتل بنتي؟.. مين اللي قالك تقطع راسها؟.
تحشرج صوتهِ المبحوح أثر الصراخ، ونطق بصعوبةٍ بعدما تلقى الكثير من الضربات على فكهِ :
– مش عـا.. رف.
فصدح صوت “صلاح” وهو ينادي بأعلى صوته :
– عـــــبــاس!.
لحظات قليلة وكان “عباس” يدخل إليهم :
– أؤمرني ياباشا.
– مش قــولتـلي إنـه هيتـكلم!.
انفعل “عباس” وهو يدنو منه صائحًا :
– ما تتكلم ياض!.. ولا أخليك أنا تتكلم.
ولطمهُ لطمةٍ قوية ومهينة، قبل أن يتابع :
– وحياة مين خلقني وخلقك أنا ممكن أدفنك هنا حـي.. اشتري عمرك وانـطق.
كانت إيماءات جسدهِ المرتعشة تُنبئ بكمّ التعذيب الذي تلقاه، لاسيما ذلك الحرق الشديد على فخذيه وكأنه انسكب عليه ماء النار، فـ ذكّره “عباس” بتلك الجلسات المميتة التي تعرض إليها مُهددًا إياه بتكرارها مرة أخرى :
– عليا الحرام لو منطقتش لأكون سلخك كلك دلوقتي، وانت جربت بنفسك.
تشنج بدن “شعبان” وهو يحاول إثبات حديثه هاتفًا :
– مــعرفـش وحياة ربـي.. أنا نفذت وحـ… خدت فـلوسـ ـي ، مـعـ ــ ـر.. فش مين وليه.
هجم عليه “صلاح” وقبض على رقبته وهو يسأل بصوته الذي أشبه الزئير الغاضب :
– مين اللي اداك الأمر وحاسبك عليه.. مين اللي كلمك.
ازدرد “شعبان” ريقهِ وهو يجيب :
– معرفوش، راجـ.. راجل ، طول وعرض كـده.. حتى معرفـش أسمـ.. ـه إيه.
تركه “صلاح” وهو في أوج عصبيته، وفكر في الإستعانة بأي صور قد تجعله يتعرف على رأس الأفعى، فـ استخدم هاتفه وأول ما عرض عليه كانت صورة لـ “راغب”، وضعها أمام عينيه وسأله بحِدةٍ :
– هو ده؟؟
دقق “شعبان” أنظاره المشوشة في الصورة، والتي كانت أبعد ما يكون عن الحقيقي، فـ هزّ رأسه سلبًا وهو يجيب :
– لأ.
فـ بحث “صلاح” عن صورة أخرى لـ “حاتم”، وأشهرها أمامه وهو يكرر :
– ده؟.
لحظات من التدقيق الطويل، وقد أطال “شعبان” في تركيزه هذه المرة، فـ لكزهُ “عباس” بقوةٍ في رأسهِ صائحًا :
– ما تنطق ياض..
فـ نفى “شعبان” مرة أخرى :
– لأ.
تأفف “صلاح” وعقلهِ يبحث عن مشتبه فيه، حتى خُيّل إليه أن ذلك اللعين قد يكون كذابًا :
– عارف لو طلعت بتكذب عليا!!.. مش هتلحق تتشاهد على قبل ما تقابل ربنا.
آخر ما فكر فيه “صلاح” كان ولدهِ، رغم قناعتهِ الشديدة بأن “حمزة” بريئًا من دم شقيقتهِ؛ لكنهُ أراد رغم ذلك أن يُخرس شيطان رأسه الذي خيّل له ذلك، فـ عرض صورته عليه، وتسائل بتوجسٍ :
– و ده؟؟.. هو ؟؟.
حدق “شعبان” عيناه بصعوبة، ليرى جيدًا إن كان هو أم لا، ثم أردف بـ :
– لأ برضو.
انصرف “صلاح” من أمامه ليتجول من حوله وهو يغمغم :
– يعني إيــه؟؟.. لو مش حاتم أمال مين اللي عملها؟؟؟.
أخيرًا خطر على ذهنه “صادق”، هو أيضًا كان ضمن المشتبه فيهم، كونهِ تصرف بتسرعٍ وأنهى كل شئ بينهما خلال غمضة عين حتى يأخذ “حاتم” ويعاود لأرض الولايات المتحدة الأمريكية. لم يتردد “صلاح” في البحث عن صورة له عبر مُحرك البحث (Google)، حتى وجد صورة واضحة أثناء حضور أحد الإحتفالات الهامة، فـ أسرع خطاه نحوه مرة أخرى وعرض عليه الصورة :
– شوف ده، ركز كويس؟.
هزّ “شعبان” رأسه بالنفي وهو يقول :
– لأ، ده كبير.. اللي قابلني راجل شاب.
سحب “صلاح” هاتفه من أمام عينيه، فـ صاح “شعبان” بغتة ليقول :
– استنى يا سعاتك.
عاد “صلاح” يضع الصورة أمامه، وقد تحفز داخلهِ گالصياد الذي رأى فريسةٍ شهية على حين غرة، بينما هتف “شعبان” قائلًا :
– الراجل اللي وراه ده.. هو ده يا بيه.
نظر “صلاح” في الصورة وقام بتكبيرها قليلًا ليرى المُشار إليه، ليجده أحد مرافقين “صادق” والذي يرافقه دائمًا گظلهِ سواء في مصر أو أمريكا، فأعاد “صلاح” عرض الصورة عليه كي يتأكد من تلك المعلومة الفاصلة :
– بص كويس، متأكد إن هو ده اللي اتفق معاك.
فـ اختنق صوت “شعبان” مستغيثًا أن يرحموه :
– هو يا بيه أنا مش هتوه عنه، سايق عليكم النبي تسيبوني، أنا عبد المأمور معرفش حاجه.. آ….
قاطعه “صلاح” بغضبٍ أهوج تمكن من كل مداركهِ گالأخطبوط، حينما يغلف فريستهِ حتى يخنقها :
– أخــرس خـالـص.. هو برضو اللي طلب منك تفصل عنها راسها؟؟
ارتجفت شفتي “شعبان” وهو يهتف بـ :
– آه.. هو اللي اداني العنوان كمان اللي اسيب فيه الأمانة، ومن بعدها معرفش أي حاجه.
أحس بحرارةٍ تنبعث من جوفهِ، وكأن صدرهِ احترق جِراء الحقيقة التي كان يعلمها جيدًا؛ ولكن كان لسماعها منه تأثيرًا موجعًا. ضاقت عليه أضلعهِ، وكأن الدنيا قد قسمت له نصيبًا من القهر لن ينتهي، يتجدد كلما اعتقد إنه بدأ في النسيان، ليتذكر جريمته الشنعاء في حق ابنته الوحيدة، والتي أودت بهم في نهاية المطاف لأن تدفع “يسرا” ثمنها من عمرها. تهدجت أنفاس “صلاح” وهو يرمقهُ بإمتعاضٍ ما زال مكتومًا في حشاه، ثم انتقلت نظراتهِ نحو “عباس” وهو يردف :
– العين بالعين والسن بالسن يا عباس.
أومأ “عباس” برأسه مؤيدًا كلمات “صلاح” :
– صح يا باشا.
حاول “شعبان” استجداء رحمتهم، وقد تفشّى الرعب في أوصاله كافة :
– أبوس إيدك يابيه، أنا بنفذ بس يا بيه و….
لحظة واحدة وكان “عباس” يُشهر سلاحًا أبيض حاد النصل (مطوى)، وخلال لحظتين كان ينهي الأمر كله ويقطع له تذكرة لدار الآخرة، حتى لم يلحق “شعبان” التفوه بكلمة أخرى، حيث مزق السلاح عروق نحرهِ، ذبحهُ كما تُذبح الشاه في سحبة سكين واحدة، ليتنافر الدماء وتبدأ الروح في الإنسحاب من بين الأطراف. نفذ فيه “صلاح” قصاصًا رآه عادلًا، انتقامًا لابنته التي لاقت حتفها بنفس ذات الطريقة، ولم يكتفي بذبحهِ فحسب، بل شدد على قطع رقبته نهائيًا، وهدر صوتهِ المندفع آمرًا :
– تفصل راسه عن جسمه زي ما فصل راس بنتي بالظبط.
فلم يتردد “عباس” في ذلك، وبدأ فعليًا في تنفيذ باقي الحكم عليه :
– حالًا ياباشا.
***************************************
خرجت من دورة المياة بعدما حممتهُ، ثم دلفت لغرفتها كي تراه جالسًا فيها ينتظر منها العودة. حدجتهُ بشئ من النفور، ومازالت فعلتهِ مؤثرة على إدراكها بالكامل، ثم أشاحت بوجهها عنه وهي تهتف بـ :
– سيبني لوحدي أنا مش عايزة أشوفك.
فبادلها نفس التعبير على نقيض حقيقة ما يشعر به :
– ولا أنا.. بس بقى في حاجات مشتركة تجبرك تقبلي تشوفيني.
تركته “سُلاف” على الفراش، ووضعت عليه غِطاء يُدفئه وقالت :
– أسمع يا حمزة، أنا مبقاش ينفع أكون هنا بعد ما انت عرفت كل حاجه.. لازم أمشي، وهيكون ليك حق تشوف زين وقت ما تحب و….
استوقفها “حمزة” عن متابعة حديثها الأخرق ليقول في اعتراضٍ صريح :
– حيلك حيلك.. اللي بتكلمي عنه ده ابني من صلبي.. يبقى معاكي انتي بأمارة إيه؟.
اقتربت منه وهي تهتف بعصبيةٍ تجلّت على تعابير وجهها المتشنج :
– ابنك ده اللي كنت رافض الإعتراف بيه ومن الأول مكنتش عايزه.
لم يدخر وسعهِ “حمزة” في إظهار رغبتهِ الحقيقية بإحتضان “زين” ورعايتهِ، بل أظهر ذلك وبإصرارٍ عجيب :
– ودلوقتي ربنا بعتهولي يعوضني بيه اللي خسرته.. أروح انا سايبه كده بسهولة!.. ده بُعدك.
احتقنت معالم وجهه وهو يدنو منها أكثر، وسألها بصرامةٍ :
– كل ده عشان عايزة تكملي لعب بالنار مش كده؟؟.
– لأ.. خلاص أنا مش عايزة منك حاجه، وكل اللي بينك وبيني هي ساحة المحكمة، غير كده كل حاجه انتهت.
لاحظ إنها تتحدث عنه بصيغة الفرد، فـ تشكك كونها تحرره وحده، ولهذا سألها بتوجسٍ :
– وأبويا ؟!.
ظهرت الضغينة في عيناها، وكأن الحقد قد ينبعث منهما وهي تجيبه بصراحة مطلقة :
– ده موضوع ملكش دعوة بيه.. أنا مش هسيب صلاح غير لما يصفي حسابه ليا.
– تبقي فهمتيني غلط.. أنا مكنتش بنهي حربك ضدي.. الحرب دي كلها هتقف هنا وده أفضل عرض أقدر اقدمهولك.
ابتسمت “سُلاف” بسخريةٍ، وهي تذكرهُ بأمرٍ غاب عن عقله :
– انت فاهم غلط ياحمزة.. أنا مش لوحدي، أنا ورايا عيلة زيان كلها، العيلة اللي اتساوت بالأرض بسبب أبوك.
كان الرد صادمًا، فاجئها حتى عجزت عن الكلام :
– مش عايز غيرك منهم.. أبعدي عن الحرب دي انتي وابني وأنا راضي أواجه أي حد تاني.
صمتت لحظات، تحاول استيعاب إنه يستثنيها عن عائلتها، حتى تابع هو :
– وجودك معايا هيحل حاجات كتير أوي.
أبعدت عيناها عن النظر إليه، بعد أن استشعرت أمرًا مريبًا فيها، كأنها بدأت تتأثر به أو ما شابه، وحتى أنفاسها بدأت تضطرب وتهذي. خطت للخلف خطوتين، أولتهُ ظهرها كي تهرب من ترددها الأرعن ذلك، ولضمان إنهاء الحوار معه في هذا الموضوع، اتجهت لمطلبها الأساسي الآن :
– أنا عايزة أمشي من هنا، عايزة أرجع لبيت ابني.
ظنت نفسها ستكون أمام مجادلة طويلة ومملة حتى تحصل على رغبتها؛ فكان الرد عليها مُدهشًا قليلًا :
– جهزي نفسك وجهزي زين عشان نمشي، من غير ما كلابك يعرفوا.
وانتقلت خطواتهِ نحو الخروج وهو ينادي :
– زيدان.
خرج “حمزة” بحثًا عنها فلم يكن بالصالة، وحتى غرفة الإستقبال كانت فارغة، فـ عبر الردهه ليبحث عنه إذ استمعت آذانه صوت التلفاز، فرآه جالسًا يشاهد التلفاز أثناء تناول الفاكهة. زفر “حمزة” بحنقٍ وهتف بنبرته المنزعجة :
– انت بتعمل إيه يابني آدم.
لم ينظر حتى إليه وهو يجيب بغير اكتراث :
– الماتش ده مهم أوي يا ابو البشوات، يارب بس ناخد الدوري وتبقى جبرت.
– قوم خلينا نمشي من هنا.. أنجـز.
تأفف “زيدان” ساخطًا، والتفتت رأسه ينظر إليه وهو يرجوه :
– طب استنى الشوط يخلص وحياة أبوك ياشيخ.
زجره “حمزة” بإحتقانٍ و :
– شوط إيــه وزفـت إيه؟ ؟.. انت فاضي للكلام ده.
نفخ “زيدان” وهو ينهض عن جلسته، وبدأ في جمع الفاكهة بداخل كيس واحد وهو يغمغم :
– أهو ده اللي خدته من شغلي مع القاهروية، ما كنت ملك في بلدي!.
ثم مرّ من جانبه وهو يقول :
– أنا خدت شويه الفاكهة دي لزوم التسالي يعني في الطريق وكده.. انت عارف إني محتاج فيتامينات.
تقلصت تعابير “حمزة” وهو ينظر إليه من أعلاه لأسفله :
– هو انت عيل صغير عشان أدورله على القيم الغذائية اللي تفيده!.
– متشتغلش بالك انت بيا ياباشا انا واخد بالي من نفسي وبدور كويس.
– ماهو باين!.. انت زدت عن وزنك الطبيعي ييجي ١٠ كيلو من ساعة ما عرفتك.
ابتعد “زيدان” عن مرمى بصره وهو يتمتم بخفوت :
– شكلها كده الواحد مش هيسلم من القرّ ده!!.. استرها علينا يـارب.
**************************************
بقيت خطوات قليلة على الوصول للمنزل، استطاع “حمزة” من خلالها رؤية الطريق أمامه، فترآى له “عِبيد” واقفًا أمام البوابة بالرغم من ظُلمة الأجواء بعدما كسى الليل كُل ركن وزاوية. نفخ “حمزة” مضجرًا وهو يهتف متذمرًا :
– الكلب بتاعك واقف برا ليه؟؟.. مش قولت مش عايز حد منهم قدام البيت!؟.
كانت عيناها تنظر لوضعٍ آخر، قد لفت انتباهها واسترعى بالغ حنقها :
– ولا أنا عايزة أشوف أبوك ولا عايزاه ييجي هنا.
بالفعل انتبه” حمزة” لوجود سيارة والده قبيل المنزل بعدة سنتيمترات، وهو جالس بداخلها، فتملكتّ الريبة صدرهِ، ودارت التخمينات حول بعضها البعض في رأسه، وكلها أسوأ من بعضها البعض. ترجل “حمزة” من السيارة وهو يوجه أوامرهِ لـ “زيدان” :
– أنزل طلع الحاجة دي فوق يا ابو زيد.
فتح “حمزة” الباب لها وهي حاملة “زين” بين ذراعيها، فترجلت على مهلٍ ومرت من أمامه وهو يقول :
– نيمي الولد وتعالي أوضة المكتب بعدها عشان عايزك.
لم تُجب عليه، ودلفت للداخل حتى واجهت “عِبيد” في طريقها، فأردفت بـ :
– تعالى معايا يا عِبيد.
تناول منها الصغير كي يحمله عنها قليلًا وهو يقول :
– هاتيه شويه.
ومشى بجوارها وهو يتمتم :
– في حاجات كتير حصلت اليومين اللي فاتوا لازم تعرفيها.
ودخل معها من أجل نقل كافة الأخبار الهامة إليها، بينما كان “حمزة” يجلس في سيارة والدهِ جوار مقعد القيادة. لاحظ تعابير التأهب على وجهه، وخطوطهِ التعبيرية الفاضحة قد أفشت كثيرًا، فسأله ولده مباشرة :
– في إيه يا بابا؟. شكلك مش طبيعي.
كانت نبرتهِ خَشِنة أجشة وهو يفسر له :
– لقيته يا حمزة، لقيت الحيوان اللي دبح بنتي.
تحفزت حواس “حمزة” بغتة، وانتصب في جلسته وهو يسأل بتلهفٍ :
– هو فين يابابا؟.. بعتله حد ولا لسه؟؟.
وكأن تعابير الإنتشاء قد ارتسمت على ملامحه، وهو يُريه بنفسه صورة “شعبان” وهو قتيـلًا مذبـوحًا، فـ اقشعر بدن “حمزة” فور رؤيته، وأطبق جفونهِ لحظتين حتى يستوعب فاجعة ما يراه، في النهاية هذه روح وأهدرت. فتح “حمزة” عيناه وخطف نظرة سريعة للصورة على هاتف والده قبل أن يردف :
– إنت اللي عملت كده؟.
فسّر له “صلاح” بعض التفاصيل دون إطالة :
– عباس خلص كل حاجه وخد التمن.. كده نص حق يسرا رجع وفاضل النص التاني.
فهم “حمزة” إلى ما يرمي والدهِ، فسأله بفضول :
– مين اللي زق عليها الحيوان ده؟.
فأجاب “صلاح” والغلّ الشديد يفوح من صوتهِ :
– صادق وابنه.
تفاقمت مشاعر البغض في نفسهِ، و وسوس له شيطان نفسهِ بأن قتل القاتل حق مشروع له، وقتل المُحرض حق واجب عليه، وقرأ تلك الرغبة في عيني والدهِ أيضًا، حتى إنه استشعر بأن “صلاح” قد أعدّ كل شئ ولم يقف فارغًا حتى دقيقة واحدة :
– هنسافر أمتى ؟؟
اتسعت ابتسامة “صلاح” المتباهية به، بعدما فهم على الفور بأن أبيه خطط وبدأ في التنفيذ أيضًا :
– بكرة بعد الضهر هنكون في الطيارة، التذاكر التأشيرة وكله جاهز، بس حضر باسبورك وسيب الباقي عليا، خلاص مبقاش فاضل غير أيام عشان نرجع حقنا كله.
لم ينسى “صلاح” التلميح حول ما يخص “سُلاف” وعائلتها، ولم يؤجل ذلك بل أعلنهُ صراحةً :
– وبعدها يبقى خلصنا من الهمّ ده، وأفضى لبنت زيّان وابن عمها وكل اللي ساندينها.
تغير لون وجهه، حتى إنه أبعد عيناه عن والده وهو يهتف بـ :
– مش وقته، خلينا نرجع من المشوار ده الأول.. إحنا رايحين للعقرب جوه جحرهُ.
واستعد ليترجل عن السيارة وهو يقول :
– هعدي عليك الصبح بدري.
صفق باب السيارة دون أن ينتبه، أن نظرات “صلاح” المتشككة فيه تراقبه، حتى لم يسمع همهمتهِ الخافتة :
– يا خوفي منك يا حمزة!.. حالك ووجودك مع الـ ×××× مش مريحني.. وأنا مش هسيب الحوار ده من غير جذر نهائي.
**************************************
تلألأ بريق الحماسة في عينيها، بعدما علمت بالكارثة التي تورط فيها “صلاح”، والتي ستنهيه دون أن يمسّ الأمر طرفهم :
– يعني معانا اللي يثبت إن صلاح هو اللي قتل شعبان؟؟.
– معانا، ووجودك هنا بقت مسألة وقت مش أكتر.
ابتهج صدرها وانشرح بسعادةٍ لم تستشعرها منذ وقت طويل، ما أن أحست بنهاية الطريق تقترب منها. سينتهي كابوس الإنتقام الذي أخذ منها سنوات طويلة، لتعيش كما كانت تتمنى دومًا، بهويتها وأسمها الحقيقين، بعيدًا عن كل هذا الدنس، وفي نقطةٍ ما، خطر “حمزة” على بالها، وانبثقت صورته أمام عينيها، فلم تتردد كي تسأل :
– وحمزة؟؟.. مكنش له دور في اللي حصل؟.
ارتاب “عِبيد” قليلًا من سؤالها، ورغم ذلك أجابها :
– لحد دلوقتي لأ، بس طالما القرشي مسافر بتذكرتين يبقى منهم واحدة للمحروس.
اتشع صدرها بالتوتر، وقفزت تلك التعابير على وجهها فورًا، رغم محاولتها الغير مجدية للسيطرة على انفعالاتها، وقبل أن ينفضح أمرها بالكامل كانت تبعث به ليكون بعيدًا عنها في هذه اللحظة :
– أنا عايزة أم علي، محتجاها ضروري.. خليها تيجي هنا الصبح بدري يا عِبيد.
كان الشك في أمرها شيئًا بديهيًا، ولم يواري عنها شكوكهِ الوليدة :
– مالك يا سُلاف؟.. فيكي حاجه مش طبيعية!.
لم تخفي عنه شيئًا، وإنما أجلت المواجهة معه لوقتٍ لاحق :
– بعدين يا عِبيد، هفهمك بعدين.
أومأ “عِبيد” رأسهِ متفهمًا، وغادر غرفتها كي يلبي مطالبها في عجالة، بينما اختلت هي بنفسها تُدبر الأمر في رأسها، وقد ساقها عقلها لفكرة مجنونة، فكرة ستقلب الموازين كلها رأسًا على عقب، ولن يبقى شيئًا على حاله بعدها. ستتكلف كثيرًا من أجل خطوة گهذه؛ لكن ضميرها الحيّ أجبرها على إنقاذ ما يمكن إنقاذه من بقايا إنسان، إنسان من الممكن إعادة تأهيله.
****************************************
كل المؤشرات الحيوية تُنبئ بوشك الدخول في مراحل متأخرة للغاية، قد يصعب بعدها السيطرة على الموقف. اجتهدت الممرضة كي تعيد حالة نبضها للوضع الطبيعي؛ لكن هذا الأمر كان غاية في الصعوبة. أحست وكأنها تفقد المريضة، وإنها قد تتورط في التقصير المهني إن أصاب “أسما” أية مضاعفات تودي بها للتهلكة، فـ أصرت على الخادم أن يحاول التواصل مع ذويها ومن هم أصحاب القرار، من أجل الإسراع في نقلها للمشفى قبل أن يتطور الوضع عن تلك الشاكلة، ولكن باءت محاولات “عطا” بالفشل أيضًا، ولم يستطيع بأي الشكل الوصول لـ “صلاح” أو “حمزة”.
أبعد “عطا” الهاتف عن أذنه للمرة السادسة على التوالي، وتأفف بضجر وهو يردف :
– مش عارف، الباشا الكبير تليفونه مقفول وحمزة باشا تليفونه مبيردش.. أعمل ايه!.
توترت الممرضة وهي تنظر لـ “أسما” الراقدة على الفراش، ثم هتفت بتشنجٍ منفعل :
– اللي بيحصل ده نتيجته الوحيدة سكتة دماغية، لازم ننقلها المستشفى.
انفعل “عطا” عليها وهو يبرئ نفسه من المسؤولية بالكامل :
– يعني اعمل إيه أكتر من كده يا ست.. مش عارف أوصل لحد خالص.
نظر إليها “عطا” بنظراتٍ مشفقة قبل أن يقول :
– مبدهاش بقى.. أنا هروح لأستاذ حمزة بنفسي.
وأسرع بخطواته للخروج متابعًا :
– ده أسلم حل.
**************************************
كان يضبّ بعض الأغراض الخفيفة التي قد يحتاج إليها في رحلتهِ القصيرة، حينما دخلت “سُلاف” إليه ممسكة بمشروبها الأساسي الذي لا تستغنى عنه، لتقول في جديةٍ :
– قولت لأبوك إني مش عايزاه ييجي هنا تاني؟.
تأفف “حمزة” بإنزعاج وتصنّع كأنه لم يستمع إليها، فـ تابعت “سُلاف” قائلة :
– غريبة.. النهاردة كانت جلسة مهمة في قضية الناس الصعايدة اللي كنت ماسكها!.. ليه مروحتش؟.
التفتت رأسه كي ينظر إليها، وأردف ببعض من الحِدة :
– وده بقى قالهولك الراجل بتاعك ولا مين؟.
تعمدت إثارة نزعة الكِبر بداخله، فتلاعبت على أوتارٍ ستكون حساسة بالنسبة إليه :
– كنت عارفه إنك هتفكر في الموضوع مرة تانية بعد كلامنا.. ودي بداية كويسة.
بتر “حمزة” خطوتين كانتا يفصلان بينهما، وأخذ المشروب من بين يديها ليبدأ في الإرتشاف منه حتى أنهى منتصفه، ثم قال بلهجة اعتراض على تحليلها لموقفه :
– أنا مبرجعش في خطوة خدتها، كل الحكاية إني مكنتش فاضي أتابع قضية مهمة زي دي.. ومش مستعد أغامر بأسمي لمجرد إني معنديش الرفاهية إني أتابع بنفسي.
ابتسمت من أجل استفزاز هدوءهِ، وقالت بصوت بدا رقيقًا عذبًا، على عكس طبيعة صوتها في الأحوال العادية :
– آه طبعًا ماانا عارفه، انت هتعرفني على حمزة القرشي النهاردة!.
أحس خمولًا يسري في أوصالهِ، وكأنه أرهق نفسه بما يكفي اليوم وبذل مجهودًا مضاعفًا، حتى لم يجد شغفًا لمتابعة الحوار معها، فـ أعاد لها كأسها وعاد نحو حقيبته وهو يقول :
– أنا مش فاضي أسمع مرافعتك دلوقتي، سيبيني لوحدي.
انحنى ووضع قميصًا قطنيًا بداخل الحقيبة، فـ دارت رأسه وأصابه الدوّار، تشوشت رؤيته، وثقل وزنهِ أضعافًا مضاعفة، وقبل أن يسقط أرضًا كان يجلس على حافة الفراش وهو يردف بخفوت :
– الضغط مش مظبوط!.. ناديلي زيدان.
تركت “سُلاف” كأس الماء بالليمون على منضدة الزينة، وخطت نحوه وهي تقول بصوتها الرخيم :
– مفيش داعي، دلوقتي هترتاح خالص.
قطب جبينهِ في دهشةٍ وقد بدأت رأسه تترنح بتثاقلٍ :
– في حاجه آ… مش آ….
حتى لسانه أصبح ثقيلًا، فـ حان وقت تدخلها كي تضبط وضعيته على الأقل، وقبل أن يرتمي جسدهِ على الفراش كانت تسند رأسه بيديها وتجبره على التمدد فوق الفراش وهي تقول :
– أهدا وأنا هفكر بالنيابة عنك.. انت دلوقتي مش محتاج غير إنك تمام وتشبع نوم.
بالفعل استسلم “حمزة” كليًا للخِدر القوي الذي بدأ ضعيفًا ثم سيطر على كافة حواسه حتى غاص في نومٍ غير إرادي، فـ حملت “سُلاف” حقيبته وأبعدتها عن الفراش، ثم رفعت ساقيه كي يتمدد بالكامل، ووضعت عليه غطاء ناعم ثقيل. لحظات من النظر لإستكانتهِ، قبل أن تتخذ جوارهِ مجلسًا لها، ثم همست بالقرب من أذنه :
– المرة دي هنقذك يا حمزة.. مش هسيبك تمشي ورا صلاح، عشان صلاح خلاص مشى في سكة اللي يروح ومش راجع، أنا اللي هختارلك، المرة دي هتفضل هنا جمبي، آ.. جـمـبنـا…
***************************************
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)