رواية أغصان الزيتون الفصل التاسع والثلاثون 39 بقلم ياسمين عادل
رواية أغصان الزيتون الجزء التاسع والثلاثون
رواية أغصان الزيتون البارت التاسع والثلاثون
رواية أغصان الزيتون الحلقة التاسعة والثلاثون
“هُناك طير لو حاولت اصطيادهِ، ستكون أنت أول وجبة يفترسها.”
____________________________________
أول غرفة وطأتها أقدامهِ غرفتها، دخل إليها مندفعًا گالثور الهائج، ونظر عن يمينهِ وعن شمالهِ بنظرات مختطفة، فـ لم يجد أثرًا هنا أو هناك يدل على عودتها. فتح خزانة الملابس فوجد أشياء تخصها وحقيبة صغيرة بها العديد من طفله الرضيع. صفع الخزانة ونظر نحو منضدة الزينة ليجد فرشاة الشعر وقنينة طلاء للأظافر ذات لون نبيذي قاتم. زفر أنفاسهِ متذمرًا، ووقف بمنتصف الغرفة يفكر مليًا، كيف سيصل إلى مكانها؟!. لابد وأن يستعين ببعض صلاتهِ لكي يتمكن من الحصول على معلومة بشأنها، وحينما وافتهُ الفكرة كان يسعى فورًا للتنفيذ. استخدم سماعة الأذن اللاسلكية في الاتصال بأحد المخضرمين في المرور، ثم مشى بإتجاه النافذة وهو ينتظر ردّ الطرف الآخر. نظر عبر النافذة المُطلة على المسبح، وذمّ شفتيه قبل أن ينطق فجأة :
– باشـا.. أزي الحال.. طب الحمد لله.. أنا محتاجك في موضوع كده.. عربية عايز أعرف آخر مكان لقطها الردار كان فين.
ابتسم ابتسامةٍ خفيفة، وهو ينهي الحديث معه :
– هبعتلك بياناتها على الواتساب حالًا.. تسلملي يا غالي.
استمع “حمزة” لصوت تكسير مفاجئ، وتهشيم لأشياء يبدو إنها زجاجية، مما دفعه للخروج مهرولًا للحاق بمصدر الصوت، وإذ بصراخٍ وصياح يأتي من غرفة والدتهِ، فـ قطع الطريق ركضًا من ردهه لأخرى، حتى وصل إليها أخيرًا، ليرى “عطا” واقفًا أمام الباب بعجزٍ، لا يستطيع الدخول لها حتى لا يواجه نتائج غير محمودة. دلف “حمزة” ليرى تلك المهزلة من حوله، وقد تبعثر كل شئ، و “أسما” تبدو في حالٍ مريب ومضطرب، عيناها عالقة بالفراغ، وحتى أن شعرها بدا فوضويًا من فرط حركتها العشوائية. توتر “حمزة” من هيئتها تلك والتي لا تنم عن الخير أبدًا، فـ أغلق الباب كي لا يطّلع الخادم على حديثهم، وهمّ نحوها يسأل بقلقٍ :
– في إيه ياماما؟؟.. إيه اللي حصل خلاكي توصلي للحالة دي فجأة.
رفعت “أسما” أنظارها نحوهِ شيئًا فـ شيئًا، گمن تحاول الإستفاقة من صدمة شديدة التأثير، فـ انفعل “حمزة” غير قادر تحمّل المزيد من الصبر وهو في تلك الحالة :
– ما تكلمي يا ماما!!؟.
هاتفها الملقى على الفراش كان يحمل جواب سؤاله، نظرت صوبه عسى أن يفهم ولدها عجزها عن التحدث، فـ استوعب “حمزة” الأمر بسرعة وفحص هاتفها بالفعل، ليجد ذلك المنشور اللعين، والذي تعدت نسبة مشاهدتهِ النصف مليون تقريبًا، خلال ساعتين فقط. مشهد مُصور لوالدته بداخل ذلك المطعم، حينما اكتشفت ضياع بطاقات الدفع خاصتها، ويعلوه تعليقًا سخيفًا لجذب رواد التواصل الإجتماعي على مشاهدة المقطع، ومن ثم تعليقات المشاهدين المتنمرة والسخيفة، وحمل بعضها إهانات لشخصها أيضًا. تأجج غضبهِ وتضاعف لعشرات الأضعاف، ولم يتحمل رؤية المشهد كاملًا؛ لكنه لاحظ رقم المشاركات الضخم، مما يؤكد أن الكثيرين قد شاهدوه. أمرًا جعل الدماء تندفع في رأسهِ حتى أصابته بالسخونة المؤلمة، كأن مطرقة مدببة تضرب أسفل رأسهِ مسببة صداع شديد القوة، أفقدهُ التركيز والإستيعاب، وحتى عيناه تغممت بسحابةٍ سوداء حجبت عنه؛ لكن الشئ الوحيد الذي بقى لامعًا أمام عينهِ كأنها نجمة وحيدة وسط سماء مُعتمة هي “سُلاف”.. “سُلاف” المتسببة بكل كارثة أصابتهم منذ اليوم الأول لظهورها، والمستفيدة الوحيدة من زعزعة عائلتهِ لأسباب لا يعلمها حتى الآن. لا يدري ما الذي يجب عليه فعلهِ معها، ما الخطوة التي يجب عليه أن يخطوها لكي ينهي ذلك الحصار اللعين من تلك التافهه – من وجهة نظرهِ -؟! والتي تلاعبت بأفراد عائلة القُرشي بدون أدنى حدود!.
*************************************
جلجلت ضحكتها، وأشرق وجهها الذي لمع أسفل آشعة الشمس البرّاقة بعد تلقيها تلك الأخبار السعيدة كلها واحدة تليها الأخرى. نثرت مياه البحر بأقدامها الحافية في بهجةٍ وسعادة، ثم هتفت بـ :
– يعني صلاح لا أكل ولا شرب وراح اشترى بيت جديد!.. كويس، يبقى فهم إن عاجلًا أو آجلًا هطرده هو أهل بيته كلهم برا بيت إبني.
نزعت “سُلاف” نظراتها الشمسية وهي تسأله :
– خلصت توثيق العقد يا عِبيد؟.
– كل حاجه خلصت والبيت بقى بأسم زين رسميًا.. ودلوقتي زمان الڤيديو إياه انتشر في كل حته والناس كلها شافت الفضيحة.
برقت عيناها بوميضٍ متحفز، وتلألأت تعابير الشماتة على وجهها وهي تتشفّى بفضيحة “أسما” :
– أحسن ، تستاهل.. محدش قالها تدخل نفسها في حسابات مش ليها من الأول!.. يمكن ده يعلمها إن مش كل الطير اللي ينفع تصيدهُ، في طير لو حاولت تصطاده هتكون إنت أول فريسة يفترسها.
ابتعدت “سُلاف” عن البحر عائدة لمكانها، وأسفل الشمسية الضخمة التي تُظلل على المقاعد الممتدة جلست بإسترخاءٍ :
– تفتكر حمزة بيعمل إيه دلوقتي؟.
جلس “عِبيد” بالمقعد المجاور وهو يُخمن :
– بيدور عليكي.. مش بعيد يكون عرف إحنا فين.
أرخت “سُلاف” ظهرها للخلف، وأغمضت عيناها بإستسلام للجو الممتع اللطيف وهي تقول :
– مش مهم.. خليه يعرف، بس خلينا نخلص مشوارنا الأول، كلم الناس وبلغهم إننا هنكون هناك آخر النهار.
– أعتبريه حصل.
– جانب آخر –
دوّن “حمزة” كل المعلومات التي حصل عليها في ورقة صغيرة، وسعى لإنهاء المكالمة بأسرع وقت ممكن :
– تسلم يا غالي.
لم يهتم “راغب” كثيرًا بتلك الجلبة التي تحدث من حوله، الأهم الذي أتى من أجله هو التحدث بشأن “يسرا”، أو التلميح على الأقل بإهتمامهِ بها؛ لكن الوضع الذي يراه غير مريح بالمرة، مما أعجزه عن التحدث بشأن أي شئ. تأفف “راغب” منزعجًا وهو يقول :
– شكلك مشغول، أنا هبقى أجيلك بعدين.
وضع “حمزة” رابطة العنق خاصته دون أن يربطها، ثم تناول سترته وهو يقول :
– طلعت من البيت على المطار ومن هناك طارت على مرسى مطروح الـو ×××.. عملت كل ده وراحت تستجم، ده أنا هطربقها على دماغ اللي خلفوها.
تغضن جبين “راغب” بإستغراب، كأنه لم يفهم عن أي شئ يُحدثه “حمزة” :
– إنت بتكلم عن مين؟.
– يــــوه!.. ما تركز معايا ياعم في إيـه!.
فـ اندفع “راغب” بعصبيته صائحًا :
– هو انت رسيتني على الحوار من الأول وأنا توهت منك!.. إيه المتاهات دي!.
– بنت الـ ×××××× سُلاف!.
دلف “نضال” عليهم بينما كل ذلك الصوت مسموع بالخارج، ثم أغلق الباب وهو يشملهم بنظراته و :
– في إيه ياجماعة!.. المكتب كله سمع صوتكم برا؟.
تجاهل “حمزة” سؤاله و :
– عملت إيه يا نضال؟؟.. اتفرجت على إبتسام وهي بتاخد براءة؟.
كان التهكم بينًا على نبرته، بينما “نضال” على النقيض تمامًا، مؤيدًا لحكم تبرئة “إبتسام” بعد كل ما طالته من وجعِ وإهانة :
– كنت منتظر إيه؟.. أكيد كانت هتاخد براءة بعد كل اللي عملته المحامية بتاعتها.. شهود وجابت، أدلة وأثبتت، حتى الخناقة الأخيرة اللي بينهم قدرت تجيبها صوت وصورة وانت عارف ده.. يبقى متاخدش براءة ليه!.
صرّ “حمزة” على أسنانهِ متضايقًا من موقف “نضال” الذي يعاكسه، وهتف مزمجرًا :
– نـضال!.. إنت شغال في مكتب حمزة القرشي مش مكتب عناني!.
ترك “نضال” ملف القضية على سطح المكتب، وهتف بإمتعاضٍ لم يخفيه :
– والله أنا مش هتغير يا حمزة.. ده أنا وأنت عارف كده من الأول، أنا مش هنصر ظالم مهما كانت الظروف.
تدخل “راغب” بينهما قبل أن يتأزم الوضع، خاصة وأن “حمزة” غير قادر على تحمل مزيد من الضغوطات :
– خلاص ياجماعة مش وقته.. إحنا عارفين نضال من أيام الكلية يا حمزة والمثل بيقولك خد صاحبك على عيبه.. مش هنتكلم في الحوار ده دلوقتي يعني!.
سحب “حمزة” نفسهِ من بينهم وقد ضاق به ذرعًا، وغمغم بـ :
– أنا ماشي قبل ما انفجر في وش حد منكم.
خرج مندفعًا أثناء استخدامهِ لهاتفهِ، ثم ترك رسالة صوتية عبر تطبيق المحادثات الشهير :
– أحجزلي تذكرة طيران لأول رحلة طالعة لمرسى مطروح.
وأرسلها وهو يردف بـ :
– جايلك يا بنت الـ….. جزمة.
***************************************
كان النهار قد أوشك على الإختفاء تمامًا، ومازالت خيوط الغروب تداعب أرض المحافظة الساحلية مرسى مطروح، ورائحة البحر تغزو الشوارع وتفوح من كل ركن بها، كأن المدينة سقطت في الماء المالح وخرجت من جديد. استنشقت “سُلاف” رائحة الهواء بإستمتاع منسجم، فـ هي بالمدينة الأقرب لقلبها، والتي قضت فيها أغلب أوقات طفولتها، نظرًا لأن والدها الراحل ووالدتها ينتمون لمحافظة “مرسى مطروح”. هبطت “سُلاف” عن السيارة وسارت نحو البوابة، فـ هبّ الحارس واقفًا ليستقبلها بحفاوةٍ :
– أهلًا أهلًا ست الناس، نورتي مطروح كلها والله.
ابتسمت “سُلاف” بتوددٍ و :
– أهلًا بيك.. إيه الأخبار؟.
– كله عال يا ست الناس.
وفتح لها البوابة عن آخرها ومن خلفها “عِبيد”، رفعت “سُلاف” عيناها بإتجاه اليافطة العريضة، لتقرأ عليها (دار آل زيــان لرعاية الأيتام). ابتسمت بشئ من الضيق، رغم أن ذلك المكان يجدد كل طاقتها وحيويتها، بل وتستشعر كأنها تولد من جديد. هنا في ذلك المكان الذي يأوي ملائكة صغار كتب القدر عليهم أن يعيشوا بلا أهل، بلا سند، بلا حماية؛ لكن الله عوّض عليهم بدار تتكفل بهم وترعاهم بكل حُب، وتم إختيار فريق العاملين بدقة شديدة من قِبل “سُلاف” بنفسها، لتطمئن من أن الأطفال ينالون حقوقهم النفسية والمعنوية قبل حقوق الرعاية المادية والتعليمية. خرجت المسؤولة عن الدار لإستقبالها بنفسها، كون “سُلاف” المدير التنفيذي والراعي الأول للدار :
– يا مرحب.. نورتي المحافظة كلها.
تبسمت “سُلاف” في وجهها وهي تصافحها :
– منورة بيكم يا مدام هند.. طمنيني الأولاد بخير وكل حاجه متيسرة؟.
– كله بخير والحمد لله.. لسه واصلنا امبارح تحويل المبلغ الشهري وبدأنا نقدم منه على المدارس للأولاد عشان السنة الجديدة، ربنا يعمر بيتك ويجازيكي عنهم كل خير.
قطبت “سُلاف” جبنيها بإستغراب، وتسائلت بفضول اعتراها :
– وليه استنيتي كل ده من غير ما تبلغيني!.. كنتي صرفتي من صندوق التبرعات!؟.
ذمّت “هند” على شفتيها بأسفٍ وهي تبرر :
– للأسف مكنش فيه سيولة تكمل في الصندوق، ومحبتش أزعجك لأني كنت عارفه إن التحويل خلاص جاي جاي.
تجهم وجهها، وبدت أكثر حزمًا وصرامة وهي تعطيها الأمر :
– الموضوع ده ميتكررش تاني يا مدام هند.. أي حاجه تخص الأولاد تكلميني من غير ما تستني.
تحرجت “هند” وحاولت أن تخفي ذلك الحرج بإبتسامة مزيفة :
– حاضر، أتفضلي.
وجعلتها تتقدم خطواتها للداخل، من أجل الإطمئنان بنفسها على الأطفال كلهم دون استثناء، تلك الزيارة التي تنتظرها بشغفٍ وعلى أحرّ من الجمر، أكثر من الأطفال نفسهم، الذين يحبونها حُبًا جمًا، وينتظرون زياراتها من وقت لآخر.
**************************************
كان هو من بين المسافرين الذين أتوا على مطار القاهرة الدولي، حيث هبطت الطائرة بسلام وبدأ الجميع في النزول عبر الدرج الطويل حتى الوصول للأرض. فتح زرّ قميصهِ، ومضى في طريقهِ ينظر يمينًا ويسارًا، حتى وصل أخيرًا تجاه باب الدخول للمطار، وهناك كان في استقباله أحد العاملين لدى والده :
– حمدالله على السلامة يا أستاذ حاتم.. مصر نورت.
لم يطيل “حاتم” في تلك المجاملات الغير مهمة – من وجهة نظره -، وسأل بإهتمامٍ شديد :
– عرفت هي فين؟.
فأجابه بوضوح :
– في بيت أبوها بقالها ٣ أيام.. قبل كده كانت مختفية تمامًا.
لم يعجبه كثيرًا ذلك الجواب العشوائي، فـ زجرهُ بحنقٍ وهو يهزأ بمجهودهِ الصفري :
– واضح إنك عارف شغلك كويس!.
والتفت موليه ظهره ليتابع :
– أنا هعرف كانت فين بطريقتي، طالما انت مفيش منك نافعة!.
يتبع…
لقراءة الفصل التالي : اضغط هنا
الرواية كاملة اضغط على : (رواية أغصان الزيتون)